الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » الطاعون والأدبيات الفقهية

الطاعون والأدبيات الفقهية

العربي المشرفي، أقوال المطاعين في الطعن والطواعين، دراسة وتحقيق حسن الفرقان، منشورات التوحيدي، مطبعة الأخوين سليكي، طنجة، 2014.

يكتسي موضوع الموقف من قضايا الأوبئة والحجر الصحي أهمية كبرى لكثرة الجوائح التي عرفها المغرب، وللظروف الدولية التي أحاطت بالوباء خلال القرن التاسع عشر. وقد خلف فقهاء هذه الفترة، في إطار تفاعلهم مع الموضوع، تراثا فكريا يتجلى أساسا في عدد من الفتاوى والرسائل التي ألفت في الطواعين والكرنتينة، والتي تتضمن الكثير من الإشارات المتعلقة بالموروث الفقهي والطبي حول العدوى وأسباب انتشارها وطرق الاحتراز منها.ويمكن من خلال مضامينها تلمس مدى بطء أو سرعة تطور الذهنيات والمواقف تجاه الجوائح الطارئة. وقد ارتأينا تسليط الضوء على أحد أشهر التآليف التي اعتنت بآداب وأحكام الطواعين بمغرب القرن التاسع عشر.يتعلق الأمر بكتاب أقوال المطاعين في الطعن والطواعين لمؤلفه العربي المشرفي (ت 1895)، الذي حققه الباحث حسن الفرقان، وصدر عن مؤسسة دار التوحيدي في طبعته الأولى سنة 2014.

يُعتبر كتاب أقوال المطاعين للمشرفي من أشهر المُدوَّنات الفقهية التي تناولت بشكل مستفيض مسألة الطَّواعين والأوبئة في مغرب القرن التاسع عشر. وقد تضمن معلومات عن أوبئة الكوليرا التي ضربت الجزائر والمغرب سنوات 1834 و1850 و1854، لكن أهمِّيته الحقيقية تكمن في مناقشته لقضايا نظرية شائكة ظلت مثار جدل منذ العهد الإسلامي الأول وإلى عهد المشرفي.

        فما هو سياق تأليف أقوال المطاعين؟وما الإشكالات النظرية التي أثارتها أدبيات الأوبئة والطواعين؟ وما موقع أقوال المطاعين في الطعن والطواعينمنها؟ وما موقف المشرفي من الحجر الصحي؟

سياق تأليف أقوال المطاعين

ألَّف العربي المشرفي أقوال المطاعين بعد وباء الكوليرا الذي ضرب المغرب سنة 1854-1855.وقد قسمه إلى مقدمة وسبعة فصول وخاتمة. تناول في مقدمة تأليفه أخبارا متفرقة عن أوبئة الكوليرا التي ضربت المغرب الأوسط والأقصى قبل سنة 1856، وأطلق عليها اسم الوباء والطعن.بدأ بوباء سنة 1249هـ(1833م)،ويتعلق الأمر بأول كوليرا بالجزائر والمغرب، التي كانت آنذاك وباءً جديدا شديد الانتشار، ضرب العالم في خمس موجات خلال القرن التاسع عشر. كان هذا الوباء قد انطلق من البنغال وانتشر عبر العلاقات التجارية وتحرك الجيوش المُحاربة، ودخل إلى بلاد المغرب من الجزائر، وعم فاس ونواحيها. وسجل العربي المشرفي في شهادته”حيرة الناس ودهشتهم من الموت السريع (موت البغتة والفجأة) الذي كان يأخذ في ظرف أربعة وعشرين ساعة الجم الغفير الذي لا يحصى عدده،وقدم أعراضه بدقة: تغير حال الإنسان وتشوه خلقته وتلكن لسانه، وتجلجل كلامه.ويتوافق وصف المشرفي للوباء الطارئ مع وصف المؤرخ الناصري (1835-1897)، كونه يؤدي “إلى إسهال مفرط يعتري الشخص، ويصحبه وجع حاد في البطن والساقين، ويعقبه تشنج وبرودة واسوداد لون المصاب، فإذا تمادى في الشخص حتى جاوز أربعا وعشرين ساعة فالغالب السلامة وإلا فهو الحتف”(1).

في تفسير العربي المشرفي لهذه الأعراض غير المسبوقة في بلاد الإسلام، والمتعلقة بتشويه الخلقة، يورد سببا رئيسيا يتعلق -في نظره- بمجاورة المسلمين للكفار الأوروبيين، الذين عرفوا هذه الأعراض فيما سبق من أوبئة، في مدينة باريس الفرنسية، على حد ما ذكره من مكتوب للنصارى اطلع عليها، لكن من دون ذكر لا عنوانه ولا سنة تأليفه.وتطرق بعد ذلك لوصف الوباء الثاني الذي عرفته بلاد الجزائر، سنة 1267هـ(1850)،ودخوله منها لوجدة ونواحيها سنة 1851.وفيه تحدث عن تشريح النصارى لزوجة أحد أعيان الكرغلية بتلمسان وشق جوفها بحضور زوجها، واستخراجهم القلب والكبد والرئة والطحال بهدف معرفة سبب الموت، لعلهم بذلك يعالجون المرضى من الأحياء، حيث تأخرت عملية دفن الجثة ليومين كاملين بسبب ذلك، ودفنت بعد طول انتظار دون حشوة لما تعذر استرجاع الأعضاء المنزوعة.

استنكر المشرفي بشدة هذا السلوك معتبرا إياه ابتلاء للمسلمين في دينهم ودنياهم،ونتيجة لدخول أرض الجزائر تحت راية النصارى. وفي تعليقه على الوباءين السالفين، ذكر أنهما يختلفان عن الطاعون المعهود في السابق بالمغرب، وقدم مثالا عن طاعون 1818، والذي من أعراضه خروج مغابن الإنسان من إبطيه على شكل جوزة يَسْوَد محيطها أو يحمر. يتعلق الأمر الطاعون الدملي الذي سماه “وباء الحبة”.

لاحظ المشرفي اختلاف أعراض الوباءين الجديدين عن الأوبئة التي قبلها،فالمريض يتقيأ ما يشرب ويقع له إسهال نتن في البطن، ويبرد جسده حين يشرف على الموت.وقد أورد الأسماء التي عُرف بها هذا الوباء الوافد، إذ يسمونه في المغرب “بواريويطة” و”بواكويبيس” و”الزراف”، وفي الجزائر يسمونه بوقليب ومرض النفطة، وبعضهم يسمونه الريح الحمراء. وتتقارب معاني هذه الأسماء، إذ تدل على مرض الكوليرا، لكنه لم يستخدم هذا اللفظ.واستمر المؤلِّف في تقديم معلومات عن ظواهر انتشرت بالمغرب والجزائر، منها أمثلة عن دفن بعض المرضى بعد أن غسلوا وأدرجوا في أكفانهم ووضعوا في قبورهم اعتقادا بأنهم ماتوا بسبب حالة السكون الناجمة عن الوباء. وذكر من بينهم حالة رجل يقال له محمد الطيب يزناسني، سوَّوا على قبره، لكن على الرغم من أن صياحه لم ينقطع طوال الليل، لم يفتحوا عليه القبر، وتركوه حتى مات من شدة الجهل.وهذه حالة من بين حالات أخرى كان يتُرك فيها الموبوؤون يواجهون مصير الموت بالرغم من سماع صراخهم،حيث تأول الناس ذلك بصياح الجن أو صياح الميت من شدة عذاب القبر. ولذلك، اقترح المشرفي أن لا يتم تسريع الدفن إلا بعد التحقق من الموت، وانتظار مرور اثني عشر ساعة على الأقل، حتى إذا لم يفق المريض من سكرته دُفن(2).

استكمل المشرفي حديثه في المقدمة بذكر أخبار وباء 1854،متتبعا انتشاره من تلمسان إلى شرق المغرب في اتجاه المناطق الداخلية التي عرفت الوباء سنة 1855، وذكر من توفي به من الفقهاء والصالحين كأبي العباس أحمد بن الجيلاني الورغي وابنه العارف بالله أبو زيان الغريسي. وتوقف عند ذروته بحاضرة فاس، حيث أكد أن عَدَدَ من توفوا به من بداية شهر ربيع الأول إلى منتصفه فاق ثلاثمائة. ثم سجل تراجعه في نهاية الشهر،وتزايده فجأة مع استهلال شهر ربيع الثاني، وسكون روعه وانقطاعه في آخره، مع تجدد الموت وارتفاع عدد ضحاياه لما استهل شهر شعبان.

          ومن جهة أخرى، تحدث المشرفي عن أماكن انتشاره ونتائج الوفيات التي خلفها. كان الموت قد اشتد لدرجة كبيرة فرمن جرائها المسلمون إلى الجبال المجاورة، ومع ذلك مات منهم في الطريق عدد كبير.بل إن هذا الوباء لم تسلم منه الحواضر المغربية والقرى،إذ كان البدوي يأتي متسوقا للحاضرة فلا يرجع إلى أهله إلا ميتا محمولا على الدواب. ومات المزارعون به في الفدادين، ومنهم نفر كانوا يشتغلون لدى ابن أمير المؤمنين (يقصد محمد بن عبد الرحمان) سقط منهم حوالي أربعين رجلا صرعى.مات عامة الناس مثلما مات خاصتهم.

ففي الحاضرة الادريسية (فاس) مات بهذا الوباء عدد كثير من الفقهاء، منهم العلامة محمد بن العربي من آل التاودي بن سودة، وخطيب الحضرة الشريفة السيد عبد الله من سلالة الملين، وأبو السعود أحمد المنجرة خطيب بوجلود، وخطيب جامع الرصيف نقيب الشرفاء العربي البلغيثي، والولي الصوفي محمد الصقلي. كما مات بسببه ولدا السلطان سليمان، حيث ذكر منهما المولى ادريس.

وقد أورد المشرفي زَعْماً للمنجمين من الحكماء،كون أن الوباء “يزيد بزيادة القمر وينقص بنقصانه”. كما حكى رصد سكان مراكش لظاهرة نادرة وقعت عند منصرم شوال، ويتعلق الأمر بحدوث رعد بالصواعق وهبوب رياح حملت تُرابا وبرَدا في حجم بيضة الدجاجة، هلك على إثره “خلق كثير لا يحصيه إلا الملك القدير”.وفي هذا التلميح إحالة غير مباشرة لتفسيرات مرتبطة بالتنجيم الطبي (الفلكي)، كانت متداولة لدى الأطباء في الغرب القروسطوي وعند بعض الأطباء المسلمين وفلاسفتهم. لكنه لم يشر لأي من هؤلاء، ولم يعلق على مدى صحة الارتباط بين هذه الظواهر السماوية والفلكية والأوبئة، مجتنبا إبداء رأيه في الموضوع.

قضايا الكتاب الرئيسية

وجبت الإشارة إلى أن مقدمة أقوال المطاعين هي الاستثناء الأبرز في الكتاب، لأنها تضمنت معلومات وافية عن أوبئة الكوليرا (1834-1850-1855) ونتائجها الديموغرافية والنفسية، التي عايشها المشرفي ونقل أخبارها.أما باقي فصول الكتاب فقد تناول فيها بإسهاب قضايا عامة تتعلق بأحكام الأوبئة وآدابها من خلال الاسترشاد بالأحاديث النبوية وجمع الأخبار الواردة في الطاعون، مع شرحها وتيسير معانيها وتقريبها وتبيين أحكامها.وقد خصص الفصل الأول لشرح معنى الوباء والطاعون لغة واصطلاحا، وتبيان الفروقات بينهما. وفي الفصل الثاني أجاب عن سؤال الوباء، إن كان له وقت يغلب فيه وقوعه أم لا، وسؤال مكانه، أي الأمكنة التي يدخلها الوباء ولا يدخلها الطاعون. وخصص الفصل الثالث للآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يرد فيها الوباء والشهادة به، وللجواب عن عدم دخول الطاعون مكة والمدينة مع كونه رحمة وشهادة للمسلمين. وتناول في الفصل الرابع ما يُعالج به من أنواع والرقى والأدعية المأثورة عن الفقهاء.وهمَّ الفصل الخامس قضية الحجر وحقيقة العدوى. وفي الفصلين السادس والسابع، تحدث المؤلف عن مسألة عدم الفرار من أرض حل بها الوباء والإقدام لأرض موبوءة، حيث نقل جملة من التأويلات لتجنب التعارض بين الأحاديث فيما يتعلق بنفي العدوى من تأكيدها، وعن تشييع الجنائز. وفي الخاتمة، عاد المشرفي للتعريج بعجالة على ذكر بعض آثار وباء 1833- 1835،مع التركيز على شدة الموت، وكثرة الصدقات التي تُعبر في نظره على فيض الاتعاظ. لكنه أكد بعد ذلك على أن كثرة الموت يبَّست القلوب، حيث اشتد الجفاء وانتفت الرحمة من قلوب الأغنياء، حتى ضاع من جراء ذلك الفقراء. وقد أنهى الكتاب بجواب عن مسألة فقهية تتعلق بِحِلية جواز الدفن في موضع سبق فيه دفن الموتى بعد مُضِيِّ عشر سنوات، وذلك بالإحالة على نصٍ من معيار الونشريسي.

إذا ما قارنا مضامين الفُصول السبعة لكتاب العربي المشرفي (مع استثناء المقدمة) بكتاب ابن حجر العسقلاني الموسوم بـبذل الماعون في فضل الطاعون(3)، والذي يُعد المرجع الأساسي لكل كتب ورسائل الأوبئة من بعده، نجد أنه يكتفي بنفس المواضيع مع اختصار بعضها وتسبيق بعض القضايا عن الأخرى.وهذا لا يتنافى مع عنوان كتاب المشرفي الذي جعله في الأصل جمعا لأقوال المطاعين السابقين ممن تناولوا الأوبئة.وحين نتوقف على أهم المصادر، التي نقل عنها،نجد أربعة مؤلفات، يتكرر النقل عنها باستمرار، والتي كتبت خصيصا في موضوع الأوبئة والطواعين.وأقدمها كتاب بذل الماعون في فضل الطاعون، الذي يُعتبر الكتاب المؤسس والأكثر إسهابا في موضوعات الطاعون وأحكامه، من حيث القضايا الرئيسية والفرعية. وهذا الكتاب هو المصدر الأول والرئيسي للمشرفي.والمصدر الثاني من مصادر كتاب المشرفي هو كتاب ما رواه الواعون في أخبار الطاعون (مخطوط في 12 ورقة) لجلال الدين السيوطي (ت1445هـ/ 1505م)،الذي اختصر فيه بشكل مركز كتاب بذل الماعون دون إضافات تذكر. أما المصدر الثالث فهو عمدة الراوين في بيان أحكام الطواعين (مخطوط في 55صفحة) لمحمد الحطاب الرعيني من القرن 16م (ت954هـ/1547م). والمصدر المغربي الوحيد الذي اعتمده المشرفي هو رسالة الفقيه المالكي أحمد بن مبارك السجلماسي، تلميذ عبد العزيز الدباغ (ت 1156هـ/ 1743م)، الموسوم بـ جواب في أحكام الطاعون. ويحضر في هذا النص أيضا تراث ابن حجر العسقلاني، مما يجعلنا نخلص في النهاية إلى أن ما خطه العربي المشرفي في كتابه أقوال المطاعين ليس سوى تكرار لما سبق قوله، وجمع لما قاله الفقهاء الأقدمون.

       يتميز نص المشرفي والفتاوى الفقهية حول الطواعين بقواسم مشتركة، فجميعها تستند إلى نفس النصوص: الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتفسيرات الأوائل لها. و تُعتبر هذه المرجعية حاسمة في استخلاص المواقف تجاه طرق الوقاية والعلاج، والسلوك الواجب على المسلم التزامه في حالة نزول البلاء. ولذلك، لم نسجل أي منعطف فكري أو طبي في التفسيرات المتعلقة بأسباب الوباء لدى المشرفي أو السلوك الواجب اتخاذه زمن الطواعين، إذ ظلت نفس الأقوال تُعيد نفسها منذ التآليف الأولى. وهكذا، فإن الأسلوب الذي خط به المشرفي لا يختلف في تصميمه عن كتابات سابقيه، وبالخصوص عن كتاب ابن حجر. إنه كتاب لا يتميز في مضامينه بشيء، إلا ما يتعلق باختلاف ترتيب المواضيع واستبدال لفظ الأبواب بالفصول.

في مفهوم الوباء وأسبابه

عرض المشرفي في الفصل الأول باختصار تعريفاً للوباء، وذكر اشتقاقه اللغوي ومعناه الاصطلاحي، وحاول تبيان الفرق بينه وبين الطاعون، مع ذكر بعض أقوال الأطباء فيهما.كما ناقش النظرية الهوائية التي تربط بين فساد الهواء (المياسما) وظهور الأوبئة، حيث يُقدم آراء الأطباء والفلاسفة السابقين في هذه المسألة، مؤكدا بطلانها اعتمادا على ما عايشه أثناء وباء الكوليرا الذي ضرب مصر سنة 1849.ولذلك، لم يكن رأيه في النظرية الهوائية رفضا لانتقال العدوى فقط، ولكن انتصارا منه لما ذهب إليه غالبية فقهاء المسلمين ممن ألَّفوا في الطواعين والأوبئة، وعلى رأسهم ابن حجر، حيث انتصر للتقليد على حساب ما كان متداولا آنذاك من تفسيرات طبية. 

يورد المشرفي ما تقرر من فروقات بين الوباء والطاعون، والتي تظل مع ذلك غير واضحة وشديدة الالتباس حين يتعلق الأمر بالجوائح التي أصابت مكة والمدينة. ولعل السبب الحقيقي وراء هذا الفصل التمييزي سَعْي الفقهاء لإثبات صحة نص الحديث النبوي عن عدم دخول الطاعون للمدينتين، كون أن كل الجوائح التي ضربت المدينتين، في نظرهم، لم تكن طواعين وإنما أوبئة.كما أورد المشرفي سببا طالما تردد واعتُمد لتمييز الطواعين عن الأوبئة، وهو أن الطاعون وخز من الجن بخلاف باقي الأوبئة، وذلك اعتمادا على الأحاديث النبوية.

يبدأ المشرفي الفصل الأول بتعريف الوباء لغةً، استنادا لـلقاموس المحيط  للفيروزابادي، حيث ينقل عنه قوله: “الوباء محركة الطاعون أو كل مرض عام، الجمع أوباء، ويُمَدُّ، وجمعه أوبئة”. ثم ينقل كلامَ بن حماد الجوهري في الصحاح: “الوباء…مرض عام وجمعه المقصور أوباء، وجمع الممدود أوباء”، وبعضَ الإضافات اللغوية الواردة في عمدة الراوين، قبل أن يعرض لما هو أهم، ويتعلق الأمر بالمعنى الاصطلاحي للوباء، على النحو الذي جاء به الطبيب الأنطاكي في تذكرة أولي الألباب: “الوباء في الحقيقة تغيُّرٌ يعرض للهواء يخرج به عن تعديل الصحة إلى إيجاب المرض”.وفي عملية العرض هذه، يورد حديث الأنطاكي عن فساد الأمزجة وأنواع الأمراض التي تنتج عنه مثل اليرقان والذبيلات والنزلات والجذري والموت بالذبول، محدِّدا أسباب ذلك بقتلى الملاحم (المعارك) ونبش القبور وكثرة المستنقعات والضحاضح (ندرة الماء) والآجام (الضفادع) والدخان والروائح الكريهة، وقلة الأمطار، واحتباس الأبخرة، وكثرة الزلازل، وتحول الخريف صيفا والربيع شتاء، وما يرافق ذلك من فساد الفواكه والحيوان، وهروب الخشاش(الحشرات)، وتغير الجو وتلون الهواء. ولم يكتف المشرفي بما ذكره الأنطاكي، بل أشار إلى أن ابن سينا (ت428هـ/1036م)سبق وأن تناول الموضوع وقدَّم تفسيرا مُشابها بقوله: “أما الوباء فهو فساد الجوهر الذي هو مادة الروح ومدده، ولذلك لا تمكُن حياة الإنسان بل وجميع الحيوان بدون استنشاقه”. كما أورد ما قاله القاضي عياض في الإكمال: “أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسميت طاعونا لشبهها بالهلاك بذلك”، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعون. ويدل على ذلك حديث:”الطاعون وخز أعدائكم من الجن”. ومعنى ذلك أن “وباء الشام الذي ذُكر في الأحاديث النبوية كان طاعونا، وهو طاعون عمواس وكان قروحا”.  

عمد المشرفي للانتصار للفقهاء في تفسير أصل الطاعون، باعتباره وخزا من الجن، وأنه لا يدخل المدينتين المقدستين بنص الحديث: “المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الطاعون ولا الدجال”. ولذلك، فكل الأمراض التي عرفتها المدينتان هي أوبئة وليست طواعين في نظره، مما ينفي التعارض بين الحديث والأوبئة التي عرفتها مكة والمدينة لاحقا، إذ الطاعون أخص من الوباء. وفي هذا الرأي، يُعضد موقفه بكون الأخبار الواردة في تسمية الطاعون وباءً لا يلزم منها أن كل وباء طاعون، بل يدل ذلك على عكسه. لكن لما كان الوباء ينشأ عنه كثرة الموت وكان الطاعون أيضا كذلك، أطلق عليه هذا الاسم.

في نظر المشرفي والفقهاء الذين نقل عنهم يُفارق الطاعون الوباء بخصوص سببه الذي لم يرد في شيء من الأوباء نظيره، وهو كونه من طعن الجن. وقد فَصَّلَ المشرفي في هذه النقطة في نهاية الفصل الثاني، حيث تناول الأمكنة التي لا يدخلها الطاعون، وحصرها في مكة والمدينة استنادا لما ورد من أحاديث.ولتأكيد هذا الأمر، أورد شواهد من الأخبار التي تؤكد أنه لم يقع بالمدينة ولا مكة أي طاعون، وأنه لم يثبت ذلك في أخبار المؤرخين، إذ لم يُنقل أو يعلم أن الطاعون وقع بها من الزمن النبوي إلى عهد المشرفي، ومن ذكر العكس فهو واهم، إذ لم يثبت إلا الوباء بهما. وعضَّد بقوله ما ذهب إليه والفقهاء ممن تناولوا هذه القضية سابقا، وأضاف إلى الموضوع خبرا يتعلق برحلته الحجية عبر البابور سنة 1849، ومعاينته لقسيس فرنسي (جاسوس خفي بتعبيره) وهو يهرب من باب الوداع بمكة فارا من الوباء في اتجاه جدة. وقد ناجى المشرفي نفسه بالحديث: “لا يبقين دينان بجزيرة العرب”. ولعله يقصد أن الوباء كرامة من الله حصلت بمكة المكرمة حتى يخرج منها هذا الكافر، لأنه في نظره لا يمكن أن يدخل مكة الكفار فضلا عن أن يسكنوا بها.

إذا كان المشرفي قد أخذ من جميع التعاريف الاصطلاحية التي نقل عنها، سواء من الفقهاء أو الأطباء ما يُحيل على كون الطاعون أخَصّ من الوباء، لإثبات الفكرة المتعلقة بقدسية وحصانة المدينتين الشريفتين من الوباء، فإنه، وعلى العكس من ذلك، اختلف مع الأطباء في التفسيرات التي قدَّموها لأسباب الوباء، حيث استندوا كما تقدم إلى نظرية اختلاف الأمزجة وفساد الهواء. وهي النظرية التي ترتكز على خلفية تاريخية ممتدة في الزمان، إذ ظلت العلوم الطبية النظرية على حالها، أي كما كانت عليه قبل ألف وخمسمائة سنة مع الإغريق والرومان، مع بعض الإضافات المستمدة من الطب العربي والإسلامي في تعليل الأوبئة.وقد ظلت هذه التفسيرات قاصرة وغير كافية لفهم الأمراض المعدية، حيث رزح الناس تحت وطأة الموت لأمد طويل دون أن يصلوا إلى فهم كنهها.

وجب التأكيد أن هناك إجماع فقهي على التفسيرات الدينية التي قُدِّمت لتعليل الطواعين، باعتبارها عقوبة من الله. ففي مستهل أقوال المطاعين يقول المشرفي: “ونستغفرك من آثام ارتكبناها فَجَرَّتْ إلينا الطعن والطواعين، ومن أجلها ارتفعت البركة في الأركان”. ويضيف: “الطعن والطواعين من الفتن التي فتن الله بهما طوائف بني إسرائيل ومن قبلهم الأمم الماضيين حيث عصوا أنبياءهم، وذلك في كل سنة مرة أو مرتين”. ويعود المؤلِّف في فصول لاحقة للتأكيد على “أن بني إسرائيل والطوائف الماضية لما عصوا أنبياءهم سلط الله عليهم آيات بدعاء أنبيائهم كالسنين والجوع والطوفان والضفادع والقمل والدم، ومن الآيات مرض الطاعون فقد فتنهم الله به”. لكنه اعتبر الطاعون رحمة للمسلم، فموته به شهادة، وموت العاصي به تعجيل له بالعقوبة في الدنيا، إذ تُكَفَّرُ بسبب ذلك أخطاؤه.كما نقل أسبابا أخرى عن جلال السيوطي، منها “ظهور الزنا وتعطيل الحدود”. ومن جهة أخرى، قَدَّمَ جردا للأحاديث التي تصف أعراض الطاعون (أعظم الأمراض)، كونه يأتي “كغدة الأبل”،على شكل”دمل تخرج من الآباط والمراق”، وفيه “تزكية لأعمال المسلم”، وباعتباره ناتجا كما سبق الذكر “عن وخز الجن”، وذلك استنادا إلى أحاديث كثيرة، منها ما رواه الإمام أحمد عن النبي (ص) حين سئل عن الطاعون، فأجاب: “هو وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة”، وفي رواية أخرى “وهو شهادة للمسلم”.

لقد أشار العربي المشرفي إلى بعض التفسيرات غير الدينية التي قدمها ثلة من الأطباء المسلمين للأوبئة، كما تقدمت الإشارة من كلام الانطاكي وابن سينا. ومضمون ذلك أن الأمراض الوبائية ناتجة عن تقلب الأمزجة والهواء الفاسد والأبخرة، التي تتفتَّق عنها مادة سمية تحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن.

حاول المشرفي التوفيق بين الأبخرة العفنة والهواء الفاسد النَّاتج عنه وبين وخز الجن لتفسير الطاعون، وهو ما ذهب إليه ناقلا عن ابن حجر العسقلاني قوله: “وهو لا يخالف عندي قول الأطباء إنه ينشأ عن مادة سمية أو هيجان الدم أو انصبابه لعضو، أو غير ذلك، لأنه لا مانع أن ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة (عبر الجن)، فيحدث المادة السمية أو يهيج بسببها الدم أو ينصب”.وعليه، فالأطباء معذورون إن لم يعتبروا الطاعون من عمل الجن، “لأن ذلك أمر لا يُدرك بالعقل وإنما يتلقى من خبر الشارع”. ولذلك، أبطل الفقهاء قول الأطباء، لأنه يوحي بحقيقة العدوى المحظورة عندهم. ونذكر على سبيل المثال رأي ابن القيم الجوزية الذي ينقل عنه المشرفي ما كتبه لرد تفسير الوباء بفساد الهواء، ويتفق معه فيما ذكر من قرائن، منها: أن الوباء يقع في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواءً وأطيبها، وأنه لا يصيب جميع المخالطين لمرضى الوباء.هذا ما يبعث على الأسئلة الآتية: لماذا لا يُصاب الجميع؟ لماذا تحدُث الطواعين في أجزاء من الجسد دون غيرها، اعتبارا لفساد الهواء؟ ثم إن لكل داء دواء، وهذا الطاعون أعيى الأطباء دواؤه حتى سلم حذاقهم أنه لا دواء له ولا دافع له إلا الذي خلقه وقدره.

          لقد تبنى هذا الموقف جميع الفقهاء. فالقسطلاني أبطل دعوى من يزعم من الأطباء أن الوباء ينشأ من فساد الهواء، وعبَّر جلال الدين السيوطي عن موقف مماثل، حيث ذكر “أنه لم يعول على شيء مما ذكره الأطباء فيما يستعمل في أيام الطاعون من علاجات لأنه لا فائدة منها، لأنهم بنوا ما ذكروه على ما قدروه من أنه ناشئ عن فساد في الهواء، وقد تبين فساد ما قالوه، لمجيء الأحاديث النبوية بخلافه، فالأولى طرح ذلك كله والتوكل على الله”. وقد ناصر العربي المشرفي بالخصوص توجه السيوطي المتشدد، واعتبره موقفا موافقا للشرع والعقل. يقول: “مبتدأ، وما اعتاده حكماء الفلاسفة بالقياس والتجربة من أن الوباء وخصوصا الطاعون لا يكون عندهم إلا في وقت إفراط الحرارة، ويهيج قطعا في آخر فصل الخريف لفساد الهواء فيه، وفساد الهواء عندهم يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأمراض، ومن أجل ذلك يخرجون من البلاد المستوخمة التي لا تكون بساحل بحر كمغنية، ويقصدون المنازل البحرية إذا دخل الخريف لعدم صحة الهواء خبر منقود عليهم بكلام ابن القيم السابق والجلال السيوطي”.

التفسير الآخر الذي ساقه العربي المشرفي في الفصل الأول دون التعليق عليه لا بالإيجاب ولا بالسلب يتعلق بالتنجيم (النظرية الفلكية)، لكنه أوحى للقارئ بعدم صدقيته. ولاشك أن الارتباط الوثيق للتنجيم بالطب معروف منذ القديم، إذ يَفترض التنجيم الطبي توفر كل جرم سماوي على تأثير مُمَيَّز في أجسام البشر. ويقوم هذا الاعتقاد على التوافقات بين الأجرام والعناصر والأخلاط وخصائص جسم الإنسان.

موقف المشرفي من الكرنتينة

تعترضنا، ونحن نطالع كتاب أقوال المطاعين للمشرفي، قضية غايةً في الأهمية، توقفت عندها كل الكتابات التي تناولت جوائح المرض، وهي مسألة العزل الصحي. فقد تطرقت أدبيات الطواعين بمغرب القرن التاسع عشر للكرنتينة (الحجر الصحي) باعتبارها نازلة جديدة، فكانت الحاجة ماسة لفتاوى الفقهاء في هذا الموضوع المستجد، خاصة وأن العزل الصحي مبني في جوهره على مسألة حقيقة انتقال العدوى التي ظل الفقهاء ينكرونها عبر التاريخ. ورغم أن موضوع نفي العدوى تحدث فيه الفقهاء سالفا، إلا أن النقاش تجدد بشأنه بسبب تأسيس الأجانب مجالس صحية أقرت إنشاء محاجر صحية للوقاية من أضرار الوباء.

يرجح المشرفي الرأي القائل بنفي العدوى أصلا، حيث ينضم للتقليد الإنكاري الراسخ الذي لا يحتمل بتاتا إمكانية وجودها، حيث أصبح من الصعب تجاوز هذا التقليد بالرغم من وجود قرائن تُخالفه. وقد شكَّل نفي العدوى عاملا أساسيا لرفض التطورات اللاحقة في مجال الأساليب الوقائية تجاه الأوبئة، إذ ترسخت ذهنية سلبية قَدَرية مُستسلمة للوباء باعتباره وخزا من الجن وعقابا إلهيا. وكان هذا سببا في رفض الفقهاء والعامة الأساليب الوقائية التي نهجتها الدول الأوروبية لاحقا في البلدان الإسلامية في فترة التغلغل الاستعماري وبدايات الاستعمار، والتي عُرفت بالكرنتينة (الحجر الصحي).

لقد سار العربي المشرفي على نفس منوال ابن حجر العسقلاني وغيره من الفقهاء الذين عارضوا حقيقة العدوى، فاعتبرها قول من أقوال الكفار.أما الصواب، في رأيه،فهو اللاعدوى، قائلا، في حجته هذه،أن الكثيرين ممن أصيبوا بالمرض، الذي يُقال إنه يُعدي،”يخالطهم الصحيح كثيرا ولا يصيبهم شيء”.

خصص المشرفي الفصل السادس من كتابه لإشكالية العدوى، استنادا إلى حديث:(إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه). ولذلك، عارض الهروب من أرض بها الطاعون، لأنه لا يجوز الفرار من نيل أجر الشهادة. وقد جعل هذا الموقفُ الناسَ في وضعية العُزَّل تماما عند ظهور الوباء، لتعذر الاحتراز والهرب. لكن ذلك لم يمنع الناس من خرق المحظور، فالمشرفي يشير إلى أن الناس كانوا يلجؤون للفرار حين نزول الطاعون، بالرغم من نهي الشرع عن هذا السلوك. لكن، لم تكن هناك إجراءات عملية لمنعه، فأول من سن الإجراءات الوقائية في العالم الإسلامي هي المجالس الصحية الأوروبية التي اتخذت مجموعة من التدابير، أهمها فرض حجر صحي على السفن القادمة من الحج والمشكوك في حالتها الصحية(4).هذا ما عرف بالكرنتينة.فما موقف الفقهاء من هذا الإجراء؟

كانت شروط الحجر الصحي صعبة، ولم يكن القبول بفكرة التدخل في الشؤون الصحية في المغرب بالأمر الهين، وخاصة ما يتعلق بشؤون الحج، الذي هو فريضة دينية.ولذلك، وقف غالبية الفقهاء ضد هذا الإجراء.في هذا السياق، عبَّر العربي المشرفي عن موقفه الرافض في كتابه أقوال المطاعين، حين عاين إجراء الكرنتينة بمصر، وهو في طريقه إلى الحج، إذ تزامن دخوله مع انتشار وباء الكوليرا. يقول: “ووافق دخولنا مصر سنة 1265 (1849)، فوجدنا بها وباء بوقليب، وهو طعن عظيم قيل إنه كان يموت به كل يوم ما ينيف عن الثمانمائة نفس، فاجتمع حكماء الإفرنج (الأطباء الفرنسيون)وذهبوا لأمير مصر وقالوا له: سبب هذا الوباء اجتماع الناس في مثل هذه المواسم المذكورة، فاقطع هذه العادة وكف الناس عن الاجتماع والنفور لهذه الأماكن ينقطع عليكم الوباء. وكنت لا أدري ما أجابهم به، فقيل سكت عنهم، وقيل أجابهم بأنه سيقطع عنهم النفور لهذه الأماكن التي يكون بها اجتماعهم، فالأمير لها يومئذ إبراهيم باشا”.

أبدى المشرفي رأيه في الموضوع على نحو صريح: “نعوذ بالله من هذا الاعتقاد، فلا يموت ميت دون أجله”.ولذلك، عارض كل إجراءات العزل التي رآها في مصر، والتي فرضها الأوروبيون على المصريين، ومنها تفريق الجيوش وإلغاء المواسم. فقد علق مفندا “زعمهم الفاسد” بكون سبب الوباء اجتماع الناس للملاحم، بقوله: “فتراهم يفرقون جيوشهم … وينهون عن اجتماع الجموع للمواسم في هذا الفصل الخريفي، كموسمي البدوي والدسوقي المعلومين عند أهل مصر، تفزع الناس إليهما نساء وصبيان كهولا وشباب رجالا وركبانا”. ويستطرد: “ولا زلنا نسمع باجتماع الناس في المواسم والملاحم ولا وقع بها ما زعم حكماء الفلاسفة من الوباء في هذه المحافل السالفة”. ولهذا أيد المشرفي موقف العثمانيين الذين لم ينصتوا لأقوال الأجانب، بل قابلوهم بالإهمال والترك. وبالمقابل، آخذ السلطة المصرية على خضوعها للحجر الصحي المفروض من الأوروبيين، حيث عبر بالقول: “غير أنهم ساعدوهم في الكرنتيلات، إذ لما سمعوا بقدوم المحمل المصري وفيه الوباء تعرضوا له وأنزلوه بركة الحاج  (بميناء طور) وحاطوا به من كل الجهات بأن دقوا كبار الأوتاد في الأرض… وما بينهما مربوطة بالحبال حائلة بين المسافرين وأهل البلاد … فمن ابتاع شيئا يأخذه من الأرض لا من أيدي الناس، وينزل المشتري الفلوس في قدح فيه ماء فلا يأخذهم البائع إلا من الماء، مرادهم والله أعلم أن الوباء قائم بها، أي بالفلوس، تعلق بآخذها فتزول بالماء. نعوذ بالله من هذا الاعتقاد، فلا يموت الميت دون أجله. ولقد مرت الأعوام… والإنسان يباشر بيده الموتى ويحضر في الملاحم ولا قصر له أجل دون الذي قدره له المولى عز وجل”.

لم يكن المشرفي وحده ضد الكرنتينة، بل كل الفقهاء بمن فيهم المحسوبين على التيار المنفتح. فمن اللافت للنظر أن ينضم المؤرخ الناصري للتوجه المعارض،حيث أصدر فتوى شرعية بتحريم الكرنتينة أثبت نصها في الاستقصا.

ركزت نوازل ورسائل وكتابات الطواعين والأوبئة على الجدالات الفقهية العقيمة، إذوقفنا في كتاب المشرفي على تكرار نفس التفاسير والأقوال التي تضمنتها مؤلفات فقهية سابقة.كان التقليد سمة رئيسية من سمات هذه الأدبيات، لأنها تناولت نفس المواضيع والقضايا تقريبا، ونهلت من نفس المصادر والنصوص. ولذلك، فإن تتبع مجمل المواقف والتصورات والمفاهيم العامة التي تشكلت لدى الفقهاء عبر التاريخ تجاه الأوبئة والطواعين، يمكِّن من القول بجمود ذهنياتهم منذ السنوات الأولى للإسلام إلى غاية القرن التاسع عشر.

الهوامش:

(1)-أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري، الدار البيضاء، دار الكتاب،1997، ج 9، ص 69.

(2)– حسن الفرقان، أدبيات الأوبئة في مغرب القرن 19م، نموذج أقوال المطاعين في الطعن والطواعينللعربي المشرفي، دراسة وتحقيق، منشورات التوحيدي، صص176-184.

(3)-ابن حجر العسقلاني، بذل الماعون في فضل الطاعون، تحقيق عبد القادر الكاتب، دار العاصمة بيروت، بدون تاريخ.

(4)-لم يكن الحجاج المغاربة يخضعون لأي مراقبة صحية بعد عوتهم من الحجاز قبل تأسيس المجلس الصحي بالمغرب. ومنذ طاعون 1818، الذي تسبب فيه الحجاج القادمون عبر البحر، تنبه المجلس إلى خطورة الأمر من الناحية الصحية، وسنَّ إجراءات مشددة، انظر:

Mohamed Amine El Bezzaz,« Les débuts de la réglementation sanitaire de pèlerinage marocain à la Mecque 1831-1866 »,Hespéris-Tamuda, 1982,  p. 94.

- خاليد فؤاد طحطح

أستاذ باحث في التاريخ

تعليق واحد

  1. المرجو هذا الكتاب pdf من فضلكم

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.