مراد زروق، ترجمان الملك. سيرة ألونسو الموريسكي، مطبعة سليكي أخوين، طنجة، 2021.
يطرق الأستاذ الباحث والمترجم مراد زروق، لأول مرة، باب الكتابة الروائية بروايته ترجمان الملك الصادرة بطنجة عن مطبعة سليكي أخوين مطلع سنة 2021. بدءًا بالعنوان الفرعي للرواية، (سيرة ألونسو الموريسكي)، واللوحة المائية التي تزين الغلاف، وهي من إنجاز الأستاذ بيرنابي لوبيث غارثيا وتصور حي البيازين بغرناطة، يتنبأ القارئ بها أن موضوع الكتاب حول الأندلس وإسبانيا. وبالفعل، فأحداث الرواية تتسلسل على لسان الترجمان الراوي، لتقدم لنا حبكة رواية مشوقة ومحكمة البناء تسرد تفاصيل حياة شخصية واقعية هي ألونسو ديل كاستييو، مترجمٌ موريسكيٌّ عاش في غرناطة نهاية القرن السادس عشر. وينتظم نسيج الرواية وفق خيوط ثلاثة: حياة البطل الخاصة والعائلية التي تتعمق في أحواله النفسية وسلوكه الاجتماعي، ومتطلبات عمله كمترجم للديوان المقدس وللبلاط وإكراهاته، ثم فضاء غرناطة والأحداث التاريخية الكثيفة التي تؤطر جغرافيا وزمن أحداث الرواية.
لكن قبل محاولة تتبع هذه الخطوط الثلاثة، تستوقفنا، أولاً، عتبات الرواية بإحالاتها الكثيرة والتي تثري جانبها الفني وعمقها الأدبي. أول هذه العتبات العنوان الأصلي: “ترجمان الملك”. هذا المركب الإضافي يوحي، منذ الوهلة الأولى، بحاجة البلاط – وفي حالة ألونسو الكنيسة أيضاً- إلى المترجم، وفي الوقت نفسه بصعوبة مهمة هذا “العبد الضعيف”، خاصة زمن حكم فيليبي الثاني وسيطرة محاكم التفتيش. ويتبين من أحداث الرواية أن الترجمان، أو المترجم، ليس مجرد “ناقل كلام من لغة إلى أخرى”، كما تعرفه المعاجم، بل إن عمله يكتسي خطورة كبيرة سيما إذا كان سياق عمله يعنيه في شخصه ويمس مصير بني جلدته كما هو حال مترجمنا الموريسكي.
تدور أحداث الرواية في غرناطة القرنين السادس عشر والسابع عشر، ولتزيين غلافها ليس هناك أفضل من لوحة مائية للحي العربي البيازين أوالبايثين، كما أنجزها، حسب صفحة الحقوق، الأستاذ بيرنابي لوبيث غارثيا. والبيازين حي موريسكي قديم شيد على تل مقابل لقصر الحمراء، وما زال يشهد بمعماره وأزقته وبيوتاته وساحته على نمط العيش الموريسكي في غرناطة الوسيطية.
باستثناء المقدمة، تفتتح كل فصول الرواية الستة عشرة بعتبات يتصادى صوت مغزاها مع محتوى كل فصل على حدة. وأغلب هذه الاستفتاحات أبيات لشعراء أندلسيين مثل الرُّندي وابن الخطيب وابن زيدون والمعتمد بن عباد وابن الجياب وابن العسال وغيرهم. تستوقف القارئ لأنه يحس وكأن لغة السارد تمتح منها، من شعريتها وبعدها التراثي، بل إن شعر ابن زُمْرك الذي يزين جدران قصر الحمراء، وينساب مع أحد فصول الرواية، “راق” الملك فيليبي بعد أن سمع ترجمته (التي، بالمناسبة، “عذبت” المترجم) و”طلب أن تنسخ في رقعة وتوضع في غرفته”، ثم أمر بأن يكُرَّم الترجمان كما كان يكرم الشعراء: “ابعثوا لترجماننا من المال ما تقر به عينه، وهذا ردائي أخلعه عليه”.
وبالعودة إلى أصل الحكاية نجد أنه نبع من لقاء ثلاثي بين أستاذ باحث مغربي اسمه مروان، وهو شاب متخصص في المخطوطات، وصديقه التاجر بابلو والقسيس ميغيل. لقاءٌ طُلب فيه من المغربي فك رموز مخطوط وجده ميغيل في قبو كنيسة منذ ثلاثين سنة. اكتشف المغربي أن المخطوط سيرة ذاتية للموريسكي ألونسو ديل كاستييو يحكيها بضمير المتكلم، فنذر عطلته لنقلها في هذه الرواية. هكذا أيضاً تبدأ رواية الكيخوطي للكبير ميغيل دي ثيربانتيس!
تنطلق الرواية، إذن، من فضول هذا الشاب العربي المغربي الشغوف بالمخطوطات الأندلسية لتقدم لنا فسيفساء من الأحداث التاريخية تفصِّل في حياة الموريسكيين من خلال معيش البطل اليومي أو من خلال ما يتذكره عن والده وجده. فالذاكرة مطية تعود من حين لآخر إلى ماضي الموريسكيين حتى قبل سقوط غرناطة في 1492، كما تمتد إلى ما بعد صدور قرار طردهم النهائي من أرض شبه الجزيرة الإيبيرية وبداية تنفيذه سنة 1609. هذه المعطيات التاريخية تفسح إمكانية قراءة الرواية قراءة تاريخية صرف تجعلنا نقف على مظاهر اضطهاد إسبانيا الكاثوليكية – عبر محاكم التفتيش- “للمسيحيين الجدد”، كما كان يطلق على من تبقوا من المسلمين وأرغموا على التنصر بعد 1492. وقد تفنن هؤلاء وأبدعوا في ابتكار ألاعيب يخفون بها هويتهم الحقيقية، فحرروا كتاباتهم بلغة عجمية هي خليط من العربية الأندلسية والرومانسية اللاتينية مكتوبة بحروف عربية. ألم تصف الرواية جد السارد بأنه “داهية غرناطة كلها”؟ والمتمعن في حياة هذه الأجيال الثلاثة يجدها تتسم بالازدواجية والخوف؛ فالموريسكي خارج البيت نصراني يسمى ألونسو أو بيدرو أو ماريا، وفي الخلوة وداخل البيت مسلم يحاول استعمال ما تبقى له من عربيته ويمارس ما يتذكره من طقوس المسلمين. تلك هي حياة ألونسو الذي ترك الطب من أجل الترجمة، فهو في الظاهر مسيحي خادم للملك وللديوان المقدس، لكنه يضمر وفاء لأصله ويسعى إلى الانتصار للغته وثقافته ودينه. هذا الوفاء يتجسد في إصراره على البقاء في أرض أجداده ورفض الهجرة التي فرضت قسراً على بني جلدته. بل أكثر من ذلك، يجازف بحياته من أجل البحث عن حل للقضية الموريسكية كلها مستغلاً منصبه وتقدير الملك فيليبي لعمله وشخصه. وتستحضر الرواية، أيضاً، الازدهار الأدبي للأندلس من خلال الأشعار والمقولات التي تزين متنها السردي، ونبوغه العلمي بالإشارات المتكررة إلى بعض أعلامه وكتبهم. كل هذه المعلومات ليست مجرد استطرادات تثقل النص أو ترهله، بل أدوات يوظفُها السرد وتشد بنيانه، لأن الكاتب توفق في ربطها مع خيوط الأحداث في تناسق ناغم. وتقر الرواية في الختام، مثلما يشهد التاريخ بذلك، بأن الموريسكي مجرد “مهزوم في ثوب منتصر”، وتنتهي بتفرق مصائر أفراد عائلة ألونسو كما حصل مع موريسكيي إسبانيا.
لكن الرواية تحتفي أيضاً بالترجمة وتنتصر للمترجم. فألونسو استغل جهل رجال الكنيسة باللغة العربية فمَوَّه الكثير من الحقائق أمامهم حتى لا يوقع بني ملته في “صنوف العذاب” التي يكيلها هؤلاء القساوسة لكل من ساقته الأقدار إليهم. والرواية تزخر بكثير من “المواقف النضالية” للمترجم نسوق منها للتمثيل فقط المقطع الآتي:
“أخرج الشيخ من حزامه كومة أوراق قال إنهم وجدوها في دكان أحد العطارين ووضعها على الكرسي. وبدأ في عرض المسألة دون مقدمة. كانوا يحفظون كل صغيرة وكبيرة عمن يتعطشون إلى دمه:
- هذا العطار يقال له رودريغو، وشت به امرأة بعد أن فارقها لأنه لا زال على عقيدته الفاسدة رغم أنه تعلم في الكنيسة أن ما يعقده الرب لا يحله الإنسان. وقالت المرأة الصالحة إنه لا يزال على دين الإسلام وإنه ينظر في كتب أتباع هذه الملة، وإنه يضعها في صندوق يغطيه بأكوام الأعشاب وأكياس المسك. فتَّشْنا دكانه فلم نجد إلا هذه الأوراق ونحن نميل إلى رأي المرأة. اقرأ لنا هذه الأوراق يا ألونسو.
- وأين كان صلاح هذه المرأة قبل الطلاق؟ ألا ترون أنها جاءت إليكم لتنتقم منه؟
رفع الشيخ رأسه وعيناه مغمضتان كناية على كظم الغيظ واستحضار الحلم وقال:
- لقد كلفك مولانا الملك بالترجمة ولم يجعلك قاضياً في ديوان التفتيش، أليس كذلك يا ألونسو؟
أخذت الأوراق ولم أجبه، لأنه قال ما قال ليرد علي الحجة لا ليسأل. بسطتها الواحدة تلو الأخرى فإذا بها ألفية ابن مالك الجياني، وربما كانت لأحد طلبة العلم من مالكية الأندلس لأنني وجدت في حواشي بعض الصفحات بعض المسائل الفقهية المدونة دون انتظام.
- هذه يا سادة قصيدة لشاعر عربي جاهلي اسمه عنترة يتغزل في محبوبته عبلة. ربما حضر سبب نفور العطار من زوجته…
- رجل فاسق ككل أتباع هذه الملة المولعين بالنساء. أليس كذلك يا ألونسو؟
- رأي أبينا صائب. كلهم فاسقون.
اختلى رجال الديوان في مجلسهم بعد النظر فيما عرض إليهم من مسائل، وخرجتُ والمخاوف تتهاوى على قلبي…” (ص. 58 – 59)
تذكرنا رواية ترجمان الملك للأستاذ مراد زروق بأعمال أدبية أخرى تسرد روائيا حياة الأندلسيين، مثل كتابات حسن أوريد وأحمد التوفيق وبنسالم حميش، وقبلهم جرجي زيدان أو الكاتبة المصرية رضوى عاشور؛ كما تدعونا أيضاً للبحث عن المكتوب في نفس السياق في الضفة الأخرى مثل رواية الابن الثاني لبائع الحرير للكاتب الغرناطي فيليبي روميرو. لكنها تختلف عن غيرها بكونها تتناول ذات الموضوع من زاوية الترجمة؛ والترجمةُ اشتغال فكريٌّ عالمٌ على اللغة والثقافة في الآن ذاته، وكاتبها ممارس للفعل الترجمي وباحث فيه. وفي هذا يسير على منوال كثير من الكتاب الإسبان أو الأمريكولاتينيين الذين مارسوا الترجمة وأسسوا سرودهم عليها مثل إدواردو ميندوثا، وخابيير مارياس، وخورخي لويس بورخيس، وماريو بينيديتي وغيرهم. أما لغة السرد عنده فهي جميلة تشد القارئ، وأحياناً تميل إلى التراثية وتحمل عمقاً عروبياً بين ثناياها. كل هذا يجعل من ترجمان الملك لمراد زروق إضافة مختلفة ونوعية للفن الروائي ذي الموضوع الأندلسي في المغرب والمشرق