يندرج هذا الكتاب1 في إطار ما تعرف الساحة العلمية بإسبانيا في الوقت الراهن من إنتاج علمي غزير نسبيا، يتمحور حول جذور الفقه الإسلامي بالأندلس ومصادره. ذلك أن أهمية المصادر الفقهية المبكرة لا تكمن في إلقاء الضوء على تاريخ الفقه الإسلامي فحسب، وإنما تساعدنا على فهم الإطار الاجتماعي الذي ظهرت وانصهرت داخله مختلف التشريعات الفقهية.
وفيما يخص المصادر الفقهية المبكرة، مثل العتبية، أو الواضحة لعبد المالك بن حبيب2، فإن معرفتها تبقى أساسية لنتمكن من فهم كيف حدثت صيرورة تكون التشريع الإسلامي في الأندلس. إضافة إلى ذلك فإن تأثير المصادر الفقهية الأولى المبكرة على المصادر المتأخرة هو تأثير كبير، حتى أنه يستحيل دراسة الفقه الإسلامي بالأندلس وفهمه دونما أخذ بعين الاعتبار المصادر الفقهية المبكرة.
والمستخرجة -المعروفة أكثر باسم العتبية، نسبة إلى العتبي، الفقيه القرطبي الذي بدأ تدوينها- هي عبارة عن تجميع لمسائل فقهية لمختلف الفقهاء، أندلسيين وغير أندلسيين. وعلى الرغم من الانتشار الكبير الذي عرفته في الغرب الإسلامي برمته، فقليلة هي النسخ المخطوطة التي وصلتنا منها، وهي في غالبيتها غير الكاملة. وكان على الباحثين انتظار نشر الشرح الذي وضعه ابن رشد الجد (المتوفى عام 520 هـ/1126) على العتبية، وضمّنه كتابه البيان والتحصيل3 لنتوفر على النص الكامل لهذا المؤلف الفقهي الهام من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي.
ترسم المؤلفة آنا فيرنانديس فيليكس Ana Fernández Félix هدفيْن محورييْن لكتابها، وهما: أولا، دراسة العتبية من وجهة نظر فقهية. وثانيا، إبراز أهميتها في فهم تكوّن المجتمع الأندلسي.
تحلل المؤلفة في القسم الأول كتاب العتبية من وجهة نظر فقهية، وفيه تفسر كيف برزت العتبية، و تدرس بنيتها ومحتواها، وتبرز المكانة التي يحتلها هذا المجموع الفقهي داخل صيرورة تكون الفقه الإسلامي بالأندلس. كما اهتمت المؤلفة بتفسير دواعي اهتمام ابن رشد القرطبي بـالعتبية، ولماذا قرر أن يشرحها، وما هو تأثير ذلك الشرح في انتقال النص الأصلي للعتبية وتداوله.
كان من الضروري في المقام الأول تحليل الإطار الثقافي الذي برزت فيه العتبية، وهذا الموضوع اهتمت به المؤلفة في الفصل الأول (ص17-62). وكان (خوان لوبيز أورتيز) قد خصص منذ سنة 1930 صفحات مطولة للعتبي في دراسته الشهيرة حول المدرسة المالكية بالأندلس4.
وبالإضافة إلى تسطير ترجمة العتبي، فإن المؤلفة ركزت اهتمامها على النشاط العلمي لمعاصريه من الفقهاء، لتتمكن من معرفة طبيعة المؤلفات التي كانت متداولة بالأندلس في تلك الحقبة. ولم تكتف المؤلفة بالتعريف بالعتبي وبمجايليه فقط، وإنما اهتمت كذلك بالجيل اللاحق، أي بتلامذة العتبي، لأنه من دون ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم الانتشار الذي عرفتهالعتبية.
وبعد توضيح الإطار العام الذي ظهرت فيه العتبية، تناولت المؤلفة محتواها وبنيتها. وهذا هو الهدف الأساسي للكتاب في فصله الثاني (ص 63-198). فقد أطلِقت على العتبية عناوين مختلفة مثل: (المستخرجة، المستخرجة من الأسمعة، المستخرجة من الأسمعة المسموعة من مالك بن أنس، المستخرجة من الأسمعة المسموعة غالبا من مالك بن أنس وتعرف بـالعتبية،المستخرجة العتبية على الموطأ، المستخرجة من الأسمعة مما ليس في الموطأ…)، وقد كرست المؤلفة جهدها لتوضيح معاني هذه العناوين في بداية هذا الفصل. وتفاديا للارتباك فضلت المؤلفة أن تطلق في كتابها هذا اسم العتبية ( والمستخرجة) من دون تمييز، للدلالة على المجموع الفقهي للعتبي.
وبعد أن شرحت مختلف العناوين حاولت المؤلفة أن تعيد تركيب الصيرورة المعقدة لتأليف هذا المجموع، اعتمادا بالأساس على المعطيات التي توفرها كتب التراجم والطبقات.
بعد ذلك تقوم المؤلفة بوصف النسخ المخطوطة للعتبية، وكذا لكتاب البيان والتحصيللأبي الوليد ابن رشد القرطبي. والواقع أن المؤلفة قد اتخذت من نص العتبية المتضمن في كتاب البيان والتحصيل أساس عملها، وكان سندها لتفسير خصائص بنيةالعتبية.
لقد عرفت العتبية انتشارا واسعا بالأندلس وببلاد المغرب على مر العصور. ولهذا السبب خصصت المؤلفة الفصل الثالث (ص199-257) لدراسة مختلف أوجه انتشار العتبية وانتقالها وروايتها، سواء من خلال المعطيات التي توفرها كتب التراجم المغربية الأندلسية، أو من خلال تأثير العتبية في المصادر الفقهية اللاحقة. وبالإضافة إلى الجداول الواضحة والمفيدة في بابها، تجدر الإشارة إلى أن الباحثة قد تتبعت ورود نصوص العتبية في المصادر المغربية والأندلسية، منذ ابن العطار (المتوفى سنة 399 هـ/ 1009) حتى الونشريشي (المتوفى سنة 914 هـ/ 1508).
كما خصصت المؤلفة صفحات لمناقشة الدواعي التي حدت بابن رشد لتخصيص شرح للعتبية؛ وهو أمر ضروري لفهم تطور الفقه الإسلامي بالأندلس منذ الشروع في تدوينالعتبية. وكذلك الشأن بالنسبة لتأثير شرح ابن رشد في انتقال العتبية؛ فقد تناولته الباحثة على طول الفصل الثالث.
وينتهي القسم الأول بفصل مكثف (ص 295-394) يطمح إلى تلخيص مختلف الجوانب المتعلقة بكتاب العتبية ووضعه داخل الحقل الفقهي بالأندلس، وبالمكانة التي تحتلها العتبية في صيرورة تكون الفقه الإسلامي بالأندلس.
وقبل أن تركز تحليلها على الحالة الأندلسية، كان من الضروري أن تقف المؤلفة على مختلف النظريات التي صاغها عدد من الباحثين المعاصرين حول نشأة الفقه الإسلامي وتكونه (نظريات كولدزهير، شاخت، بوورز، سيلاردون موتزكي، كالدير، عبد الوهاب خَلاف وغيرهم). واعتمادا على بعض هذه الدراسات والنظريات الحديثة عادت المؤلفة لتهتم بنشأة الفقه الإسلامي بالأندلس وتَشكل المدرسة المالكية بالأندلس (فرضيات كالدير، ماربيل فييرو، وفرضية متزكي حول الموطأ والمدونة بالأندلس)، وبالصراع بين “أهل الرأي” و”أهل الحديث” (نظرية لوبيز أورتيز، ماربيل فييرو). وتستعرض المؤلفة المدونات الفقهية التي تم تأليفها وروايتها بالأندلس حينما شرع العتبي في نشاطه العلمي والثقافي. وكل ذلك سمح للمؤلفة بتأطير كتابالعتبية داخل هذه البانوراما العامة.
يروم القسم الثاني (ص 395-492) من هذا الكتاب بالأساس معرفة كيف يمكن توظيف نصوص العتبية في دراسة بعض مظاهر صيرورة تكون المجتمع الإسلامي الأندلسي. ولهذا الغرض، كان من الضروري اختيار بعض القضايا التي سمحت أكثر من غيرها، لتوضيح أهمية العتبية في هذه الفترة الحاسمة من التاريخ الأندلسي.
ولذلك اختارت المؤلفة نصوص العتبية المتعلقة بالأندلس (ص395-432)، وتلك التي تتطرق للوضعية القانونية للذميين بالأراضي الإسلامية (433-488). إنها نصوص كثيرة جدا، ولذلك كان من الضروري أن تنتقي منها صاحبة الكتاب نماذج لإبراز أهمية العتبية في دراسة المجتمع الإسلامي الأندلسي. وقد وزعتها المؤلفة حسب الموضوعات، حيث تظهر المسائل المتعلقة بـ:
الممارسات والعادات التي تطبع الحدود بين المسلمين وغير المسلمين في علاقتهم ببعضهم البعض (الوضوء، الغذاء، الأكرية، التجارة).
اجتياز الحدود (أي اعتناق مسيحيي شبه الجزيرة الإيبيرية للديانة الإسلامية، أو ارتداد بعض الأندلسيين).
المحافظة على الحدود: جردت فيها المؤلفة نصوص متعلقة بالردة وبالمسيحيين الذين يسبون الإسلام (مختلف أوجه السب، شهداء قرطبة المسيحيين في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي)، وبخصوص الكنائس (تدنيسها، إعادة بناء ما انهدم منها)، وقضايا متعلقة بالذميين بالأندلس.
ونجد بآخر هذا الكتاب ثلاثة ملاحق قيمة لمسائل العتبية المتعلقة أساسا بالأندلس (الملحق 1) والمسائل التي طرحها فقهاء الأندلس أو أجابوا عنها (ملحق 2، وهو الأطول)، وتلك التي يرد بها ذكر لليهود وللمسيحيين، سواء كانوا ذميين أم لا.
ما هي الخلاصات التي توصلت إليها الباحثة في هذه الأطروحة؟
يمكننا تركيز أهم خلاصات هذه الأطروحة في النقط التالية:
1- بدأت عملية تكون المجتمع الإسلامي الأندلسي مع فتح العرب المسلمين للأندلس. وكان القرنان الأولان -إلى حدود تركيز عصر الخلافة- من تاريخ الأندلس عبارة عن فترة تكوين. ومن وجهة نظر اجتماعية، حدثت هناك عملية تعريب مستمرة للساكنة التي تحولت تدريجيا إلى الإسلام. وهذه الصيرورة تفترض تحول مجتمع مكون من أقلية مسلمة كانت تحكم أكثرية مسيحية، إلى مجتمع أغلبيته مسلمة مع نهاية القرن الخامس الهجري /الحادي عشر الميلادي. ومن وجهة نظر فقهية، فإنه خلال هذين القرنين نجد أن هناك تقبّلا للفقه الإسلامي بالأندلس، الذي تطور وبلغ أوجه مع ترسيخ المدرسة المالكية هناك.
وتقع العتبية -التي هي كتاب فقهي- ضمن هذه الحقبة الزمنية، وتحليلها سواء من وجهة نظر فقهية، أو من زاوية أهميتها في دراسة المجتمع الأندلسي، يمكن أن يساهم إلى حد كبير في فهم أحسن لبعض المظاهر المحددة لفترة التكوين هذه.
2- إن الفقيه العتبي (توفي عام 255 هـ/869) هو أول من بدأ عملية تدوين المستخرجة من الأسمعة، ولكونه أول من شرع في ذلك، عرف الكتاب باسم العتبية نسبته إليه. وكل شيء يشير إلى أن نص العتبية التي احتفظ بها ضمن كتاب البيان والتحصيل لابن رشد (توفي عام 520 هـ/1126) يأتي من رواية محمد بن عمر بن لبابة، عن شيخه العتبي.
3- حينما بدأ العتبي نشاطه العلمي في النصف الأول من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، كانت الكتب الفقهية الرئيسة المعروفة بالأندلس هي المدونة ولموطأ. إلا أنه -وكما هو الشأن في باقي مناطق العالم الإسلامي آنئذ- كانت هناك “سماعات” منتشرة. وتتمثل هذه السماعات في ما يشبه كراسات خاصة يدون فيها التلاميذ دروس شيوخهم. وبذلك تمثل السماعات مرحلة وسطى بين الفقه المروي شفويا، وبين الفقه المثبت كتابة.
4- العتبية هي تجميع لسماعات أربعة أجيال من الفقهاء المسلمين على الأقل. سماعات الأندلسيين، (أمثال عيسى بن دينار ويحيى بن يحيى)؛ وسماعات غير الأندلسيين، ونذكر من بينهم بصفة خاصة: الإمام مالك، وابن القاسم، وسحنون. وتجدر الإشارة إلى أن الفقيه الأندلسي الشهير، عبد المالك بن حبيب، لا يُذكر إسمه ولو مرة واحدة فيالعتبية. وفي هذه السماعات نجد أسئلة فقهية (مسائل) موجهة لعدد من الفقهاء مع أجوبتها، وكذا الآراء الخاصة للفقهاء (الأقوال).
5- للعتبية علاقة وطيدة بـالمدونة، ويجب اعتبارها مكملة لها. ولهذا السبب فإن المستخرجة من الأسمعة مما ليس في المدونةهو العنوان الذي ينطبق أكثر من غيره على محتوى العتبية. إلا أن للكتابين بنية مختلفة عن بعضهما البعض. فـ”العتبية” المنتظمة حول السماعات، تقدم لنا تنظيما لمواد الفقه أقدم من المدونة. ولعل ذلك راجع إلى كون العتبي قد أولى أهمية لرواة الفقه أكثر مما أولاه لمحتوى هذا العلم حينما شرع في تدوين العتبية.
6- السماعات المجمعة في العتبية هي في غالبيتها مستمدة من الإمام مالك وتلامذته وتلامذتهم المباشرين بعدهم. فـالعتبية هي نموذج لبداية تأسيس لسلطة شخصية لما سيعرف لاحقا بالمدرسة المالكية. وهذا الكتاب يقع داخل صيرورة الانتقال من المدارس الفقهية ذات الطابع الجغرافي (مدرسة بغداد، مدرسة المدينة…)، إلى المدارس الشخصية. ونجد بالعتبية بعض الآثار للمدرسة الجغرافية المدينية، كما يدل على ذلك ذكر العتبية لـكتاب المدنيين.
7- عرف عصر العتبي بعدد من المؤلفات التي دخلت الأندلس أو كانت تروى هناك، كما عرفت تأليف كتب فقهية على يد فقهاء أندلسيين. فبالإضافة إلى رواية الموطأ والمدونة، ألفت بالأندلس -في هذه الحقبة- مؤلفات مثل المستقصية ليحيى بن إبراهيم بن مُزين، والتي يبدو أنها مرتبطة بالموطأ، وكذلك ثمانية أبي زيد لإبن طارق الفرس الذي يشتمل على روايات المدنيين؛ كما سادت بالأندلس مؤلفات ألفت في الفترة السابقة، مثل مؤلفات عبد المالك بن حبيب، وعيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى. ويبدو أن تلامذة العتبي ومجايليهم لم يقوموا بتأليف مؤلفات فقهية، فقد انصرفوا إلى دراسة مؤلفات الجيل السابق وروايتها.
8- لقد تم تسريع صيرورة ترسيخ “المدرسة” المالكية خلال جيل العتبي تحديدا. وكان من أهم نتائج الصراع بين “أهل الرأي” و”أهل الحديث” الذي عرفته الأندلس آنئذ هو إعطاء دفعة قوية لعملية ترسيخ المدرسة المالكية بالأندلس.
إن توطيد المدرسة المالكية بالأندلس لم يكن راجعا للأسباب الجغرافية فقط، على اعتبار أن الأندلسيين كانوا في رحلاتهم الحجية إلى المشرق يربطون علاقات وطيدة مع فقهاء المدينة وفقهاء مصر، المراكز الهامة في تطور المذهب المالكي. إن الأسباب السياسية هي التي حكمت في نهاية المطاف بغلبة المذهب المالكي بالأندلس. فأمويو الأندلس لم يكونوا ليقبلوا بتركيز المذهب الحنبلي بأرض الأندلس- نظرا لارتباطه الوثيق بأعدائهم العباسيين.
لقد توطدت المدرسة المالكية بالأندلس خلال القرن الرابع الهجري/العاشر للميلاد، ونتوفر على عدد من “المختصرات” الفقهية المالكية التي ترجع إلى هذا القرن. ولو أن الصراع بين “أهل الرأي” و”أهل الحديث” بالأندلس لم يسفر عن تغييرات كبيرة على المذهب المالكي، فإن إحدى نتائجه تتمثل في إيلاء المالكيين بالأندلس اهتماما متزايدا لعلم الحديث.
9- إن الهدف الأساس الذي دفع ابن رشد لتأليف كتاب البيان والتحصيل يتمثل في سعيه لتكييفالعتبية مع أصول الفقه. لقد احتفظ ابن رشد بنص العتبية كاملا بفضل المنهجية التي اتبعها في تأليفه لكتابه البيان، حينما عمد إلى شرح العتبية “مسألة بعد مسألة”. وبعد إنجاز هذا الشرح لم تعد العتبية تروى كنص مستقل.
أضف إلى ذلك موقف الخلفاء الموحدين من كتب الفقه، وإحراقهم لكتب الفروع منها. وهذان الأمران يفسران الانقطاع الذي حصل في رواية العتبية في النصف الثاني من القرن السادس الهجري/الثاني عشر للميلاد. فحتى ذلك الوقت كان للعتبية انتشار وتأثير مباشر بالأندلس، تدل عليه النصوص منذ القرن الثالث/التاسع حتى النصف الأول من القرن السادس/الثاني عشر للميلاد. وتضم هذه الحقبة عصور الخلافة الأموية بالأندلس وعصر الطوائف وعصر المرابطين، كانت فيها العتبية موضوع دراسة عدد من العلماء. أما فيما بعد القرن السادس فـ”لم يعد للمستخرجة في فهارس فقهاء الغرب الإسلامي ما كان لها في الفهارس السابقة من العناية، رواية وقراءة وسماعا… ولعل أكبر دليل على هذه التعفية وفرة مخطوطات البيان والتحصيل اليوم، وندرة مستخرجة العتبي حتى لا تكاد تعرف لها ولو مخطوطة واحدة مستقلة تامة أو ملفقة في مختلف مكتبات العالم”. وأغلب الأجزاء المخطوطة التي وصلتنا منها وجدت بمدينة القيروان التي ظلتالعتبيةتتناقل بها لوقت طويل.
إن الانتشار الواسع للعتبية، سواء بالأندلس أو بإفريقية، يعكس المكانة التي كانت لهذا الكتاب في الفقه المالكي بالغرب الإسلامي. هذا على الرغم من الانتقادات التي تعرضت لها من قبل المحدثين. وقد أثرت هذه الانتقادات من دون شك في الأبحاث الغربية التي اهتمت بـالعتبية ابتداء من القرن التاسع عشر، واعتبرت أنها لا تستحق كبير اهتمام. وكان يجب الانتظار إلى حين نشر كتاب البيان والتحصيل في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ليعاود الباحثون الاهتمام بـالعتبية باعتبارها نص معبر عن الفقه الإسلامي المبكر.
10- تعكس العتبية في المقام الأول نشأة سلطة شخصية ستؤدي إلى توطيد المدرسة المالكية. وتعكس في المقام الثاني نية الفقهاء في تحديد قواعد سلوك المسلم. ففي مجتمع يتأسلم تدريجيا كان من الضروري معرفة ماذا يعني أن يصير المرء مسلما، وما هي المميزات التي تميزه عن الذمي مثلا.
ولهذا السبب، فإن المؤلفة قد أولت اهتماما خاصا “للمسائل” التي تتعلق بالوضعية القانونية لغير المسلمين، فضلا عن انتخابها للمسائل المتعلقة بالأندلس حصرا. وتوضح “المسائل” المتعلقة بالأندلس مثلا محاولة الفقهاء تكييف بعض الممارسات التي كانت سائدة بالأندلس قبل الفتح الإسلامي مع المقتضيات الدينية الجديدة.
إن “المسائل” المتعلقة بالوضعية القانونية للذميين تشير إلى كيفية إقامة الحدود بين الإقصاء والاندماج. فالفقهاء المسلمون قد حددوا معنى أن يكون المرء مسلما عبر سلسلة من الأسئلة الشرعية التي ترتبط أساسا بنقط الالتقاء مع غير المسلمين. إلا أنهم لم يقيموا حدودا تصلح للإقصاء، وإنما كذلك لتمنع المسلمين من الارتداد عن الإسلام. فالفقهاء كانوا حراسا للإسلام، معاقبين أشد العقاب للمرتدين. ونفس الاهتمام حدث بين المسيحيين في الأندلس. فخطر اعتناق النصارى للديانة الإسلامية والانضمام للجماعة الإسلامية هو الذي أدى في نهاية المطاف إلى نشأة ما يعرف بحركة “شهداء قرطبة” المسيحيين.
هذه أهم الخلاصات التي بدت لنا من خلال مطالعة هذا الكتاب القيم. إن كتاب (آنا فيرنانديس فيليكس) دعوة لإعادة الاعتبار للنصوص الفقهية المبكرة لدراسة تشكل القانون الإسلامي، وكذا لإبراز القيمة التي تكتسيها هذه النصوص لدراسة المجتمعات الإسلامية.
ومن المؤكد أن نص العتبية وشرح ابن رشد له يمنحنا حيزا واسعا للقيام بدراسات مستقبلية. إن دراسة مقارنة للنصين من شأنها أن تغني معارفنا -سواء على المستوى القانوني أو على المستوى الاجتماعي- لتحولات المجتمع الإسلامي الأندلسي منذ القرن الثالث الهجري/التاسع للميلاد حتى القرن السادس / الثاني عشر الميلادي.
ثم إن العتبية وشرحها تمنحنا فرصا كثيرة للقيام بدراسات موضوعاتية موسعة انطلاقا من نصوصهما. وكل هذه الدراسات المستقبلية ستساهم إلى حد كبير، في إغناء معرفتنا للمجتمع الأندلسي والمجتمع الإسلامي بصفة عامة.
نستخلص من هذا العرض أن كتاب العتبية وصيرورة تكون المجتمع الإسلامي الأندلسي يندرج ضمن سلسلة من الأبحاث المخصصة للفقه الإسلامي بالأندلس، وهو دراسة مستفيضة عن الفقيه الأندلسي محمد العتبي (المتوفى سنة 255 هـ/ 869 ) وعن كتابه المستخرجة من الأسمعة، المشهور بـالعتبية، وقد وضعت المؤلفة ذلك الكتاب في إطاره القانوني والاجتماعي والمجالي والزمني، بغية الإمساك بخيوط العلاقة الرابطة بين الفقه وتكون المجتمع الإسلامي بالأندلس خلال القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي.
إن كتاب هو ثمرة عمل علمي صارم يتميز بوضوح طرحه، وبمعايير منهجية عرضتها المؤلفة بوضوح وطبقتها بدقة. ولا نبالغ إن اعتبرناه إضافة قيمة للمكتبة الأندلسية. فهو يقدم فائدة كبيرة للمتخصصين والباحثين في الأندلسيات، وخاصة في مجال معرفة المجتمع الأندلسي وقضاياه ونوازله وغيرها من القضايا الفكرية والتشريعية بالأندلس.
وما يمكن أن يؤاخذ على المؤلفة هو عدم استغلالها لبعض الدراسات العربية حول العتبية ومؤلفها، ولبعض الرسائل الجامعية -المرقونة- في كليات الآداب بالمغرب وبدار الحديث الحسنية بالرباط.
الهوامش:
1- Ana Fernández Félix, Cuestiones legales del Islam temprano : la ’Utbiyya y el proceso de formación de la sociedad islámica andalusí, Consejo Superior de dividerInvestigaciones Científicas, Madrid, 2003, 604 p.
2 – كتاب الواضحة لعبد الملك بن حبيب (المتوفى سنة 238 هـ)، تقديم وتحقيق وترجمة ماريا أركاس كامبوي، المجلس الأعلى للأبحاث العلمية بمدريد، مدريد، 2002
3- أبو الوليد ابن رشد القرطبي، البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة، تحقيق محمد حجي وآخرون، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 1، 1984، ط. 2، 1988
4 – Lopez Ortiz, J. Le recepción de la escuela malequí en España, Anuario de Historia del Derecho Español, Madrid, 1931