توقف النقاش الأكاديمي عن الطبقات في المغرب منذ الثمانينات فجأة، بعد أن كان يشكل طيلة عقدي الستينات والسبعينات الموضوع الرئيسي للتحاليل السياسية وللصراعات الإيديولوجية التي بررت بها التيارات الفكرية خلافاتها بل وحروبها الفكرية وانشقاقاتها. وبالرغم من ذلك، فإن الحديث عن الطبقات يبرز بين الفينة والأخرى، فهو يهم الطبقات المهمشة عند الحديث عن الإرهاب، أو يهم الطبقة الوسطى في تقرير التنمية البشرية أو بعض الكتابات الناذرة لليسار الجذري. لكن الصورة العامة هي أن مصطلحات الطبقات والصراع الطبقي اختفت من القاموس السياسي المتداول.
تأتي العودة لهذا الموضوع الذي طواه مفكرونا في المغرب من جامعة بوركلي، وهي جامعة أمريكية ذات ماضي طويل في السوسيولوجيا السياسية، حيث ناقشت شينا كوهين Shana COHEN رسالة الدكتوراه، و هي ثمرة بحث ميداني مطول أجرته في المغرب من 1996 إلى 1998، ثم نشرته بعد ذلك في دار جامعة ديوك للنشر سنة 2004 بعنوان”البحث عن مستقبل مختلف: صعود الطبقة الوسطى المعولمة في المغرب.”
تنطلق كوهين في أطروحتها من أن التشكيلة الطبقية المغربية عرفت تحولا نوعيا منذ الشروع في تطبيق الليبرالية الاقتصادية في المغرب في بداية الثمانينات التي أدت إلى تراجع الطبقة الوسطى التي تتشكل من “البنكيين، المدرسين، البيروقراطيين والمناضلين السياسييين،” والتي تسميها كوهين الطبقة الوسطى الحديثة، والتي تتميز عن الطبقة الجديدة التي تسميها كوهين الطبقة الوسطى المعولمة.
تتشكل هذه الطبقة الوسطى المعولمة، موضوع أطروحة كوهين من المشتغلين في القطاعات المرتبطة بالاقتصاد المعولم وهم المستشارون والمسيرون الذين يقودون عملية الاندماج، ومهنيو وإداريو قطاع الخدمات، والعاطلون، ثم الكتاب والمسيرون الذين يشتغلون بصفة مؤقتة وفي مناصب غير مضمونة. كما تنقسم هذه الطبقة الوسطى إلى موظفي القطاع العام والعاطلين، والذين يشكلون ضحايا الاندماج الاقتصادي، وإلى المقاولين والمسيرين، الذين ينتظرون الفرص التي يخلقها الاستثمار الأجنبي والتجارة الدولية.وهي طبقة لا تربطها علاقة تذكر لا بالاقتصاد الوطني ولا بالدولة.
تعتبر كوهين أن هذه الطبقة المعولمة هي التي تمثل الطبقة الأقوى اليوم، بل والمؤهلة إلى أن تزداد توسعا مع ترسخ اندماج الاقتصاد المغربي في الاقتصاد العالمي. من الناحية السياسية، وهو الجانب الذي يشكل المساهمة الأهم في أطروحة كوهين، فإن الطبقة الوسطى المعولمة، تمثل انتقالا سياسيا نوعيا في المغرب، من السلوك السياسي الذي كان يميز الطبقة الوسطى الحديثة والتي كانت مرتبطة بالمشاريع الوطنية للدولة وبالنضال السياسي الجماعي من أجل ضمان الارتقاء الاجتماعي، إلى فئة تتكون من مجموعة من الأفراد المنعزلين الذين لا تربطهم روابط التضامن الجماعي، بل ويسعون إلى تحقيق الارتقاء الاجتماعي معتمدين على ذواتهم الفردية، الخالية من كل مشروع وطني، أو مجتمعي أو جماعي. و يتحقق هذا الارتقاء من خلال السعي لضمان القدرة على الاستهلاك، ويتم في ظل افتقاد أي إحساس بالأمان في غياب الشغل المضمون، بل وفي ظل الخوف من التقلبات المرتقبة باستمرار. وعوض الوعي الطبقي أو الوطني، فإن هذه الطبقة الوسطى المعولمة تتميز بفقدان التعلق بالنموذج المتمثل في القدرة الإنسانية الخلاقة التي تتحقق من خلال التنمية الوطنية. وهو ما يؤدي إلى سقوط الرموز النموذجية المرتبطة بالدولة وإيديولوجيات التنمية والتي تتراجع مع تنامي الاندماج الاقتصادي. وعوض المشاركة والنضال من أجل الدفاع عن المصالح الطبقية المشتركة عبر وسائل الفعل السياسي، يبرز الفرد المستقل عن المشاريع الجماعية، الفرد المستقل عن مجتمعه ودولته، الفرد الميلونكولي اللا-متسيس.
كان النقاش حول الطبقة الوسطى الحديثة في المغرب يركز على تقلص هذه الطبقة، وعلى فشل النظام السياسي في توسيعها أو عدم رغبته أصلا في توسيعها بسبب تخوفه من التوجهات المعادية للمحافظة لدى هذه الطبقة. لكن كوهين تغير النقاش حول هذا الموضوع، إذ أن الآفاق السوسيولوجية لتوسع هذه الطبقة غير ممكنة في ظل الاندماج الاقتصادي، هذا الاندماج الذي لا يسمح بتوسع هذه الطبقة، بل يولد طبقة وسطى أخرى تختلف نوعيا عنها، وهي الطبقة الوسطى المعولمة.
إن الطبقة الوسطى الحديثة، تقول كوهين، أصبحت اليوم متجاوزة. متجاوزة من الناحية السوسيولوجية لأنها مرتبطة بالدولة التي يتراجع دورها يوما عن يوم، ومتجاوزة سياسيا لأن الإيديولوجيا التي كانت تشكل مرتكز مشاريعها السياسية، والتي تعتمد على تفعيل دور الدولة في التصنيع والتشغيل وحماية الاقتصاد الوطني، لم يبق لها معنى. وتعوضها الآن هذه الطبقة الوسطى المعولمة التي ترتبط بالاقتصاد العالمي الذي لا يعترف بحدود الدولة الوطنية، بل والذي لا تهمه هذه الدولة أصلا، والتي لا تعتبرها الطبقة المعولمة إلا مجالا مؤقتا قابلا للتغير في أي وقت عن طريق الهجرة.
بكل تأكيد فإن هذه الطبقة هي شريحة اجتماعية جديدة كل الجدة على المجتمع المغربي وهي تعكس تطورا يختلف عما كانت تتوقعه الدراسات عن التطور الطبقي للمغرب، والذي كان يعلق آمال التنمية والتغيير السياسي الجذري والديموقراطية على التوسع المتواصل للطبقة الوسطى الحديثة، هذه الطبقة الوسطى التي تعلن كوهين عن نهايتها. كل ذلك مؤهل لأن يرسخ العزوف عن النضال من أجل تغيير خيارات ومؤسسات الدولة، أي يقود المجتمع نحو اللا-تسيس. وإذا ما أُخذت الأطروحة مأخذ الجد، فإن مستقبل السياسة في المغرب سائر في اتجاه مختلف كل الاختلاف عما هو متداول في النقاش السياسي المغربي اليوم. سيكون من المفيد ولا شك بالنسبة للفاعلين السياسيين من رجالات الدولة ومناضلي الأحزاب والمجتمع المدني التفكير في مدى تأثير سيناريو كوهين على مشاريعهم وتصوراتهم عن المستقبل. الأمر كذلك بالنسبة للمشتغلين في حقل السوسيولوجيا السياسية، كما سيكون عليهم المطالبة حسب كوهين، بإعادة النظر جذريا في تتبع تطور التشكيلات الطبقية وتحول سلوكها السياسي. لكن مع كامل الأسف، لا تُوظف ثمار المجهود الفكري الذي ينتجه الباحثون الأكاديميون، خاصة الأجانب منهم بالرغم من غزارة إنتاجاتهم، لقراءة نقدية، وهي ضرورية باستمرار في أدواة عمل الفاعلين وفي مناهج البحث والتنظير لدى الجامعيين.
ولا شك أن المخلفات السوسيولوجية لعولمة الاقتصاد على مستوى كل دولة على حدة، بما فيها المغرب، لا زالت في حاجة إلى دراسة، كما أن التحولات السياسية المرتبطة بهذه الوضعية السوسيولوجية المعولمة لم تفرز إلا بداية لنقاش نظري معمق. وأطروحة كوهين، تدفعنا في المغرب دفعا إلى الدخول في غمار هذا النقاش الجديد. لكن هذا لا يمنع من كون أن ما تطرحه كوهين من أفكار لا يزال في حاجة إلى المزيد من التوضيح والتدقيق من جهة ، بل وإلى الاحتراس من جهة أخرى، مما يجعله يبدو كتسرع في التحليل والاستنتاج. فالطبقة الوسطى المعولمة التي تركز كوهين على ما يجمعها من خصائص على المستويات السوسيولوجية والسياسية والنفسية، تبدو من زاوية أخرى خليطا غير منسجم تماما من شرائح اجتماعية مختلفة تتراوح بين رجال الأعمال والإداريين والعمال والعاطلين. فعلا إن ارتباطهم بالاقتصاد العالمي يشكل عاملا موحدا بينهم، لكنه عامل على قدر غير محدد من الشساعة والتنوع بل والتناقض. إن الاقتصاد المعولم بالنسبة لرجل الأعمال في قطاع النسيج مثلا ليس منسجما بالشكل الكافي ليخلق هوية سوسيولوجية مشتركة مع الموظف في قطاع مراكز المكالمات عن بعد، أو مع العامل في مناطق التجارة الحرة أو مع العاطل صاحب الدكتوراه العائد من الخارج، أو الفقير الأمي الباحث عن فرص الهجرة السرية. هذا ليس موقف رفض مبدئي لمصطلح كوهين بقدر ما هو دعوة إلى التدقيق في التنوع الحاصل داخل هذه الطبقة، أو لعلها الشرائح المعولمة، والبحث في مدى كون هذا التنوع قادر مع ذلك على أن يشكل قاعدة لبلورة هوية سوسيولوجية وسياسية صالحة كأداة لفهم التحول الذي يشهده المجتمع المغربي، على غرار بقية المجتمعات السائرة بقوة في طريق العولمة. تتحدث كوهين في إطار أطروحتها بقناعة عن نهاية الطبقة الوسطى الحديثة، والتي أصبحت تقليدية الآن. كما أن ما تقدمه كوهين من أمثلة متعلقة بتقلص دور الدولة على المستوى الاقتصادي، والتنامي الحثيث للاندماج في الاقتصاد العالمي، وتراجع أهمية حدود الدولة الوطنية على المستويات الاقتصادية و السوسيولوجية والسياسية، تشكل كلها تهديدا فعليا لمصادر قوة هذه الطبقة الوسطى. لكن كل ذلك يدعو إلى الانتباه إلى طرق مقاومة هذه الطبقة للدفاع عن مصالحها، وقدرتها على توظيف السياسة والإيديولوجيا والاقتصاد في مواجهة ما تشكله العولمة من أخطار عليها، بل وتوظيف العولمة كمصدر لحماية مصادر قوة هذه الطبقة التي تعتبرها كوهين متجاوزة. ويدخل في هذا الباب مثلا الوسائل التي يلجأ إليها لمقاومة العولمة كل من موظفي الإدارات العمومية، وشرائح القطاع الخاص المرتبطين بالاقتصاد الوطني، وطلبة التعليم العمومي.
إن استمرار الحياة السياسية المتمثلة فيما تطرحه الدولة والأحزاب من أفكار وتصورات، وتزايد أشكال الاحتجاج والمعارضة، واستمرار التركيز على الأهمية المركزية للدولة الوطنية، ولدورها في تدبير الشأن السياسي، هي كلها نماذج لا تؤكد أطروحة كوهين القائلة بنهاية الدولة الوطنية ونهاية الطبقة الوسطى بل ونهاية السياسة. بل إنها قد تكون إشارات إلى تحول مختلف كل الاختلاف مع أطروحة كوهين. ومع ذلك، فإن أهمية أطروحة كوهين هي أنها حتى بالنسبة للقضايا التي تطرحها بشكل يبدو متسرعا، تفتح آفاق التفكير في المغرب من زوايا غير مسبوقة: السياسة المغربية اليوم هل هي بداية لولوج مرحلة السياسة التعددية الحديثة؟ أم بداية العد العكسي للسياسة الوطنية وللعولمة اللا-متسيسة؟ تفضي أطروحة كوهين عمليا إلى نهاية السياسة مقابل بروز الفرد المجرد عن محيطه الوطني والمنعزل في العالم المعولم. ومن خلال هذا المنظور فإن ما تشهده السياسة المغربية من مظاهر قوة الإيديولوجية السياسية الدينية، وبروز الهويات الإثنية، ومظاهر الاحتجاج الواسع عن طريق مظاهرات بمناسبات أحداث سياسية دولية كفلسطين والعراق، وهي كلها سلوكات سياسية تزعمتها الطبقة الوسطى الحديثة، لن تكون حسب كوهن إلا الزفرات النهائية لطبقة تحتضر سوسيولوجيا وسياسيا. فهل الأمر كذلك؟ هذا سؤال تجيب عنه كوهين بالإيجاب بشكل يبدو متسرعا، ولكنه يبقى مع ذلك مغر للمزيد من البحث.