– هشام بن الهاشمي، الكتابة المسرحية وأسئلة ما بعد الكولونيالية، منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، ط.1، 2016.
يعد كتاب الناقد هشام ابن الهاشمي “الكتابة المسرحية وأسئلة ما بعد الاستعمار” من المقاربات النقدية التي أخصبت الممارسة النقدية المسرحية المغربية، أبان فيه الناقد تمثله الواعي والناضج لمقولات ومنهجيات النقد ما بعد الاستعماري، وانفتاحه المثمر على الاتجاهات ما بعد الحداثية التي تتجاوز الجوانب الجمالية والأنساق البلاغية، وتهتم بدراسة الظواهر والقضايا الثقافية ذات صلة بالذات والآخر، التاريخ، الهوية، الاستعمار، التابع، الهيمنة…، إذ استطاع الناقد في دراسته أن يرسم مع مجموعة من النقاد المسرحيين حركة نقدية جادة ورصينة، تمكنت من مسايرة التطور الحاصل في مجال النقد المسرحي، والإلمام بالاتجاهات النقدية المسرحية العربية والعالمية، حيث لم تتأسس رؤيته على الأحكام والانطباعية والسطحية، بل ساءل النصوص المسرحية، واستنطق أنساقها ورموزها الخفية، وأعاد الاعتبار للذوات والأصوات المغيبة فيها.
يفكك الناقد في دراسته الاتجاهات التي غيبت الأبعاد الثقافية والتاريخية والسياسية للنصوص الأدبية، من خلال إعادة الاعتبار للمعطيات والسياقات المتحركة والفاعلة في النصوص المسرحية، وبيان أهمية التحليل الثقافي والدنيوي في الكشف عن الأنساق والرموز المخبوءة والمستترة والصامتة، واستنطاق الأصوات والذوات المغيبة فيها، حيث يتقاطع تحليله مع العديد من النماذج النقدية التي اتخذت من ما بعد الكولونيالية آلية للتقويض، عبد الله الغدامي، خالد أمين، عبد الله إبراهيم، رضوى عاشور، أحمد بلخيري، حسن اليوسفي وغيرهم. هناك دوافع كانت تحفزنا إلى ضرورة خوض هذه التجربة العلمية، منها: أولا: الرغبة في الاشتغال على الدراسات المسرحية التي لم تخضع بعد للتحليل المنهجي، ثانياً: جدية هذا العمل النقدي الذي يقوض النصوص المسرحية وفق رؤية ما بعد كولونيالية.
1- التحليل المنتج وقوة المرجعيات الثقافية
يعد مشروع الناقد هشام بن الهاشمي من المحاولات النقدية الرصينة في النقد المسرحي المغربي، وأعمقها استثماراً لمقولات وآليات النقد ما بعد الكولونيالي ومنهجيات النقد الثقافي، إذ استطاع في دراسته الوقوف عند الإشكالات الثقافية، والأسئلة الكبرى التي تطرحها النصوص المسرحية المختلفة، محاولاً تجاوز الأنساق الجمالية والاستيطيقية، مركزاً على القضايا الثقافية المتصلة بالأنا والآخر، المستعمِر والمستعمَر، السلطة، المقاومة؛ فـ”تحليل النص الأدبي وفق المنظور الثقافي، يعتمد على وضع النص داخل السياق الثقافي والسياسي الذي أنتجه، ليبحث عن طبيعة الصراع الذي يشير إليه لتحديد الواقع الثقافي”([1]).
يجمع الناقد في رؤيته النقدية بين المقاربة النظرية والممارسة التطبيقية، يطبق مفاهيم ومقولات النقد ما بعد الاستعماري على النصوص المسرحية المتعددة، ويختبر آراءه النظرية وأفكاره النقدية، إذ تكشف مقاربته على مبدأ الثبات المنهجي، والمرونة في توظيف المفاهيم والطروحات النقدية المختلفة، يستنطق الخطابات المسرحية ويربطها بالسياقات الثقافية والسياسية والإيديولوجية التي أنتجتها، ويستحضر الهوية والتاريخ والسلطة، والاستعمار، والعلاقات غير المتكافئة بين الأنا والآخر، المركز والهامش، الداخل والخارج.
ومن ثم، يعتمد الناقد بناء هندسياً ومنهجياً رصيناً، يزاوج بين المقتضيات النظرية والممارسة التطبيقية، وتتجلى المغايرة النقدية في تخطيه للمسارات النقدية المألوفة، وبنائه خطاباً منهجياً رصينًا، يقوم على أجرأة المفاهيم وتطبيقها على النصوص المسرحية من جهة، واعتماد مقاربة حوارية تمزج بين النظريات النقدية والمعرفية ما بعد الحداثية من جهة أخرى، خاصة النقد ما بعد الكولونيالي، النقد الثقافي، النقد التفكيكي، وهي اتجاهات منتجة تفكك البنى المضمرة في النص الأدبي، وتستنطق المسكوت عنه والصامت فيه، وتحفر في الطبقات النسقية الخفية المبثوثة فيه بشكل واعٍ أو غير واع.
يتضمن الكتاب فصلين أساسيين: ففي الفصل الأول المعنون بـ“ما بعد الكولونيالية المفاهيم والخلفيات“، يقف الناقد على مجموعة من الأجهزة المفاهيمية، منها: النقد الدنيوي، التمثيل الثقافي، إستراتيجية المقاومة، الهجنة الثقافية، القراءة الطباقية، مما يدل على تنوع وتعدد رصيده المعرفي والمفاهيمي، وإلمامه الواسع بنظريات ومقولات ما بعد الكولونيالية، ويوضح ذلك قائلا: «سنسلط الضوء على المفاهيم النقدية التي تشكل لحمة النقد الما بعد كولونيالي، كما سنحرص على تبيان الخلفيات النقدية والمعرفية التي أتاحت لإدوارد سعيد تأسيس هذا المنظور الجديد، الذي يتعامل مع النصوص بوصفها ظاهرة ثقافية تشتبك مع الخطابات والأنساق الثقافية، فرغم تعدد المرجعيات، واختلافها، وتنوعها، فقد استطاع إدوارد سعيد التأليف بينها بشكل خصب يهدف اجتراح مشروع نقدي وازن قوامه المغايرة”([2]).
يقارب الناقد في الفصل الثاني “الكتابة المسرحية وأسئلة ما بعد الكولونيالية” النصوص المسرحية وفق رؤية نقدية بديلة ومغايرة، تستثمر مقولات النقد ما بعد الكولونيالي، والنقد الثقافي، والنقد التفكيكي، إذ يربط الناقد النصوص المسرحية المدروسة بالسياقات الثقافية والتاريخية التي أنتجتها، ويستنطق أنساقها الخفية وبنياتها المضمرة، ويطرح أسئلة وإشكالات ثقافية كبرى ذات ارتباط بالأنا والآخر، المستعمِر والمستعمَر، المرأة والرجل، الهوية، الاستعمار. يقول الناقد شارحاً طريقته في التحليل: “سنفكر في النصوص المقترحة للتحليل بوصفها نصوصاً تنزع الى مقاومة السلطة بغية الاقتراب من قضايا تتصل بالتاريخ، الهوية، وثنائية الأنا والآخر”([3])، وقد انصب الجانب التطبيقي في تحليل النصوص المسرحية من منظور ثقافي ما بعد كولونيالي، باعتباره تحليلاً وتقويضاً غايته استنطاق المسكوت عنه في النصوص المسرحية، والانخراط في أسئلة المجتمع الشائكة بفكر نقدي قوامه التفكيك والتقويض وإعادة البناء، واقتحام المناطق والسياقات التي غيبها المنهج البنيوي.
2- المفاهيم والمنهج: السياق والأداة
يستثمر الناقد في دراسته مقولات ما بعد الاستعمار التي تعيد الاعتبار للثقافات والهويات والممارسات التي عرفت إقصاءً واستبعاداً من طرف المركزية الغربية، وتعيد كتابة تاريخ الهوامش بروح المساواة، وتتجاوز المناهج المغلقة التي تتجاهل الخلفيات التاريخية والسياقات الثقافية المرتبطة بكينونة النصوص الأدبية، وتعيد قراءة وتفكيك أسس المركزية البنيوية، باستحضار المرجعيات الثقافية للنصوص الأدبية، والاشتغال وفق تصور معرفي مغاير يدرج الخطابات ضمن أنساق الثقافة والتاريخ والهوية، ويكشف اشتباكاتها الجدلية ببنيات القوة والسلطة والهيمنة.
تتوخى رؤية الناقد ما بعد الحداثية دراسة النصوص المسرحية ومقاربتها دنيوياً، وتسعى إلى تعميق الوعي بأهمية الدراسة الثقافية للنصوص الإبداعية عامة والخطابات المسرحية خاصة، وترسيخ تصور نقدي يتجاوز النموذج البنيوي الذي أخرس السياقات المحيطة بالنص الأدبي، إذ يعيد النقد ما بعد كولونيالي الاعتبار للمرجعيات الثقافية والتاريخية، ويقوض الأنساق الثقافية المضمرة، “ويعيد تمثيل وضع المهمشين والمقموعين في وجه المهيمنين، بالتوازي مع جعل الأسس الخفية للسلطة مرئية، ثم تفكيك وحدة خطابها، وكشف وظيفتها في مجال إسكات الفرد وقهر المواطن”([4]).
تتسم رؤية الناقد بالطابع المركب سواء من حيث رصد الظواهر النقدية، أو على مستوى توظيف النظريات والأجهزة المفاهيمية والمنهجيات التي يوظفها في قراءة المنجز المسرحي، حيث يظهر البعد التركيبي والتوليفي في استثمار آليات ومرجعيات متعددة، يطوعها وفق ما يتلاءم مع النصوص المسرحية، إذ لا يسقط المفاهيم إسقاطاً مباشراً وآلياً على النصوص المسرحية، وإنما يراعي سياق الخطابات المسرحية وشروط إنتاجها، وبالتالي يتأسس مشروعه النقدي على خاصيتين:
الأولى: تجاوز النموذج البنيوي في دراسة النصوص المسرحية، والانفتاح على نظريات خصبة تربط النص بالعالم، وتستنطق سياقاته الثقافية والاجتماعية والتاريخية والسياسية.
الثانيةا: تغيير إستراتيجية قراءة النص المسرحي وتفكيكه، وفتح آفاق جديدة ودينامية كانت مغيبة ومنسية في النصوص المسرحية.
يصير الخطاب النقدي عند الناقد مجالاً معرفياً واسعاً للتفكير في قضايا ومفاهيم متعددة، مثل التمثيل، والمركزية، والهامش، والأنا والآخر، والاستعمار، والاختلاف، والهوية، والتابع، والمقاومة…، إذ تشير هذه المنظومة المفاهيمية إلى تجاوز الناقد المنظور الشكلي للنصوص المسرحية، واقتراح مقاربة ثقافية تقوض الدلالات الرمزية والأنساق الأيديولوجية المشكلة لها؛ فممارسته النقدية محكومة بطموح ابستمولوجي، غايتها تجاوز العديد من الاتجاهات التي أغرقت في دراسة الجوانب الشكلية، وقوامها المغايرة والاختلاف والتجديد على مستوى الآليات والرؤية والمنهجية.
يتأسس الأفق النقدي عند الناقد هشام بن الهاشمي على مرجعيات نقدية وخلفيات معرفية متعددة، مستمدة من النقد التفكيكي، النقد الثقافي، النقد ما بعد الكولونيالي، وتتجه ممارسته النقدية والفكرية صوب تأسيس خطاب نقدي قوامه الجدة من جهة، والانفتاح على اتجاهات ونظريات ما بعد حداثية من جهة أخرى، “مما أفرز خطابا نقديا محكوما بسياقات ثقافية متعددة، حيث يتداخل فيها الثقافي بالإيديولوجي، وترتبط فيها الأنا بالآخر، وتقترن الهوية بالاختلاف”([5])، إذ تستهدف دراسته بناء رؤية نقدية بمفاهيم ومقولات واضحة، وتعميق الوعي بوظيفة النقد وغايته، المتمثلة في تجاوز الأبنية الجمالية والبلاغية، والبحث عن الأنساق الإيدولوجية المضمرة التي تتوارى خلف المعطيات الشكلية.
يستحضر الناقد مفهوم النقد الدنيوي كمفهوم مركزي في مقاربته، من خلال تحليل النصوص المسرحية في علاقتها بالعالم، والتركيز على الأبعاد والسياقات الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي طمست بفعل هيمنة النموذج البنيوي، إذ يعيد هذا المفهوم النظر في النصوص ويستكشف أنساقها المضمرة، وظروفها التاريخية والثقافية والسياسية، “فعبر النقد الدنيوي تنسج العلاقة الوثيقة بين النص والمجتمع والواقع السياسي، بما تتضمنه من قوى السلطة وقوى المقاومة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في الوعي النقدي”([6]).
ومن ثم يكشف الناقد عن محدودية الأفق البنيوي الذي يختزل النص الأدبي في النموذج اللساني، “ذلك أنه لا يمكن إسقاط النموذج اللساني على وصف النصوص، لأن بنيتها الداخلية تعتمد على عوامل ليست لسانية بشكل خالص”([7])، ويتجاوز الناقد المعطيات البنيوية، وينفتح على المرجعيات الثقافية والمقولات المعرفية التي تضفي على النص طابع التفاعل عبر الثقافي، ويتبنى تصوراً نقدياً موسعاص للخطاب المسرحي، يستنطق مناطق ثقافية ودنيوية بعيدة عن الجوانب الجمالية والشكلية، كالهوية والذات والآخر والواقع والعالم.
وبناء على هذه الرؤية ما بعد الكولونيالية، يستمد الناقد أطروحات إادوارد سعيد، وينفتح على أفكاره ومقولاته، خاصة مفهوم النقد الدنيوي الذي يربط النصوص الأدبية بالمرجعيات والسياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية، ويعد استراتيجية نقدية ومعرفية مهمة، تغير زاوية نظرنا إلى النص الأدبي بوصفه نسقاً ثقافياً غير منفصل عن السياقات التي أنتجه، وتفكك الخطابات التي تخفي خلف جمالياتها أنساقاً مضمرة مرتبطة بالهيمنة الثقافية، “فالنقد الدنيوي وفي الدنيا ما دام يقاوم التمركز الأحادي الجانب، وهو المفهوم الذي أدرك أنه يعمل بالتعاون مع المفهوم العرقي والمفهوم الذي يبيح للثقافة أن تتقنع هي نفسها بقناع السلطان الخاص الذي تتجلى به بعض القيم على غيرها من القيم الأخرى”([8]).
ومن ثم، يجعل الناقد خطاب ما بعد الكولونيالية بؤرة مركزية في دراسته، استظل بآلياته ومرجعياته ومفاهيمه المتعددة، وتجاوز الاتجاهات التي تؤول النصوص انطلاقاص من بنياتها الداخلية وأنساقها البلاغية، واهتم بالتحليل الثقافي الذي يتيح إمكانية الانفتاح على العوالم الثقافية والرمزية والإيديولوجية التي أخرستها المركزية البنيوية، إذ تعمل نظرية ما بعد الاستعمار في مجال الحقل الثقافي، لذلك فهي تتقاطع مع النقد الثقافي، “بل هي شكل من أشكال النقد الثقافي والتحليل النقدي الثقافي، وهو طريقة لتحرير المجتمعات بجملتها من شفرات الهيمنة المقترنة بالهيكلة الثقافية”([9]). ويمكن حصر المبادئ الفكرية والمرتكزات النقدية للنظرية ما بعد الكولونيالة فيما يلي:
- تقويض الخطاب الاستعماري: يفكك النقد ما بعد الكولونيالي الخطابات الاستعمارية ذات النزعة الاستعلائية والعرقية والطبقية، ويشرح الفكر الإمبريالي المهيمن الذي يسعى إلى السيطرة على الثقافات والهويات الأخرى، ويروم إخراسها وإسكاتها واستبعادها من خلال إعادة الاعتبار للثقافات والأجناس والهويات التي أقصيت بفعل هيمنة المشروع الاستعماري، وإعادة كتابة تاريخ الهوامش بروح المساواة، وإرساء سرد مقاوم ومضاد يواجه الرؤى الاستشراقية والخطابات الاستعمارية.
- تشريح الثنائيات الضدية: تقوض النظرية ما بعد الكولونيالية العلاقات المركبة بين الأنا والآخر، وتعيد النظر في التقسيمات التراتبية التي يرسخها الخطاب الاستعماري المهيمن، من قبيل: مركز/هامش، غرب/شرق، شمال/جنوب، أبيض/أسود، متمدن/متخلف، من أجل تعميق الهوة بين العالمين والثقافتين، والإعلاء من شأن الطرف الأول والتقليل من شأن الطرف الثاني، إذ أنتج الخطاب الغربي تمثيلات وصوراً تستند إلى الخلفيات العرقية والإثنية والطبقية، تحط من قيمة الآخر وتقصي أبعاده الإنسانية.
- إعادة ترميم الهوية المحلية: ترفض النظرية ما بعد الكولونيالية الاندماج في الثقافة الغربية المتمركزة، وتنتقد سياستها الاستعمارية والاستعلائية، وتعيد الاعتبار للهوية المحلية وتدافع عنها، وتعيد ترميم الثقافة الوطنية وإحياء الممارسات المحلية التي أخرسها المستعمر، وفي الآن نفسه تدعو الثقافات والهويات إلى الانفتاح على الآخرين والتفاعل معهم والاستفادة منهم بعيداً عن المركزيات والتقسيمات العرقية.
- مقاومة سياسات المركزية الغربية: يتأسس النقد ما بعد الكولونيالي على ثقافة المقاومة، من خلال تشييد خطاب مضاد يواجه التمثيلات والصور النمطية والثنائيات الضدية التي تنتجها المركزية الغربية، وتشريح سياسات القمع والاضطهاد والإقصاء التي تحط من قيمة الآخر المختلف، وتفكيك ممارسات الثقافة الغربية الاستعلائية والاستشراقية التي تشكل حواجز تفصل بين الذات البيضاء المتفوقة والصافية عن الأعراق والثقافات الأخرى الملونة والمتخلفة.
لذلك يستثمر الناقد أدوات نقدية ما بعد استعمارية، ويحاول تطبيقها في معالجة النصوص المسرحية، ومساءلة قضايا وإشكالات كبرى، منها: الأنا والآخر، الشرق والغرب، المستعمِر والمستعمَر، السلطة، المقاومة، المركزية الغربية، الهيمنة، القمع، التجربة الاستعمارية، وانزاح عن التلخيص والتبسيط والاختزال، وتجاوز المنهج البنيوي الذي “يهتم بدراسة الأنساق الداخلية للنصوص والعلاقات بينها، ويتجنب الحديث عن علاقة النصوص بالسلطة السياسية أو السلطة الثقافية متذرعاً بسلطة النص”([10])، ويطرح أسئلة كبرى وإشكالات ثقافية مهمة، ويستنطق الأنساق المغيبة في النصوص المسرحية المختلفة.
يفصح الناقد عن طموح نقدي وإبستيمولوجي، يتجلى في الوعي النظري بالدراسات ما بعد الكولونيالية، والإحاطة بمفاهيمها ومقولاتها وروافدها النقدية والفلسفية، وتحليل النصوص المسرحية برؤية تفكيكية ما بعد حداثية، تستجلي المسكوت عنه والمغيب والهامشي فيها، كما تقوض العلاقات المركبة بين الأنا والآخر، فالنقد ما بعد الكولونيالي يشيد كينونة النصوص الأدبية، ويدرسها دنيوياً وثقافياً وتاريخياً، ويعيد النظر في العلاقات غير المتكافئة بين الشرق والغرب، المستعمر، إذ يبدو خطاب الناقد هشام بن الهاشمي محكوماً بإنتاجية نقدية وتحليلية وتشريحية مؤسساً على التوليف والتركيب والإضافة والتجديد على مستوى الرؤية والمنهج والآليات.
3-تقويض نسق السلطة في النصوص المسرحية.
يقتحم النص المسرحي آفاقاً ومجالات جديدة ومغايرة، ويهتم بقضايا ومواضيع معاصرة، منها: التابع، جدلية الأنا والآخر، السلطة، المركزية، الاستعمار، التاريخ، الهوية…، ويساهم في إنتاج تمثيلات حول المستعمر والمستعمر، الأبيض والأسود، المركز والهامش…، ويتجلى نسق السلطة في مسرحية (الاغتصاب) لسعد الله ونوس، حيث يفكك الناقد العلاقة المركبة بين الذات الفلسطينية والآخر الصهيوني، ويقوض المركزية الإسرائيلية، ويبين آثارها على الذوات والفضاء المكاني، ويكشف عن “النظرة الاستشرافية التي تحرم العرب من المثيل القومي لذواتهم وتصورهم (خطيرين)، و(كسالى)، و(غامضين)، و(ضعفاء)، و(همجا)، و(غير أوفياء)…، فالخطاب الصهيوني منذ تشكله خطاب كولونيالي اعتمد إسكات الفلسطيني”([11]).
يبرز النص المسرحي (الاغتصاب) الحضور الممتلئ للسلطة الإسرائيلية، ويصور هيمنتها وسيطرتها على الفرد والمجتمع الفلسطينيين، إذ ظلت الذات الفلسطينية محاصرة ومغتربة ومجردة من وجودها وكينونتها وهويتها، وتابعة دائماص للمركز الاستعماري، فصوتها غائب وحضورها باهت، عاجزة عن استعادة الماضي، واستنطاق الذاكرة، وترميم الحاضر، لذلك تتحول الذات داخل النص المسرحي إلى هوية ملتبسة ومغتربة عن الوطن والذات والعالم.
ومن ثم، يقوض الناقد العلاقات المركبة بين الذات الفلسطينية والآخر الصهيوني، ويبين أحلام وانكسارات الذوات داخل الفضاء المسرحي، ويركز على استكشاف وتقصي مصائرها وآلامها، ويصور مقاومتها وصمودها ونضالها، من أجل الحرية والكرامة والوطن، ويفكك السلطة الاستعمارية التي تسعى إلى إقصاء الإنسان الفلسطيني وإخراسه وحرمانه من الحق ولاستقرار، “فالصراع ليس على الأرض فقط بل صراع على تدوين التاريخ، فالشخصية الإسرائيلية بوصفها شخصية إمبريالية مسكونة بالتناقض وتتجه نحو التحكم في مصائر الآخرين وشل إرادتهم”([12]).
كما يفكك الناقد نسق السلطة وحضورها المتمركز في مسرحية (نساء في الحرب) لجواد الأسدي، وما يعطي تحليل الناقد مشروعية، كون المسرح يساهم في صوغ الهويات الثقافية، ويشكل تصورات الشعوب والأمم، ويرصد التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات، ويكون صوراً عن الذات والآخر والعالم، “ويطور استراتيجيات مضادة في الكتابة، تفكك الصور النمطية المتحيزة إيديولوجيا للمركزية الغربية، منطلقة من الوعي بأهمية امتلاك سلطة الكلمة والصوت في تمثيل الذات”([13]).
يركز الناقد في دراسته على مفهوم الهوية، يحاول تقويضه وكشف ملابساته وتناقضاته، ويبين حضوره الملفت في مسرحية (نساء في الحرب)، إذ تتحول الذوات داخل النص المسرحي إلى هويات إشكالية ومغتربة ومنفية، تعيش توترات خارج الوطن وداخله، وترصد معاني التيه والضياع والغربة، وتسعى لإثبات هويتها في ظل هيمنة وسيطرة الغرب من جهة، وسيطرة التقاليد المجتمعية البالية من جهة ثانية، فالذوات من منظور الناقد تسعى إلى تحقيق التوازن بين ذاتها والمجتمع، لكنها لم تفلح في ذلك، لأن التقاليد الاجتماعية البالية تشكل لها عنصر تعجيز قيدت حركتها، كما أن “الديكتاتورية السياسية والقيود الاجتماعية قد أحبطت أي جهد فردي للتغلب على هذه المتناقضات”([14]).
ويبين الناقد حالة الاغتراب التي تعيشها الشخصيات داخل الفضاء الكولونيالي، وكذلك الذات المتشظية والمغتربة التي تبحث عن الاستقرار خارج الوطن، “تتمحور المسرحية حول ثلاث نساء هاربات من جحيم الطغيان والبطش في بلادهن إلى عالم الحرية في الغرب فيجمعهن ملجأ صغير بألمانيا”([15])، يشكل الفضاء الغربي للذوات الاستقرار والألفة والاطمئنان، في حين يجسد الوطن الغربة والضياع والقمع والقهر، مما يولد توترات وتناقضات بين الوطن والذات، وبين مجتمع سلطوي يمارس اضطهاده، وذات تسعى إلى التحرر والانطلاق..
كما يرصد الناقد في مسرحية (بنات النوخدة) لباسمة يونس، العلاقات بين المرأة والرجل، الأنا والآخر، ويبين معاناة المرأة وأشكال الاستلاب التي تؤطر هويتها، وتحد من مشاركتها الفعالة الإيجابية، ويقوض النسق الذكوري والمجتمع الأبوي الذي يختزل دور المرأة، ويكتم أنفاسها ويحرمها من إثبات وجودها وهويتها وكيانها، “فالمسرحية بوح ذاتي لثلاث بنات كشفن عن الرغبة في مقاومة الهيمنة تارة، والإذعان لجبروت السلطة تارة أخرى، لكن يبقى للبوح في نهاية المطاف حضور فاعل كفيل بتهشيم ثقافة المجتمع الجائرة”([16])، تقاوم المسرحية الفكر الذكوري، وتعيد الاعتبار للمرأة المضطهدة والملتبسة، فينبثق صوتها مضاداً للسلطة، مطالباً بالكرامة والمساواة لتتشكل هويات جديدة داخل الفضاء المسرحي، وذوات صامدة في وجه الثقافة الذكورية.
اهتم كتاب “الكتابة المسرحية وأسئلة ما بعد الاستعمار” بقضايا ثقافية مغايرة منها، التابع، المركزية الغربية، التاريخ، الهوية، ثنائية الأنا والآخر، الاستعمار، المستعمر والمستعمر، واتخذ منحى حفرياً عميقاً، يقوض مركزية الآخر وعنفه من جهة، ويفكك أنساق السلطة المحلية التي تكتم الذات من جهة أخرى، حيث يعتمد القراءة الثقافية والتفكيكية والنقد ما بعد الاستعماري في دراسة النصوص المسرحية، مما يجعل عمله رصيناً مقترناً بدينامية معرفية تتجاوز النماذج النقدية التي أرهقها التداول.
[1] – صليحة الشتيح، صراع الذوات والهويات، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد 25/3، العدد: 99، 2017، ص. 47.
[2] – هشام بن الهاشمي، الكتابة المسرحية وأسئلة ما بعد الكولونيالية، منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، ط.1، 2016، ص. 5.
[3] – الصفحة نفسها.
[4] – محمد بوعزة، سرديات الثقافية من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، الرباط، 2014، ص. 19.
[5] – التمارة عبد الرحمان، الخطاب النقدي: تشييد المغايرة، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد: 25/3، العدد: 99، 2017، ص. 231.
[6] – هشام بن الهاشمي، مرجع سابق، ص. 15.
[7] – محمد بوعزة، مرجع سابق، ص. 15.
[8] – سعيد إدوارد، العالم، النص، الناقد، ترجمة: عبد الكريم محفوظ، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2000، ص. 63.
[9] – هيلين جيلبرت، جوان تومكينز، دراما ما بعد الاستعمار، ترجمة: سامح فكري، مراجعة: سامي خشبة، أكاديمية الفنون المصرية، القاهرة، ص. 04.
[10] – هشام بن الهاشمي، مرجع سابق، ص. 16.
[11] – نفسه، ص. 89.
[12] – نفسه، ص. 92.
[13] – إدوارد سعيد، الثقافة والامبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب، دار الآداب، ط.4، بيروت،2014، ص. 51.
[14] – عبد المسيح ماري تيريز، قراءة الأدب عبر الثقافات، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2005، ص: 138.
[15] – نفسه، ص. 111.
[16] – نفسه، ص. 125.
مقالات في الصميم تتحدث عن تاريخ المغرب في فترة الاستعمار و الفن