الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » حـــوارات » الاحتجاج والمشاعر: حوار مع الباحث الأمريكي جيمس جاسبير

الاحتجاج والمشاعر: حوار مع الباحث الأمريكي جيمس جاسبير

أجري هذا الحوار  بمناسبة صدور كتابه “مشاعر الاحتجاج”، في 4 دجنبر 2019 بجامعة مدينة نيويورك,

جيمس جاسبر، من جامعة مدينة نيويورك، City University of New York، سوسيولوجي متخصص في الحركات الاحتجاجية والمشاعر السياسية.  

من بين مؤلفاته:

James M. Jasper.  1997.  The Art of Moral Protest: Culture, Biography, and Creativity in Social Movements.  Chicago: The University of Chicago Press. 

Jeff Goodwin, James M. Jasper, and Francesca Polletta eds.  2001.  Passionate Politics: Emotions and social Movements.  Chicago: The University of Chicago Press.

James M. Jasper.  2006.  Getting Your Way: Strategic Dilemmas in the Real World.  Chicago:  The University of Chicago Press.

 Jeff Goodwin and James M. Jasper eds.  2012.  Contention in Context: Political Opportunities and the Emergence of Protest: Political Opportunities and the Emergence of Protest.  Stanford: Stanford University Press. 

James M. Jasper and Jan Willem Duyvendak eds.  2015.  Players and Arenas: The Interactive Dynamics of Protest.  Amsterdam: Amsterdam University Press. 

James M. Jasper.  2018.  The Emotions of Protest.  Chicago: The University of Chicago Press. 

سؤال:

 تهم القائمة الأولى من الأسئلة التي أود طرحها مسألة التقلبات التي تحصل في الإبدالات (البراديغمات) التي عشناها معاً ونحن ننتمي إلى نفس الجيل.  هذا التقلب الذي يمكن تسميته بمنعطف المشاعر affective turn.  باعتبارك من الأسماء الرائدة التي ساهمت في هذا المنعطف، ما هي أنواع المقاومات التي واجهتها وما تزال تواجهها؟ وهل يمكن اعتبار النقاش الذي حدث بينك بين تشارلز تيلي(Charles Tilly)  مؤشراً على هذه المقاومة التي تواكب المنعطف في الإبدال؟

جاسبير:

كنت أتمنى لو كانت واجهتنا مقاومة أكبر، وتبادل الآراء بشكل أوضح.  لقد كان الجميع تقريباً يقولون معكم الحق، إن المشاعر موجودة، ومهمة، ويصر داغ ماكادام (Doug McAdam) على أن مفهومه التحرر المعرفي cognitive liberation  يشمل كل أنواع المشاعر بالرغم من أنه لا يقول ذلك بشكل واضح في كتابه.  بصفة عامة لم نتلق إلا نقداً خفيفاً، وكان الباحثون يهملوننا، ولم يكونوا متأكدين من الكيفية التي سيدمجون بها المشاعر في أعمالهم. ذلك أن موضوع المشاعر يتطلب التركيز على البحث الدقيق، المجهري، وينطلق من تحليل الفرد، ومن الصعوبة أن يجدوا الصيغة المناسبة لإدماجه في النظرة الواسعة للعالم انطلاقاً من الأنظمة الجيو سياسية الكبرى التي يتبنونها.  هذا الأمر لا يزعجني كثيراً، لأنني أعرف الشيء الكثير عن النظام العالمي وديناميته، ولكني لا أعرف إلا القليل عن علم النفس الاجتماعي للاحتجاج. لقد رحب الباحثون بالمقاربة الجديدة، ولا أظن أن أحداً قال إنك مخطئ، وإن المشاعر لا أهمية لها. اليوم عندما يذكُرني بعض الباحثين أو يحيلون على كتاباتي عن المشاعر، يفعلون ذلك بطريقة إيجابية. فقد أصبح جاف كودوين(Jeff Goodwin)  اليوم يتزعم انتقادات تنبني على نظرة بنيوية-جديدة وماركسية-جديدة، لا يمكننا أن نزيل البنيات من حقل دراسة الحركات الاجتماعية التي اعتمدت على مقاربات بنيوية كما هو الأمر بالنسبة لأبحاث تشارلز تيلي. من السهل أن نقول ذلك، ولا أحد ينسى البنيات، لكنه لم يفعل الكثير لربط المشاعر بالبنيات. إنني أتنبى التحليل الدقيق، المجهري، بشكل صارم. وأعتبر أن ذلك تنبيه مفيد. صحيح أن الرأسمالية مهمة، ولكن كيف؟ إنها ليست مثل الهواء الذي نستنشقه؛ هي شركات محددة تتخذ قرارات، وسيولات نقدية تشتري سلعاً معينة.  لننظر إلى كل ذلك، فالرأسمالية مصطلح سياسي مهم، ولكنه لا يقدم لنا إجابات مفيدة في حقل العلوم الاجتماعية.

سؤال:

 أعرف أن أحد أشكال المقاومات لإبدالات جديدة في الحقل الأكاديمي الأمريكي تتجلى في العراقيل التي توضع في وجه متبنيها للحصول على الترسيم في الجامعات.  هل ينطبق هذا الأمر على موضوع المشاعر؟

جاسبر:

لست متأكداً من ذلك، ذلك أنني لم أحصل على الترسيم من أي جامعة، ولم أرسّم في أي جامعة أمريكية، ولكن ذلك لم يكن لأنني درست المشاعر، وأظن أن السبب له علاقة بأمور شخصية.  لقد رُفض ترسيمي في جامعة نيويورك New York University بسبب صراعات داخل الشعبة، لم تكن لها أي علاقة بتوجهات أبحاثي، وإنما كانت قضايا شخصية. يوجد في الجامعات الأمريكية عدد من النسويين والنسويات المتعاطفين مع مقاربة المشاعر، والذين لهم السبق في تبني هذه المقاربة يوجدون في شعب السوسيولوجيا أكثر من شعب العلوم السياسية، ولهم القوة والقدرة على التأثير للدفاع عن باحث يدرس المشاعر. ولذلك لا أعتقد أن شخصاً ما سيعاقب بسبب انتمائه لهذا المجال.

سؤال:

هذا ما استنتجه من نظريتك: لكي أفسر السياسة، أرى أن البنيات لا تساعدنا في تفسير الفعل في الوقت الذي يحدث فيها الفعل.  ونفس الأمر بالنسبة لنظرية الفاعل العقلاني.  وأنت تقول بأن على العكس من ذلك، فإن المشاعر تفسر الفعل.  لكنني ما زلت أسعى لأفهم إذا كانت المشاعر قادرة فعلاً على ذلك.  إنه ليس باستطاعتنا أن نعرف ما يدور في أذهان صانعي الفعل، وما نقوم به بالنسبة للخيار العقلاني هو أن نضع أنفسنا مكان الفاعلين ونتصور ماذا بإمكانهم أن يفعلوا في وضعية محددة بناء على حسابات عقلانية.  ألا نفعل نفس الشيء بالنسبة للمشاعر؟  ماذا يمكن أن يفعل فرد ما عندما يكون في حالة غضب مثلاً، أو في حالة خوف.  هل نتحدث عن لائحة من أنواع المشاعر التي نصنف فيها الفاعل بناء على تحديدنا للمشاعر التي يحس بها، أم أننا نفعل كما يفعل دارسو الفاعل العقلاني، أي أن نضع أنفسنا مكان الفاعل وهو يدبر مشاعره لنفسر على ضوئها قراراته وفعله؟

جاسبر:

إن إحدى المشاكل التي واجهتها نظرية الفاعل العقلاني هي أن أصحابها لم يقوموا بعمل جيد وهم يضعون أنفسهم مكان الفاعلين الذين درسوهم. لقد كانت نظرية استدلالية بامتياز، تُنزَّل من أعلى إلى الأسفل، ولم تكن تنطلق من الأسفل، اعتماداً على نظرية استقرائية تجريبية. هم استنتجوا حسابياً ما كان يجب على فاعل ما أن يفعله وأن يرغب فيه.  وبذلك تحولت نظرية الخيار العقلاني إلى علم معياري بدل أن تكون علما تجريبياً.  لقد تغير الأمر قليلاً بنظرية اللعب السلوكية، وأُجبر أصحابها على أن يعترفوا بدور المشاعر كجزء من عملية صنع القرار، ولكن نظروا إلى المسالة باعتبار المشاعر أخطاء في الخيارات، وأنها غير عقلانية، وتدريجيا بدأوا يجدون للمشاعر مكاناً في تحاليلهم. لكن ظلوا يعتبرون أنهم لا يزالون في حاجة إلى فهم الأخطاء التي يقع فيها صانعو القرارات، والميل للمحاباة والتحيز التي تطبع خياراتهم. أنا لا أعتقد أن المشاعر هي كل شيء. هناك قواعد، وهناك فضاءات تفرض علينا قواعدها، وهناك قواعد يفرضها علينا أحياناً المنافسون داخل هذه الحلَبات.  فالفاعلون في الولايات المتحدة اليوم، مثلاً، في حالة محاكمة الرئيس ترامب من طرف الكونغريس، ليسوا مجبرين على أن يحترموا القواعد، بل إن خياراتهم الاستراتيجية تدفعهم إلى أن يتجاهلوا القواعد، وأن يغيروها.  كما أن لنا نظرتنا إلى العالم ذات أبعاد إدراكية معرفية بالإضافة إلى بعد المشاعر. لكن وفي إطار الفكرة التي أسميها العملية المزدوجة للإحساس- التفكير معاً feeling-thinking، أي أن تحس وتفكر في نفس الوقت، فإن مكونات التفكير والإحساس هي نفسها، لكن هذا لا يعني أن هذا كل ما في الأمر. ويكمن خطأ البنيوية في اعتبارها أن القيود والإكراهات التي تمنعنا من أن نفعل ما نشاء وأن نحقق ما نشاء يكون مصدرها فاعلون آخرون الذين يوظفون هذه القيود والقواعد. وقد ناقشت هذا الموضوع في كتابي لاعبون وحلَبات (Players and Arenas الذي أقدم فيه نظرة ثقافية وبنيوية في نفس الوقت.  في هذه الحلَبات هناك بنيات مألوفة، هناك أماكن لها أسوار ولها إنارة، ولها آلات تسجيل التي تحدد ما يمكن للفاعلين أن يقوموا به، وفيها جمهور محتمل.  ويكون في بعض هذه الحلبات جمهور واسع، وبعضها الآخر ليس فيها لجمهور. إنها بنيات، لأنها أماكن ملموسة، لها أسوار وأبواب.  أعترف بأن تلك هي بنيات، إذ لا يمكن أن تعبر سوراً بسهولة، ولكن هذه البنيات تتجلى من خلال الثقافة والفهم والمشاعر والكيفية التي نتصرف فيها في هذه الأماكن. إنها تمثل الكيفية التي نشعر بها، عندما نرى الرموز، ونرى الجيش، ونرى العَلَم، ونرى استشهاداً من مؤسس لدولة، وهذه عوامل مهمة.  هناك متسع للبنيات، ولكن لا بد وأن نربط بينها وبين الفعل بشكل أفضل مما فعلنا في السابق. هذا ما يفسر أن ردود فعل أصحاب أطروحات السيرورة السياسية (political process) تجاه المشاعر مخيب للآمال.  وأنا أرغب في أن يشرع أصحاب هذه الأطروحات في إدماج المشاعر في أعمالهم. ولكنهم لا يقدرون على ذلك، لأنهم يتكلمون في مستوى من العمومية والتجريد التي لا تترك مكاناً لفاعلين حقيقيين. ولذلك فما زلنا أمام حيرة في كيفية مقاربة الفعل من خلال البنية.  ما زلنا في حاجة إلى الربط بينهما.

سؤال:

 أعجبني الفصل القصير الذي أضفته في كتابك المشاعر والاحتجاج، حول الرئيس ترامب.  لقد كان ذلك الفصل مفيداً جداً.  لكني قبيل اللقاء بك، كنت أتابع جلسات محاكمة الرئيس ترامب من طرف الكونغريس، وكنت أسعى لأطبق تحليلك.  وأصارحك بأن ما يزعجني في المشاعر هو ما يلي: أتصور أن التصويت سينتهي به الأمر أن يكون على أساس مشاعر الولاء، ولكن لو أن نفس النائب الجمهوري قام بحساب أن ولاءه سيكلفه خسارة إعادة انتخابه، فإنه لن يتبع ولاءه. هل معنى هذا أن الخيار العقلاني لا يزال حياً رغم مشاعر الولاء هاته؟

جاسبر:

ربما هذا الأمر صحيح.  والسياسيون خاصة في أمريكا حيث كل سياسي له حرية التصرف بشكل يختلف عن الأنظمة البرلمانية التي على البرلماني فيها أن يأخذ بعين الاعتبار الحزب وزعيم الحزب.  هنا أيضاً يأخذون هذ الأمر بالحسبان، وهم أيضاً يهتمون غاية الاهتمام بإعادة انتخابهم.  لكن أظن أن هناك الحالة التي تكون فيها إيديولوجيات النواب، وولاءاتهم العاطفية، وكراهيتهم لأوباما، وغضبهم على الرعاية  الصحية، يدفعهم كل ذلك لأن يتخذوا مواقف ليست شعبية بالضرورة، حتى في صفوف قواعدهم الجمهورية، فبالأحرى الجمهور الواسع.  إن موقفهم من برنامج أوباما في الرعاية الصحية لا يربحهم أصواتاً بشكل محسوب، بقدر ما أن لهم هذا التعلق العاطفي بمواقفهم.  ونفس الأمر بالنسبة للولاء لترامب، إنه لا يتحدد بناء على الحسابات.  هناك جمهوريون في مناطق معتدلة لا يعتبرون أن الولاء لرامب هو أمر إيجابي، كما ظهر في الانتخابات الأولية في بعض المناطق في ضواحي المدن التي لا يقطنها الموالون المتحمسون لترامب.  إن لهم مشاعر وهناك أفكار لا يمكن اختزالها في الحسابات.

سؤال:

إن مقاربتك تخلق تحدياً كبيراً بالنسبة لنا نحن الذين لا نعيش في دولة غربية وفي مجتمعات ديمقراطية.  وفي حالة المغرب تبقى السياسة فيه محتكرة من طرف صناع القرار. وعندما نسعى إلى أن نكون في المعارضة، فإننا نركز أكثر على العقلانية في معارضة النظام، ونقول للناس بأن صانعي القرار يتلاعبون بعقولكم، إنهم لا يقولون الحقيقة، إن ما يقولونه ليس إلا واجهة، إنهم لا يعملون إلا على إثارة مشاعر تخدم إيديولوجياتهم عندما تركز مثلاً على ضرورة تأييد القضايا الوطنية أو الانصياع لحكمة القائد.  كل ذلك ليس إلا واجهة، وأن حقيقة الأمر هي أن ذلك ليس إلا قرارات محسوبة للأوتوقراطيين الذين يسعون للتلاعب بكم. لقد كنا نعتقد أن ما يساعد معارضة الأنظمة السلطوية هي الكشف عن الحسابات العقلانية للسياسة وللحكام وليس المشاعر.  كيف نتعامل مع هذا الأمر؟

جاسبر:

لديك سؤالان: الأول يتعلق بمشاعر النخبة الحاكمة. وهو معروف على الملوك أنهم عاطفيون، ويستطيعون أن يعبروا على مشاعرهم بدون الانتباه للتكلفة، على عكس الحكام في الديمقراطيات.  فتصرفات الأوتوقراطيين قد تتشكل لأنهم غاضبون أو خائفون أو بسبب كبريائهم أو عجرفتهم.  لا أحد نظَر إلى هذه المواضيع بعد، ليس فقط بالنسبة للحاكم وحده، بل أيضاً بالنسبة للنخب الحكومية بصفة أشمل، وهذه النخب لها مشاعر.  أتذكر عندما كنت أقوم ببحث الدكتوراه حول الطاقة النووية، لم يكن لي اهتمام خاص بموضوع المشاعر وقتها. ولكنني راجعت هذا الموضوع فيما بعد من خلال إعادة الاستماع للاستجوابات التي كنت أجريتها مع البيروقراطيين الفرنسيين الذين كانوا يقدمون أنفسهم كقمة في العقلانية وفي تحليل الربح والخسارة.  لقد كان لهم الإحساس بالافتخار بعملهم لكون النظام الفرنسي كان أفضل من مثيله الأمريكي أو الروسي. كان لهم شعور بالازدراء تجاه الحركة المناهضة للطاقة النووية، وكانوا يشعرون بالارتياح لأنهم انتصروا، وهو إحساس ليس متوقعاً في تحليلات الربح والخسارة.  كانت هذه المشاعر تصدر عن هؤلاء الذين كانوا في قلب الدولة، ولا نراهم إلا نادراً.  هكذا تشتغل الدولة، إنها تحتفظ بأسرارها، ولكن المشاعر موجودة في صفوفها. فالمسألة تتعلق بأن هناك ديناميات مختلفة فيما يتعلق بالمشاعر. ولدي ملحق حول تاريخ المشاعر والسياسة في كتاب مشاعر الاحتجاج، وحول البلاغة في تلك الدول التي توجد فيها فضاءات متعددة للحوار والنقاش.  لكن في الأنظمة الأوتوقراطية، فإن النخبة الحاكمة تحتكر لوحدها عملية إقناع الناس بخياراتها.  وهو ما يخلق دينامية مختلفة للمشاعر.  فالنخبة الحاكمة ذكية، وتعرف كيف تتحكم في مشاعر الناس بشكل جيد.  ولكن هذا لا يعني أنه ليس لها مشاعرها هي أيضاً. غير أنها لا تستطيع التحكم في المشاعر بالدرجة التي تتمناها لإلهاب الجماهير، ولكن هناك بالتأكيد دينامية عاطفية.

سؤال:

هنا تطرح مسألة كونية المشاعر.  هناك قضايا أساسية تجعل بعض المشاعر كونية، كالالتزام الأخلاقي.  لكن إذا ما نظرنا إلى الأمر على مستوى آخر فلا تزال هناك حاجة لدول مثل دولتنا لتبحث في الفوارق الدقيقة في مسألة المشاعر.  لديكم فرويد، وتاريخ طويل لعلم النفس الذي طور مصطلحاته وتجاربه في مجتمعاتكم.  ولكن نحن الذين نبحث في هذا الموضوع في سياقات ثقافية مختلفة، كما هو الأمر بالنسبة للمجتمعات العربية، نجد أن علينا أن نبتدع مصطلحات مناسبة باللغة العربية للمصطلحات والمفاهيم والتعاريف المعروضة في الكتابات الغربية حول المشاعر والتي لا نتوفر على مقابلات لها.  فتاريخ الكلمات المرتبطة بالمشاعر في العربية مثلاً، هو بالتأكيد تاريخ مختلف عن مثيلاتها لديكم.

جاسبر:

 إن هذه القضية تنطبق أيضاً على اللغات المتشابهة.  فاللغات الرومانسية ذات الأصول اللاتينية تعرف أيضاً فوارق دقيقة في التعاريف التي تتبناها للمشاعر والتي لا تتطابق بسهولة في لغة أو أخرى.  إن المسألة مرتبطة بلائحة المصطلحات المناسبة التي نتبناها ونتداولها.  ولذلك علينا أن نكون حذرين في اعتبار وجود لغة طبيعية لهذه المشاعر.

سؤال:

هناك أيضاً مسألة تتعلق بالدول والثقافات التي تعبر عن مشاعرها بطرق مختلفة. فالإحساس بالغضب أو الولاء أو السخط يتم التعبير عنه بشكل مختلف من سياق ثقافي إلى آخر.  هل لديك اقتراح في كيفية التعامل مع هذه المسألة؟ 

جاسبر:

 إن التعبير عن المشاعر هو الجانب الذي يتأثر أكثر بالسياق الثقافي في المشاعر. نحن كأفراد لدينا نفس الكيمياء البيولوجية التي تثير المشاعر، ولكن الكيفية التي نعبر بها عن هذه المشاعر تختلف.  وهي وضعية تشبه مسألة البيضة والدجاجة.  هل لدينا نفس المشاعر ولكننا نعبر عنها بطرق مختلفة؟ أم أن التعبير عن المشاعر هو جزء من المشاعر لدرجة تجعلنا إزاء مشاعر مختلفة؟  ما دمت أومن بأن عملية الإحساس- التفكير هي عملية متداخلة، فإن التعبير عن مشاعر معينة يكون لها تأثير على تنحية مشاعر أخرى.  فعندما نكتشف أننا غاضبون أو حانقون لأننا نعبر عن هذه الحالات، فإن ذلك ينَحّي عملية الإحساس-التفكير الأخرى كالشعور بالعار أو بالخوف، وتدفع بنا إلى أن نركز أكثر على الغضب.

سؤال:

هناك مسألة التداخل بين مشاعر فاعلين متعددين.  منذ الربيع العربي اكتشفنا أن بعض المحتجين يكرهون حكامهم، وآخرون، كما هو الحال بالنسبة للمغرب، كانوا يعبرون عن السخط ولكن ليس عن الكراهية تجاه الملك.  وهذا الأمر لا شك وأن له علاقة بالكيفية التي يعبر بها الملك كفاعل، عن مشاعره هو أيضاً.  لكن ملك المغرب لا يتكلم كثيراً، ولا نعرف أسباب ذلك، لكننا في حاجة للنفاذ لمشاعر الملك اعتماداً على وسائل أخرى ليست هي كلامه النادر، بل ربما طريقته في اللباس، أو حركاته.  لكن ما حصل في المغرب، هو أن الربيع العربي لم يؤد إلى الإطاحة بالنظام، ولم يؤد إلى حرب أهلية. 

جاسبر:

قد أنظر إلى المسألة من جهتين: لقد قدم الملك نفسه في البداية على الأقل على أنه ملك جديد، وعصري، و ليبرالي.  أتخيل أن الناس في 2011 كانوا لا يزالون ينتظرون هل سيحصل ذلك فعلاً.  ولكني أتصور أيضاً أنه ما دام قد وعد بذلك، فإن الناس سيحسون بخيبة الأمل تجاهه لأنه لم ينفذ وعوده.  فنحن نلاحظ ذلك مع الرئيس ترامب. ما نقوله له أهميته، بغض النظر عما إذا قمنا به فعلاً.  هذا واقع هبرماسي، نسبة إلى هبرماس، أن نأخذ مأخذ الجد ما يصرح به الناس، إننا نرغب في أن نصدقهم، ونميل لتصديقهم.  إنه من الصعوبة أن ننظر إلى شخص يكذب علينا كما يفعل ترامب، وأن نكتفي بالقول بأنه متهور.  فإذا كان ملككم قدم نفسه بطريقة معينة تخلف آثاراً في نفوس الناس، وعدم الالتزام بالوعود لا بد وأن تخلف أثراً.

سؤال:

أريد أن أطرح عليك أسئلة حول موضوع أهتم به بشكل خاص هو موضوع العدالة الانتقالية.  في العلوم السياسة في المغرب خاصة، لم تكن المشاعر موضوعاً يخطى بالاهتمام.  لكن وخلال عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، برزت المشاعر بشكل قوي جداً من خلال جلسات الاستماع، ولم نعرف ما نفعل بها في حقل العلوم السياسية.  لقد كان الجميع يقول إن هذه مشاعر، ولكن كيف يمكن إدماجها في الإبدالات السائدة، والتي كان على رأسها إبدال الانتقال. فقد تهيئ المشاعر أرضية الانتقال، ولكنها لم تفعل. والسؤال الذي أطرحه عليكم هو هل يمكن أن تكون المشاعر غاية في حد ذاتها، لأن جلسات الاستماع كانت تجربة بالغة الأهمية ولكنها لم تؤد إلى الانتقال؟  هل يمكن اعتبار المشاعر إذن غاية في حد ذاتها؟ ليس لكون المشاركين في جلسات الاستماع قد حققوا شفاءهم، ولكن لكون عملية التعبير عن المشاعر في فضاء عمومي قد شكلت أكبر مكاسب تجربة المصالحة.  ما هو رد فعلكم على هذه الفكرة؟

جاسبر:

إن جوابي هو أن الأمر كذلك بكل تأكيد.  أن نروي حكاياتنا، وأن نعبر عن أنفسنا، وأن نشير بأصابعنا إلى الأشرار، هي كلها ممارسة مُرضية في حد ذاتها.  ولكن الخطورة هي أن يكون لك خيار بين المشاعر أو الفعل، وأن يعوّض التعبيرُ عن المشاعر الفعلَ نفسه.  لقد كان ينظر للنساء باعتبارهن عاطفيات، وأنهن لسن فاعلات قويات.  والفكرة هي أن تدع الناس يعبرون عن مشاعرهم، ثم أن تستمر في الفعل الحقيقي.  وهذا موقف غير مقبول.  أنا لا أرغب في أن نتبنى هذا النموذج.  إن تصوري للمشاعر هي أنها وسيلة وغاية في نفس الوقت.  لأنك عندما تعبر عن مشاعرك تصبح بالتالي شخصاً جديداً بفعل ذلك التعبير.  وهذا الأمر هو ما يشكل حيرة هيئات الحقيقة والمصالحة عبر العالم.  إذا ما عبّرتَ على أنك ضحية بشكل مبالغ فيه يجعلك ذلك تحس بالضعف مقارنة بالآخرين، وإذا ما أظهرتَ بشكل مبالغ فيه قوتك وقدرتك على المواجهة، فإنك ستحظى بتعاطف أقل من الآخرين، لأننا نتعاطف أساساً مع الضحايا، وليس مع الأقوياء. هناك حاجة إلى أن نجد موقفاً متوازناً.  وهذا الأمر ينطلق على الحركات الاجتماعية بصفة عامة.  نشرع كمناضلين بالحديث عن مشاكلنا وأننا ضحايا وأننا كنا ضحية سوء المعاملة، ثم لا نلبث أن نؤكد أنه علينا أن نتحول إلى أبطال، وأن نقاوم، وأن نستجمع قوانا كجماعة، وأن نضع حداً لوضعيتنا كضحايا. إن هناك أطراقاً متعددة يحدث من خلالها هذا الأمر.  هذه مسألة مهمة بالنسبة للضحايا والأشرار والأبطال والخنوعين الضعفاء على السواء.  وهذه كلها سيرورات مشاعر، لأنه عندما تصرح بأنك بطل فأنت تطلب نوعاً من المشاعر. فنحن مطالبون بأن نُعجب بالأبطال، وأن نُشفق على الضحايا، وأن نخاف الأشرار ونكرههم.  فالمشاعر متداخلة في الكيفية التي ندرك بها الرموز.

سؤال:

إن أهم ما حققته تجرية الإنصاف والمصالحة في المغرب هو التقليص من عنف الدولة، أدت إلى اقتصاد العنف، وأصبحت الدولة مطمئنة بأن عنفها لا يضمن لها الاستقرار، وأنها عندما لا تستخدم العنف، وعندما تسمح للناس بحرية الاحتجاج، فإن ذلك لا يهددها.  ولذلك فإن عنفها تقلص، على عكس ما حصل في أنظمة سلطوية أخرى.  بالرغم من أن هناك من ينتقد كون الهيئة قد أعطت مشروعية لنظام سلطوي، وأنها وعدت بالانتقال الديمقراطي، وأن ذلك الانتقال لم يتحقق. 

جاسبر:

إن الحركات الاجتماعية تتبنى مواقف مماثلة. فالأجنحة الراديكالية لهذه الحركات تعتبر أن الأجنحة المعتدلة تم تدجينها.  أعتبر أن ذلك مرتبط بتنوع المجالات.  من الممكن أن تحقق إنجازاً في مجال أول وأن تخيب الآمال في مجال ثان.  فقد لا يكون الانتقال تحقق في مجال أول، ولكن الحقيقة مسألة مهمة أيضاً بحد ذاتها.

سؤال:

هناك موضوع انتبهتُ إلى أنك لم تتعرض له في كتبك، على الأقل تلك التي قرأتها. أنت تتحدث ككاتب بدون مشاعر.  لماذا لا تعبر عن مشاعرك حول القضايا التي تكتب عنها؟ هل هذا اختيار؟

جاسبر:

إن الأمر يعود إلى الفترة التي كنت أكتب فيها عن الاستراتيجية.  وكنت دائما أتجنب أن أكتب عن الحركات التي أنتمي إليها. لأن هناك قضايا مرتبطة بالاستراتيجيات التي لا ترغب في أن تفصح عنها للعموم، وخارج مجموعتك. لقد كنت ناشطاً في سياسة مدينة نيويورك لفترة طويلة، واحتفظت بهذا الموقف عندما انتقلت إلى الكتابة عن المشاعر.  ثم إن كتابي عن المشاعر هو كتاب نظري، لا يتحدث على حالات محددة، وهو بالتالي غير مناسب لأتحدث فيه عن مشاعري في تجاربي الشخصية. 

 إعداد وترجمة عبد الحي مودن

- عبد الحي مودن

باحث في العلوم السياسية

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.