السبت , 8 فبراير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » الطبقة الوسطى المعولمة ونهاية السياسة

الطبقة الوسطى المعولمة ونهاية السياسة

 Searching for a Different Future: The Rise of a Global Middle Class in ‎Morocco, Duke University Press, 2004.‎ ‏ ‏

توقف النقاش الأكاديمي عن الطبقات في المغرب منذ الثمانينات فجأة، بعد أن كان يشكل طيلة عقدي ‏الستينات والسبعينات الموضوع الرئيسي للتحاليل السياسية وللصراعات الإيديولوجية التي بررت بها التيارات ‏الفكرية خلافاتها بل وحروبها الفكرية وانشقاقاتها. وبالرغم من ذلك، فإن الحديث عن الطبقات يبرز بين الفينة ‏والأخرى، فهو يهم الطبقات المهمشة عند الحديث عن الإرهاب، أو يهم الطبقة الوسطى في تقرير التنمية البشرية ‏أو بعض الكتابات الناذرة لليسار الجذري. لكن الصورة العامة هي أن مصطلحات الطبقات والصراع الطبقي ‏اختفت من القاموس السياسي المتداول.‏

تأتي العودة لهذا الموضوع الذي طواه مفكرونا في المغرب من جامعة بوركلي، وهي جامعة أمريكية ذات ماضي ‏طويل في السوسيولوجيا السياسية، حيث ناقشت شينا كوهين Shana COHEN رسالة الدكتوراه، و هي ثمرة بحث ميداني مطول ‏أجرته في المغرب من 1996 إلى 1998، ثم نشرته بعد ذلك في دار جامعة ديوك للنشر سنة 2004 بعنوان”البحث ‏عن مستقبل مختلف: صعود الطبقة الوسطى المعولمة في المغرب.”‏

تنطلق كوهين في أطروحتها من أن التشكيلة الطبقية المغربية عرفت تحولا نوعيا منذ الشروع في تطبيق الليبرالية الاقتصادية في ‏المغرب في بداية الثمانينات التي أدت إلى تراجع الطبقة الوسطى التي تتشكل من “البنكيين، المدرسين، ‏البيروقراطيين والمناضلين السياسييين،” والتي تسميها كوهين الطبقة الوسطى الحديثة، والتي تتميز عن الطبقة الجديدة ‏التي تسميها كوهين الطبقة الوسطى المعولمة.

تتشكل هذه الطبقة الوسطى المعولمة، موضوع أطروحة كوهين ‏من المشتغلين في القطاعات المرتبطة بالاقتصاد المعولم وهم ‎ المستشارون والمسيرون الذين يقودون عملية ‏الاندماج، ومهنيو وإداريو قطاع الخدمات، والعاطلون، ثم الكتاب والمسيرون الذين يشتغلون بصفة مؤقتة وفي ‏مناصب غير مضمونة. كما تنقسم هذه الطبقة الوسطى إلى موظفي القطاع العام والعاطلين، والذين يشكلون ‏ضحايا الاندماج الاقتصادي، وإلى المقاولين والمسيرين، الذين ينتظرون الفرص التي يخلقها الاستثمار الأجنبي ‏والتجارة الدولية.‏وهي طبقة لا تربطها علاقة تذكر لا بالاقتصاد الوطني ولا بالدولة.

تعتبر كوهين أن هذه الطبقة المعولمة ‏هي التي تمثل الطبقة الأقوى اليوم، بل والمؤهلة إلى أن تزداد توسعا مع ترسخ اندماج الاقتصاد المغربي ‏في الاقتصاد العالمي. ‏ من الناحية السياسية، وهو الجانب الذي يشكل المساهمة الأهم في أطروحة كوهين، فإن الطبقة الوسطى المعولمة، ‏تمثل انتقالا سياسيا نوعيا في المغرب، من السلوك السياسي الذي كان يميز الطبقة الوسطى الحديثة والتي كانت مرتبطة بالمشاريع ‏الوطنية للدولة وبالنضال السياسي الجماعي من أجل ضمان الارتقاء الاجتماعي، إلى فئة تتكون من مجموعة من ‏الأفراد المنعزلين الذين لا تربطهم روابط التضامن الجماعي، بل ويسعون إلى تحقيق الارتقاء الاجتماعي معتمدين ‏على ذواتهم الفردية، الخالية من كل مشروع وطني، أو مجتمعي أو جماعي. و يتحقق هذا الارتقاء من خلال ‏السعي لضمان القدرة على الاستهلاك، ويتم في ظل افتقاد أي إحساس بالأمان في غياب الشغل المضمون، بل ‏وفي ظل الخوف من التقلبات المرتقبة باستمرار. ‏ وعوض الوعي الطبقي أو الوطني، فإن هذه الطبقة الوسطى المعولمة تتميز بفقدان التعلق بالنموذج المتمثل في ‏القدرة الإنسانية الخلاقة التي تتحقق من خلال التنمية الوطنية. وهو ما يؤدي إلى سقوط الرموز النموذجية ‏المرتبطة بالدولة وإيديولوجيات التنمية والتي تتراجع مع تنامي الاندماج الاقتصادي. وعوض المشاركة ‏والنضال من أجل الدفاع عن المصالح الطبقية المشتركة عبر وسائل الفعل السياسي، يبرز الفرد المستقل عن ‏المشاريع الجماعية، الفرد المستقل عن مجتمعه ودولته، الفرد الميلونكولي اللا-متسيس.‏

كان النقاش حول الطبقة الوسطى الحديثة في المغرب يركز على تقلص هذه الطبقة، وعلى فشل النظام السياسي في ‏توسيعها أو عدم رغبته أصلا في توسيعها بسبب تخوفه من التوجهات المعادية للمحافظة لدى هذه الطبقة. ‏لكن كوهين تغير النقاش حول هذا الموضوع، إذ أن الآفاق السوسيولوجية لتوسع هذه الطبقة غير ممكنة في ظل ‏الاندماج الاقتصادي، هذا الاندماج الذي لا يسمح بتوسع هذه الطبقة، بل يولد طبقة وسطى أخرى تختلف ‏نوعيا عنها، وهي الطبقة الوسطى المعولمة.‏

‏ إن الطبقة الوسطى الحديثة، تقول كوهين، أصبحت اليوم متجاوزة. متجاوزة من الناحية السوسيولوجية لأنها ‏مرتبطة بالدولة التي يتراجع دورها يوما عن يوم، ومتجاوزة سياسيا لأن الإيديولوجيا التي كانت تشكل مرتكز ‏مشاريعها السياسية، والتي تعتمد على تفعيل دور الدولة في التصنيع والتشغيل وحماية الاقتصاد الوطني، لم يبق ‏لها معنى. وتعوضها الآن هذه الطبقة الوسطى المعولمة التي ترتبط بالاقتصاد العالمي الذي لا يعترف بحدود الدولة ‏الوطنية، بل والذي لا تهمه هذه الدولة أصلا، والتي لا تعتبرها الطبقة المعولمة إلا مجالا مؤقتا قابلا للتغير في أي ‏وقت عن طريق الهجرة.

بكل تأكيد فإن هذه الطبقة هي شريحة اجتماعية جديدة كل الجدة على المجتمع المغربي وهي تعكس تطورا ‏يختلف عما كانت تتوقعه الدراسات عن التطور الطبقي للمغرب، والذي كان يعلق آمال التنمية والتغيير ‏السياسي الجذري والديموقراطية على التوسع المتواصل للطبقة الوسطى الحديثة، هذه الطبقة الوسطى التي تعلن كوهين ‏عن نهايتها. كل ذلك مؤهل لأن يرسخ العزوف عن النضال من أجل تغيير خيارات ومؤسسات الدولة، أي ‏يقود المجتمع نحو اللا-تسيس. وإذا ما أُخذت الأطروحة مأخذ الجد، فإن مستقبل السياسة في المغرب سائر في ‏اتجاه مختلف كل الاختلاف عما هو متداول في النقاش السياسي المغربي اليوم. ‏ ‏ سيكون من المفيد ولا شك بالنسبة للفاعلين السياسيين من رجالات الدولة ومناضلي الأحزاب والمجتمع المدني ‏التفكير في مدى تأثير سيناريو كوهين على مشاريعهم وتصوراتهم عن المستقبل. الأمر كذلك بالنسبة للمشتغلين ‏في حقل السوسيولوجيا السياسية، كما سيكون عليهم المطالبة حسب كوهين، بإعادة النظر جذريا في تتبع تطور التشكيلات ‏الطبقية وتحول سلوكها السياسي. لكن مع كامل الأسف، لا تُوظف ثمار المجهود الفكري الذي ينتجه ‏الباحثون الأكاديميون، خاصة الأجانب منهم بالرغم من غزارة إنتاجاتهم، لقراءة نقدية، وهي ضرورية ‏باستمرار في أدواة عمل‎ ‎الفاعلين وفي مناهج البحث والتنظير لدى الجامعيين.‏

ولا شك أن المخلفات السوسيولوجية لعولمة الاقتصاد على مستوى كل دولة على حدة، بما فيها المغرب، لا ‏زالت في حاجة إلى دراسة، كما أن التحولات السياسية المرتبطة بهذه الوضعية السوسيولوجية المعولمة لم تفرز ‏إلا بداية لنقاش نظري معمق. وأطروحة كوهين، تدفعنا في المغرب دفعا إلى الدخول في غمار هذا النقاش الجديد. لكن ‏هذا لا يمنع من كون أن ما تطرحه كوهين من أفكار لا يزال في حاجة إلى المزيد من التوضيح ‏والتدقيق من جهة ، بل وإلى الاحتراس من جهة أخرى، مما يجعله يبدو كتسرع في التحليل والاستنتاج. ‏ فالطبقة الوسطى المعولمة التي تركز كوهين على ما يجمعها من خصائص على المستويات السوسيولوجية ‏والسياسية والنفسية، تبدو من زاوية أخرى خليطا غير منسجم تماما من شرائح اجتماعية مختلفة تتراوح بين رجال ‏الأعمال والإداريين والعمال والعاطلين. فعلا إن ارتباطهم بالاقتصاد العالمي يشكل عاملا موحدا بينهم، لكنه ‏عامل على قدر غير محدد من الشساعة والتنوع بل والتناقض. إن الاقتصاد المعولم بالنسبة لرجل الأعمال في ‏قطاع النسيج مثلا ليس منسجما بالشكل الكافي ليخلق هوية سوسيولوجية مشتركة مع الموظف في قطاع ‏مراكز المكالمات عن بعد، أو مع العامل في مناطق التجارة الحرة أو مع العاطل صاحب ‏الدكتوراه العائد من الخارج، أو الفقير الأمي الباحث عن فرص الهجرة السرية. هذا ليس موقف رفض مبدئي ‏لمصطلح كوهين بقدر ما هو دعوة إلى التدقيق في التنوع الحاصل داخل هذه الطبقة، أو لعلها الشرائح المعولمة، ‏والبحث في مدى كون هذا التنوع قادر مع ذلك على أن يشكل قاعدة لبلورة هوية سوسيولوجية وسياسية ‏صالحة كأداة لفهم التحول الذي يشهده المجتمع المغربي، على غرار بقية المجتمعات السائرة بقوة في طريق ‏العولمة. ‏ تتحدث كوهين في إطار أطروحتها بقناعة عن نهاية الطبقة الوسطى الحديثة، والتي أصبحت تقليدية الآن. كما أن ما ‏تقدمه كوهين من أمثلة متعلقة بتقلص دور الدولة على المستوى الاقتصادي، والتنامي الحثيث للاندماج في ‏الاقتصاد العالمي، وتراجع أهمية حدود الدولة الوطنية على المستويات الاقتصادية و السوسيولوجية والسياسية، ‏تشكل كلها تهديدا فعليا لمصادر قوة هذه الطبقة الوسطى. لكن كل ذلك يدعو إلى الانتباه إلى طرق مقاومة ‏هذه الطبقة للدفاع عن مصالحها، وقدرتها على توظيف السياسة والإيديولوجيا والاقتصاد في مواجهة ما تشكله ‏العولمة من أخطار عليها، بل وتوظيف العولمة كمصدر لحماية مصادر قوة هذه الطبقة التي تعتبرها كوهين ‏متجاوزة. ويدخل في هذا الباب مثلا الوسائل التي يلجأ إليها لمقاومة العولمة كل من موظفي الإدارات ‏العمومية، وشرائح القطاع الخاص المرتبطين بالاقتصاد الوطني، وطلبة التعليم العمومي.

إن استمرار الحياة ‏السياسية المتمثلة فيما تطرحه الدولة والأحزاب من أفكار وتصورات، وتزايد أشكال الاحتجاج والمعارضة، ‏واستمرار التركيز على الأهمية المركزية للدولة الوطنية، ولدورها في تدبير الشأن السياسي، هي كلها نماذج لا ‏تؤكد أطروحة كوهين القائلة بنهاية الدولة الوطنية ونهاية الطبقة الوسطى بل ونهاية السياسة. بل إنها قد تكون ‏إشارات إلى تحول مختلف كل الاختلاف مع أطروحة كوهين. ومع ذلك، فإن أهمية أطروحة كوهين هي أنها ‏حتى بالنسبة للقضايا التي تطرحها بشكل يبدو متسرعا، تفتح آفاق التفكير في المغرب من زوايا غير مسبوقة: ‏السياسة المغربية اليوم هل هي بداية لولوج مرحلة السياسة التعددية الحديثة؟ أم بداية العد العكسي للسياسة الوطنية ‏وللعولمة اللا-متسيسة؟ ‏ تفضي أطروحة كوهين عمليا إلى نهاية السياسة مقابل بروز الفرد المجرد عن محيطه الوطني والمنعزل في العالم ‏المعولم. ومن خلال هذا المنظور فإن ما تشهده السياسة المغربية من مظاهر قوة الإيديولوجية السياسية الدينية، ‏وبروز الهويات الإثنية، ومظاهر الاحتجاج الواسع عن طريق مظاهرات بمناسبات أحداث سياسية دولية ‏كفلسطين والعراق، وهي كلها سلوكات سياسية تزعمتها الطبقة الوسطى الحديثة، لن تكون حسب كوهن ‏إلا الزفرات النهائية لطبقة تحتضر سوسيولوجيا وسياسيا. فهل الأمر كذلك؟ هذا سؤال تجيب عنه كوهين بالإيجاب بشكل يبدو متسرعا، ولكنه يبقى مع ذلك مغر للمزيد من البحث.‏

- عبد الحي مودن

باحث في العلوم السياسية

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.