*Calvert W. Jones. Bedouins into Bourgeois: Remaking Citizens for Globalization, Cambridge University Press, 2017.

—————
تحتل قضية المواطنة مكانة مهمة في دراسات العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي. وتختلف المقاربات من هذه القضية المحورية من ناحية تطور المفهوم في سياقاته التاريخية المتعددة. ومما لا شك فيه أن التحول الذي عرفته المجتمعات أدى إلى تطور المواطنة من أصولها التقليدية التي ترى في الفرد مجرد رعية من رعايا الدولة إلى مفهوم ذي مدلولات تتعلق بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية.
الكتاب الذي بين أيدينا يعالج قضية تطور المواطنة في دولة الإمارات العربية المتحدة من زاوية تحول المجتمع البدوي إلى أفراد وإلى مجتمع برجوازي لتحقيق أغراض الاقتصاد النيوليبرالي المعولم. كاتبة هذا المؤلَّف المهم هي كليفرت جونز التي تدَرِّس العلوم السياسية في جامعة ميرلاند بالولايات المتحدة، وعنوانه من بدو إلى برجوازيين: إعادة صنع المواطنينمن أجل العولمة، صدر في 274 صفحة، عن دار نشر جامعة كامبريدج الشهيرة سنة 2017.
يعالج الكتاب قضية المواطنة في دولة الإمارات العربية المتحدة من منظور ولوج الدولة في النظام الرأسمالي العالمي، ويسعى إلى شرح إمكانية تحول المواطن في سياق الدولة الريعية، التي تعتمد على مدخولها الرئيس من إيرادات النفط، إلى مواطن يتحلى بخصائص العولمة والنيوليبرالية في إطار مؤسسات حكم تقليدية. تقول الكاتبة إنه رغم أهمية الموضوع إلا أننانفتقر إلى معرفة صناعة المواطن و”تحديات صياغة المواطنين لعصور الأسواق المعولمة”، وتضيف أن النخبة الحاكمة في الإمارات تسعى إلى تحويل الإماراتيين، وكثير منهم من أصول بدوية، إلى “نوع جديد من المواطنين، أكثر حداثة في أعين الحكام، وأكثر استعداداً للعولمة، وأكثر تهيئة إلى عصر ما بعد النفط”، مقارنة بالمواطنة الريعية التي تتكل على الدولة في الحصول على الرفاه الاجتماعي.
إن الأسئلة التي تحاول الكاتبة الإجابة عنها ذات مدلولات نظرية مهمة في معرفة الكيفية التي تمكن الدولة من القيام بالهندسة الاجتماعية ليس لخلق مواطنة من طراز مختلف عن التنشئة الاجتماعية لأغراض سياسية، مثل تعزيز شرعية نظام الحكم أو ترسيخ مفاهيم وطنية للدفاع عن حياض الوطن، ولكن لغرس مفاهيم نيوليبرالية تتماشى مع قوى العولمة. وفي نفس الوقت تسعى الدولة إلى تطويع المواطنة بعيداً عن الأفكار الليبرالية التي تتعلق بالحقوق المدنية أو المشاركة السياسية والتي ستقود في غايتها إلى تقويض نظام الحكم على المدى البعيد.
يعتقد البعض بأن مخرجات الهندسة الاجتماعية تبوء بالفشل، خاصة في الأنظمة السلطوية، لأن الهندسة الاجتماعية تكون من أعلى بواسطة الدولة التي تفتقد إلى فهم الثقافات المحلية بعمق، وأنها عادة ما تتسم بالتخطيط العمومي ذي الطابع الاستبدادي، والذي يؤول في النهاية حتمياً إلى الفش . لكن الكاتبة تشير إلى نجاحات تحققت بواسطة الهندسة الاجتماعية لعدة بلدان، بغض النظر عن نوعية نظام الحكم. ولعل الدولة ما بعد الكولونيالية أبرز مثال على قدرتها على خلق المواطنة والشعور الوطني لدي الشعوب التي استقلت للتو من الاستعمار.
تتبع الكاتبة وسيلة منهجية لرصد التحولات التي تقوم بها الدولة لخلق المواطن الجديد، وتطرح الأسئلة البحثية التالية لهذه الغاية: ما هي أهداف النخبة الحاكمة من خلق المواطن الجديد؟ ما هي الأدوات المستخدمة لتحقيق المواطنة هاته؟ هل حققت القيادة السياسية بعض أهدافها؟ ما هي الآليات التي نتجت عنها هذه المخرجات؟
تحرص الكاتبة على اتباع منهج مقارن لفهم هذه الظاهرة مما يساهم في تعميم هذه التجربة الإماراتية في فهم حالات أخرى في مناطق متعددة في العالم، وتستخدم عدة مناهج لجمع المعطيات؛ منها الإثنوغرافيا داخل القصور، والمقابلات الشخصية، والاستبيانات، والتجربة.
خصت الكاتبة دولة الإمارات بالدراسة لعدة أسباب: أولاها أن الهندسة الاجتماعية ظاهرة للعيان مما يسمح بدراسة معمقة لهذا الموضوع الغني بالمعطيات. ثانيها، تتيح الدراسة مقارنة الإمارات بأترابها لأنها نموذج مصغر لما يحصل لكثير من دول المنطقة. وأخيراً، تقع الإمارات في جهة من العالم تشهد كثيراً من الصراعات الطائفية والعرقية والعنف الممنهج، ويسود فيها نمط اقتصادي ريعي، مما يجعل من الإمارات نموذجاً في بناء مواطنة جديدة تثير الاهتمام كتجربة يمكن استقاء الدروس المتعددة منها. ورغم ذلك فإن الكاتبة تعترف بأن الإمارات فريدة بسبب مواردها الضخمة التي لا تقارن بالدول الأخرى.
ما هي هذه المواطنة الجديدة التي تسعى الدولة لهندستها؟ إنها تُعدّ عكس المواطنة الأولى التي خلقتها دولة الرفاه في الخليج من خلال تقديم الحاجات الرئيسة للمواطنين، والتي شملت السكن والماء والكهرباء والصحة والتعليم إلى ما بعد المستوى الجامعي، وتوفير الوظائف حتى عندما تكون عديمة الجدوى والإنتاجية. يصير المواطن بذلك متكلاً على الدولة لتحقيق كافة متطلباته، وتصبح تلبية حاجاته حقاً مكتسباً مثل حق المواطنين في الدول الديمقراطية في المشاركة السياسية.
قام العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين على أسس تبادلية؛ الولاء السياسي للنخبة الحاكمة مقابل تقديم الدولة للحاجات الرئيسة للمواطنين، وتحققت بالتالي معادلة نظام سياسي مستقر في دول الخليج. وهذا ما يفسر بالنسبة لكثير من الباحثين كيف تفادت هذه الدول جارفة الربيع العربي التي أطاحت بالجمهوريات العتيقة.
لكن التسعينيات أتت برؤية جديدة بسبب الحالة المرَضية التي أصابت الشباب لاعتمادهم المتزايد على هبات الدولة وأصبحوا مستهلكين غير منتجين. وحينها بدأت النخبة الحاكمة في التفكير في تحويل المواطنين من ريعيين إلى أفراد منتجين يستطيعون خوض غمار العولمة التي أطلت حينها برأسها، ومستعدين لمرحلة ما بعد النفط.
من خلال جمعها للمادة الإثنوغرافية في القصور وعن طريق المقابلات الشخصية، وجدت الكاتبة أن النخبة الحاكمة تعتقد أن المواطنة تتمثل في النموذج الغربي. هذه النخبة وصلت إلى السلطة في التسعينيات من القرن العشرين وفي الألفية الجديدة نوهي تتحدث عن المواطنة باشتياق إلى أيامها الخوالي التي قضتها في الدول الغربية خلال فترة الدراسة. وشكلت هذه التجربة نظرة النخبة إلى الكيفية التي يجب أن يكون عليها المواطن الحديث المنتج، وإلى الصفات التي يجب أن تتحلى بها الشخصية النيوليبرالية المتمثلة في الفردانية وفي تحقيق الذات والاستقلالية وروح المبادرة وريادة الأعمال وأخلاق عمل جادة ومنتجة تتحلى بروح المسؤولية. لكن هذه الخصائص لا تشمل الحريات السياسية ومفاهيم الديمقراطية والحقوق المدنية.
لا تغفل الكاتبة عن مخاطر هذه الرؤية على النظام السياسي، بل تشير إلى فكرة أطلقها عالم السياسة الراحل صامويل هنتنغتون في الستينيات، والذي سماءها “معضلة الملِك” التي تتلخص في أن الملِك، أو النظام التقليدي بصيغة أعم، يسعى إلى التحديث، ولكن التحديث يثير ردة فعل للمطالبة بالمشاركة السياسية وبتغيير المفاهيم التقليدية إلى مفاهيم حديثة في نظام الحكم مما يقوض أركان النظام.
تنطبق هذه الحالة على وضع دولة الإمارات من ناحية خلق مواطنة جديدة معتمدة على الذات ومنافسة في سوق العمل. ولكن هناك عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم لا يمكن تجاوزه. فهناك محاذير عديدة إذا ما طُبقت إصلاحات تعيد هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع. وتخشى النخبة الحاكمة من ردود فعل شعبية، والأسوأ كما تقول الكاتبة، من انقلاب القصر إذا ما حاول الحاكم الإخلال بهذه التفاهمات عندما تصبح حقوقاً ثابتة في مخيلة المواطنين.
ولمواجهة هذه المعضلة، أطلقت القيادة السياسية “رؤية2021” لتحقيق المواطنة المنشودة. وترى هذه الوثيقة أن المواطن سيكون على درجة كبيرة من الثقة بالنفس ليخوض غمار الحياة بروح ريادية وليسهم في حياة مثمرة، وبالتالي في قيام مجتمع مبني على المعرفة وحب الاستطلاع. وسيستطيع المواطن أن يتأقلم مع التغيرات العالمية ومتطلبات التجارة الحرة. ولكن خصائص هذه الشخصية البرجوازية لن تكون مثل البرجوازية الأوروبية التي طالبت بحقوق مدنية وبمشاركة ديمقراطية وعدالة اجتماعية. بل هذا المواطن سيجسد فضائل البرجوازي من ناحية العمل والابتكار والإبداع ولكن بولاء مطلق للدولة ولنظام الحكم.
لا يبدو بالنسبة لهذا الكتاب أن هذه الحملة مجرد شعارات أو أمنيات تطلقها النخبة الحاكمة لخلق هذه المواطنة الجديدة، فالحكومة تتبع استراتيجيات واضحة ومعلنة لتحقيق المواطنة الجديدة. وتتشابه هذه الاستراتيجيات في نشر التنوير دون الإخلال بالنظام السياسي، حيث اتبعت كثير من الدول هذه الطريقة في السابق على غرار تركيا في عهد أتاتورك واليابان خلال نظام ميجي الإصلاحي.
وكما فعل الأوائل من دعاة التحديث، فقد شرعت القيادة السياسية بالتركيز على التعليم والتعليم العالي بالذات، إضافة إلى البحث العلمي، وتشجيع الآداب والفنون بالمشاطرة مع شركاء وخبراء غربيين. وأنشأت الجامعات الغربية مثل نيويورك الأمريكية والسوربون الفرنسية فروعاً لها في الدولة. والغرض من ذلك كله توجيه الطاقات لخلق الفرد الجديد والذي يتمتع بمواصفات لا تختلف عن نموذج الإنسان الغربي وإعداده لمواجهة سوق العمل المتغير والمتعولم.
وترى الحكومة أن أساس التغيير يجب أن يكون في مرحلة ما قبل الجامعة لصياغة أفراد مبدعين ومبتكرين بدلاً من التعليم التقليدي القائم على الحفظ والتلقين. فالتعليم من الحضانة إلى الثانوية يتعرض لكثير من النقد لاعتماده على الكم وليس الكيف، ومخرجاته لا تتناسب مع عصر العولمة حيث إنها تعتمد على الأخذ وليس العطاء، وهو تعليم سلبي، غير فعال وماضوي في توجهه. وكما تقول رؤية التعليم 2020، فإن التعليم ظل استبدادياً لا يعطي مجالاً للإبداع عند الطالب. قامت الدولة والحكومات المحلية باستثمار الجهد والمال في إنشاء بنية تعليمية جديدة وجلبت الخبراء من الولايات المتحدة وبريطانيا والبرازيل والأرجنتين والهند وفلسطين ولبنان وأستراليا ونيوزيلاندا لتطبيق المعايير الجديدة في التعليم. وتُذّكر الكاتبة أن اليابان كان قد جلب في عصر ميجي أعداداً وصلت إلى 2400 فرداً للمساعدة في تطبيق الإصلاحات المتعددة.
تستشهد الكاتبة بتجربة أبوظبي في علمية التحويل الكبرى في مجال التعليم، حيث أُسّس مجلس أبوظبي للتعليم في 2005 تحت رئاسة ولي العهد لتحقيق الإصلاحات المطلوبة. ومن ضمن هذه الإصلاحات الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتطبيق النموذج الفنلندي في التعليم، وخلق المدارس النموذجية الجديدة. وقد زاد عدد موظفي مجلس التعليم من 100 موظف إلى 15.000 في 2012. وقامت حكومة دبي كذلك بتأسيس هيئة المعرفة والتنمية البشرية في 2006 للقيام بالإصلاحات التعليمة وتقييم المدارس من الحضانة إلى التعليم الثانوي.
وتأتي الكاتبة إلى الشق السياسي لمعادلة المواطنة الجديدة. فالدولة تتجشم خلق رموز ومظاهر لصياغة المواطنة الجديدة، ولا تسعى إلى خلق مواطنين مبدعين مسلحين بالمعرفة فحسب، بل مواطنين موالين لنظام الحكم رغم محاولة تغيير الصفقة القائمة على المواطنة الريعية. فالهندسة الاجتماعية التي تقودها الدولة لا تقوم على القسر الواضح الذي يوظف وسائل العنف التي تحتكرها الدولة، بل على قوة انضباطية بالمعنى الفوكوي (نسبة إلى ميشيل فوكو).
تستعمل الدولة في سبيل تحقيق المواطن المنضبط الموالي لنظام الحكم سلسلة من الرموز لتمجيد العمل باعتباره بداية للإشباع الشخصي وللتمكين الاقتصادي. وتؤكد المواد التعليمية على قيمة العمل لذاته ولتمكين المواطن، وتحتفي الدعاية بالأشخاص الذين حققوا طموحاتهم كرموز للمواطنة الجادة والناجحة بهدف تحفيز الآخرين على تحقيق إنجازاتهم. وترى الكاتبة تشابها بين هذه الخصائص الشخصية وما تحدث عنه ماكس فيبر عن الأخلاق البروتستنتية من ناحية تقديس العمل الجاد والزهد في الاستهلاك.
ومما لا شك فيه أن الترويج للقيم البرجوازية المتعلقة بالمسؤولية، وللانضباط والعقلانية هو ما تصبو القيادة السياسية تحقيقه بالنسبة للنشء. وهناك تشجيع للشباب على الترحال لغرس مفاهيم الاعتماد على الذات دون الاعتماد على الخدم والعائلات لتقديم ضرورات الحياة للأبناء.
أسست الحكومة برنامج البيارق لمساعدة الشباب على التفكير العقلاني لحل المشكلات، ولتعليم كيفية مواجهة المعضلات والتسلسل في حلها بكتابة الأهداف وتقييم نتائجها. وتستخدم الملصقات والجداريات للتأكيد على إيجاد الحلول وغرس مفاهيم النشاط الاقتصادي والتجاري.
هناك مرتكز آخر مهم تسعى الدولة لترسيخه يتعلق بتعزيز الشعور والهوية الوطنيتين، ولا غرو أن معظم سكان الإمارات هم من الأجانب، والذين يصل عددهم إلى حوالي 90% من السكان. وقد تزايدت الأنماط الثقافية الأجنبية مع تزايد أعداد العمالة الوافدة إلى البلاد التي أصبحت تتغلل في المجتمع والبيوت من خلال الخدم والمربيات الذين باتوا يلعبون دوراً كبيراً في التنشئة الاجتماعية. وتزايدت المنتجات التي ترمز إلى الهوية الوطنية حيث تجدها في كل الأماكن والمحافل. وأصبح العيد الوطني يحتفى به في المركبات والسيارات الخاصة التي تتزين بصور حكام الإمارات كتعبير عن الوطنية والولاء للقياد السياسية. كما أن قيم التطوع بالنسبة للشباب باتت من أهم عوامل التركيز على الارتباط بالوطن والمواطنة والمشاركة الإيجابية.
لا يقتصر الأمر على الرموز، بل إن الحكومة في مسعاها إلى خلق الشخصية النيوليبرالية شيدت النُّصب والمعالم الأثرية وأقامت المهرجانات والمشاهد والإعلانات الداعمة لهذا الغرض. ويدل الاهتمام المنصب على تشييد النُّصب التذكارية على قدرتها التحويلية. كما أن الاحتفاليات تلعب دوراً في هذا المضمار. وتورد الكاتبة مثال “مهرجان المفكرين” الذي استضاف مشاهير الشخصيات الفكرية والحائزين على جائزة نوبل في عدة مجالات. وترى الكاتبة أنها بهرجة للتدليل على الاندماج في العولمة والحداثة. وليس المقصود أن هذه النشاطات تقتصر على الاستعراض أو الأبهة، بل إن لها قدرة تحويلية بالنسبة للفرد والجماعة لغاية صياغة مواطن من طراز جديد.
لكن ما مدى نجاح الهندسة الاجتماعية التي تؤكد فشلها تجارب سابقة لدول عديدة؟
لمعرفة مدى تأثير هذه السياسات اختارت الكاتبة أن تعقد مقارنة بين طلبة مدارس المستقبل وبين طلبة المدارس الحكومية على النهج القديم. واتبعت منهج الاستبيان لتحديد الفوارق على عدة أبعاد. الأول تعلق بالشعور الوطني والفخر بالانتماء للوطن. الثاني همّ البعد المدني المرتبط بقيم التطوع والتسامح، وليس بالحقوق المدنية كما في الغرب. وانصب البعد الثالث على الشق السياسي والولاء للنظام القائم. البعد الاقتصادي، وهو الرابع والأخير، اهتم بقيم العمل والاعتماد على الذات وروح المبادرة والتقليل من الاتكال على الحكومة.
أظهرت نتائج البحث أن العينية التي تنتمي لمدارس المستقبل أكثر وطنية وأقوى شعوراً بالانتماء.كما أنهم من الناحية المدنية يتسمون بقيم التسامح، وأنهم أكثر استعداداً للمشاركة في الأعمال التطوعية. إضافة إلى أن هناك نجاح في عدم مطالبة هؤلاء بالحقوق المدنية المتعلقة بالحريات. بمعنى آخر، إن عملية الهندسة الاجتماعية بعكس ما تتوقعه دراسات عديدة أتت بنتائج إيجابية ونجحت في تشكيل وعي ملائم لما رامت إليه هذه السياسات الحكومية.
بالنسبة للبعد السياسي فان النتيجة مركبة ولم تأخذ اتجاها واحداً. فقد أبدى الطلبة الذين كانوا تحت تأثير الهندسة الاجتماعية رغبة للتمكين السياسي بعكس ما يهدف له البرنامج. إلا أن نوعية التمكين كانت شخصية تسعى لتحقيق مشاركة أكبر في الشأن العام بدلا من تحقيق ديمقراطية ليبرالية كما تتوقعه نظريات التحديث، حيث إن الطلبة كانوا أقل دعوة للمشاركة السياسية للجماهير العريضة.
كانت النتائج المتعلقة بالاقتصاد مخالفة لما هدفت لها الهندسة الاجتماعية. فعوض خلق مواطنة تتبنى ريادة الأعمال وتتجه نحو اقتصاد السوق الحر، كما كان مرجواً، أظهر الاستبيان أن هؤلاء الطلبة يرون أن حصولهم على وظائف حكومية حقاً من حقوقهم لكونهم مواطنون.
لا تعطي الكاتبة تفسيراً لهذه الظاهرة العامة في كافة دول الخليج المتمثلة بالتشبث بالدولة كمصدر للوظائف والخدمات. والسبب يعود إلى كون الدول الخليجية دول ريعية مالكة لمصادر الدخل الرئيسة المتمثلة في الموارد الهيدروكربونية. وبما أن الدولة تحتل الصدارة في تراكم رأس المال، فإن ذلك يجعلها محط اهتمام من قبل القوى الاجتماعية المتعددة. ويبدو أن الهندسة الاجتماعية لم تستطع التغلب على صلابة الجذب الاقتصادي، بينما نجحت في التأثير على تغيير القيم الناعمة.
تعرج الكاتبة على موضوع الوطنية من خلال محاولة الدولة شحن قيم الوطنية والتفاني في حب الوطن والتضحية في سبيله. لن يختلف الكثيرون في أن الوطنية هي مسألة بناء تعتمدها الدولة في الأقطار ما بعد الكولونيالية لتشييد هوية وطنية خاصة بالرقعة الجغرافية التي تحتلها وإحلالها محل الإرث الاستعماري. وتختلف درجات النجاح في بناء الوطنية من حالة إلى أخرى. ويظهر تكرر حالات النجاح لدول عديدة تعيش في ظلها شعوب مختلفة الأعراق والثقافات والمشارب السياسية أنها من الأمور التي عادة ما تكون طيعة.
ولا يختلف الحال بالنسبة لدولة الإمارات إذ عمدت الدولة إلى تشييد وطنية تصوغ من خلالها قيماً ترتبط بالتضحية والعمل الجاد والاقتصاد في الإنفاق. وتقوم هذه الوطنية المبرمجة على رعاية النخبة الحاكمة التي ترى في نفسها أبوية قريبة من المواطنين مهتمة بشؤونهم ومتفاعلة مع احتياجاتهم، وأنها أبوية غير تقليدية تسعى لتشجيع المواطنين وأنجالهم لتحسين أوضاعهم من أجل أنفسهم ووطنهم. تعتبر الكاتبة ذلك “أبوية جديدة” لا تقيد من حرية حركة الفرد كما هو الأمر بالنسبة للأبوية التقليدية، بل تشجعه على الانفتاح وتحقيق ذاته بدعم حكومي جلي، من أجل خلق وطنية قائمة على الاعتداد بالنفس.
أدّت هذه الاستراتيجية لتشييد الوطنية القائمة على الشعور بالرضى والاعتداد بالنفس في بعض جوانبها إلى تنمية الشعور الوطني وحب الوطن، إلا أنها زاحمت القيم التي أرادت الدولة غرسها في المواطن مثل حافز الإنجاز وأخذ زمام المبادرة وروح المغامرة والإنتاجية والعقلية المدنية. وبسبب تنامي الشعور الوطني أصبح المواطن يرى من حقه المشاركة في الثروة الوطنية واستحقاقه لكافة الامتيازات لكونه مواطن، وبالتالي عززت لديه العقلية الريعية التي أرادت الدولة التخلص منها.
لا تنتبه الكاتبة إلى الاغتراب، وهو موضوع في غاية الأهمية والتعقيد من ناحية تشكيل المواطنة الجديدة. فإذا كان حديث الاغتراب يتعلق بعملية الإنتاج في المفهوم الماركسي فإنه هنا يهم فردانية المواطن وإرادته الحرة. فإذا كان المواطن جزءاً من الهوية الجمعية وأحد منتجيها فهو يستحق امتلاكها عبر حصاد ثروة الدولة الوطنية واستحقاقه للمشاركة في هذا الريع الذي فاض على الدولة والوطن الذي هو عضو فيهما. وهنا يتحقق الاغتراب عندما يحرم المواطن من هذه المنتوجات المادية للوطنية.
هناك أيضاً إشكالية الاغتراب الثقافي من النمط الذي تحدث عنه الكاتب الإيراني جلال آل أحمد “غرب زدگي” واعتبره “تسمما بالغرب”. وقد نعى هذا الروائي بلاده بسبب تأثرها الكبير بالثقافة الغربية التي ليس لها جذور في التراث والتاريخ الإيرانيين. كما وجه سيل نقده للخنوع الكامل للغرب الذي تفشى في بلاده. وتجدر الإشارة هنا إلى حرص النخبة الحاكمة في الإمارات على تأصيل التوجه الجديد والتأكيد على أهمية التاريخ والتراث الوطنيين في صياغة الوطنية الجديدة.
في الخاتمة، ترى الكاتبة المعضلة التي تواجهها الدولة في خلق هوية جديدة حيث تطلق الهندسة الاجتماعية قوى مضادة لأهداف الاستراتيجية المنشودة. فحب الوطن والاعتداد بالنفس تنتج وطنية تطالب باستحقاقات وعطايا من الدولة. وبدلاً من كسر العقلية الريعية، تعزز السياسات هذا التوجه الذي ترسخ في الوجدان منذ عقود.
لا شك أن الخصائص البرجوازية تشمل العمل الجاد والمثابرة والعقلانية وتحقيق الأهداف وإلى ما هنالك من قيم. ولكن بناء الشخصية البرجوازية تخلق في نفس الوقت نزعة فردانية قد لا تنسجم مع دواعي الوطنية والإيثار والتضحية من أجل صالح الكل. كما أن غياب المشاركة السياسية قد تصطدم مع قيم الفرد البرجوازي، وقد تؤدي إلى نتائج غير محمودة بالنسبة للنظام القائم.
لقد أوضحت الكاتبة بمنهجية صارمة مدى التغير الذي طرأ على الأشخاص الذين تعرضوا إلى عملية التنشئة الاجتماعية الجديدة بالمقارنة مع أترابهم من أصحاب النهج التقليدي. ولكن هذه المنهجية الصارمة التجريبية حدّت من سبر أغوار قضايا مهمة من منظور سوسيولوجي. ومع ذلك يظل الكتاب مساهمة كبيرة في موضوع بناء الأمة والمواطنة، وستكون له أصداء في دراسات التنمية السياسية في السنين المقبلة.
*كليفرت جونز، من بدوإلى برجوازييين: إعادة صنع المواطنين من أجل العولمة،دار نشر جامعة كمبريدج، 2017.