الإثنين , 11 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » على حافة سكين حاد: فلسطين والربيع العربي

على حافة سكين حاد: فلسطين والربيع العربي

” أرض موعودة ” Une Terre promise“. ” مذكرات باراك أوباما. دار النشر فايار. فرنسا. 2020. ترجمها عن الإنجليزية الأمريكية: بيير ديمارتي، شارل روكورسي ونيكولا ريشار. 798 صفحة.

     تسلطت الأضواء مؤخرا على الجزء الأول من مذكرات الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما “أرض موعودة”. وتركز الاهتمام بالخصوص على ما كشفته من معلومات حول المنطقة العربية عموما بفعل موجة الاحتجاجات والانتقالات السياسية في سنة 2011، وكذا ما عرفته تطورات النزاع العربي الإسرائيلي.

خصص الكاتب لهذين الموضوعين الفصل الأخير والذي يحمل عنوانا له دلالته هو: “على حافة سكين حاد” sur la corde raide. كان أوباما، خلال ولايتيه الاثنتين، فاعلا رئيسيا في أحداث هذا الفصل وكشف عن حقائق هامة بخصوص صنع السياسات بالمنطقة ورؤيته لها وكيفية التعاطي معها.

يرسم الكاتب (1) بورتريهات غاية في الدقة لقادة منطقة الشرق الأوسط ولنفسياتهم من بينهم ياسر عرفات وحسني مبارك ومحمد بن زايد وغيرهم. كما يشبه الوزير الأول الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الذي لم تكن تربطه به  علاقة جيدة، بلاعب الريكبي ذي الوجه الرياضي الصارم القسمات والذكي سياسيا، ويتوقف عند ملامح نفسية الرئيس المصري حسني مبارك في لحظات حكمه الأخيرة وكيف اتصل به أوباما لإقناعه بإصلاح تدريجي مع التخلي عن السلطة إثر اندلاع احتجاجات ميدان التحرير، لكن مبارك رفض التنازل عن السلطة طواعية قبل أن يضطر إلى الاستقالة. يقول أوباما عن المفاجأة الكبرى التي شكلتها ثورات 2011 ما يلي: “لو كان شخص ما سألني في نهاية 2010 عن المكان الذي ستنفجر فيه أزمة كبرى جديدة بالشرق الأوسط، لقلت له إن الخيارات كثيرة”، وذلك في إشارة منه إلى تعدد وتعقد الأزمات التي تعرفها هذه المنطقة. وعموما، تنبني رؤية أوباما للوضع في المنطقة على اعتبار أن دعم الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا يساعد السياسة الأمريكية في البحث عن الاستقرار.

في ظل هذا المشهد العام المضطرب، يشرح أوباما رؤيته للنزاع العربي الإسرائيلي ويقدم تفاصيل مشوقة لما قام به كمحاولات للتسوية. ولا يمكن أن نفهم أسلوب مقاربته للحل دون التوقف عند رؤيته للسياسة والأخلاق، على حد تعبيره. يقول في سياق حديثه عن علاقته بالكاتبة “سامنطا باور” التي ستصبح مستشارته في العلاقات الخارجية وإحدى الشخصيات التي أثرت في صنع سياسات الشرق الأوسط: “كانت سامانطا واحدة من أقرب أصدقائي في البيت الأبيض، وكانت تذكرني بمثالية فترة شبابي، وبذلك الجزء مني الذي لم تمسه السخرية والحسابات، وكذا بنوع من الحذر عندي أصبح يتنكر في لباس من الحكمة”.

في صفحات قليلة يلخص لنا أوباما بشكل بارع وبأسلوب مبسط، يستهدف القارئ الأمريكي الذي يتوجه إليه أساسا، تاريخ الصراع العربي الفلسطيني قبل أن يتحدث عن كيفية تعامل الرؤساء الأمريكيين مع الملف وعن تجربته الخاصة معه. ويؤكد أنه شخصيا يعترف ب”الحقوق الأساسية للفلسطينيين” مثل اعترافه بمعاناة اليهود التاريخية. ويوضح كيف أثرت والدته وتربيته ثم تكوينه الثقافي في تشبيهه لمعاناة السود من العنصرية في بلاده بالمعاناة التي عاشها اليهود نتيجة المحرقة النازية في القرن 20. “كانت التربية الأخلاقية التي تلقيتها من والدتي تتمحور حول الهولوكوست وهي مأساة لا يمكن تخيلها مثلها مثل العبودية، وهي تجد جذورها في عدم القدرة أو رفض الاعتراف بإنسانية الآخرين”. ويضيف أن هناك “تاريخا مصنوعا من المنفى والمعاناة” يجمع بين اليهود والسود. خلال مرحلة الدراسة الثانوية، أثرت في أوباما أيضا كتابات أدباء وفلاسفة أمريكيين ذوي أصول يهودية مثل فيليب روث، ونورمان مايلر، ومارتين بوبر الذي يقارن كتاباته بكتابات القس الزنجي الشهير مارثن لوثر كينغ، زعيم حركة المطالبة بحقوق السود بأمريكا في الستينيات.

عند حديثه عن الفلسطينيين، ورغم اعترافه بصفات الزعامة لدى ياسر عرفات وبتمثيلية منظمة التحرير الفلسطينية، فإن أوباما ينتقد لجوء الفصائل الفلسطينية إلى العنف، هذا مع انتقاده للعنف الممارس من قبل الطرف الإسرائيلي أيضا. كما يعتبر أن عرفات كان يلجأ إلى “تكتيكات مقيتة” وإلى المناورات، وأن الفلسطينيين لم يكن لديهم قائد من طينة خاصة إذ يقول: “ليس هناك غاندي فلسطيني” بإمكانه أن “يشجع حركة غير عنيفة من شأنها أن تغير موقف الرأي العام الإسرائيلي”. كما يتحدث أوباما عن شبهات رشوة في محيط حكومة الرئيس الفلسطيني الحالي أبو مازن.

يؤكد الكتاب على مسلمة معروفة وهي أن الرأي العام الأمريكي يؤيد الإسرائيليين على حساب العرب. ويقدم تحليلا دقيقا للتركيبة الحزبية والسوسيولوجية داخل “اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للعلاقات العامة” (آيباك) الشهيرة، وهي أقوى لوبي إسرائيلي في أمريكا. وانسجاما مع قناعاته ومع هذا الواقع الموضوعي، يتحدث أوباما عن دور أمريكا في حماية إسرائيل ووجودها. ورغم كشفه عن نسبة كبيرة من اليهود صوتت لصالحه (70 بالمائة)، فإن اللوبي اليهودي في أمريكا كان يشكك في تأييده لإسرائيل وميله إلى جانب الفلسطينيين كما يقول. والسبب في هذا الشك هو علاقة أوباما ببعض المثقفين العرب المنتقدين للسياسات الإسرائيلية ومن بينهم المؤرخ الفلسطيني الأمريكي المتخصص في قضايا الشرق الأوسط رشيد خاليدي وهو أستاذ يشغل كرسي “إدوارد سعيد” للدراسات العربية بجامعة كولومبيا. ويعتبر خاليدي أحد المثقفين البارزين في الأوساط الأكاديمية والسياسية الأمريكية. وقد اشتهر بعدد من الأبحاث والدراسات وخاصة كتابه المرجعي “حرب المائة عام على فلسطين: تاريخ الاستعمار الاستيطاني والمقاومة، 1917-2017” (2) وكمستشار للوفد الفلسطيني في مفاوضات أوسلو. وهو مؤرخ بقدر ما يدافع عن الحقوق الفلسطينية التاريخية بالحجج العلمية، فإنه ينتقد سياسات الرئيس ياسر عرفات وطريقة تدبيره للمفاوضات، وكذا مناورات إسرائيل حيث ينتقد في هذا السياق، “الرد الفلسطيني المثير للشفقة على التدليس الإسرائيلي الباهر” خلال مفاوضات أوسلو (3). ويتبنى باراك أوباما نفس مواقف خاليدي في انتقاداته عموما.

في ظل هذا الوضع العام، سيحاول أوباما تحريك المفاوضات المجمدة بين العرب والإسرائيليين نظرا لاقتناعه بعدم إمكانية الحفاظ على الوضع القائم وضرورة التحرك لعدة أسباب منها: احتلال إسرائيل لأراض فلسطينية بشكل يتعارض مع الشرعية الدولية، ومساهمة هذا الوضع في “المزيد من غضب المجتمع العربي وفي تغذية المشاعر المعادية لأمريكا في جميع أنحاء العالم الإسلامي”، هذا إلى جانب إعطاء مصداقية لأمريكا كمدافعة عن حقوق الإنسان. وهو ما لخصه بقوله: “تحقيق ثلاث أهداف بحجرة واحدة”.

سينطلق أوباما من رؤية ترى أن التسوية، ينبغي أن تتم عبر حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. وسيعتمد في وضع خططه للتحرك على مستشاره جورج ميشيل صاحب التجربة في إبرام اتفاقية للسلام بين الكاثوليكيين والبروتستانتين  في ايرلندة. كما سيعتمد على هيلاري كلينتون وأنطوني بلينكين وزير الخارجية الحالي. وبعد عدة محاولات، سينجح في إقناع أطراف الصراع بتدشين مفاوضات سلام في 2010 رغم تحفظاتهم في البداية وبعقد لقاءات حضرها أربعة من قادة المنطقة. وقد طالب كخطوة أولى بتجميد إسرائيل للمستوطنات على اعتبار أن إسرائيل، برأيه، هي الطرف الأقوى في الصراع وهي المطالبة بالقيام بأول خطوة. ويكشف الكتاب بتفصيل وبنبرة فيها نوع من المرارة، عن كواليس المفاوضات التي ستنتهي إلى الفشل ولن تعطي النتائج المرجوة.

في المحصلة، يخرج أوباما بخيبة وبخلاصتين اثنتين من فشل هذه المفاوضات: الأولى هي أنه تم التلاعب به من قبل القادة الأربعة، لأنهم كانوا ينافقونه ويجاملونه ويظهرون له أنهم يريدون إيجاد مخرج وتسوية للوضع، إلا أنهم في الحقيقة كانوا غير مهتمين بالدفع بعجلة السلام وبالعمل بجدية لبلوغ هذا الهدف بل كانوا فقط يلعبون أمامه نوعا من “الكوميديا” على حد وصفه. أما الخلاصة الثانية، فهي أن الظرفية العامة كانت صعبة ولم تكن تساعد على تحريك هذا الملف بسبب ثورات الربيع. ويبدو في هاتين الخلاصتين معا، أن أوباما يلقي اللوم أكثر على الآخرين، ولا يريد أن يتحمل جزءا من المسؤولية في الفشل.

يقول المؤلف في كتابه: “على عكس الاعتقاد السائد في العالم العربي (وفي أوساط العديد من الصحفيين)، فإن الولايات المتحدة ليست ذلك البلد المبتز الكبير الذي يتلاعب بالبلدان التي تتعامل معها كما يحلو لها”.

في النهاية، وفي انتظار صدور ترجمة عربية للكتاب، واحتمال ظهور معطيات جديدة في الجزء الثاني من المذكرات الذي سيتناول ولاية أوباما الثانية (2013 – 2017)، سيكون من أهم تحديات هذه الوثيقة التاريخية، المكتوبة بدقة وشاعرية، إقناع الرأي العام العربي، وربما جزء من النخبة العربية، بجدية أمريكا في الدفاع عن حل منصف لهذه القضية و”برؤية أوباما للسياسة والأخلاق”، خاصة بعد أن طرأ تحول كبير في عهد الرئيس دونالد ترامب على ثوابت السياسة الأمريكية مثل موقفها من قضية القدس.

 

(1) أصدر باراك أوباما حوالي 10 كتب من بينها: “جرأة الأمل” و”رسائل إلى أبي”.

(2) رشيد خاليدي “حرب المائة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة، 1917-2017”. ترجمة عامر شيخوني. الدار العربية للنشر العلوم. يناير 2020.

(3) قراءة الكاتب دافيد كاردنر في كتاب رشيد خاليدي. انظر جريدة الفاينانشل تايمز على الرابط التالي:

https://www.ft.com/content/229342a8-532f-11ea-8841-482eed0038b1

- محمد مستعد

مترجم وإعلامي / الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.