بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب، 1912-1945، الرباط نيت، 2013.
تاريخ المرض من الموضوعات الأساسية التي تمكِّن المؤرخ من فهم الحياة اليومية للأفراد والجماعات،من خلال الأساليب التي سعوا عبرها إلى ترميم أعطاب الجسد، والتمثلات التي وجهت عقلياتهم، والتحولات التي طرأت على هذه الأساليب والعقليات مع اتساع بنيات الحداثة المرتبطة بفكر الأنوار وتقنيات الثورة الصناعية، بأوروبا في مرحلة أولى، وبباقي العالم في مرحلة ثانية مع موجة الاستعمار. وقد أسهم عدد من المؤرخين المجدِّدين إسهاما كبيرا في هذا المجال، منهم على سبيل المثال لا الحصر المؤرخ الأمريكي ويليام هاردي ماك نيل الذي كتب عام 1976 بنفَسٍ تاريخي عالميالطواعين والشعوب، والمؤرخ الفرنسي-الكرواتي ميركو درازين جيريميك الذي أشرف خلال سنوات 1995-1999 على كتاب جماعي ضخم تحت عنوان تاريخ الفكر الطبي، حيث تم التشديد على قدرة المؤرخ على معرفة سياقات ظهور الأمراض والأوبئة وإيقاعات بزوغها وأفولها، وعلى الأهمية القصوى التي تكتسيها الأمراض والأوبئة باعتبارها ظواهر شاملة تؤثر على الاقتصاد والديموغرافيا والطبائع. ومن الجانب المغربي اهتم عددٌ من الباحثين بهذا الموضوع، منهم محمد الأمين البزاز (تاريخ الأوبئة والمجاعات في المغرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، 1992)، والحسين الفرقان (الطواعين،2014)،وبوجمعة رويان صاحب كتاب الطب الكولونيالي الفرنسي (2013)، موضوع هذه القراءة.
يندرج هذا الكتاب ضمن البحوث التي حاولت تسليط الضوء على جانب من جوانب التاريخ الاجتماعي، من خلال المرض، بتوصيف الأوضاع الصحية قبل المرحلة الاستعمارية، ورصد البنيات التي غيَّرت هذه الأوضاع عقب التدخل الاستعماري، وأدخلت المغرب تدريجيا في عصر العلاج العلمي. والدراسة،التي هي في الأصل أطروحة دكتوراه الدولة نوقشت بكلية الآداب الرباط سنة 2004 تحت إشراف إبراهيم بوطالب،استندت إلى أرشيف متين ومتنوع، من نشرات إدارة الحماية،مثل المغرب الصحي ونشرة معهد الصحة، ومجلة التّْراخُوما الدولية، إلى أرشيفات فرنسا المحفوظة في مدينة نانتْ، مرورا بتقارير الأطباء الذين مارسوا مهامهم في مختلف المراكز الصحية بالبلاد.
تغطي هذه الدراسة، من الناحية الزمنية، فترة ما بين 1912 و1945، بمبررات كرونولوجية ومنهجية. أولا، يشير هذان التاريخان إلى بداية مرحلة الحماية من جهة، حيث شرعت الإدارة الفرنسية في تطبيق سياستها الصحية، ومن جهة ثانية، إلى السنة التي انتهت فيها سياسة المزاوجة بين التعمير وإنشاء المؤسسات الصحية، بين تهدئة البلاد ومكافحة الأمراض والأوبئة، لتبدأ مرحلة أخرى تقضي بتغيير هذا النهج على مستوى السياسة والمؤسسة، وإن كانت الصورة تستلزم، لاستكمالها، رؤية شاملة تذهب بهذه التجربة إلى غاية الحصول على الاستقلال.
يخلق هذا البحث تقاطعا مثمرا بين نظرة المؤرخ ونظرة الطبيب، بين التاريخ الاجتماعي والتاريخ البيولوجي، وذلك بغية الوصول إلى قبو التاريخ وفهم تاريخ المجتمع المغربي من الأسفل. ولهذا الغرض، يقترح الباحث إحدى عشر فصلا مُرتبة في ثلاثة أقسام، وينطلق من ظروف الحياة اليومية، أي الأغذية والسكن وطرق العلاج التقليدية. هنا تنكشف هشاشة المجتمع المغربي قبل الاستعمار. ففي غياب قنوات الصرف الصحي وتراكم الأزبال والقاذورات وانتشار الفئران في كل مكان واستعمال المياه الفاسدة في القرى وحتى في الوسط الحضري، كانت أبدان الناس هشَّة ومعرَّضة، على الدوام، للسقوط في براثين هذا المرض أو ذاك، في حين لم يكن في جعبة العارفين، من فقهاء وحكماء، سوى الوسائل الموروثة عن آبائهم وأجدادهم، والتي لم يكن لها نفع يذكر عندما تنتشر العدوى ويلوح الموت الجماعي في الأفق. حتى الحمّام في المدن بالخصوص، والذي كان من شأنه أن يساهم في النظافة المطلوبة، أو ما اعتقده الفقيه جعفر الكتاني في كتابه “الآيات النفّاعات فيما يتعلق بالحمّامات” كونه “يُذهِب الدَّرَن والوسخ والوَصَب”، كان عاملا من العوامل الناقلة للمرض، وخاصة الزهري بسبب الجراثيم والعُفونات التي تراكمت في جنباته وداخل سُطُوله، بحسب ما وقفت عليه التقارير الصحية إبان الحماية.
كانت المارستانات قد تدهورت تدهورا كبيرا، وكانت المعارف الطبية العربية قد تراجعت كثيرا، ولم يبق بالساحة سوى المشعوذون والدجالون. ولم تعد تنفع الكتب الطبية والصيدلانية، على أهميتها، مثل حديقة الأزهار في شرح ماهية العشب والعقار، لصاحبها أبو القاسم الغسّاني، مثلا، في مواجهة الأمراض والأوبئة الكثيرة والمتكررة، حتى أن الأمراء والسلاطين صاروا يلجؤون لخدمات الأطباء الأجانب، مثل ويليام لامبريار، طبيب الأمير المولى عبد السلام ابن السلطان محمد الثالث، في نهاية القرن الثامن عشر، وفيرناند ليناريس طبيب السلطان الحسن الأول، في نهاية القرن التاسع عشر. هذا في وقت كانت فيه الأوبئة قد بلغت درجة فظيعة من العدوى وتسببت في قتل خلق كثير. فالكوليرا التي ضربت المغرب عام 1834، قادمة إليه من أوروبا بحكم الاتصالات التجارية مع بلدانها، كانت أعراضها خطيرة، بحسب هذه الشهادة الإخبارية التي ذكرها محمد الأمين البزاز، في كتابه تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب: “هو ريح ما سمعوا به، قاتل من حينه، ويسمونه عندنا في المغرب بأسماء الكوليرة والريح الأصفر وبوقليب.. إذا أصاب الرجل تغير لونه واسود جفن عينه ويجعله يقيء من أعلى ويسهل من أسفله، ومن الناس من يشتكي مع ما ذُكر وجع رجليه ويموت في الحين”.
ومعلوم أن هذه اللوحة الصحية السوداء، التي ترسمها النصوص المحلية والأجنبية على السواء، لا تخص المغرب وحده. فالأمر يتعلق بكل المجتمعات البشرية التي لم تكن قد ولجت بعدُ عالم الحداثة وأدواتها العلمية والعقلانية، في بلدان إفريقيا وآسيا، التي عانت قبل التحولات الصناعية المرتبطة باتساع الحركة الاستعمارية، من الكثير من الأمراض والأوبئة، بسبب الظروف البيئية وقلة النظافة. حتى أوروبا، التي كانت قد اتسعت فيها دائرة الثورة الصناعية والعلمية في القرن التاسع عشر، عانت من الأوبئة خلال هذا القرن، ولاسيما الكوليرا التي ضربت بلدانها في أعوام 1830-1832، 1854، 1884، ولم تتحسن أحوالها الصحية إلا بفضل المنهج الباستوري والملاحظة المبنِيَّة على المجهر والتحليلات الطبية، التي أبانت، ابتداءً من نهاية القرن المذكور وبداية القرن الموالي، عن فعاليتها الهائلة في معالجة هذه المشاكل، حيث تعددت التجارب السريرية، والمؤتمرات الصحية الدولية التي انعقدت في كبريات المدن الأوروبية، والمجلات المتخصصة، والتجهيزات الصحية، التي جعلت من الطب مؤسسةً قائمة على البحث العلمي، وأداةً من أدوات تفوق الغرب على باقي العالم.
وفي فصول موالية،يعرض بوجمعة رويان النظام الباتولوجي للأمراض والأوبئة، الذي واجهه الطب الكولونيالي الحديث قصد تدبير البلاد والأهالي تدبيرا يتلاءم ومصلحة إدارة الحماية. فقد عانى المغرب من أمراض التيفوس، والطاعون، والجدري، والملاريا، والزهري، والسُّل، التي كانت تتسبب في نزيف ديموغرافي كبير، وفي بعض الأحيان في إبادة قرى وأحياء حضرية بالكامل. لنضع مرضا من هذه الأمراض تحت المجهر: التيفوس الذي ضرب الناس على نحو متقطع ما بين 1911 و1928. لقد تفشَّى هذا المرض بسبب القمل. كان “ينتشر هذا المرض، يقول الباحث، نتيجة لسعات القمل دون غيره، ذلك أن القملة إذا لسعت شخصا تركت بعض القاذورات حول المكان الملسوع، فإذا حك الإنسان ذلك المكان فتح بأظافره خدوشا في الجلد تسهل على الميكروبات الموجودة بتلك القاذورات التسرب إلى جسمه فيصبح مصابا بالتيفوس”. ثم تنتشر العدوى، فيكثر المرضى ويتساقط الموتى. كان أحد المغامرين الفرنسيين، وهو يتجول بالدار البيضاء عام 1913 قد اندهش مما انتشر في أرجاء فندق من فنادق المدينة “من روائح البول والبراز”، ومما رآه في فناء ذلك الفندق: “ثلاثون شخصا بأسمالهم الرثة منطرحين على حصائر قذرة، يجأرون إلى ربهم من وطأة المرض”.
ويضع الباحثُ القارئَ في صورة المؤسسات والآليات والأدوات التي وضعتها الإدارة الاستعمارية من أجل مكافحة هذه الأمراض. وفي هذا التحليل، المتدرج من الأسفل إلى الأعلى، يرى بوجمعة رويان أن الطب شكَّل أداة أساسية لتمهيد البلاد واستمالة العباد وبسط اليد على المغرب، وفق المخطط الذي وضعه بإحكام مهندس الحماية، الماريشال ليوطي.
ويبقى “معهد باستور”،الذي رأى النور بالدار البيضاء عام 1929بمبادرة من الطبيب الفرنسي إميل رُو، في طليعة المؤسسات الصحية التي أنشأها الاستعمار. فقد زوَّد هذا المعهدُ، الذي أظهر للجميع التفوق البيِّن للعلم على الشعوذة والدجل، المستشفيات والمستوصفات بكميات كبيرة من اللقاح، إذ ما بين 1932 و1935 وفَّر ما يقرب من أربعة ملايين جرعة لقاحية لأغراض طبية مختلفة، وأكثر من ثلاثة ملايين لقاح ضد مرض الجدري. لقد شكلت عمليات التلقيح وآليات العلاج المرتبطة بالإسعافات والأدوية ولوازم النظافة حجر الزاوية في معالجة الأمراض والأوبئة، بعدما كانت الأعشاب، من شيحٍ ودادٍ ودفْلةٍ وغيرها من النباتات، هي المكون الرئيسي لمقاومة الداء بمختلف أنواعه. علما بأن الاستعمال العشوائي لهذه الأعشاب كان من وراء مشاكل صحية كثيرة مثل التسمُّم أو التسبب في مضاعفات شتى.
وكان من نتائج عمليات التلقيح هذه تحسُّنُ الأحوال الصحية، وما ترتب عن ذلك من تزايد في عدد السكان في الفترة ما بين 1912 و1945، إذ ارتفع هذا العدد من أربعة إلى ثمانية ملايين نسمة. ثم ما لبث أن تواصل هذا التزايد على نحو غير مسبوق في تاريخ المغرب.
ومن أهم ما يحتفظ به القارئ في هذه الدراسة ما يقدمه المؤلِّف من تفسير للأمراض والأوبئة بمقاربة تحليلية تتَّبع المرض منذ ظهوره حتى اختفائه، وفي تطوره بالعلاقة مع الأمراض الأخرى، في الزمان وفي والمكان، وذلك أخذا بعين الاعتبار غياب نوزولوجيا كاملة خاصة بالمغرب. هكذا، أخضع كل الأمراض والأوبئة لتحليل دقيق بالقياس إلى تواريخ ظهورها واختفائها خلال المرحلة الاستعمارية، كما اجتهد في إبراز سياقاتها، كما هو الحال مثلا بخصوص عام 1945، حيث يجد القارئ فصلا كاملا عن مجاعة 1945 المعروفة بِـ “عام الجوع” أو “عام بوهيُّوف” بتفسيرات مفصلة عن الصلة بين هذه المجاعة التي نجمت عن توالي سنوات الجفاف، ووباء الحمى الراجعة.
طرح بوجمعة رويان سؤالا محوريا: لماذا استمر المغاربة في ممارسة الطب التقليدي، على عِلَّته، بالبيوت والأضرحة والأسواق، على الرغم من وجود الطب الباستوري (نسبة للويس باستور) الذي ينبني على التشخيص قبل العلاج؟ هنا تبدو أهمية البعد الذهني وفعالية المقاربة الأنثروبولوجية. لكن ما يؤكد عليه الباحث هو أن إدارة الحماية لم تقم، ميدانيا، بشيء يذكر للقضاء على الأساليب العتيقة الموروثة عن الأجداد، إذ اكتفت بالعناية بالمدن والقرى المرتبطة بضيعات المعمرين، حيث وفرت اللقاحات والأدوية. ففي الأسواق، بقي الناس أوفياء لما هو مألوف فيما يتصل بالتداوي بالأعشاب، واقتلاع الأضراس، وتجبير العظام، والحجامة، وغيرها، وذلك تحت أنظار رجال إدارة الحماية.
ويجد هذا الأمر تفسيره في عاملين رئيسيين. أولا، لم يكن للدولة الفرنسية الحامية ما يكفي من الإمكانيات والأدوات والموارد البشرية لتعميم الطب الحديث في كل الأقاليم والجهات، إذ اهتمت بدرجة أساسية بالمدن والبوادي التي كانت تخضع لها خضوعا تاما، والتي كانت ملزمة للعناية بها، خدمةً لمصالحها الحيوية في مجالات الفلاحة والصناعة والخدمات. وفي واقع الأمر، كانت هذه السياسة الصحية، المبنية على المصلحة الاقتصادية، والتي رأى فيها صاحب الكتاب أداةً أساسية لتمهيد البلاد واستمالة العباد، قد لازمت النظام الرأسمالي حتى داخل البلدان الغربية نفسها. في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلا، كانت مؤسسة روكْفِلير قد قامت بحملة صحية ضد دودة الأنكلوستوما الطفيلية بالولايات الجنوبية، وذلك قصد “تحسين كفاءة قوة العمل” ودمج هذه الولايات في دينامية الاقتصاد الرأسمالي.
ثانيا، كان للفرنسيين معرفة بعقليات الناس كونهم يتشبثون بالتقليد ويناهضون كل تجديد. ولذلك، لم يكن من مصلحتهم فرض المستحدثات الطبية على الجميع وبالقوة، تفاديا لكل ما من شأنه الإخلال بالتوازن الاجتماعي المطلوب. لكن الذي تبيَّن مع مرور الوقت، في نهاية عهد الحماية ومرحلة الاستقلال، هو أن الأهالي اقتنعوا بفعالية العلاج الأوروبي في مكافحة الأمراض بالقياس إلى العلاج التقليدي.
لقد حصل انتقال من الشيح إلى التلقيح، إذا صحَّت هذه العبارة، وتحول مركز الثقة من العطّار وما كان يقترحه على المرضى من أعشاب، إلى الصيدلي الذي يقدم أدوية صناعية طبقا لما يقترحه الطبيب. صحيح أن هذا الانتقال جرى بطريقة بطيئة، لكنها طريقة تكتسي قيمة سوسيولوجية أكيدة. هذا، لأن الناس، في نهاية المطاف، في المدن في مرحلة أولى وفي البوادي بعد ذلك، اقتدوا بالذين جرَّبوا فعالية الاستطباب الحديث، وبنيته المنهجية القائمة على أساس التشخيص قبل العلاج والانتظام في تناول الدواء، والوقائية المرتبطة بالنظافة والرأفة بالذات، وذلك ضمن صيرورةٍ تنامى فيها الوعي وتحسن خلالها مستوى العيش، حيث حكَّموا مصلحتهم البدنية أولا وقبل كل شيء.
ملحوظة: سبق نشر هذه القراءة في مجلة هسبِريس – تمودا (بالفرنسية)، مجلد 49، 2014، ص 191-193.
مراجع
باللغة العربية:
– أرنولد (دافيد)، الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2013.
– البزاز (محمد أمين)، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1992.
– المشرفي (العربي)، أقوال المطاعين في الطعن والطواعين، تحقيق الحسين الفرقان، الرباط، منشورات دار التوحيدي، 2014.
مراجع باللغات الأوروبية:
– Grmek (M. D.), éd., Histoire de la pensée médicale en Occident, Paris, Seuil (t. 1: Antiquité et Moyen Age; t. 2: De la Renaissance aux Lumières; t. 3: Du romantisme à la science moderne), 1995-1999.
– McNeill, (W. H.), Le temps de la peste. Essai sur les épidémies dans l’histoire, trad. fr. Claude Yelnick, Paris, Hachette, 1978.
– Moussaoui (D.), Battas (O.), Chakib (A.), «Histoire de la médecine au Maroc pendant le Protectorat », Histoire des sciences médicales, t. XXVI, n° 4, 1992, pp. 291-299.