رقية مصدق، منعطف النزاهة الانتخابية:معالم الانحسار في تدبير الانتخابات التشريعية المباشرة، الرباط، كونراد اديناور، 2006
بنفس القوة والعمق التحليليين، تواصل الأستاذة رقية المصدق قراءة تحولات المغرب السياسي، في سياق مشروع متكامل الحلقات، هكذا وبعد أن وقفت على هشاشة التوافق السياسي لعقد التسعينيات في كتابها التوافق أم لعبة التوافق الصادر بالفرنسية عام 1995، ثم انشغالها بحدود الإصلاحات الدستورية في مؤلفها الصادر سنة 1998، بالفرنسية تحت عنوان الإصلاح الدستوري وأوهام التوافق، وقبل ذلك انكبابها على دراسة التناوب الذي لم يتحقق خلال السنوات الأولى للتسعينات في كتابها الصادر عام 1996 باللغة العربية حول متاهات التناوب، ثم بحثها في مدى تحقق الانتقال في بلادنا، في مؤلفها الصادر سنة 2001 حول متاهات الانتقال الديمقراطي. تعود أستاذة القانون الدستوري بجامعة محمد بن عبد الله بفاس لمقاربة الظاهرة الانتخابية من خلال نموذج الانتخابات التشريعية العامة الأخيرة لسنة 2002 وذلك من خلال كتابها الجديد منعطف النزاهة الانتخابية، والذي يحمل كعنوان فرعي معالم الانحسار في تدبير الانتخابات التشريعية المباشرة ، وهو صادر بمساهمة من مؤسسة كونراد أديناور، في 196 صفحة من الحجم المتوسط.
تقوم الإشكالية المركزية للكتاب على اعتبار أن الكيفية التي دبرت بها الانتخابات التشريعية الأخيرة تؤشر على منعطف حاسم في التاريخ السياسي للمغرب منذ الاستقلال، لعله (أي المنعطف الانتخابي) هو ثالث منعطف من حجمه، بعد منعطف بداية الستينات، حيث صراع الشرعية والمشروعية، ثم منعطف بداية الثمانينيات، حيث تكريس القراءات الضمنية للشرعية الدستورية.
لا تذهب الباحثة في اتجاه اعتبار سوء التقدير السياسي لأحزاب الحركة الوطنية المساهمة في التدبير الحكومي هو المسؤول بالضرورة على “المنعطف الانتخابي”، لكنها تقر بأن تحقق هذا المنعطف يعبر عن خلل عميق في مسار النضال من أجل النزاهة، ويعكس انقلابا حقيقيا على المطالب التاريخية لهذه الأحزاب في باب الشأن الانتخابي.
بالنسبة للمؤلفة ثمة ثلاث مستويات أساسية تكثف الانحسار الذي شهدته الانتخابات التشريعية الأخيرة. المستوى الأول، يرتبط بالتخلي عن مطلب اللجنة الوطنية للإشراف على الانتخابات. والثاني، يتعلق بتطويق تطلعات المجتمع المدني إلى المساهمة في الإشراف على الانتخابات. أما الثالث، فيتجلي في دعم الإجماع حول وزارة الداخلية “كفاعل اساسي” في نزاهة الانتخابات.
يتطرق القسم الأول من الكتاب إلى التوجه الجديد الذي هيمن على مسار الإصلاح الانتخابي والذي تميز بترسيخ القطيعة مع اللجنة الوطنية للإشراف على الانتخابات، ليس فقط كمطلب، ولكن كذلك كإنجاز سابق التحقق. وتقف الباحثة في البداية على ما تعتبره نزوعا لدى أحزاب الحركة الوطنية المشاركة في الحكومة إلى تجريد نفسها من مطالبها التاريخية في الشق الانتخابي، وعلى رأسها مطلب إنشاء اللجنة المستقلة والمحايدة لتنظيم الانتخابات والإشراف عليها، والذي تواتر على أدبياتها السياسية منذ نهاية الثمانينيات، وظل قائما على الرغم من تأسيس اللجنة الوطنية لتتبع الانتخابات في صيغتها الأولى (1992) و الثانية (1997) بالرغم من مشاركتها فيها.
هذا التجريد الذاتي، تعتبره الباحثة منعطفا في تاريخ هذه الأحزاب، التي أصبح تأمين استمرارها في الحكومة هاجسها الوحيد، حتى ولو كان المقابل هو التخلي عن مطالبها أو عن حقوقها الدستورية (إنشاء ديوان المظالم، تجريد الوزير الأول من صلاحية اقتراح كل الوزراء على التعيين الملكي دونما أي استثناء …).
يعود الكتاب إلى بدايات مطلب اللجنة المستقلة للإشراف على الانتخابات، كما تبلور في مقررات أحزاب الحركة الوطنية، ثم إلى تحوله من مطلب تشريعي إلى مطلب دستوري في مذكرتي 19 يونيو 1992 و23 أبريل 1996 الموقعتين من طرف أحزاب الكتلة الديمقراطية، وكذا في البيان من أجل الديمقراطية (11يناير1994) . إلى أن كرست هذه الأحزاب لممارسة سياسية أصبح معها هذا المطلب متعارضا مع تصالحها مع وزارة الداخلية، ليتم في النهاية إلغاء اللجنة الوطنية لتتبع الانتخابات كمكسب محدود الفعالية. لكنه كان يمكن أن يشكل منطلقا لبديل أحسن.
القسم الثاني من الكتاب مخصص لبحث هيمنة التطويق الحكومي على تطلعات المجتمع المدني إلى المساهمة في الإشراف على الانتخابات كأحد مستويات التراجع على متطلبات النزاهة. هذا التطويق الذي كرس إرادة الحكومة الاستفراد بتنظيم العملية الانتخابية والإشراف عليها وإلغاء أي وظيفة ممكنة للوسطاء في هذا الصدد، رغم أن هؤلاء الوسطاء يعكسون، نظريا، الاستقلالية التي كانت تطالب بها أحزاب الحركة الوطنية لتتبع الانتخابات عندما كانت في المعارضة. في هذا السياق يعرج الكتاب على الدينامية المطلبية والتنظيمية التي شهدها المجتمع المدني المتطلع إلى المساهمة في الإشراف على المنتخبات (المركز المغربي من أجل ديمقراطية الانتخابات، النسيج الجمعوي لملاحظة الانتخابات…)، ثم إلى الحدود الذاتية التي أعاقت هذه الإرادة المدنية والتي ترتبط عضويا بهشاشة المجتمع المدني المغربي على العموم.
أما القسم الثالث والأخير، فقد خصص للوقوف عند سياسة أحزاب الحركة الوطنية المشاركة في الحكومة، والداعمة للإجماع المتحقق حول وزارة الداخلية كفاعل أساسي في نزاهة الانتخابات، إذ بعد أن كانت تنظر إليها سابقا كمؤسسة للتزوير أو كحزب سري أصبحت تتعامل معها كأداة ناجعة للتحول من التناوب التوافقي إلى “تناوب حقيقي”، أو إلى “انتقال ديمقراطي فعلي”.
وهكذا رجحت هذه التنظيمات السياسية موقعها الحكومي في تدبير العملية الانتخابية مهمشة موقعها الحزبي المتجسد في الرصيد الذي تمثله كأحزاب حركة وطنية، ومدعمة إجماعا تجاوز حدود المصالحة مع وزارة الداخلية، وتحول من إجماع للأحزاب المشاركة في الحكومة إلى إجماع للأغلبية والمعارضة، وانتقل من إجماع حول دور الحكومة في التدبير الانتخابي، إلى إجماع حول وزارة الداخلية بشكل ألغى أي دور مفترض للوزارة الأولى أو لأي قطاع حكومي آخر، وتحول من إجماع على فرضية النزاهة إلى إجماع مسبق على حتمية النزاهة.
وتفضل الأستاذة رقية المصدق في نهاية كتابها، الدعوة إلى إعادة امتلاك أحزاب الحركة الوطنية لمعركة النزاهة، معتبرة ذلك أولوية مرحلية يتعين الانخراط فيها في أفق تأهيل متعدد الواجهات، هو ليس سوى تأهيل النظام الدستوري والسياسي ككل.