الخميس , 5 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » رومانسية الحجاب

رومانسية الحجاب

– حسن نجمي، الحجاب (رواية)، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، 1996.

لم نسمع أو نقرأ الكثير عن رواية الحجاب لحسن نجمي. صدرت هذه الرواية في السنة نفسها (1996) التي صدرت فيها رواية جنوب الروح لمحمد الأشعري، من الناشر نفسه، الرابطة، وبنفس الإخراج للكتاب من حجم وخط وحتى تصميم الغلاف، لكنها لم تلق نفس الإقبال الذي حظيت به رواية الأشعري. وكانت تلك أول محاولة روائية للشاعر والصحافي نجمي، غير أن روايته الثانية، والأخيرة، جيرترود، التي صدرت سنة 2011، حظيت باهتمام النقاد. لا شك في أن اختيار شخصية جيرترود شطاين المعروفة بصداقتها مع مشاهير الفنانين الغربيين، واهتمامهم بها في أعمالهم قبيل وإبان هجرتهم من باريس إلى نيويورك هرباً من الاكتساح النازي كبطلة لقصة غرام مشوقة مع مغربي من طنجة، لم يسمع بها أحد من قبل، فيه ابتكار جميل ومثير لفضول القراء. ومع ذلك، يبقى لقراءة رواية الحجاب نكهة خاصة.  بالإضافة إلى ما تحيل عليه من جوانب إبداعية ذات دلالة.  

تدور أحداث الرواية في مدينة الباطنية. وهي أحداث بسيطة، ذهاب وإياب للبطل علي فهمي بين الدار، مسقط رأسه، والمقهى، وجولات في أزقة المدينة تتخللها زيارة لصديق أو لقاء مع أحد معارفه القدامى صدفة، أو موعد دون سابق اتفاق مع معشوقة المراهق الذي كانه، مع حوارات متناثرة هنا وهناك. كما أن هناك عدداً من الحوارات الداخلية التي يناجي فيها البطل نفسه ويستعرض الذكريات، ويناقش الآراء والمواقف التي تقوده إلى الحسم لصالح ما يراه الأجدر والأحق أو تبقى مفتوحة. كل ذلك في حميمية مع نفسه وكأنه يعيد بناء العالم بعد خرابه، أو أنه يعيد ترتيب أوراقه بعد أن تبعثرت حيث تعرض لحادثة زعزعت الثوابت. كانت نافذة مفتوحة على مصراعيها تجوب دواخل سيرته الذاتية عارية تحت أعين القراء، يتخللها وصف دقيق للدروب والشوارع و الأمكنة، وللجدران والحوانيت والمقاهي و بيبان الدور، ودبيب الأشخاص في فضاءات المدينة حتى يخال القارئ أن هذه الفضاءات هي الموضوع الأصلي للرواية، مما يصنفها ضمن جنس “الرواية الجديدة” (Le nouveau roman)، أو تيار الوجودية أيام طلائعيتها.

تدور جولات البطل في الأصل في المدينة ولقاءاته وحواراته كلها في إطار البحث عن متغيب : فقد اختفى فجأة صديق طفولته وزميله في الجريدة بالعاصمة سالم لعروسي ولم يترك له أثراً يقتفى، فكلفته لجنة تحرير الجريدة بالبحث عنه باعتباره أقرب الناس إليه وأعرفهم بطبائعه وعاداته. كان أول ما خطر بباله هو التوجه إلى المدينة مسقط رأسهما حيث قضيا الطفولة والمراهقة.  إلا أن جولة التحري سرعان ما انقلبت إلى جولة في ذاكرة البطل وعلائقه القديمة.  وغالباً ما تستحضر الروايات بصيغة المتكلم أجواء السيرة الذاتية في ذهن القارئ وتحيل على جنسها، كما أن البحث عن مفقود أو صديق قديم في مثل هذه الروايات كثيراً ما يفضي إلى تأملات في المضاعف والبحث عن الذات.

وهكذا تصنف رواية الحجاب في هذا السياق برواية الذات؛ يقول حسن نجمي إنه كتبها في ظرفية ذات شحنة وضغط نفسي خاص، حيث يكاد يغيب معه، على ما يبدو، تركيز المؤلف على صنعة الكتابة بما هي كتابة. كان حسن نجمي قد اعتزل مقر جريدة الاتحاد الاشتراكي التي كان يعمل بها كمسؤول على القسم الثقافي نتيجة موقفه التصحيحي يوم احتد الصراع بين التصحيحيين والتنظيميين داخل الحزب الذي يحتضن الجريدة، حيث تفرد التنظيميون بخط التحرير فيها، وتمخض عنه إيقافه من مزاولة مهمته. في أثناء هذه الفترة، وبشعور تملأه المرارة، اعتكف حسن نجمي بمقهى قرب بيته وعكف على الكتابة لمدة اربعة عشر يوماً متتالية أخدت شكل رواية وسماها الحجاب. (كتب أحمد التوفيق جارات أبي موسى في غضون شهر، وكتب دوتويوفسكي روايته المقامر في سبعة وعشرين يوماً). فجاءت الحبكة، او بالأحرى عقدة الحبكة، وكذلك الخط السردي للرواية دون اهمية الخطاب المونولوج المشحون بمشاعر الخيبة والاشمئزاز  والتأملات في عمق الاختيارات المحورية لمصير البطل. وكانت هذه التأملات تستدرج مسائل عدة من أوجه حياته. ولعل أهم ما تفرزه قراءة الرواية هو ثلاثة علائق محورية : علاقة البطل بأسرته مختزلة في الأب والأم، وعلاقته بالجريدة ومسألة الكتابة، ثم العلاقة بالذات.

 أما العلاقة الأولى فإن ما يبقى مع القارئ هو الوضع الثانوي للأب في تمثل البطل الذي يضفي على صورته شحوباً واشمئزازاً، فهو “أب منحرف المزاج. أب سلم في العالم. في الوجود. في الناس. أب بالكاد يتكلم”. وهو نفس الشعور الذي يبقى مع القارئ بشأن المدينة مسقط الرأس: “مدينة منذورة للفراغ. تمر قربك أجساد بشر أحياء [ك] أشباح موتى.” شوارع خالية، أزقة بالية وسخة “بيوت مهترئة”، مقبرة مهملة مهيبة، مقبرة اليهود. في المجمل حطام دامغ مع لامبالاة المسؤولين، بل غيابهم جملةً وتفصيلاً عن واجب العناية بضروريات المدينة.  هو غياب يجعل من الباطنية مدينة خارج التاريخ.  ويعتبر تهميش صورة الأب وغيابه في بعض القراءات ترجمة لخلل ما في علاقة الذات بالنظام. ويقابل ذلك الموقف من الأب تعلق عاطفي وجداني بالأم، وحتى الصديقة معشوقة المراهقة التي يصادفها البطل في جولاته يضفي عليها هذا الأخير صفات الأم في إسقاطات عدة. فانصهار الابن في ذات الأم والتحامه معها عندما يقابله نفور من الأب أو التقليل من هيبته له دلالة خاصة في لغة التحليل النفسي.

أما المسألة الثانية، علاقة البطل بالجريدة، فإنه لايخطر ببال الكاتب أن يحللها في إطارها المهني المحض، كأن يناقش المبادىء في خط التحرير أو موقعه من النظام السُّلمي بين الإداريين والصحفيين، أو تأثير الإيديلوجي والسياسي على الثقافي، بل إنه يطرحها في مساءلة الكتابة في جوهرها، إذ نراه يقارن في عدة مناسبات بين جاهزية لغة الصحافة وحرية لغة الشعر والإبداع، حيث يميل للثانية، لأن الأولى “كتابة ميتة”، والثانية هي الحسم الحاسم لتولي دروب الإبداع، حتى إن هدف سفره وموضوع مهمته، أي البحث عن زميله وصديقه المتغيب لعروسي يكاد يغيب عن انشغال الراوي ويصبح تركيزه بالأساس على علاقة البطل بالأسرة ومسقط الرأس وسؤال الكتابة، وبين هذا وذاك تتم مساءلة المضاعف.

الضِّعف/ المضاعف مستتر (الحجاب، الباطنية)، لكنه يبدو جلياً مع شخص لعروسي المختفي المبحوث عنه، إذ ما يركز الراوي عليه في شأنه هو صفات ملامحه التي تصبح تدريجياً هي صفات ملامح الراوي ذاته، بل إن الغائب المبحوث عنه يصبح هو الراوي بالذات، حتى إن القارئ ليتوقع، أو بالأحرى يتوهم، أو يتساءل هل يوجد على جبين الكاتب حسن نجمي خدش مماثل لتلك الوصمة في وجه المختفي ثم في وجه الراوي لشدة ما ألح الكاتب على تطابق هذه العلامة عندهما، بل على انصهارهما في ذات الهوية؟  فنرى الراوي يكرر ويؤكد أن لعروسي “مثلي. مثلي تماماً”، “رائحته في أنفي. أنفاسه المتقطعة الكاتمة الصوت، وجهه، تقويسة عينيه، ندبته. …”، “لم نكن اِثنين، كنا نسيجاً واحداً”.

بقي أن نشير إلى بعض الموشرات التي تعين على تصنيف هذه الرواية من حيث توجهها في مجال الإبداع عامة. لا شك أن طابع الحداثة غالب على شكلها من حيث طبيعة الأحداث وشكلها ومحيطها، وكذلك أوصاف المكان والزمان والشخوص من جهة، ومن جهة أخرى تبني وصفة الكتابة على عمود يشغل نصف الصفحة له طابعه ومنطقه السردي الخاص. لكن للحداثة جذور رومانسية يتناساها الكثير من النقاد أو يجهلونها أصلاً.  وقد يفاجأ قارئ هذا المقال عندما نضع رواية الحجاب في خانة الرومانسية.  لكنها تتصف بالمكونات المؤسسة للرومانسية الألمانية الأولى. على رأس هذه المكونات جو الكآبة العام الذي يطبع الرواية ويجعل “كل شيء يهيئ للنظر في صور الاكتئاب”، والذي تختص به منخوليا أولئك الرومنسيين.  والأهم من هذه الكآبة هو أن نجمي كتب الرواية كرد فعل على منعه مما كان يعتبره استحقاقاً مشروعاً له، ليس في مجال الترقية داخل جهاز الجريدة فحسب، بل وفي تبني موقفه من خط التحرير.  فجاءتنا الرواية كإعادة لبناء العالم عكس ما يوفره له وضعه في الجريدة، مؤيداً لما كان يصبو إليه وأحسن منه رفعة وتألقاً في المجال الثقافي العام بالبلاد؛ مؤكداً على قيمة الإبداع الحر في الكتابة عكس جاهزية أسلوب الصحافة. وهذه التركيبة لخطاب أدبي يشرع لحياة وعالم متخيل منسجم. وأن رغبة الكاتب مقابل واقع الحرمان مما يعتقد أنه حقه ومستحقه هو بالذات تلك التركيبة التي تمخضت عنها نشأة الرومانسية الألمانية الأولى حيث يعزو المختصون حدوث هذه الأخيرة نتيجة حرمان الشباب المثقف، أبناء البورجوازية الناشئة، من حقهم في مناصب الدولة التي تكونوا في اختصاصاتها، ومن أجل توليها بسبب قانون منحها لأعيان النبلاء القائم على النظام السُّلَّمي الإقطاعي القديم.

وتختص هذه الرومانسية بثلاثة عناصر مكونة لجوهرها تتجلى بطريقة ما في روايتنا، وهي أولاً تجذّر الذات في تصور “أصل” ميتافيزيقي كأساس لها، و ثانياً اعتناقها مبدأ “التجديد” كمحرك مطلق لتقدم الإنسانية وسيرورة الحضارات، وأخيراً مطلقية الأنا كعمود فقري للوجود، منبع “النور […]، شمس الروح الأبدية” كما جاء على لسان الراوي. فجاءت كل هذه العناصر متداخلة وراء منطق البحث عن مختفٍ في حبكة الحجاب، حيث إن البحث عن المختفي يتحول تدريجياً إلى تحرٍّ دقيق في موضوع ما يسمى “الأصل” الميتافيزيقي الذي يتجلى في تفتيش مسقط الراس، الأب، جذور الطفولة ثم المراهقة، ويتوج باكتشاف الذات الأنا المطلق الذي يتجسد في الكتابة غير النمطية، أي في الإبداع الشعري. ذلك أن كنه هذا الإبداع، كما يصرح به الراوي، “بحاجة إلى بشر جديد. بحاجة إلى عالم جديد”.  فالشعر بهذا المعنى دوماً يتوق إلى عوالم جديدة كأفق مطلق لتألق الأنا. وبالمناسبة، يجدر التذكير باختيار حسن نجمي للشعر كقطب ونمط للإبداع في إنتاجاته حيث يرجع أول ديوان من دواوينه العشرة، لك الإمارة أيتها الخزامة، إلى سنة 1982، ويقول عنه: “كتبته وأنا تلميذ في الثانوي”، وله أربعة دواوين أخرى تحت الطبع تأخر صدورها لأسباب زمان كورونا كوفيد 19، من بينها ديوان فكرة النهر الذي تمت طباعته بدار خطوط، عمان، وحالت الجائحة دون نزوله إلى سوق القراء. 

- عبد الحي الديوري

فنان تشكيلي وباحث في فلسفة الجمال- الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.