“رمى رجلٌ عصفوراً فأخطأه،
فقال له رجلٌ: أحسنت.
فغضب، وقال: أتهزأ بي؟
قال: لا، ولكن أحسنتَ إلى العصفور إذ لم تصبه.”1
1- الأدب والمحيط:
إن تفاعل الإنسان مع البيئة والمحيط من خلال الإنتاج الأدبي، قديم جداً في الثقافات الإنسانية. ومن أبرز نماذجه في الثقافة العربية، تفاعل الشعراء الصعاليك مع البيئة الصحراوية بمختلف تجلياتها. والمثال الأوضح في هذا الجانب قصيدة “لامية العرب” للشنفرى، التي يُقوّض الشاعر في بعض أبياتها الحد الفاصل بين البشر والحيوان، ويؤثِر الحيوانات البرية (الذئب، والنمر، والضبع) على البشر، ويتخذهم أهلاً له من دون العشيرة وذوي القربى.2 وقد تجلى هذا التفاعل الأدبي مع المحيط والطبيعة بشكل أوضح، في التيار الرومانسي (القرن الثامن عشر)، عندما أُتخِذ الوجدان والطبيعة وسيلةً للهروب من حرفية الواقع واستبداد العقل. وسيشكّل القرن التاسع عشر نقطة تحول مهمة في علاقة البشر بالطبيعة، مع انطلاق الثورة الصناعية في أوروبا الغربية، حيث تم توظيف العلم والتقنية لاستغلال واستنزاف الطبيعة باعتبارها مصدراً غير قابل للنفاذ، فكان ذلك سبباً في إخلال غير مسبوق بالتوازن البيئي، وانطلق منذ تلك اللحظة الحاسمة في تاريخ الأرض، مسلسل إبادة الكائنات والأنواع الطبيعية، إلى أن أصبح الرهان الأساسي للألفية الثالثة، هو المقاومة من أجل بقاء كوكب الأرض.3 انتقل هذا الهم البيئي إلى الأدب، حيث تنبّه في بداية سبعينيات القرن الماضي، المهتمون بالدرس الأدبي إلى علاقة الإنتاج الأدبي بمشكل البيئة، فقدم وليام رويكرت (William Rueckert) عام 1978 مصطلح «النقد البيئي» في مقالة نشرت له بـ Lowa Review تحت عنوان: «الأدب وعلم البيئة: تجربة في النقد البيئي». بعد ذلك بعقد من الزمن (عام 1989)، دعا جلين لوف (Glen A. Love) إلى «نقد أدبي بيئي» في خطابه الترسيمي الرئاسي أمام الجمعية الأمريكية الغربية للأدب، وقد نُشر هذا الخطاب في دورية Western American Littérature. ألهم جلين لوف مجموعة من الباحثين الشباب الذين قابلهم عام 1992، فقاموا بتأسيس جمعية لدراسة الأدب والبيئة،* من أجل تعزيز الأفكار المتبادلة وترقيتها، وكذلك المعلومات المتعلقة بالأدب، والأبحاث البيئية ذات الطبيعة البينية، التي تأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين الكائن البشري والعالم الطبيعي من حوله.4 هذا المستجد في الدرس الأدبي يدعونا إلى التساؤل عن طبيعة النقد البيئي-يسميه آخرون الدراسات الأدبية البيئية -، وعن الجوانب التي يشتغل عليها في الإبداع الأدبي، وعن الخلفيات المعرفية التي يستند عليها.
تُعرِّف شيريل كلوتفيلتي (Cheryll Glotfelty) – من رواد النقد البيئي في الولايات المتحدة الأمريكية- النقد البيئي بقولها: “في تحديد بسيط، النقد البيئي هو دراسة العلاقة القائمة بين الأدب والمحيط المادي. فكما يعالج النقد النسوي اللغة والأدب انطلاقاً من منظور الوعي النوعي، وكما يستحضر النقد الماركسي نوعاً من الوعي المرتبط بوسائل الإنتاج والطبقات الاقتصادية لكي يقرأها في النصوص، فإن النقد البيئي يحمل إلى الدراسات الأدبية، مقاربةً تتمحور حول الأرض.”5 ويقارب النقد البيئي جملة من الموضوعات والمقوّمات في الإبداع الأدبي، من قبيل: صور وتمثّلات العناصر الطبيعية في الأدب. وظيفة الأنواع والعناصر الطبيعية كمقومات بنيوية في السرد، وطبيعة القيم والمعاني التي تحملها في الأعمال الأدبية. مكونات الطبيعة في الاستعارات والتصوير البلاغي عموماً. علاقة الطبيعة في الأدب، بالجنس- من قبيل التساؤل: هل يكتب الرجل عن الطبيعة بشكل مختلف عن المرأة؟- وعلاقتها بالعرق، وبالطبقة، وبالنوع. طرائق انعكاس تفاعل البشر مع الطبيعة في الأدب. علاقة الأدب المعاصر والثقافة الشعبية بالأزمات البيئية الراهنة. علاقة الدراسات الأدبية البيئية ببقية مجالات المعرفة الإنسانية (علم البيئة، والتاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، والتحليل النفسي…). مجمل هذه الموضوعات تستعرضها ش. كلوتفيلتي على شاكلة تساؤلات مركزية تُوَجِّهُ بِهَا بوصلة النقد البيئي. تقول:“كيف تحضر الطبيعة في هذه السونيتة؟ ما هو الدور الذي يلعبه المحيط المادي في حبكة هذه الرواية؟ هل تُلحّ القيم المعبر عنها في هذه المسرحية على الحكمة الإيكولوجية؟ كيف تؤثر استعاراتنا حول الأرض في طريقة معالجتنا لها؟ كيف نميز كتابة الطبيعة كجنس؟ ثم كعرق، وطبقة، ونوع، يمكن أن تحتل مكانها كمقولة نقدية جديدة؟ هل يكتب الرجل عن الطبيعة بشكل مختلف عن المرأة؟ كيف يتأثر الأدب نفسه بعلاقة النوع البشري بالعالم الطبيعي؟ كيف تَغيَّر تصور البرية عبر الزمن؟ بأي طريقة وبأي مفعول تتسرب الأزمات الطبيعية إلى الأدب المعاصر والثقافة الشعبية؟ […] وأي وزن يحتله علم البيئة في الدراسات الأدبية؟ وكيف انفتح ذلك العلم نفسه على الدراسات الأدبية؟ وأي تلاقح ممكن بين الدراسات الأدبية والخطاب البيئي في علاقةٍ ببقية الفروع المعرفية كالتاريخ والفلسفة والتحليل النفسي وفن التاريخ والأخلاق؟”6 أما علاقة النقد البيئي بالحيوان والذي هو الموضوع الرئيس في هذه المقالة، فيعد محور انشغال روي ويليس (Roy Willis ) الذي انصب اهتمامه على دراسة الحيوان والحياة البرية والرعوية بشكل عام كصور بلاغية في عمله “الإنسان والحيوان”.7 علاوة على ستيف بيكر (Steve Baker) الذي اشتغل على صور الحيوان النمطية، في الثقافة الشعبية والمنافسات السياسية والأشرطة الكرتونية، وكيف تُسهم هذه الصور في تفسير العلاقات الاجتماعية والسياسية البشرية.8 يشتغل النقد البيئي أيضاً -محتذياً في ذلك بالنسوية البيئية- على سرديات البرية التي تعمل على نشر وترسيخ التراتب الجنسي، عن طريق التمييز بين الحيوانات البرية –المفترسة في المقدمة- والحيوانات المدجّنة، حيث تربط الأولى بالحرية الذكورية، وتشوّه الثانية باعتبارها أنثى خادمة للتنمر البشري الذكوري.9 أما راندي مالامود (Randy Malamud) فقد قدّم في كتابه “قراءة في حديقة الحيوان” تحليلاً شاملاً لقصص حديقة الحيوان، خصوصاً في الأدب الانجليزي، حين سعى إلى إبراز طرق تشويه حديقة الحيوان لإدراكنا للحيوان، وكيف يظهر تصورنا للحيوان هنا كعرضٍ لسلطة امبريالية أو استعمارية جديدة.10 ويتبين انطلاقاً من الشاهد المذكور آنفاً لشيريل كلوتفيلتي أن النقد البيئي درس بيني، يجمع بين مجالات شتى قد تبدو متباينة أحياناً، كالتحليل الثقافي، والتاريخ، والجغرافيا الثقافية، والتحليل النفسي، والبيولوجيا، والتأمل الفلسفي، خصوصاً ما يرتبط بفلسفة البيئة وأدبيات الحركات البيئية المعاصرة، بدءاً بالاتجاه النفعي (L’utilitarisme) ودفاعه عن حق الحيوان في الكرامة والحرية بداعي إحساسه بالألم واللذة، وتيار الإيكولوجيا العميقة (L’écologie profonde) الذي يدافع عن المحيط الحيوي (Biosphère)، وينافح عن ضرورة إقرار حقوق كل الكائنات والأشياء على قدم المساواة، وذلك من خلال تقويض المركزية الإنسانية، ومزاعم هيمنة الإنسان على بقية الأنواع. والنسوية البيئية (L’écoféminisme) التي تماثل بين انتهاك حقوق المرأة وانتهاك حقوق الطبيعة، وتصر على أن تحرير المرأة رهين بتحرير الطبيعة.*
إذاً كيف تحضر الطبيعة، والحيوان على وجه التحديد، في رحلة “فهد الثلوج”11 للكاتب الفرنسي سيلفان تيسون؟*
2- مسار الرحلة:
تعرّف سيلفان تيسون** على فانسون مونيي (Vincent Munier)، أحد أشهر مصوري الحيوانات البرية في فرنسا، خلال لقاء لهما، كان قد رُتِّب سابقاً لمراقبة حيوان الغرير في إحدى الغابات. بعد هذا اللقاء سيقترح المصور مونيي على س. تيسون أن يرافقه إلى منطقة التِّبِتْ لمراقبة فهد الثلوج، الحيوان المهدد بالانقراض، خلال شتاء 2019. فوافق الكاتب على الرحلة، وهذا هو مسارها.
انتقل الفريق المكوّن من الكاتب، ومصور الحيوانات فانسون مونيي (قائد الفريق)، وصديقته ماري (Marie)، ومساعده ليو (Léo) طالب الفلسفة، من مدينة باريس إلى جمهورية الصين الشعبية. وقد كان الكاتب مُلازماً منذ البداية بهاجس خوفه من إفشال الرحلة، بسبب مشاكله الصحية، نتيجة حادث سابق. سيبلغ الفريق مدينة يوشو (Yushu) بمنطقة التبت، ومنها سينطلق صوب جبال الكونلون (Kunlun) ووادي الثيران التبتية (La vallée des yaks)، لمراقبة الثيران التبتية البرية -التي تعرّضت لإبادة جماعية من طرف السلطات الصينية في مراحل سابقة، لتدعّم بها عملية إطعام الساكنة الهائلة- وأيضاً للبحث عن موقع ملائم لمراقبة فهد الثلوج.
وصل الفريق إلى بحيرة يانيوغول (Le lac Yaniugol) المقدسة غرباً، في سفوح جبال الكونلون. وتسمى أيضاً بحيرة الطاو. يحج إليها البوذيون كل صيف. وهي منطقة شاسعة سَلِمت من مشاريع التهيئة الصينية الضخمة (يسميها المؤلف تدمير الفضاءات الأصلية). اختارت المجموعة قِمَّة تقع على ارتفاع 4800 متر لمراقبة قطيع الثيران. من تلك القمة ظهر للمجموعة سهل تشانغ طانغ (Le Chang Tang) الشاسع، وقد بدا للفريق خالياً من أي أثر للحيوانات، وهو دليل على حجم التطهير الذي تعرضت له المنطقة. ستتوجه المجموعة بعد ذلك، إلى منطقة زادوي (Zadoi)، مستقر الفهود الثلجية. بلغ تيسون ورفاقه حظيرة بمرعى جبلي تُدعى “حظيرة بابّو” (La bergerie de Bapo) عند ضفاف نهر الميكونغ (Mékong). هنا سيقيم الفريق عند عائلة رعاة تبتية، تتكون من رب الأسرة وزوجته وثلاثة أطفال. انقسم بعد ذلك، الفريق إلى مجموعتين: مونيي رفقة صديقته ماري، والكاتب رفقة ليو، وذلك للتخفي ومراقبة مقدم الفهد الموعود. بعد أيامٍ من الانتظار سيظهر الفهد في أحد الأَصْبَاح، وهو يتربص بقطيع ماعزٍ أزرق، ثم اختفى بعدما كشف الماعز أمره، وفشِل هجومه. سيظهر مرة أخرى أمام الفريق قبل حلول المساء.
عثر أعضاء الفريق على كهف في أحد المنحدرات، وقرروا البقاء فيه لمراقبة الفهد الذي سيظهر أمامهم وهو يصطاد ثوراً برياً. سيظل الفهد قرب الجثة، وعلى مرمى بصر الفريق، قبل أن يختفي مرة أخرى، إلا أن الفريق مكث في الكهف، لأنه كان يدرك أن الحيوان سيعود لغنيمته. قبل حلول فجر اليوم الموالي، سيعود الفهد مرة أخرى، إلى جثة الثور. سيظهر الفهد أيضاً، ظهوراً رابعاً وأخيراً، ليختفي بالمرة.
بعدما قضى الفريق عشرة أيام في مرعى الفهد الثلجي. قررت المجموعة التوجه إلى منابع نهر الميكونغ (على ارتفاع 5200 متر)، بطلب من مونيي الذي رغب في أخذ صور لمنابع النهر. وصل الفريق إلى نبعٍ طيني دافئ، انغمر فيه كل من الكاتب ومونيي وليو. وفي اليوم الموالي عاد الفريق في سيارة نقل محلية، إلى مدينة يوشو، ومنها إلى مدينة تشنغدو (Chengdu) بمقاطعة سيتشوان (Sichuan) المحطة النهائية للفريق، قبل الرجوع إلى مدينة باريس.
3- جدل الفني والمعرفي:
“وفقاً لأشد المفكرين تشاؤماً: إذا كان القرن التاسع عشر قد قتل الإله، وقتل القرن العشرون الإنسان، فقد بقي على القرن الواحد والعشرين أن يقتل الطبيعة!“12
ينتمي النص لفن الرحلة. وتُـحرّك أحداثه أربع شخصيات (المؤلف سيلفان تيسون، ومصور الحيوانات فانسون مونيي، وصديقته ماري، ومساعده طالب الفلسفة ليو). وهي شخصيات مسكونة بالهم البيئي المعاصر. نستشف من خلال تقدم العملية السردية، وكأن محفز المؤلِّف على الفعل والحركة، هو الفكرة المتعلقة بدنو النهاية (نهاية الطبيعة) التي أشار إليها جان ماري بيليت عام 1977. فالعالم يتداعى، ولم يتبق إلا القليل من جذورنا التي يجب أن نتصل بها قبل فوات الأوان: “لقد تغيرت الطرائق، وأصبح من اللازم الآن، التحرك بسرعة، وبدون توقف في السافانا العالمية. «إلى المسير، يا إنسان هذه الأرض! تحرّك! فلم يتبق الكثير مما يتوجب رؤيته!»” (فهد الثلوج، ص. 159.). لذلك كان اللقاء بفهد الثلوج، علاوة على تأمل حضوره الجسدي، كلقاء بالمفتقدين من أقرباء المؤلِّف (أمه وحبيبته)،13 وبمثابة العزاء الأخير قبل سقوط كل شيء، وكشكل من المصالحة المتأخرة بين الثقافي والطبيعي. أما ف. مونيي فقد جعل من شغفه بتصوير الحيوانات والطبيعة، وهي في كامل زهوها وألقها، وسيلة للدفاع عنها في وجه انتهاكات البشر التي تُنذر بنهايتها ونهايته، بما أن المصائر متعالقة في هذا الكون حسب التصور الذي يدافع عنه الكاتب. كان من بين انشغالات البطل في هذه الرحلة الروحية، التخلص من المنطق الديكارتي الذي يسكن الإنسان الغربي، والذي يُنظر إليه اليوم، إضافة إلى أفكار فرانسيس بيكون، في جميع الاتجاهات المدافعة عن البيئة باعتباره (أي ديكارت) أب فكرة تفوق البشر على بقية الأنواع في الثقافة الحديثة، ومؤسس نزعة تملّك وانتهاك الطبيعة باعتبارها آخراً مجرداً من كل روح. ورغم ذلك فإن ثلاثة أسابيع في البرية والهواء المنعش، لم تستطع أن تقتل في الكاتب ذلك الأوروبي الديكارتي الذي يفضل تحقيق الأحلام على عذابات الأمل. (ف. الثلوج، ص. 160.) تحضر إلى جانب الشخصيات الفرنسية المذكورة آنفاً، شخصيات محلية تتمثل في الأسرة التبتية التي أقام عندها الفريق في منطقة زادوي، والمتشكلة من الأب والأم وصبي وصبيتين.
لا يمكن الحديث عن فن الرحلة دون الحديث عن آلية الوصف. وما يميز الوصف في هذا العمل هو أنه وصف متفاعل وعاشق في أغلب الأحوال، سواء تعلق الأمر بوصف عناصر الطبيعة أو البشر، كوصف الفهد الثلجي في حركاته وسكناته وطرق صيده. وصفُ الثيران التبتية البرية في قوتها وصمتها وثباتها، وتمثُّلُها كدليل على حضور ما قبل التاريخ في المنطقة. تقودها منذ تلك اللحظة الغابرة نفس الغرائز، وتجري في دمائها نفس الجينات دون خضوع للتدجين أو التهجين. وصفُ تضاريس المكان الساحرة من منحدرات، ومهاوي جبلية مُدثرة بالغيوم، وجليد الأعالي الأبدي. وصف طريق العودة إلى مأوى الأسرة التبتية مساء، وعواء الضوراي الذي يبلغ مسامع الفريق من الأماكن القصية، مؤذناً بانطلاق أعراس الافتراس في البرية. وصف نهر الميكونغ العظيم: تاريخه، وثقافته، وراهنه. وصف الليل التبتي القاسي. وفي وصف البشر، يتأمل المؤلِّف شخصية مونيي، ويصف ثباته، وصبره، وتماهيه مع الطبيعة، وتأهبه الدائم لمفاجأة ما، أو لظهور مباغتٍ للحيوانات. وصفُ أماسي الأسرة التبتية: حركات السبحة في يد الأب، وتمثال بوذا بابتسامته الخالدة، ونشاط الأطفال والأم.
يتميز العمل من ناحية اللغة باستخدام المؤلِّف للعبارة القصيرة والمكثفة، التي تقترب في مواضع كثيرة داخل النص، من العبارة الشعرية 14 المتميزة عند تيسون، إضافة إلى القِصر والكثافة، بحضور الإيقاع الموسيقي، ودقة التصوير، وعمق المعنى، وغرابته أحياناً كما في قول الكاتب: “كان أجمل يوم في حياتي منذ وفاتي.”15 هذه العبارة المفارِقة قد تحتمل معنيين: إما أن المؤلِّف يرى أن زيارته للتبت هي بمثابة إحياء له، بعدما كان ميتاً في حضارة أوروبا، أي أن معانقة الطبيعة بمثابة حياة، يقابلها الموت الذي يجسده الانغماس في الحضارة والمدنية. والمعنى الثاني قد يرتبط بالحادث الخطير الذي تعرّض له المؤلف صيف 2014، بعد سقوطه من علو عشرة أمتار أثناء تسلق واجهة منزل أحد أصدقائه في منطقة الألب الجبلية. وقد عرّضه الحادث لكسور عديدة، ومشاكل صحية دائمة في العمود الفقري، ولعله كان يرى تدهور صحته نتيجة الحادث المذكور، بمثابة موت بَعَثَتْهُ منه الطبيعة التبتية.
يوظف المؤلف علاوة على ما سلف ذكره، تقنية الاسترجاع، حيث يخصص المحور الثالث من الفصل الثالث، وهو المعنون بـ” حُبٌّ في الغابة”، لاسترجاع قصة حب عاشها سابقاً بمعية فتاة كانت تعشق الطبيعة والحيوانات البرية، لكنه لم يشاركها نفس الشغف آنذاك، وافترق عنها، فأصبح منذ ذلك الحين يرى وجهها مجسداً في كل حيوان، بل يؤكد في مواضع عدة من الكتاب أن سفره للتبت، ورغبته في لقاء فهد الثلوج، ما هو في واقع الأمر، إلا تلك الرغبة في اللقاء بالحب الأول، مجسداً في الفهد، وهنا تجب الإشارة إلى أن اسم الفهد يَرِد في الفرنسية مؤنثاً (La panthère)، ويطلق على المذكر والمؤنث في الآن نفسه، وهو ما يجعله مجانساً لهذا الإسقاط.
يعتبر هذا العمل، علاوة على تخضيب السرد بالشعر، نموذجاً للهجنة المعرفية، وعبور تخوم تخصصات معرفية عديدة، كالتاريخ (تاريخ الثيران في العصرين الحجري والإغريقي- تاريخ المقاومة الفلندية للجيش الأحمر- تاريخ الكهوف…)، والإثنوغرافيا (وصف طقوس ومسالك الحج البوذية في منطقة التبت- نظام الأسرة الرعوية في التبت، من حيث الأنشطة، والأدوار، والوظائف…)، والجغرافيا (المسح الخرائطي للمنطقة -تدوين المسافات بين المناطق…) والبيولوجيا (نظرية التطور: الاعتقاد بفكرة انحدار كل الكائنات من أصل واحد. استحضار عمل البيولوجي الأمريكي جورج شالر (George Schaller) في دراسة حيوانات التبت…)، والنقد السياسي (إدانة سياسة السلطات الصينية في منطقة التبت: تدمير الثقافة والطبيعة في المنطقة، من خلال مشاريع التهيئة الضخمة التي تغير الملامح الثقافية والطبيعية للمنطقة، إضافة إلى نقد تساهل الصين، بل وتواطؤها، مع صيد الحيوانات البرية. وإدانة إسهامها الفعلي في إبادة الثيران البرية والحمر الوحشية لإطعام عناصر الجيش والساكنة الهائلة. نقد تطهير سلطات الصين لسهل تشانغ طانغ من الحيوانات، ومقارنته بالتطهير الذي تعرضت له منطقة فوج (Vosges) في فرنسا.)، والنقد الاجتماعي (نقد مجتمع الفرجة والسمنة والخمول، الخاضع للتقنية والإعلام والنظم البنكية، والمعادي للطبيعة والحيوان في فرنسا. نقد نظام التربية في المجتمعات الأوروبية.)، والتأمل الفلسفي (تأمل الحياة من خلال قوانين الطبيعة، مستعيناً بأفكار الإغريق، والفلسفة الطاوية الصينية، وفلسفة البهاغافاد غيتا الهندية. نقد الدين وفكرة الإله الواحد التي يراها مسؤولة أيضاً عن كرنفال الدم والدمار في العالم، واستهجان فكرة الحنين إلى البداية، ومحاولة القبض على المطلق عبر الصلاة والدين. تأمل قسوة الطبيعة من خلال الأخلاق البشرية، وأسباب المعاناة والألم في عالم البرية، وكيف يعيش الحيوان ما وراء الخير والشر انسجاماً مع التصور النيتشوي…)، والتشكيل والنحت (تمثّلات وصور الحياة البرية والفهود في الأعمال التشكيلية والمنحوتة من حقب زمنية متباينة، كما هو الشأن لدى أوجين دولا كروا، وبابتيست كورو، وألكسندر ديفا، وفيرناند خنوف، ورفائيل، وسيرافين دو سيناليس، وجيروم بوش…).
4- جدل الثقافي والطبيعي:
“تأليف خرافاتٍ عن عالم «آخر» غير هذا الذي لدينا أمر لا معنى له البتة.”16
كان الإنسان جزءاً من الطبيعة، فانفصل عنها، وأصبح يناصبها العداء، وسخّر الفكر والعلم والتقنية لإخضاعها واستنزافها وانتهاك حرمتها، معتقداً أنها كيان خالد لا ينفذ. الآن وبعد أن تبيّن أن الوجود البشري مهدد بسبب انتصاره على الطبيعة،* وأن وجود البشر رهين بوجود الطبيعة، وأن الإنسان لم يكن يحارب إلا نفسه، “طبيعة تحارب الطبيعة” كما يردد سارد “الخط الأحمر الرفيع” لتيرينس ماليك (Terrence Malick)، ارتفعت منذ ما يقرب من خمسة عقود، الكثير من الأصوات عبر العالم، محذرة ومنذرة بقرب نهاية الحياة في كوكب الأرض، نتيجة تعسفات البشر على الطبيعة. وعليه فإن العودة إلى الطبيعة أو ما تبقى منها، في هذا العمل الرحلي يكشف هذا الحنين البدئي إلى الوحدة من جهة، ويأتي كنوع من التأبين المسبق لطبيعة تحتضر من جهة ثانية: “لقد انتهينا من الأرض. وقد شرع الكون الآن، في التعرف على البشر. الظل ينتصر. وداعاً أيتها الفهود.” (ف. الثلوج، ص. 167.)
يحاول الكاتب في هذا النص التحرر من الثنائية الضدية التي كرستها الثقافة الغربية (ثقافة/طبيعة)، بالاقتراب من الطبيعة، ومحاولة تفهمها، باعتبارها الأصل الذي ننحدر منه. لذلك يتخيل الكاتب -وهو يشاهد مونيي يُصدر ذلك الصوت الشبيه بعواء الذئب، ثم يرد عليه ذئبٌ بالعواء من أحد الأجراف الجبلية القريبة- حواراً بين مونيي والذئب، يقول فيه مونيي للذئب متأسفاً: “لماذا افترقنا؟”( ف. الثلوج، ص. 37.). يبدو الأمر هنا رومانسياً نوعاً ما، لكنه يشير إلى مسألة وحدة الطبيعة والبشر، والى تناغمٍ حدث بين البشر والحيوان في ماضٍ بعيد. يظهر أن فكرة وحدة الطبيعة والبشر يستمدها المؤلف من حقل البيولوجيا (الأصل الواحد لكل الكائنات في نظرية التطور عند داروين)، لكن الفكرة ترد أيضاً لدى العديد من الفلاسفة ومفكري الحركات البيئية، من أمثال سبينوزا الذي أكد في سياق نقده لفكرة التمركز الإنساني عند ديكارت، على وحدة الوجود، والمصدر الإلهي للطبيعة، وأنها ذات قيمة جوهرية، وأن الإنسان بعيد كل البعد أن يكون مالكها وسيدها، فهو لا يعدو أن يكون مجرد جزء ضئيل منها.17 والأمر نفسه تقريباً نجده عند ميرلوبونتي الذي يؤمن بامتزاج البشر بعالم البرية، ويرفض فكرة هيمنة البشر على بقية الأنواع.18 وحتى فكرة المحيط الحيوي (Biosphère) عند رواد الإيكولوجيا العميقة (أرني نايس (Arne Næss) وماري ميدجلي (Mary Midgley)…)، تقترب من هذا المعنى، والتي ترى أن الإنسان مجرد تفصيل بسيط في المحيط الحيوي، وعلى هذا الأساس تمنح الأولوية للمحيط الحيوي على الإنسان (أسبقية الكل على الجزء)، وترى أن حماية الطبيعة (المحيط الحيوي) واجب أخلاقي يجب أن ينبع من قيمتها الجوهرية، وهو ما يستوجب سن قوانين لحمايتها من التخريب والتدمير.19 هذا الفصل المزمن بين الطبيعة والثقافة، أو بين الطبيعة والإنسان (بمعناه الحديث) يحضر بقوة في عمل س. تيسون، والحيوان الذي يجسد الطبيعة في هذا العمل، الثور التبتي البري، الذي ينحدر من أزمنة ما قبل التاريخ، وقد ظل ثابتاً، لم يتعرض للتهجين. تجري في دمائه نفس الجينات، وتحركه نفس الغرائز منذ ملايين السنين. يقول تيسون، وهو يتأمل قطيع الثيران البرية، على لسان فرد منها: “نحن من الطبيعة. لا نتبدل. ننتمي إلى هنا، وهكذا سنظل إلى الأبد. أنتم ثقافيون، ووديعون، ومتقلّبون، وتتجددون باستمرار، إلى أين تتجهون؟”( ف. الثلوج، ص. 70).
يسعى المؤلِّف أيضاً، إلى ردم الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان، وهو أيضاً نقاش قديم، ومستمر لحد الآن. تعمّق هذا النقاش بشكل كبير مع بيتر سينجر (Peter Singer) الذي يتبني موقف النزعة النفعية الداعية إلى جعل الحيوان موضوعاً للحق، على أساس المنفعة النابع من إحساس الحيوان بالألم واللذة، وهو ما يستدعي في تصوره احترام الحيوان، وحفظ كرامته، وتقديره أخلاقياً.20 لكن الأساسي في موقف بيتر سينجر* هو أنه ينظر إلى الحيوان كمفهوم شامل يتضمن حتى الإنسان.21 ستتطور الفكرة لاحقاً، وستصبح نقطة خلافية بين الاتجاهات البيئية والمدافعين عن حق الحيوان، نظراً لسقوطها فيما سمي بعد ذلك، بـ”الأنسنة” (Anthropomorphism)،* أو الحَيْوَنَة (Theriomorphism)، **وهو مشكل متعلق باللغة والصور التي يُسبغ بها البشر الحيوان، بمعنى أن اللغة الواصفة لسلوك الحيوان، وبما أنها بشرية، فلن تعكس سوى السلوك البشري، ومن ثم لا يمكن التمييز بين الغضب والعدوانية لدى الشامبونزي، أو بين الحنان والتودد والسلوك الأبوي لدى طائر الكركي. كما يرى جيفري ماسون (Jeffery Masson) وسوزان ماكارثي (Susan McCarthy) في كتابهما: “عندما تبكي الفيلة: الحيوات العاطفية للحيوانات”.22 ومن هذا المنطلق يبدو أن الحيوانات لن يكون إدراكها سوى حصيلة لتمثلاتنا ذات الطابع الموسوم بالإمبريالي والمتحيز. والتي قد تكون (التمثلات) مجرد أعراض أخرى للمسافة البعيدة التي تفصلنا عن الحيوان، كما يتصور جون بيرجر (John Berger).23
لم يسلم المؤلِّف في هذا العمل من فخ الأنْسَنَة -ازدهر بشكل كبير في الأعمال الرومانسية- والحَيْونَة، وحتى التأْلِيه، حيث يُجسِّد الفهد في هذا العمل حَبيبات الكاتب السابقات، وخصوصاً حبيبته العاشقة للحيوانات والحياة البرية، إذ منذ افتراقه عنها، واختفائها وهو يرى وجههاً مجسداً في كل حيوان، وما زيارة التّبت واللقاء بفهد الثلوج، إلا تعبير عن رغبة مكبوتة للقاء بالحبيبة المفقودة، كتعويض عن غيابها الأبدي. المؤلِّف وهو يتأمل وجه الفهد، رأى فيه أيضاً، الوجه الصارم لوالدته الراحلة مؤخراً، وكأن روح أمه قد انتقلت إلى جسد الحيوان، في استحضارٍ لفكرة تناسخ الأرواح البوذية. كما يجعل المؤلف -كشكل من الأَنْسَنَة للحيوان- في موضع آخر من النص، المواشي التي اختارت الحظائر والأمن على الحرية، معادلاً للبشر الذين تركوا البرية واختاروا المدينة. ويتجلى إسقاط عالم الحيوان على عالم البشر، بشكل أوضح في المقطع التالي: “لقد خَصّصتُ –يقول تيسون- لكل حيوانٍ مرتبةً في السلّم الاجتماعي للمملكة. كان الفهد هو الوصي على العرش، وغيابه يؤكد وضعه. إنه يسود، وذلك ما يجعل غيابه مبرراً. بينما كانت تضطلع الذئاب بمهمة الأمراء المجرمين، وتشكّل الثيران التبتية برجوازية كبرى، مزهوة في أرديتها الدافئة، أما حيوانات الوشَق فتمثل الفرسان، والثعالب إقطاعيي الإقليم، بينما يجسد الماعز الأزرق والحمير عموم الشعب. وكانت ترمز الطيور الجارحة إلى فئة الكهنة الغامضة، أسياد السماء والأرض.” (ف. الثلوج، ص. 100.)
يُؤلِّه المؤلف الحيوانات البرية، بل يرى أنها الآلهة الوحيدة البادية للعيان، ومن ثم لا يمكن الجدال في أمر وجودها من عدمه. وفي الوقت نفسه يُشبّه قائد الفريق فانسون مونيي وصديقته – وهما يمارسان الحب في البرية في درجة حرارة منخفضة جداً (عشرين درجة تحت الصفر)- بالإلهين اليونانيين الشابين، وبالحيوانين الراقيين، تمييزاً لهما عن حيوانات البرية، ولعل هذا الأمر يكشِف في النهاية استحالة المطابقة بين الإنسان والحيوان في تفكير البشر الذي يحمل تاريخاً طويلاً من التمييز والفصل، وكمّاً هائلاً من الصور النمطية والأحكام المسبقة عن الحيوان والطبيعة عموماً. وبذلك يُطرح السؤال: هل يمكن التخلص من الأنْسَنَة أو الحَيْونَة أو التأليه، وهي جميعاً نتاج التفكير البشري، وبعيدة عن التوصيف الحقيقي لسلوك الحيوان وحقيقته؟ يبدو أن هذا الأمر مستبعد جداً، وأن الحكم على الحيوان والطبيعة عموماً سيتم دائماً من داخل المنطق البشري. أن نجعل من الحيوان إنساناً أو من الإنسان حيواناً، أو أن نسبغه بأخلاق البشر أو بأي تمثيل لغوي أو ثقافي، ستظل جميعها اختزالاً للحيوان وتعسفاً عليه، وإن بدرجات متفاوتة، وهو ما يجعل أمر مساواة الطبيعة بالبشر التي تطالِب بها الحركات البيئية أمراً نسبياً. ما يهم بالنسبة لسيلفان تيسّون، منطلقاً من نيتشه، أن واجب الأدب اليوم هو أن يكون أكثر ارتباطاً بالواقع، وأن لا ينزاح كثيراً عنه، فيشيّد عوالم مفارقة لعالمنا.
لا يركز العمل على الطبيعة والحيوان وحسب، بل تحضر حتى ثقافة المنطقة التي زارها المؤلف ورفاقه. وتفرض نفسها وفق المنطق الذي يدافع عنه المؤلف، أي تناغم الطبيعة مع الثقافات القديمة والفطرية، حيث لم يتعرض الإنسان للتدجين/التمدين بعد. فتحضر المعتقدات وأساليب العيش الرعوية التبتية، وتعاليم الطاو الصينية، والبهاغافاد جيتا الهندوسية المنافحة عن شيم الصبر في البيئة القاسية، وتحمّل الانتظار، والتربّص طيلة الوقت، واحتمال إمكانية الإخفاق. كما تحضر إلى جانب ذلك، فكرة تناسخ الأرواح الطاوية، حيث تسافر أرواح البشر والحيوان في أجساد مؤقتة، لتحل في غيرها بعد نُفوقها. فيعبّر المؤلِّف هنا عن رغبته في إهداء جسده بعد وفاته للضواري كما يفعل المونغوليون. ويؤكد في هذا الجانب على ترابط الفضاءات والمعتقدات السائدة فيها، وكيف يتماهى مع تلك المعتقدات كلّما حل في فضاء مغاير لبيئته الأوروبية، باستثناء تعاليم الإسلام التي ينفّره منها طغيان الطابع الجنائي عليها. (ف. الثلوج، ص. 150.)
ومن هذه المنطلقات يهاجم الكاتب بشكل واضح، السلطات الصينية، ويراها مسؤولة عن تدمير البيئة التبتية، وتغيير ملامح المنطقة وثقافتها، وهذا يعني أنه يتعاطف مع التقاليد وأساليب العيش الرعوية، ويدين التحديث الذي تعرفه المنطقة. هذا المنطق شائع لدى كُتّاب رحلات ما بعد الاستعمار. منطق الحنين الرومانسي إلى الآخر الأصلي والفطري الآخذ في الاختفاء تحت ضربات التحديث، وهي رغبة في أن “يظل الآخر آخراً.”24ومن تجليات هذه الأولوية التي يأخذها التقليد على حساب التحديث في هذا العمل، اختيار المؤلف وزملائه للمبيت في الخلاء أو في المعابد النائية، وتحاشي المدن. كراهية الكاتب وف. مونيي لمدينة تشينغدو، وحزن مونيي على انقراض ثقافة الرحل. (ف. الثلوج، ص. 31.) فالعالم القديم، في تصور تيسون، كان منظماً وكافياً، خلافاً لمدنيّة اليوم، مدنية القلق والتدفق الدائم للمستجدات، ومدنية الشاشات التي لا تتوقف… هذا التفضيل للماضي على الحاضر هو ما يفحصه لوك فيري في دراسته للاتجاهات البيئية المعاصرة، حيث يرى أن من بين القواسم المشتركة لهذه الاتجاهات (النفعية، والإيكولوجيا النازية، والإيكولوجيا العميقة، ثم الإيكولوجيا النسوية.) هو هذا الحنين الرومانسي إلى ماضٍ سعيد أو عصر ذهبي، وإيثاره على الحاضر، وهو مدخل لتفضيل البدائي والتقليدي، على الشرط الحديث، ومن هنا تأتي دعاوى الدفاع عن فكرة الأقليات، والتنوع الثقافي -على غرار فكرة التنوع البيولوجي-، والاختلاف التي يراها الفيلسوف دعوة للانغلاق الثقافي، وللعودة إلى زمن القبائل والأعراق والطوائف، وهي جميعاً مدخل لتفتيت الدولة الوطنية (دولة الديموقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة). القاسم الثاني هو عداؤها للإنسان –الذي تشكّل في فكر الأنوار- حيث ترى هذه الحركات البيئية أن حماية الطبيعة وإقرار حقوقها، يمر بالضرورة عبر تقويض التمركز الإنساني (Anthropocentrisme)، حتى يصبح البشر مساوياً للأنهار والصخور والحيوان (الإيكولوجيا العميقة). وهو ما جعله يقترح فكرة “الإيكولوجيا الديمقراطية” المعتدلة والمتسامحة مع الإنسان، والمنبثقة من مؤسسات دولة المواطنة وحقوق الإنسان.25
ويبرز بعضٌ مما ذكره لـ. فيري في عمل سيلفان تيسون، فشخصية مونيي بالنسبة له تفضل الحيوان على عالم البشر، لأن البشر كائنات شقية، ومشتتة، وغير مستقرة، وأسياد هشة ومعذبة، وسبب ذلك مزية العقل التي تميزها عن بقية الكائنات. لذلك يفضل مونيي الحيوانات على الإنسان، ويستهجن فكرة التفوق البشري على بقية الأنواع، ويدين اقتلاعهم لكل ما يتصل بهم (ف. الثلوج، ص. 87.). وهو ما جعل مونيي وماري يكرسان حياتهما لمباركة وتقديس عالم الحيوان المنظم، بعيداً عن عالم البشر الفوضوي (ف. الثلوج، ص. 52.). وسبب تميز الحيوان على الإنسان حسب الكاتب، يرجع إلى كون الحيوان يستوفي نصيبه من الحياة والموت والجمال، دون أن يتجاوز الحد الذي رسمته له الطبيعة، خلافاً للبشر الذين اخترعوا الأخلاق لتسويغ تجاوز الحدود، وإفساد الحياة بخرق قواعدها (ف. الثلوج، ص. 31.). وهو سبب كافٍ لإدانة سلوك البشر المسؤولين عن تدمير عالمٍ كان بمثابة مخزن أحجار نفيسة، والقضاء بسرعة فائقة على الحيوانات. لقد صفّى البشر حسابهم بسرعة مع الأرض، وقد حان دور بقية الكون. لذلك استحق الساسة، ورجال الدين، والعلم، والتقنية، والثورجيون، والصيادون، وحتى الحالمون، علاوة على عوامل الانفجار الديموغرافي، وثقافة الاستهلاك، وأوهام الألفية الثالثة، وهذا التوسل للمستقبل ونسيان الماضي… الإدانة والشجب في هذا العمل لأنها مسؤولة جميعها في تصور المؤلِّف، عن تدمير الحياة.
يبقى الأكثر أهمية في هذا العمل هو أنه يدفع بالأدب إلى خوض غمار النقاش الأهم في الألفية الثالثة- رغم أن الكثير لا يزال ينظر إلى هذا الموضوع كمجرد ترفٍ فكري- بما أنه يتعلق بمصير الإنسان المرتبط بمصير الطبيعة وبقية الكائنات، وخصوصاً مستقبل الأجيال القادمة، وحقها في محيط آمن. ليس للأدب في هذا الاتجاه، هدف وحيد هو التحليق خارج الواقع، وتشكيل عوالم مفارقة لعالمنا، بل من واجبه كمعرفة إنسانية أن ينخرط في قضايا وهموم البشر وتطلعاتهم، وأن يدافع عن مصلحتهم المرتبطة بمصلحة محيطهم وبقية الأنواع، في وجه الجشع واستبداد الرأسمال الذي استباح كل شيء. والوقوف أيضاً في وجه من يزدرون الأدب، وينظرون إليه كمعرفة من الدرجة الثانية، ويعتقدون بلا جدواه في التعاطي مع قضايا الإنسان المركزية.*
5- خاتمة:
في ختام هذا المقال نتساءل: بما أن أزمة الطبيعة والبيئة هم كوني، فهل يستبطن الأدب العربي أي نوعٍ من الوعي بالإشكال البيئي الراهن؟ الجواب القطعي هنا شبه مستحيل طبعاً، لكن ما يمكن تأكيده في هذا المقام، هو أن الروائي السعودي عبد الرحمن منيف كان من الأوائل الذين فطنوا إلى أزمة البيئة في أعماله الروائية، **وعبّر عن ذلك بنفس الوعي الراهن الذي يُطرح اليوم في الدراسات الأدبية البيئية، ألا وهو الوعي بترابط مصيري الإنسان والطبيعة. فنهاية الطبيعة عند الرحمن منيف تعادل نهاية الإنسان. وهذا واضح جداً في روايتي: “الأشجار واغتيال مرزوق” (1973)، و”رواية النهايات” (1978).
هوامش:
1– أبو الفرج بن الجوزي، أخبار الأذكياء، بعناية بسام عبد الوهاب الجابي، دار ابن حزم، بيروت، 2003، ص. 202.
2 – ولي دُونَكُم أهلونَ: سيِّدٌ عَمَلَّسٌ … وأَرقطُ ذهلولٌ وعرفاءُ جَيْأَلُ -السيِّد إبراهيم الرضوي، شرح لامية العرب، شرح وتحقيق وتعليق: أسماء محمد حسن هيتو، دار الفارابي، 2009، ص. 78.
3- جيليكا توشيتش، النقد البيئي «دراسة بينية في الأدب العربي»، ترجمة: سناء عبد العزيز، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد (26/2)، العدد: 102، شتاء 2018، ص. 328-335.
*- “جمعية دراسة الأدب والبيئة”(ASLE). هي جمعية رائدة في “دراسات الأدب البيئي”، وما يسمى أيضاً بـ”النقد البيئي” (Ecocriticism)، تضم آلاف الأعضاء، ولها فروع في كثير من دول العالم. لها أيضاً موقع إلكتروني متميز في الشبكة العنكبوتية (https://www.asle.org/).
4- لويس ويسلنج، الأدب والبيئة ومسألة ما بعد الإنسان، ترجمة: عبد الرحمن طعمة، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد (26/2)، العدد: 102، شتاء 2018، ص. 366-386.
5-Cheryll Glotfelty, Literary Studies in an Age of Environmental Crisis. In: The Ecocriticism Reader, Landmarks in Literary Ecology, Edited by Cheryll Glotfelty and Hraold Fromm, The University of Georgia Press, Georgia, 1996, p. 18.
6- Ibid., p. 19.
7- Roy Willis : Man and beast, 1974. In : Greg Garrard, Ecocriticism, Routledge, London and New York, 2004, p. 140.
8- Steve Baker, Picturing the Beast : Animals, Identity and Representation, 1993. In :Greg Garrard, Ibid., p. 140-141.
9- Barney Nelson, The Wild and the Domestic: Animal Representation, Ecocriticism, and Western American Literature, 2000. In : Greg Garrard, Ibid., p. 150.
10- Randy Malamud, Reading Zoos: Representations of Animals and Captivity, 1998. In : Greg Garrard, Ibid., p. 150.
*- هذه الاتجاهات الثلاثة، يتهمها الفيلسوف الفرنسي لوك فيري، بمعادة الإنسان، ودولة المواطنة وحقوق الإنسان، النموذج الذي تجسده الجمهورية الفرنسية. وأن هذه الاتجاهات مزيج من التوجهات السياسية والإيديولجية المتباينة، فهي تجمع بين نوع من الحنين الرومانسي إلى الماضي والتقليد (خصوصاً التقاليد البيئية لهنود أمريكا)، ويوتوبيا متطرفة، متطلعة لـ”غدٍ مشرق”، تمزج بين مبادئ اليسار المتطرف، واليمين المتطرف، حتى إن الفيلسوف يقترب من حد المماثلة بين “الإيكولوجيا العميقة” و”الإيكولوجيا النازية” مثلاً. ويقترح كبديل لذلك، ما يسميه بـ “الإيكولوجيا الديموقراطية”، المنسجمة مع مبادئ دولة الديموقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان. ويؤيده في جانب من هذا التوجه جان ماري بيليت. ينظر:
– Luc Ferry, Le nouvel ordre écologique : l’arbre, l’animal et l’homme, Editions Grasset et Fasquelle, 1992.
– جان ماري بيليت، عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة، ترجمة السيد محمد عثمان، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للآداب والفنون والآداب-الكويت، العدد 189، 1994، ص. 33.
11 – Sylvain Tesson, La panthère des neiges, Paris, Edition Gallimard, 2019.
*– حصل هذا العمل على جائزة رونودو (Le prix Renaudot) لسنة 2019.
**– سيلفان تيسون (Sylvain Tesson) كاتب فرنسي. ولد سنة 1972 بمدينة باريس. كاتب ذو مواهب متعددة، تتقدمها كتابة الرحلات، والقصص، والأعمال النقدية… تخصصه الأصلي هو الجغرافيا. قام تيسون في سن مبكرة برحلات عديدة عبر العالم، وبعثات في ظروف قاسية (كعبور قاراتٍ إما راجلاً أو على متن دراجة)، عاد منها بدفاتر ملاحظات كانت أرضية لأعمال إما إبداعية أو نقدية أو لأفلام وثائقية أو سينمائية. تعرّض سنة 2014 لحادث سقوط من واجهة أحد المنازل في منطقة الألب، وهو ما تسبب له في أضرار جسدية دائمة. حصل على جوائز عديدة، من أهمها: جائزة غونكور سنة 2009، عن مجموعته القصصية “حياة للمبيت في العراء”، وجائزة رونودو سنة 2019 عن رحلة “فهد الثلوج”.
12 – جان ماري بيليت، عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة، مرجع مذكور، ص. 33.
13 – “لقد قدِمْتُ من أجل فهد الثلوج. وقد كان هنا، يغفو على بعد عشرة أمتار أمامي. فتاة الغابة التي أحببتها في أوقاتٍ كنتُ فيها شخصاً آخر، قبل سقوطي من سقفٍ لم يجهز علي سنة 2014، كانَتْ لتلاحظ تفاصيل لم أَرَها، ولتَشْرَح لي أفكار الفهد. لأجلها كنت أشاهد الحيوان بكل قواي. إن الحدّة التي نُرغِم بها أنفسنا على الاستمتاع بالأشياء، لَـهِي صلاةٌ موجهة إلى الغائبين. كانت لتُحِبَّ التواجد هنا. فمن أجلهم نشاهد الفهد. هذا الحيوان، الحلم العابر، كان طوطم الكائنات الغائبة. أمي الراحلة، والفتاة المختفية: كل ظهورٍ يعيدهن إلي.” Sylvain Tesson, op.cit., p. 140.
14- نورد للتدليل على ذلك، العبارات التالية:
– « Tout passe, tout coule, tout s’écoule.» (p. 45.)/ -« La vie se rassemblait : naitre, courir, mourir, pourrir, revenir, dans le jeu sous une autre forme. » (p. 46.)/ – « Leur monde avait ses bordures, la nuit ses froidures, l’été ses douceurs, l’hiver ses souffrances. » (p. 122.) / – « Tout meurt, tout renait, tout revient pour périr, tout se nourrit de soi. » (p. 158.).
15- « C’était le plus beau jour de ma vie depuis que j’étais mort. » (p. 108.)
16- فريدريش نيتشه، غسق الأوثان أو كيف نتعاطى الفلسفة قرعاً بالمطرقة، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت-بغداد، 2010، ص. 42.
17 – Luc Ferry, Le nouvel ordre écologique : l’arbre, l’animal et l’homme, op. cit., p. 121.
*– نشرت مجلة “علم وحياة” (Science et Vie) ، مقالاً -استناداً إلى دراسة أمريكية- تؤكد فيه تراجع خصوبة الرجل الغربي في الفترة الممتدة بين سنتي 1973 و 2011، بنسبة % 52,4، أي تراجعٌ بأكثر من النصف، وهو أمر يهدد الوجود البشري مستقبلاً، إذا ما استمر تراجع إنتاج الحيوانات المنوية لدى الرجال بهذه الوتيرة، في العالم برمته. وترى الدراسة أن من بين أسباب هذا التراجع المقلق، لخصوبة الرجال، هو تسمم الأغذية بالمواد الكيميائية. ومن هنا يتضح أن الاعتداء على الطبيعة، لا يمكن أن يكون بدون تبعات وأضرار فادحة، قد تصل إلى حد تهديد الوجود البشري.
Kheira Bettayeb, Spermatozoïdes: leur baisse menace-t-elle notre espèce? (https://www.science-et-vie.com/questions-reponses/spermatozoides-leur-baisse-menace-t-elle-notre-espece-53354)
18- لويس ويسلنج، الأدب والبيئة ومسألة ما بعد الإنسان، مرجع مذكور، ص. 366-386.
19 – Luc Ferry, Le nouvel ordre écologique : l’arbre, l’animal et l’homme, op.cit., p. 107-147.
20 – Greg Garrard, Ecocriticism, op.cit., p. 137.
*– يرى لوك فيري أن بيتر سينجر يحاول في دعواه لتحرير الحيوان، القطع مع التراث الأنواري الإنساني (روسو وكانط تحديداً)، من خلال استبعاد فكرة الحرية كخاصية إنسانية، والنظر إلى الحيوان ككائن أعلى من البشر أحياناً. -Luc Ferry, op.cit, p. 78.
21 – Luc Ferry, Le nouvel ordre écologique, Ibid., p. 74.
*– إضفاء أنماط السلوك البشري أو صفاته على الآلهة، أو الحيوانات، أو الأشياء، أو الظواهر…
**– إضفاء السلوك الحيواني أو صفاته على الإنسان. من أمثلة ذلك عبارة « عنيد كبغل.» التي تتردد كثيراً في رواية “الأخوة كارامازوف” لدوستويفكي.
22 – Jeffery Masson and Susan McCarthy,When Elephants Weep: The Emotional Lives of Animals, 1996. In: Greg Garrard, op.cit., p. 138.
23- Greg Garrard, Ibid., p. 138.
24 – جو موران، العلم والمكان والطبيعة «في النقد البيئي»، ترجمة: سمر طلبة، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد (26/2)، العدد: 102، شتاء 2018، ص. 366-386.
25 – ينظر: -Luc Ferry, op.cit.
* – يُسفِّه لوك فيري كتاب “العقد الطبيعي” لمواطنه ميشيل سير، بإخراجه من دائرة الفكر، وإدخاله لدائرة الأدب، حين يرى أن فكرة حقوق الطبيعة في هذا العمل ما هي إلا استعارة أدبية. ومادام الكتاب عملاً أدبياً، وفق هذا التصور، فإنه يفقد كل قيمة وكل حُجية. ينظر: -Luc Ferry, Ibid, p.197.
** – انتبهت لهذا الأمر الباحثة الأمريكية في الأدب المقارن كلير براندابور، سنة 2010، في مقال مقارن، يتقصى البعد البيئي لدى كلٍ من عبد الرحمن منيف والروائي التركي يشار كمال. ينظر:
Clare Bradabur, Ecological Dimension in the Work of Yaşar Kemal and Abdulrahman Munif. In :
مجلة ثقافات، كلية الآداب، جامعة البحرين، العدد 23، المنامة، البحرين، 2010، ص. 173- 188.