الآن بدأت أدرك بنوع من الوضوح ما معنى الحرية، ولم أعد في حاجة إلى البحث عنها في المعاجم ولا في بطون المصنفات الكبرى (فلسفية، دينية، سياسية..). علمتني تجربة الحجر المنزلي – ولو في شكلها النسبي – أن الحرية، تعني ببساطة: “الخروج من البيت”. بيد أن هذا المعنى “المبتذل” يحتاج إلى نوع من الإضافة على مستوى الحد، كأن نقول مثلا: الحرية هي “الخروج من البيت مع ارتفاع المانع”. وذلك قصد تقريب مدلول الحد من مدلول الحرية، كي لا تظل الحرية مجرد خادمة في البيت أو هاربة منه. سيعترض الحقوقي على هذا التعريف بالقول إن الأمر يتعلق هنا بجزء من الحرية فقط ألا وهو: “حرية التنقل”. سوف يكون الاعتراض وجيهاً لو كان القصد من “البيت” ينحصر في الدلالة الواقعية فقط، دون الدلالة الرمزية. فلنوسع، إذن، معنى البيت ليشمل الدلالة الرمزية ثم نربطه بالمانع، ونتساءل على الفور: ما المانع؟ وما الذي يرفع المانع؟
المنع هو سلب حق الإرادة في الفعل، أو قل هو إكراه الشخص على عدم فعل ما يريد، أي إجباره على فعل ما لا يريد. الإجبار والإكراه والمنع هي عناوين مختلفة لسلب الحرية، أو هي إبطال لفعل الإرادة، أعني الإرادة، بوصفها فعلاً. ليس مصدر الإجبار والإكراه والمنع – هاهنا- هو السلطة، بل هو الرعب، والرعب هو أقصى درجات الخوف. فما الذي يرعبنا؟ إنه الموت: نحن نخاف أن نموت! الموت خارجي بطبعه، إنه شيء طارئ على الحياة، أو بالأحرى الحياة طارئة على الموت. وهذا الجدل المتناقض في ظاهره يعيدنا إلى أبيقور: عندما ينتصر الموت نكون غائبين، وعندما تنتصر الحياة يغيب الموت. ومن هذا نخلص إلى أن الموت لا وجود له – بالنسبة لنا- في كلتا الحالتين، فهو يوجد متى كنا غير موجودين وهو لا يوجد متى كنا موجودين. فما الذي يبرر الجزع الذي يخلفه فينا رعب الموت إذن!؟ كل جزع أو هلع أو رعب يخلق فينا ردة فعل طبيعية: الهروب. ولكن إلى أين؟ إنه الهروب إلى الداخل. نحن نهرب إلى دواخلنا (بيوتنا) طلباً للحماية من خطر خارجي يحدق بنا، فالداخل يشعرنا بالأمان. بيد أن هذا الشعور الباطني مشروط بحرية الإرادة، أعني إرادة الخروج من جديد. ومتى تعطلت الإرادة – بفعل مانع ما- انقلب الشعور بالأمان إلى شعور بالانزعاج وبالقلق ثم الخوف والرعب.. وهكذا تنغلق الدائرة من جديد!
إن كان التحرر هو خروج من الحجر، فليس كل خروج هو فعل تحرر. لأن السؤال الذي سيطرح هاهنا هو التالي: الخروج إلى أين؟ تعلمنا تجربة الحجر الصحي (أو المنزلي) أن الخروج أمر ممكن ولكن بشروط، أهمها عدم الاختلاط بالغير. فعدم الاختلاط يكفل لنا حق الخروج، ولكنه لا يكفل لنا حق الحرية. إن ما يزعجنا في تجربة الحجر ليس هو عدم الخروج، بل هو عدم الاختلاط بالغير. والحرمان من العلاقة بالغير في الخارج يعبّد الطريق نحو الهروب: الهروب إلى الداخل. وكأن لسان حالي يقول: إن حُرمت من العلاقة بالغير فسأهرب إلى نفسي! فالمقابل الحقيقي للخروج ليس هو الدخول، بل هو الهروب! الهروب هو الابتعاد عن أماكن الخطر، وذلك من أجل العمل على توسيع الفجوة بيني وبين مصدر الخطر. بيد أن اتساع الفجوة، أي الاستمرار في الابتعاد، يفضي إلى التيه. ولاجتناب قدَر التيه المُنذر بالمجهول، نتخذ طريق العودة سبيلاً إلى دواخلنا (بيوتنا)، قصد تحصين الذات التي أضحت مكشوفة نتيجة فقدان علاقتها بالغير. غير أن العودة إلى الأصل (نقطة الانطلاق) هي نكوص ما، تبحث من خلاله الأنا عن عزاء أو مواساة أو حماية من واقع عجزت عن مواجهته، أو من مجهول تخشى ارتياد متاهاته. بذا تظهر العودة بوصفها حالة مرَضية، ما دامت هروباً من واقع غير محدد المعالم، ومن مستقبل يشرف على المجهول. في هذه الحالة تجد الذات نفسها أمام أمرين أحلاهما مرّ: إما أن تُقْدِم على مغامرة غير محسوبة العواقب وهي البقاء في حالة خروج مستمر نحو المجهول، وإما الهروب إلى الداخل طلباً للحماية.
والظاهر أن الحل لا يوجد في الطرف الأول ولا في الطرف الثاني، ما دام مطلب الحرية لن يتحقق في هذا ولا في ذاك. لماذا؟
لأن الابتعاد (أو التباعد الاجتماعي)، بما هو خروج، لا يختلف في جوهره عن الهروب إلى الداخل: كلاهما عزلة. والعزلة تنتج عن العطب الذي يصيب علاقتنا بالغير، فنضطر إلى الانكفاء على أنفسنا طوعاً أو كرهاً. يتحدث سارتر عن “الآخرين” ويصفهم ب”الجحيم”، لأنهم يعطلون حريتي، ويعرقلون حركاتي وتصرفاتي العفوية، بفعل “نظرتهم” إليّ. وهذا ما يحوّلني إلى موضوع، أي موضوع محاصر بمراقبة الغير لحركاتي وسكناتي، مما يسقطني في حالة “ضجَر”. وبمجرد ما أستشعر أنني غير مراقب من طرف هذا الغير، سرعان ما أستعيد حريتي في التصرف العفوي والتلقائي. ليكن الأمر كذلك! فهل العزلة – بما هي اختفاء عن أنظار الغير- هي البديل؟
لا يخفي الفلاسفة تبجيلهم للعزلة، أي عدم مخالطة الآخرين (العامة) إلا في الضروري من المأكل والمشرب والملبس.. بل منهم من فرض على نفسه نوعاً من “الحجر الطوعي”، إن كانت وضعيته المادية تسمح بعدم اضطراره لمخالطة غيره. أما نظرياً فقد عبّروا عن ذلك بتقديم تصورات عن كيفية تحقيق المدن الفاضلة كبدائل للمدن الضالة، وبمرور الزمن تطورت هذه التصورات إلى نظريات “العقد الاجتماعي” وإلى “يوتوبيات” تبشر بإمكانية تحقيق مجتمعات العدالة والمساواة والحرية.. وهلم جرا.
قدم أفلاطون أول محاولة فلسفية تقف على دلالة “الخروج”، وذلك من خلال مثال ضربه لأناس مصفّدين وقابعين في ظلمة كهف، لا يبصرون سوى أشباح الأشياء التي ترتسم أمامهم على جدار الكهف الداخلي، بفعل نار موقدة خلف ظهورهم. وبما أن هؤلاء ولدوا على هذه الحال، ولم يلتفتوا قط وراءهم، أي إلى باب الكهف الخارجي، فإنهم يعتقدون أن الواقع الحقيقي هو ما يتراءى لحواسهم. وظلوا على نفس الحال إلى أن تجرأ أحدهم على تغيير جهة النظر المألوفة، بالتفاته إلى الخلف، فأبصر نوراً يشع من الخارج. وبعد أن تمكن من فك أغلاله، خرج من الكهف ثم عاد ليخبر الآخرين بتجربته، ويحدثهم عن النور الحقيقي، أي نور الشمس؛ وعن الأشياء كما هي في الخارج وليس كما تبدو لهم ظلالها في شكل أشباح فقط.
المهم في هذه الأمثولة هو العودة بعد الخروج، فهذا الشخص الذي اهتدى إلى التحرر من سجن الحواس (الفيلسوف)، لم يستأثر بالحقيقة لوحده بل عاد ليتقاسمها مع الآخرين. هل نجح في مهمته أم لا؟ هل تعرض للسخرية أو للتهديد بالقتل أو لرميه بمس الجنون؟ هذا كله غير مهم، بل المهم هو العودة! لأن الحقيقة (الفلسفية أو العلمية أو الدينية أو السياسية..) لا تصبح كذلك إلا إذا كانت “بينية”، أي يتقاسمها القلة أو الكثرة من الناس. صحيح أن الحقيقة لا تكتشفها الجماعة بل الفرد، ولكن صحيح أيضاً أن تلك الحقيقة لا يكتب لها الانتشار سوى بتداولها بين جماعة معينة بفعل آليات محددة من الإقناع.
وصلتنا – قبل أفلاطون – روايات الخروج الأسطورية والدينية، تدور أحداثها حول أبطال تراجديين أو أنبياء قرروا خوض تجربة الخروج إما فرادى أو ضمن جماعات. يخرج البطل لينجز أعمالاً خارقة، ثم يعود بعد طول رحلة ويتوج اسمه في سجل الخالدين. بيد أن أغرب خروج هو ذاك الذي ينتهي إلى اللاعودة، بحيث يظهر وكأنه فرار أو هروب فردي أو جماعي. وهذا ما يبرزه بجلاء “سِفر الخروج”، أحد أسفار التوراة الخمسة.
يقرر موسى، ذات خاطرة (أو أمر ما)، أن يجمع أتباعه ويخرج بهم ليلاً من مصر، ويشق البحر الأحمر بعصاه، ليجد نفسه وقومه في التيه بين رمال صحراء سيناء. حدثٌ جليلٌ بلا شك، وفي صحراء قاحلة: لا ماء ولا طعام ولا مأوى.. فأين المفرّ؟ التفكير في العودة إلى أرض مصر أمر مستحيل، بيد أن الاقتلاع من الجذور أمر لا يطاق. وهنا يأتي دور المعتقد في تلبية الحاجة للعودة، حيث استغل قوم موسى غيابه في الجبل ليعودوا إلى عبادة المصريين عندما صنعوا بنفسهم إلههم الوثني. لكن العودة، في آخر المطاف، تكون إلى بيت، أي إلى أرض، والصحراء ليست أرضاً، بل هي قفر وخلاء وعراء (بيداء دونها بيد). لا مأوى هاهنا، رمال ممتدة إلى ما لا نهاية، وأفق يمتد بدوره إلى ما لا نهاية: إنه التيه المطلق. تمخضت تجربة التيه عن وفاة البطل (موسى) دون بلوغ مرماه، وإلى اليوم لا نعرف له قبراً ولا رمساً ولا لحداً. أكثر من هذا فقصة ولادته هي الأخرى لغز محير، فهو ابن القصر الفرعوني الذي جاء إلى الوجود خلسة وتكفل وادي النيل برعايته. وعندما اشتد عوده تحدى سلطة الفرعون وجبروته، فقرر الخروج بشعبه المستعبد من أرض مصر في اتجاه أرض موعودة. وهي أرض كنعان التي وعد الرب بمنحها لنسل إبراهيم، هذا الجد الأول الذي قرر بدوره الخروج من أرض العراق (بلاد الرافدين) واختار التيه على الاستقرار.
قرار الخروج بدون عودة يعني الهروب إلى النفس في ظل التيه، أي اختيار المكوث في عدم الاستقرار بدون مأوى (بدون بيت). والخروج الدائم، كما الهروب إلى النفس، كلاهما يفضي إلى “الضجر” بالمعنى السارتري. فإذا كان الغير يسبب لي الضجر بفعل معاملته لي، فإن فرض الحجر على الأنا سوف يؤدي بدوره إلى الضجر أيضاً. الحجْر هو عين الضجَر! ولهذا السبب يتدخل المعتقَد ليلعب دور المنقذ من الضجر، فكان اللجوء إلى اختلاق “الأرض الموعودة”. وهذا أمر غريب حقاً! فمتى كانت العودة إلى غير أرض الآباء عودةً؟ فالذهاب إلى غير أرض الآباء والأجداد ليست عودةن بل هي هجرة، والهجرة بدون عودة هي انقطاع عن الأصل واستئصال له. لذلك يتدخل المعتقد مرة أخرى لتقديم حل “الوعد” ليقوم مقام العود أو العودة؛ فالرب “وعَدَ” نسل إبراهيم بإعطائهم أرض كنعان مستقراً وموطناً. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو التالي: أنّى لإله عادل أن يمنح أرض كنعان لغير أهلها!؟ من هنا أصل العطب الذي سيصيب علاقة اليهود بالغير، أي ارتباط العود لديهم بالوعد. وللحفاظ على هذا الارتباط، فرضوا الحجر على أنفسهم (الغيتو).
كل الهجرات خلقت أعطاباً، أي إنها أحدثت شروخاً في المعهود والمألوف من العوائد. كما أن الهجرات تستنسخ بعضها البعض، رغم أن التاريخ يفرض مساراته ويضفي طابع الخصوصية على كل تجربة.
لم تندّ التجربة الإسلامية بدورها عن هذا العطب، بما هي سليلة التجربة الإبراهيمية، سوى من حيث سياقها التاريخي المغاير. فالهجرة كانت من مكة إلى يثرب، أي من الوادي إلى المدينة. فحدث أن ترسخ حلم العودة الذي ظل يراود خيال المسلمين إلى اليوم، ما دامت العودة الحقيقية لم تحصل بالفعل. لأن الدولة الإسلامية الأولى لم تقم في مكة، بل قامت في المدينة، وهي مدينة الهجرة وليست مدينة العودة. ناهيك عن كون معالم هذه الدولة لا نجد لها آثاراً سوى في المرويات، بينما الدولة الحقيقة تأسست في مدن بعيدة مثل دمشق وبغداد والقاهرة.. وغيرها. وهذا الابتعاد التاريخي عن الأصل الأول (الخروج المستمر)، هو الذي يغذي أمل العودة الدائم من أجل بناء الدولة الذي لم يتحقق قط خارج أسوار المدينة الأم. من هنا جاء مصدر العطب الذي أصيبت به علاقة المسلمين بالغير، أي الاعتقاد بكون الخروج من أسوار مدينة الرسول غير شرعي ولو نتج ذلك تأسيس إمبراطوريات بكاملها. أما ما يجوز شرعاً فهو تمديد الأسوار الأولى، وتنقيل حدودها المستمر في أفق الاكتساح الكوني. وهكذا كانت الدعوة إلى الجهاد يحركها أمل العودة إلى المدينة، لتحقيق نموذجها ومن ثم فرضه على العالم أجمع. وبما أن هذه العودة تجد مبررها في التحصُّن بأسوار المدينة، فإنها تصطدم دائماً بأسوار (موانع) تاريخية. فكان بناء أسوار نفسية للاحتماء خلفها هو البديل الوحيد للعودة، أي الهروب إلى الداخل من خلال فرض الحجر العقائدي على الذات لئلا تخالط الغير مخافة الإصابة بالعدوى.
وقد حدث نفس العطب في التجربة المسيحية، وفي سياق تاريخي آخر. فعندما خرج بعض حواريي المسيح من أسوار أورشليم، بغرض التبشير بعقيدة الخلاص الجديدة، اصطدموا في البداية بأسوار التاريخ المنيعة. وهذا ما دفع القديس أوغسطين إلى الكتابة عن “مدينة الله” بدل الكتابة عن مدينة روما التي كان يعيش بها، إذ لم يرَ فيها بديلاً عن مدينة المسيح المقدسة (أورشليم). بيد أن مدينة الله أضحت بعيدة المنال، في عصور الإقطاع التي تحالفت فيها الكنيسة مع الأباطرة والملوك. وازداد الابتعاد أكثر فأكثر، عندما فشلت الحروب الصليبية في استعادة المدينة المقدسة. وقد أثبت هذا الفشل أن الخروج أو الهجرة كانت بغير رجعة، حيث أصبح المسيح ملكاً للغرب رغم أنه ابن الشرق. وبعد فصل الدين عن الدولة، انكمشت رمزية الكنيسة شرقاً وغرباً، حينما حوصرت تلك الرمزية في بقعتين ضيقتين جدا: الفاتكان في الغرب، وكنيسة المهد في الشرق. وهكذا أمسى المؤمنون بالمسيح شبه يتامى، خصوصاً بعدما اقتنعوا بأن طريق العودة ضاع إلى الأبد. إذ لم يتبق لديهم سوى الإحساس بآلام المسيح التي تعذبهم كلما تذكروا محنته القاسية مع الرومان، هؤلاء الذين قتلوه في الشرق وعبدوه في الغرب. وهكذا ظلت الأجيال اللاحقة تحمل أنينه إلى اليوم، وتطلب الصفح والغفران عن ذنب لم ترتكبه.
لقد كانت الهجرات الجماعية مدمرة، خلّفت في طريقها إبادات. كما خلّفت الهجرات الرمزية جروحاً في اللاشعور الجمعي، يستحيل أن تندمل آثارها سواء على المدى القريب أو البعيد. وهذه الجروح الرمزية هي التي تغذي الحاجة إلى الثأر، من خلال الدعوة إلى الخروج لاستعادة حق مزعوم. والثأر، كائناً ما كانت دوافعه، هو سلوك بدائي. ولذلك يأتي الخروج في شكل حروب، مقدسة كانت أو غير مقدسة.
ما سبب كل هذه الأعطاب التي لحقت تجربة الخروج؟
الخروج بدون حرية يُشعل الحرائق في التاريخ، لأنه يُولِّد لدى الأجيال وهم الانتماء إلى هوية مصادرة. ولذلك يتربى عندهم الشعور بالضغينة، ويكفي أن تنضاف إلى الكأس نقطة واحدة لكي يفيض. هذه إحدى المفاتيح التي تسمح لنا بإدراك مقاصد الفلاسفة، عندما بسطوا القول في “العودة”: الخروج من الكهف والعودة إليه. فعندما قرر “زرادشت” النيتشوي الخروج إلى الأعالي، مرّ في طريقه بناسك الغاب. ولما تطهّر بالحكمة المتعالية في قمة الجبل وأدرك أسرار الوجود، “عاد” إلى الأسفل وتوجه إلى المدينة لينقل حكمته للناس. أما الناسك فقد مكث في الغاب ليعيش تجربته وحيداً، لأنه وصل إلى الحقيقة، والواصل لا يعود.
ينقل الفارابي تجربة الخروج من المدينة التي كان يحكمها ملك جبار، حيث لجأ الحكيم إلى حيلة التنكر من أجل الإفلات من سلطة المألوف وجبروت الطغيان الحسي. فعمد إلى ارتداء لباس أهل البطالة، وتساكر في آخر الليل، وقصد باب المدينة. استوقفه الحارس وسأله: من أنت؟ فأجابه: أنا فلان الناسك. فضحك منه، وتركه يخرج. لماذا تركه الحارس يخرج؟ لأن الناسك يحمل معه جراحه الداخلية وينصرف طلباً للخلوة، وهو لا يفكر في العودة إلى المدينة: إنه يقوم بسجن النفس في الذات لئلا تخرج منها أبدا. ما يخشاه الحارس هو العودة إلى المدينة وليس الخروج منها، أي العودة بالحكمة المتعالية قصد نشرها بين الناس. ورأس الحكمة إعلام الناس بموت معبودهم، أي معهودهم من الاعتقادات، ودعوتهم إلى تغيير مثالهم عن الحياة.
تغيير مثال الناس عن الحياة داخل المدينة، هو ما دفع الفلاسفة إلى التفكير في المدينة الفاضلة. ليست المدينة الفاضلة هروباً من الواقع، أو مجرد حلم شارد راود خيال الفيلسوف إبان دخوله في حالة حجر طوعي. المدينة الفاضلة هي خارطة تساعد الناس على الخروج من المدن الضالة لاستكمال جوهرهم الإنساني، بواسطة التخلص التدريجي من عوائدهم وسلوكاتهم غير الفاضلة. وهذا التخلص التدريجي من العوائد الفاسدة يسميه اليونان: البايديا (التربية). ومتى ارتقى وعي الإنسان بفضل التربية إلى مستوى إدراك كنه الأشياء، فإن ذلك سوف ينعكس على سلوكه. بمعنى أنه سوف يكتسب تصورات جديدة عن معنى الحياة والموت، العدل والجور، الصحة والمرض.. وهذا كله سوف يُحدث تغيرات عميقة في علاقته بذاته وبالغير، إذ ستتطور لديه ملكة التمييز الذاتي بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الضار والنافع.. وقد عبّر فلاسفة المدن الفاضلة عن درجة الوعي هذه بالقول إن ما يميز ساكني تلك المدن هو عدم حاجتهم إلى القاضي والطبيب، ما دامت أفعالهم فاضلة وتغذيتهم متوازنة، فكل شيء عندهم يسير وفق مبدأ: لا إفراط ولا تفريط.
نخلص مما سبق إلى أن الحرية لا تتحقق بشرط الخروج، كما لا تتحقق بشرط الهروب ولا بشرط الدخول إلى البيت (النفس). شرط الحرية هو الخروج والدخول (بدون مانع) من أجل ملاقاة الغير، قصد بناءِ مشتركٍ مصيري (الحقيقة البينية). بيد أن الخروج لملاقاة الغير ليس بالأمر الهين، لأن ذلك يستلزم توفير فضاء غير محاط بالأسوار. فالدعوات التي ما ننفك نرددها صباح مساء للتعايش مع الآخر، تتزامن مع دعوات لتشييد أسوار الهوية وتمنيعها. فالسياج الذي نديره من حولنا، يعرقل خروجنا إلى الفضاء المشترك. وفي حالة خروجنا، فنحن نخرج في أقفاص. لذا فإن أول خطوة في مسيرة الحرية، هي تلك التي تتمثل في هدم الأسوار، وتكسير الأغلال، وإزالة الأسلاك الشائكة من حولنا. فالأسلاك الشائكة التي نحيط بها هويتنا تُدمينا نحن أول من تُدمي، وتترك في شعورنا جراحاً تنتقل آثارها من الأخلاف إلى الأسلاف.