بول ستراثيرن، موت في فلورنسا، أسرة ميديتشي وسافونارولا، والصراع على روح النهضة، ترجمة ناصر مصطفى أبو الهيجاء، مراجعة أحمد خريص، منشورات كلمة، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، الطبعة الأولى، 2015، (602 ص).
صدرت العديد من المؤلفات عن الراهب الدومينيكاني جيرولامو سافونارولا (Girolamo Savonarola)، منها كتاب موت في فلورنسا: أسرة ميديتشي، وسافونارولا، والصِّراع على روح النهضة، للمؤرخ الانجليزي بول ستراثيرن PaulStrathern. هذا الكتاب ذو أهمية كُبرى، ليس فقط لكشفه عن وثائق جديدة، وإنما للإشكالية التي انطلق منها. كما أنه يغوص في خبايا تحولات بدايات عصر النهضة التي مثَّلت فيها مدينة فلورنسا القلب النَّابض. ولا يكتفي المؤلف بعرض طيف واسع من الأحداث فحسب، وإنما يعمد إلى تحليلها وكشف ما اعتمَّ منها. والكِتَاب يسرد الوقائع بأسلوب جميل يجمع فيه صاحبه بين التَّاريخ والرِّواية، مما أضفى على فصوله نوعاً من الانسجام.
يضعنا المؤرخ ستراثيرن في صورة بدايات عصر النهضة خلال فترة القرن الخامس عشر، من خلال التَّركيز على الصِّراع بين ما هو ديني وما هو علماني، حيث ركَّز على الصِّدام الذي حدث بين الحاكم لورنزو دي ميديتشي (Lorenzo de Medici) الذي مثَّل الرُّوح الإنسية الجديدة، من خلال ما اضطلع به من دور كبير في رعاية المفكرين والفنانين والعلماء، وبين سافونارولا الدَّاعي للعودة إلى المسيحيَّة الأولى في نقائها وصفائها، غارقاً في نبوءات دينية حتى النُّخاع، ومؤمنا بيقينيات العهد القديم، ورافضاً التغيير الذي يجري حوله في مجال القيم والأفكار. كانت تلك مفارقة حقيقية، فقد حقق حكم “لورنزو العظيم” لفلورنسا ازدهاراً كبيراً في مجالات متعددة، وكانت الطبقة البرجوازية حائرة بين مُساندة لورنزو أو مساندة سافونارولا. كانت هذه فترة عصيبة بالنسبة للفلورنسيين، فالصراع كان بين العقليَّات السَّلفية المسيحيَّة والعقليَّات الإنسية، وقد انتصرت في النهاية العقليَّات الجديدة التي واكبت التطوُّرات الاقتصادية للرَّأسمالية في بداياتها الأولى.
توقَّف المؤلف عند لحظات فارقة في هذا الصِّراع، ومنها لحظة انهيار سلطة دي ميديتشي أمام الغزو الفرنسي وتولِّي سافونارولا منصب القيادة بدله. وقد أسهب المؤلِّف في وصف حُكمه الفعلي لفلورنسا وما سنه من تشريعات مبنيَّة على رؤية دينيَّة متشدِّدة، مثَّلت في نظر الكاتب لحظة من اللَّحظات التي تجلَّى فيها الصِّراع جليّاً بين ما هو ديني وما هو علماني في بدايات التَّاريخ الغربي الحديث. يتعلق الأمر بحقبة في طور الاحتضار وتلفظ أنفاسها الأخيرة، هي حقبة العصور الوسطى.
نتجت عن هذا الصِّراع الفلورنسي القوي مواجهات كثيرة، وحيكت المؤامرات، واشتدت التَّقاطبات، ووقعت في النِّهاية إعدامات مُرعبة، وحدث موت كثير في فلورنسا. كان الضَّحية لكل ذلك أولاً وأخيراً هو سافونارولا الذي خانته الظُّروف وعاكسه مجرى التَّاريخ. فقد كان عليه من جهة مُواجهة الفساد الكنسي، ومن جهة أخرى مواجهة روح عصر النَّهضة التي بدأت في التشكُّل، وهو أمر لم يكن بالإمكان أن ينجح فيه، لكنَّه ترك الأرضية ملائمة لمن جاء بعده، مُفسحاً المجال بذلك لميلاد عصر جديد، ميلاد الازدهار الحقيقي لعصر النهضة دينيّاً وفكريّاً وسيّاسيّاً.
يُعتبر الايطالي سافوناولا آخر أسلاف مارتن لوثر، وُلد في فيرارا لعائلة نبيلة عُرفت بمزاولة مهنة الطب بالوراثة، وكانت تتمتّع بنفوذ كبير، فجدُّه لأبيه هو الطَّبيب الشهير لمحكمة دوق فيرارا. كان والد سافونارولا يرغب في رؤية ولده “مثقفاً جامعياً”، غير أنه عاكس رغبة الأب واختار في النِّهاية مسار الالتزام الدِّيني وحياة الدِّير والرَّهبنة، فقد تعوَّد على الصَّلاة منذ الصغر، وتخلَّى عن جميع أنواع التَّرف والمُتع الدُّنيوية، وازداد حماسه الدِّيني مع مرور الوقت.
بدأ سافونارولا مسيرته الرهبانية الأولى في دير بولوني منعزل، أمضى فيه فترات طويلة يتأمل ويتفكر، ويبكي ويتبتل لله، وبدأ يشعر في لحظات النَّشوة العارمة بأن الله يتحدَّث إليه في الرؤى سواء أثناء النوم أو اليقظة، وخُيِّل إليه أنه يسمع صوتا من السَّماء يُخاطبه، ويطلب منه أن يُعلن ما يسمعه من الأمور للناس. واقتناعاً منه بأن مصدر الرؤى ربَّاني، فقد رأى بأنه ملزم بالتَّبشير وحمل لواء الإصلاح، فأصبح صاحب رسالة ودعوة.
بعد سبع سنوات قضاها في الدِّير البولوني معتزلاً ومبشراً، اتجه لدير سان ماركو في فلورنسا، ولدى وصوله شعر بخيبة أمل كبرى، إذ لم يكن يتوقع أن تكون المدينة قد وصلت إلى درجة منحطة من الفساد والانحلال الديني والأخلاقي حسب تصوره، وكان ضد فكرة الخلاص فقط عبر الإيمان بالمسيح، وبدأ التبشير بمذهبه المسيحي الدومينيكاني، وهو توجه مسيحي كاثوليكي نشأ على يد الراهب القديس دومينيك (Saint Dominic) عام 1215، بهدف التبشير بالعقيدة المسيحية ومحاربة الهرطقات والنزعات المناهضة للكنيسة الأم، وهو ما قام به سافونارولا فعلياً في فلورنسا.
سقط سافونارولا في عِشْقِ فتاة جميلة تدعى لوداميا، وقد هام بها حُبّاً، لكنها رفضته حين طلبها للزَّواج، وصدَّته صدّا، وبأسلوب فج، مما أثَّر بشكل كبير على نفسيته، لدرجة أنه تخلى معها بعدئذ عن فكرة الزَّواج تماماً بعد فشل تجربته الأولى هذه، ولم يعد يمتلك أي رغبة في الاقتران بأية امرأة أخرى(1)، وبدأ يشغل نفسه بالصَّلاة أكثر من أي وقت مضى. شعر سافونارولا بالاستياء والإحساس بالنفور من الجميع، وبدأ ينظر إلى كل شيء بمنظار سوداوي، وانتابته الحسرة لفشله في تحقيق إحدى رغباته الخاصة، فعقد العزم على الانغماس أكثر في حياة الرّهبنة والعبادة والتبتل.
لم يلبث سافونارولا أن تقلَّد رئاسة دير سان ماركو في دويلة مدينة فلورنسا سنة 1491 لِمَا تميَّز به من صرامة وحزم وفصاحة، وهو من رجال الدِّين الذين اختاروا حياة التقشُّف واتِّبَاع تعاليم المسيح بحذافيرها، ومِمَّن عبَّروا عن استيائهم من الكنيسة وأباطيلها؛ هذه الكنيسة التي تفشت فيها في رأيه الرَّذائل والخطايا والموبقات، بل إنه وقف أيضاً في وجه الدَّولة القائمة وجورها. فبالإضافة إلى تنديده بأخلاق الرَّذيلة في عصر النَّهضة وبفساد رجال الدين، كذلك ألقى باللوم مباشرة على آل ميديشي في شخص حاكمها لورانزو العظيم، ودعا إلى الإطاحة بحكمه. كما أنه هاجم كنز الثروة وتجميعها وانتقد حب الفنون. أضف إلى ذلك كله أنه صبَّ جامَ غضبه على البابويَّة، وكان في نفس الوقت ضِدَّ النهضة. ومن هذه الزاوية بالذَّات، يختلف هذا الرَّاهب الساخط على الأوضاع عن شخصية مارتن لوثر الذي جاء بعده.
استدعى حاكم فلورنسا لورانزو دي ميديشي سافونارولا إلى قصره، وحاول استمالته بكلِّ الوسائل الممكنة، فداهنه، وحاول استقطابه عبر تقديم الهدايا الفاخرة، وأرسل إليه عدداً من أعيان المدينة الذين نصحوه بتجنُّب الحديث عن السِّياسة والكفِّ عن إثارة النَّاس ضد السُّلطة، لأن ذلك سيؤدي إلى اضطرابات في المدينة. لكنه لما أحسَّ بتعنته قام بتهديده. لكنَّ سافونارولا لم يستسلم أمام الاغراءات والتَّهديدات، فقد استمر في إدانة سلوكات حكم دي ميديشي(2)، وانتقد ثراء الطَّبقة العليا المحيطة به.
كان لدعوة سافونارولا ومواعظه وقع كبير على المسيحيين البسطاء الذين كانوا يتوافدون بكثرة لسماع عظاته في الدِّير الذي يُشرف عليه، فقد عُرف كواحد من أفضل الدُّعاة المفوَّهين في ذلك الوقت. تؤكد خُطبه الأسبوعية على التَّوبة والعودة إلى تعاليم المسيح الحقيقية والتأسي الفعلي بحياة الحواريين الأوائل، وتنتقد تراجع الأخلاق العامَّة والخاصَّة داخل المجتمع الفلورانسي. وكان يهدِّدُ بالعقاب الإلهي أولئك الذين يتمادون في الفجور والانحلال الأخلاقي. وكُلَّما كان سافونارولا ينذر ضدَّ الخطيئة في خطبه، إلا وأثار الخوف والفزع في صفوف الناس، ذلك أن انتقادات الوعاظ القوية ضد الفجور والترف كانت تنتج انفعالات عارمة آنذاك، وكان من الشَّائع خلال خطب سافونارولا سماع صدى التنهُّدات بين الجموع المُحتشِدة ودموعهم. وسرعان ما غدت الغالبية من المصلِّين أسيرة حالة من الهستيريا الجماعية، جعلت الحماسة وتزايد عدد المريدين سافونارولا يرتكن للمزيد من الثِّقة في قدراته الذَّاتية، ومنحه ذلك مزيداً من القوة للاستمرار في دعوته والسَّير قُدُماً لتحقيق مشروعه الإصلاحي استناداً إلى أصول الدين المسيحي.
عُرِفَ سافونارولا بتكهُّناته ونبوءاته، فقد تحدَّث عن شرور قادمة ستصيب فلورنسا في المستقبل القريب ما لم تتب إلى الله من خطاياها وآثامها ومعاصيها حسب اعتقاده. وقد تحققت معظم هذه التكهنات، إذ إنه من السَّهل أحياناً التنبؤ بأحداث من هذا القبيل. من بين ما تنبأ به سافونارولا قرب وفاة لورنزو العظيم، الذي جعل فلورنسا واحدة من المدن الأكثر نفوذاً في أوروبا بسبب موقعها الاستراتيجي واستقبالها للعلماء القادمين من القسطنطينية بعد سقوط هذه الأخيرة(3). كما توقع انتخاب البابا الكسندر السادس Alexandre VI، والذي أصبح لاحقا واحداً من أشهر أعدائه. وقد وصل هذا الأخير إلى منصبه البابويِّ سنة 1492 من خلال شراء أصوات الكرادلة. وتوقَّع سافونارولا أيضاً بعد فترة وجيزة من ذلك قرب حلول كارثة عظمى بفلورنسا، وهو ما حدث بالفعل، حيث بدأ شارل الثَّامن ملك فرنسا، بعد سنتين من موت لورانزو العظيم، في عبور جبال الألب على رأس جيش قوي، وقد تمكَّنت قُوَّاته من طرد أسرة آل ميديتشي وحاكمها المشهور بالمُغفَّل بييرو مديتشي Pierre II de Médicis (1471-1503) من مدينة فلورنسا سنة 1494، وقد حاول المؤرخ الفرنسي جول ميشليه جاهداً البرهنة على أن حروب الملك الفرنسي ضد إيطاليا هدفها البحث عن الحضارة(4).
برز سافونارولا فجأة على الواجهة زعيماً سِيَّاسياً في فلورنسا، وأصبح الحاكم الفعليّ لها بعد أن فاوض ملك فرنسا في أمر الصُّلح والانسحاب، إذ كان اسمه ودوره كبيراً بين الأعضاء الخمسة الذين كانوا حاضرين على طاولة التَّفاوض حول مصير المدينة ومستقبلها السِّياسي بعد انسحاب الملك شارل الثَّامن.
بدأ سافونارولا يُمارس دكتاتورية أخلاقية صارمة على المجلس الذي يقود فلورنسا، ساعياً إلى إقامة جمهورية مسيحيَّة متزمِّتة، وهي في تصوُّره مملكة الله الحقيقية. وقد بذل رُفْقَةَ مؤيِّديه من الشَّباب المتحمِّس لأفكاره جهوداً للقضاء على كل صور الرَّذيلة المنتشرة بالدُّويلة الذي أضحت في نظره مُقدَّسة، فأصدر قوانين تمنع ترديد الأشعار والأغاني، وتُعاقِب على الإسراف والتَّبذير واللَّهو والرَّقص والسَّهر لأوقات متأخرة في الحفلات الجماعيَّة. كما شجَّع أتباعه على حرق التُّحف الفنِّية واللَّوحات والمنحوتات وأقنعة الكرنفال والكتب المخطوطة غير الدِّينية. تَمَّ منع كل ما هو غير مناسب في نظره في فلورنسا. وفي ظرف شهور قليلة كان قد نجح في جعل الحياة بالمدينة خالية مِمَّا كان يعتبره كارنفالات واحتفالات مُحرَّمة تُلهي النَّاس عن الله وعن العبادة والزُّهد، واستبدل الأغاني في الشَّوارع بالتَّراتيل والأشعار الدِّينية، وحضر استخدام الآلات الموسيقيَّة بجميع أنواعها، كما شن حملات قاسية ضد المتهمين بجرائم اللِّواط، وفرض بشأنها عقوبات شديدة وصارمة. كما عَمَّمَ قراراً بمنع تعليق الصُّور في أماكن العبادة، وشجَّع النَّاس على ارتداء لباس التقشُّف تأسِّياً بيسوع المسيح، ودعاهم إلى حرق ملابسهم الفاخرة. وكانت عادة إشعال النار في التحف وأدوات الترف والتسلية منتشرة بكل من فلورنسا وباقي الدويلات الإيطالية وذلك على سبيل التقرب إلى الله. وقد تسبب تحريض سافونارولا على إحراق الأعمال الفنية خسارة للفنون لا سبيل لتعويضها(5). كما منَع النِّساء من التزين بالمجوهرات الفاخرة وارتداء الأقمشة الثمينة. ونهى عن القِمار بمختلف أصنافه، وصودرت أوراق اللعب المنتشرة في الملاهي. كما وجَّه سافونارولا انتقادات للمصارف والبنوك التي كانت في بدايات نشأتها، خصوصاً وأنها تتعامل بالربا المُحرَّمة، والتي كانت تُعتبر من الكبائر التي تحول دون دخول المرابين الجنة. ولم يكن سافونارولا من أنصار فكرة التَّطهير في قضية الرِّبا، خلافاً لعدد من اللاهوتيين المتنورين الذين تقبلوا لاحقا تحوُّلات النِّظام الاقتصادي الجديد القائم على الفائدة، ومنهم المصلح الديني كالفن (Calvin) أحد خلفاء سافونارولا في فكرة الإصلاح الديني، وأحد أبرز زعماء البروتيستانتية الذين نجحوا في نشر مذهبهم في فرنسا وسويسرا.
كيف تمكَّن الرَّاهب سافونارولا بجهوده الفردية من تحقيق كل هذا التَّأثير والنُّفوذ في فلورنسا بداية عصر النهضة، وفي وقت وجيز جدا؟ وكيف استطاع رجل واحد تغيير معالم قيم مدينة كانت في طور التحول والانتقال بين العصر الوسيط والعصر الحديث؟
يرى المؤرخ الهولندي يوهان هويزنجا (Johan Huizinga) بأن الروح الفكرية المميزة للعصور الوسطى لم تخمد تماماً حتى ما بعد عصر النهضة بزمن طويل. ولذلك فرسم خط دقيق فاصل بين العصرين هو أمر صعب، بل إن كل محاولة قام بها هويزنجا نفسه لرسم هذه الحدود أثبتت بأن هذه الخطوط تتراجع إلى الخلف كل مرة. فقد أثبت هويزنجا أن أفكاراً وأنماطاً تحسب عادة من خصائص عصر النهضة كانت موجودة في القرن الثالث عشر نفسه، وبناء على هذا فإنه قد وسع امتداد عصر النهضة بشكل كبير، لأنه ظل حافلاً، في نظره، بعناصر اتسمت بها الروح الوسيطية وهي في أوج ازدهارها(6).
إن نجاح سافونارولا في إجراءاته التَّدبيرية الصَّارمة لم تُمكِّنه من تصحيح الأمور في الاتجاه الذي كان يجب أن تسير فيه، فقد كان بإمكانه تحقيق الكثير من النَّجاحات السِّياسيَّة، بيْد أنه لم يكن زعيماً مُحنَّكاً، ولم تكن له الخبرة الكافية للتكيُّف مع الأوضاع والمتغيرات الجديدة، بل كان رجل دين متحمِّسٍ يسعى إلى التَّغيير في اتِّجاه تكوين دولة ثيوقراطية مسيحيَّة تجمع كل المواطنين، وتستند على أساس الحكم الإلهي والوعظ والتكفير عن الذنوب. كان طموح سافونارولا هو العمل على تحقيق مدينة الله في الأرض.
برَّر سافونارولا دينياً الإجراءات التي اتخذها، وذلك في مواعظه الشَّهيرة التي كانت تلقى إقبالاً كبيراً من طرف العامَّة، وزكَّاها بنبوءاته ورؤاه الخاصة التي بشَّر فيها بقرب عصر روحاني جديد تحت ظله. وقد أدى هذا التَّصميم منه على فرض حياة التَّقشف في المدينة الغنيَّة إلى تقسيم سكانها، وولَّد فيها أول نواة لمعارضته بين البرجوازيين. كما أن حرقه لمخطوطات فلسفيَّة وأدبية نادرة جلبت عليه انتقادات كثيرين من مفكِّري الفترة ومثقَّفيها من الدُّعاة الإنسيين في فلورنسا وخارجها. فقد كانت لحركة إحياء التراث اللاتيني واليوناني التي بدأت في الانتعاش منذ عهد لورنزو العظيم دور في تغيير النَّظرة إلى ما هو قديم، حيث انتعشت في فلورنسا دراسة النُّصوص الأولى واستوحى الإنسيون والجامعيون معانيها لصوغ أفكار جديدة، ولعلَّ مسايرة آل مديتشي لتيَّار الإنسيين يُعتبر أحد العوامل المهمة التي مكَّنتهم من استرجاع سُلطتهم في النِّهاية(7).
غدا اسم سافونارولا مشهوراً على ألسنة النَّاس في فلورنسا وباقي الدُّويلات الإيطالية السِّت، فكان له تأثير كبير عليهم، وارتفعت مكانته السِّياسية والدِّينية بين شعب فلورنسا بالخصوص. وقد اتَّجهت إليه الأنظار باعتباره الزَّعيم المنقذ القادر على دحر الاستبداد السيَّاسي والظلم الكنسي، فهو بالرغم من توليه السُّلطة الفعليَّة ظلَّ في سِلك الرَّهبنة يُجاهد نفسه ويعيش حياة التقشُّف الخشنة. وقد أطاعه الشَّعب وعمل بنصائحه وإرشاداته، فأنشأت المحاكم القانونية، وتمت محاربة ما كان ينظر إليه على أنه فساد للآداب والأخلاق العامَّة، وانتشرت في المدينة الروح الدينية المحافظة.
لكن الإحياء الديني الذي أراد سافونارولا اعتماده بهدف إقامة حكم الله في فلورنسا قد تم توظيفه لاحقاً ضِدَّه، فقد اعتُبر مارقاً ودجَّالاً خاصة حينما ادعى أنه يتحدَّث للرُّوح القدس. كان سافونارولا قد أمضى لياليَ كاملة في الصَّلاة والعبادة والعُزلة، ثم ادَّعى من على المنبر تلقِّيه الوحي أثناء الرؤيا التي اختص بها. كان لسافونارولا أعداء ومنافسون أقوياء تضرَّرت مصالحهم المادية والكهنوتية من صعود نجمه، فتحيَّنوا الفرصة لإسقاطه وعزله، ذلك أن طموحاته كانت أكبر من أن تقتصر على إصلاح مدينة فلورنسا لوحدها. فقد حاول سافونارولا تقديم نفسه كمصلح للكنيسة في الوقت الذي تزايدت فيه لوبيات الفساد وشبكات بيع صكوك الغفران. فالفساد الدِّيني كان مقبولاً ومعمولاً به آنذاك في المُؤسَّسات الرَّسمية الكاثوليكيَّة. وكان من الصَّعب لرجل واحد الوقوف في وجه هذا الفساد. لقد رغِب سافونارولا في إصلاح الكنيسة البابويَّة فعلاً، إذ نادى مراراً في خُطبه بضرورة التَّوبة وعودة رجال الدِّين إلى الحياة المسيحيَّة البسيطة، وإلى الإنجيل وتعاليمه، وإلى حياة الزُّهد والتقشُّف، وانتقد بشكل خاص ترف البابويَّة والكرادلة، فطفق يُشهَّر بالبابا الكسندر السادس، والبابا بورغيا المعروف بفساده، ويُطلع الناس على عيوبه ونواقصه، بل وصلت به الجرأة إلى دعوة الملوك المسيحيِّين إلى عقد مؤتمر عام لبحث هذه القضية.
بعد انسحاب الفرنسيِّين وعودة آل مديتشي للحُكم في فلورنسا مُجدَّداً، استمر سافونارولا في مواعظه ونبوءاته وتهديداته متحدِّياً سُلطة البابا وقرار الحرمان الذي أصدره هذا الأخير في حقِّه في البداية. فأوعز البابا بإرسال لجنة للتَّحقيق في الاتِّهامات التي يُصدرها سافونارولا في حق خصومه، خاصَّة بعد رفضه القدوم إلى روما للمثول أمام البابا. احتج سافونارولا على الفور لأن التَّحقيق سيكون مُتحيِّزاً لصالح رئيس الكنيسة، فلم يقبل هذا الأخير الاعتراض، وتم إصدار حُكْمٍ بوقف سافونارولا عن التَّبشير الدِّيني وإلقاء المواعظ بين النَّاس في الدِّير الذي يرأسه. وهكذا توقَّف سافونارولا عن الوعظ مرغماً فترة من الزَّمن. لكنه وجد نفسه في مأزق كبير بعد هذا المنع، حيث كان للمنبر آنذاك سطوة قويَّة على الشَّعب، فهو الوسيلة الفعَّالة للتأثير والتَّجييش وحشد الأتباع. لقد خسر الراهب الوسيلة التواصلية المهمة التي كان يستغلها للتأثير في أتباعه ومؤيديه، وفي وقت كان فيه في أمَسِّ الحاجة لتأجيج المشاعر والرفع من شعبيَّته والدِّفاع عن نفسه أمام أتباعه ومريديه، خاصَّةً وأنَّ صوت مُعارضيه من السِّياسيِّين الفلورنسيِّين المرتبطين بمراكز الحُكْم بدأ يعلو، وبدأت المكائد والدَّسائس تحاك في الخفاء لإقصائه نهائياً من السَّاحة السِّياسية والدِّينية، وتَمَّ أيضاً تأليب رجال الدِّين من منافسيه بالمدينة التي استقبلته ذات يوم، وهو الطَّارئ عليها. كان الكثير من الرُّهبان يغارون من نجاحاته لأنهم فقدوا شعبيَّتهم الدِّينيَّة منذ وصوله إلى فلورنسا.
أصبح سافونارولا معزولاً على جميع المستويات، وكان واضحاً أن الأمور ستتَّجه إلى المزيد من التَّصعيد ضِدَّهُ. ومع تراجع تأييد السِّيَّاسيِّين له، اقتحمت قُوَّات تابعة للبابا الكسندر السَّادس ديره، وألقوا القبض عليه رفقة اثنين من مُساعديه المقرَّبين، وسلَّموهم إلى السُّلطات المُختصَّة حيث خضعوا للاستجواب. بدأت التَّحقيقات مع سافونارولا في السجن بتهمة الهرطقة والتحريض على الفتنة. وقد تعرض سافونارولا خلال هذه التحقيقات لشتى صنوف التعذيب من طرف محاكم التفتيش الدينية، وقد نفى التهمة عن نفسه في البداية مؤكداً أنه لم يكن نبياً ولم يَدَّعِ ذلك. استمر تعذيبه لفترة طويلة، وهدده المحققون بتحدِّي المرور على النَّار (أو ما يعرف بمحنة النار)، لإثبات صحة أو زيف ما يقوله. كانت تلك أداة مشهورة يُلجأ إليها لإثبات حكم الهرطقة على المخالفين. اعترف سافونارولا في الأخير بكل ما كانت تريده الكنيسة والبابا، فوقع على كل ما يريدونه تحت تأثير التعذيب الشديد الذي لم يتحمله جسمه الواهن، وأقرَّ أمامهم بأنه “رسول من الله”. كان ذلك الصك كافياً لإدانته وشنقه رفقة رفيقيه، رغم تراجع هذين الأخيرين عن تأييده، وقد أعدموا يوم 23 من شهر مايو سنة 1498 في الساحة الكبيرة وسط فلورنسا. ثم أحرقت بعدئذ الجثث الثَّلاث بالنَّار المُستعرة وسط حضور عدد كبير من مُؤيديه الغاضبين الذين كانوا عاجزين عن فعل أي شيء.
بالرَّغم من احتقار سافونارولا للفلسفة اليونانيَّة، وإحراقه لعدد كبير من المخطوطات التي تعود للحقبة الإغريقية، وعدائه للفكر والأدب والفن الذي بدأ في الازدهار بفلورنسا خلال الفترة التي عاش فيها، إلا أن إسهامه في عصر النَّهضة أمر مؤكَّد، فقد كان من أوائل من دعَوْا إلى استقلاليَّة الرأي السِّيَّاسي عن الكنيسة، ولذلك فهو يعتبر أحد أسلاف عصر الإصلاح الدِّيني الطَّويل الأمد الذي شهدته أوروبا في القرنين الخامس عشر والسَّادس عشر، حيث استهدف من روح الاصلاح التقرب إلى الخالق دون وساطة رجال الدين، وهو الأمر الذي ركَّزت عليه عدد من خطبه وأحاديثه.
وإذا كان الكرسي البابوي بعد إعدام سافونارولا قد أصدر قراراً بعدم ذكر اسمه علناً أو قراءة كتيباته ورسائله، فإن كثيراً من أنصاره ومُحبِّيه ظلوا على الولاء له في الخفاء، فجمعوا تراثه المخطوط واحتفظوا به سِرّاً، حيث ظلَّت كتبه عن التَّواضع والصَّلاة والحبِّ تُستنسخ وتُمارِس تأثيرها بين عدد كبير مِمَّن ظلوا أوفياء لتعاليمه. بل إنه أثَّر بمواقفه الشُّجاعة وصموده حتى آخر لحظة في عدد من فناني عصره، فبِالرَّغم من مقته للفنون، توقف ديللا بورتا Della Porta عن مُزاولة الرَّسم مدة أربع سنوات حِداداً على مقتله، ويقال إن ميخائيل أنجلو Michelangelo استلهم رسم لوحته “يوم الحساب الأخير” من دعواته.
لقد كان الانتقال من روح العصور الوسطى التي بدأت في التلاشي إلى الحركة الانسانية أعقد بكثير مما نجنح إلى تصوره، ذلك أننا اعتدنا المقابلة بين العصور الوسطى والحركة الإنسانية، بشكل ييدو معه الأمر وكأن التخلي عن الأولى ضروري لاعتناق الثانية، والحال أن الأمر ليس كذلك(8). ذلك أنه لم تتخذ مشكلة الحركة الانسية في إيطاليا إلا أبسط الأشكال، لأن عقول الناس هناك كانت ميالة دائماً إلى تلقي ثقافة العصر القديم، ولم يحدث قط أن انقطعت صلة الروح الايطالية بالانسجام والبساطة الكلاسيكيين. تذكرنا شخصية سافونارولا بأن العصور الوسطى كانت ما تزال نابضة بالحياة رغم ما يوحي به ظاهر الأمور، غير أنها كانت في طريقها إلى الزوال في نفس الوقت الذي كان يشهد ميلاد أشكال جديدة.
الهوامش
(1) كانت معشوقة سافونارولا ابنة غير شرعية لأسرة ستروزي الشهيرة، المنفية من فلورنسا، فحين طلب الاقتران بها رفضته بازدراء قائلة: “ما كان لأحد من أسرة ستروزي أن يتنازل فيقترن بنكرة من عائلة سافونارولا”. ولما جرحه هذا الرفض، فإنه رد، من فوره أنه ما كان لرجل شرعي من عائلة سافونارولا أن يذل نفسه فيقترن بفتاة غير شرعية من أسرة ستروزي. وقد عدت هذه القصة غير موثوقة وأسطورية. (ص 79).
(2) حين تحدث ميكيافلي في تاريخ فلورنسا عن سنوات حكم لورنزو العظيم، نراه لا يكاد يتكلف عناء إخفاء نبرة الكراهية المتصاعدة، فهو حينما يصل إلى هذه المرحلة، يعلن أن حظ عائلة مديتشي وسخاءهم لعب دوراً حاسماً في تحقيق تأثيرهم المفسد، لدرجة أن آذان الناس قد صمت عن فكرة التخلص من طغيان عائلة مديتشي، وبالتالي لم تعد فلورنسا تعرف الحرية، راجع: كوينتن سكينر، مكيافللي، مقدمة قصيرة جداً، ترجمة صلاح الدين، (كلمات هنداوي، ط1، 2014)، ص 106.
(3) بعد سقوط مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) على يد العثمانيين سنة 1453، هاجر عدد من علمائها وجلبوا معهم المخطوطات، وقد عملت فلورنسا على استقطاب غالبيتهم في عهد لورانزو العظيم، الذي اهتم بالعلم وشجع العلماء من الإنسيين على الاستقرار، ووفر لهم سبل العيش الكريم. فكان يرسل البعوث الخاصة إلى الشرق للحصول على المخطوطات القديمة، وكان له جيش من النساخ يعملون دائماً في نسخ الكتب وترويجها، وأحيا الأكاديمية الأفلاطونية، وأعاد إنشاء جامعة بيزا ووجهها لدراسة التراث اليوناني. سافونارولا، الراهب الثائر، ترجمة حسن عثمان، م، س، ص35.
(4) جاك لوغوف، هل يجب حقا تقطيع التاريخ شرائح؟ ترجمة الهادي التيمومي، (هيئة البحرين للثقافة والآثار، الطبعة الأولى، 2018م)، ص53.
(5) يوهان هويزنجا، اضمحلال العصور الوسطى، دراسة لنماذج الحياة والفن والفكر بفرنسا والأراضي المنخفضة، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة، المركز القزمي للترجمة، 2015)، ص17.
(6) نفسه، م س، ص267.
(7) أنظر: سافونارولا، الراهب الثائر، م س، ص34.
(8) في توافقه مع فكرة المؤرخ الهولندي يوهان هويزينجا جعل جاك لوغوف من القرن الخامس عشر قرناً بدا فيه العصران الوسيط والنهضة متكاملين ومتداخلين، بل إن النهضة -في نظرهما- لم تفعل سوى إطالة العصر الوسيط. راجع: هل يجب تقطيع التاريخ شرائح، ص99، 131.
(9) يوهان هويزنجا، اضمحلال العصور الوسطى، م س، ص309.