الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » ثلاثة محكيات من زمن الرصاص

ثلاثة محكيات من زمن الرصاص

– Abdallah Saaf, Le Secret de la grande avenue, La Croisée des chemins, Casablanca, 2017.

رغم تخصصه في مجال العلوم السياسية، إلا أن عبد الله ساعف لم يفتأ يطل، بين حين وآخر، على عالم السرد، حيث يستعمل في كتاباته التي تنتمي إلى هذا السجل تقنيات البيوغرافيا تارة، والرواية التاريخية تارة أخرى، والحكي بصفة عامة. سبق أن نشر سيرة للمحارب المغربي في صفوف المقاومين الفيتناميين إبان الحرب الهند- الصينية (حكاية أَنَهْ ما (1995,Anah Ma، ورواية تاريخية حول احتلال المغرب لمالي على عهد السلطان المنصور الذهبيLe conquérant de l’Empire imaginaire  (2013) (صدر باللغة العربية بعنوان «جودار»)، ووصفاً لتأملات الكاتب حول الحياة اليومية في «دفاتر حافلة» (1999). ونشر سنة (2017) نصاً حكائياً يلامس عن كثب الحياة السياسية في المغرب من خلال محاكمة وسجن مناضل، ومن خلال سيرة الزعيم (الفقيه البصري) التي تعتمد أساساً على معطيات صداقة قوية تواصلت حوالي عشرين سنة بين هذا الأخير وبين الكاتب، وكذا من خلال امرأة كانت وثيقة الصلة بـ (الفقيه).

يحمل هذا النص، الذي يتألف من 24 فصلاً، عنوان Le secret de la grande avenue (سر الشارع الكبير)، وتجري وقائعه في السجن ومراكش والرباط وباريس وبغداد وبيروت و أكادير، فضلاً عن إحدى القرى rقرب مدينة دمنات شرق مراكش على مشارف الصحراء، حيث يتم سرد مجرياتها، على نحو زمني متتابع ومتقاطع، من خلال سارد extra-diégétique يتتبع مسار مناضل وباحث اسمه جبريل، ألقي عليه القبض في قضية سياسية، وعُذب، قبل أن يقدم للمحاكمة، ويصدر في حقه حكم بالسجن مدة 17 عاماً، قضاها كاملة بسبب رفضه تقديم طلب عفو من الملك، كما فعل بعض رفاقه، وكما كانت رغبة والده.

لقاء في الطائرة

تعكس الفصول الستة الأولى من النص فترة محاكمة جبريل، ومشهد النطق بالحكم عليه، ودخوله السجن، وعلاقته برفاقه فيه، وتَشَكُّل نقاشات فيما بينهم حول طلب العفو، وعلاقته بالسجانين التي بدأت في شكل جفاء حاد قبل أن تتحول إلى ود وتفاهم، ثم خروج بعض المعتقلين تباعاً، وحلول آخرين محلهم، مع تعاقب السنين وتواصل الاعتقالات. دخل جبريل السجن وعمره خمسة وعشرون عاماً، وغادره وهو في الثانية والأربعين. وعقب خروجه قرر ألا يعيد النظر في فترة الاعتقال وما سبقها، وأن المهم بالنسبة له هو النظر إلى المستقبل، دون نسيان الماضي.

بسبب رفضه طلب العفو، يتوصل جبريل، بضعة أيام قبل خروجه من السجن، برسالة دعم ومساندة من (الفقيه) الذي كان جبريل قد تعرف عليه حين كان متوجهاً ذات يوم إلى الشرق للمساهمة في ملتقى حول اليسار الجذري. تستثير الرسالة اهتمامه بـ (الفقيه) مجدداً، وتعمل على حثه للدنو منه أكثر والاستماع إلى تحليلاته. ليست هناك تفاصيل مدققة حول شخصية جبريل، لكن يمكن الاستنتاج أنه كان ينتمي سياسياً لليسار، أعزب (بعد اختفاء زينب من حياته وزواجها)، أستاذ باحث، يقيم في الرباط، ويشارك في ندوات وملتقيات ثقافية وسياسية في عدة دول، ومنها الندوة التي نظمت في بغداد، وكانت فرصة للقاء بـ (الفقيه) حيث تصادف وجودهما معاً في نفس الطائرة المتوجهة إلى العراق في ربيع سنة 1984.

يصف السارد انطباعات جبريل عن (الفقيه) حين لقائه به: «كان رجلاً حسن المحيا، ذا شعر يميل إلى البياض، أنيقاً، يتصرف بيسر ورحابة، وتنبعث من ملامحه كاريزما جذابة». يتعلق الأمر بمقاوم مغربي شارك في الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، وناهض سياسة المخزن بعد الاستقلال، وحُكم عليه بالسجن والإعدام عدة مرات، إلى أن اضطر إلى مغادرة بلاده والاستقرار في منفاه الباريسي، حيث مارس من هناك سياسة تهدف إلى الإطاحة بالنظام الملكي عن طريق خلق بؤر ثورية، كما كانت له علاقات مع مسؤولي وسياسيي عدد من دول الشرق الأوسط (سوريا، والعراق، ولبنان، ومصر)، وخاصة الجزائر التي كان يتردد عليها بكثرة ويستقبل فيها استقبال ضيوف رسميين.

أسفار مفاجئة

أثناء وجودهما في العراق، يتجاذب جبريل مع (الفقيه) أطراف الحديث، حيث يقترح عليه هذا الأخير زيارته في باريس، وهو ما لم يتردد جبريل في القيام به كلما حل بالعاصمة الفرنسية لشأن من  شؤونه، تجذبه إليه شخصيته القوية، وانطواء مساره السياسي على محطات مثيرة، لا تخلو أحياناً من غموض. ومن خلال لقاءاتهما كان جبريل يطرح على (الفقيه) أسئلة تتعلق بماضيه ومشاريعه فكان يجيب عليها بالتفصيل تارة (خصوصاً فيما يتصل بحركة المقاومة أو ما يسمى «الهروب الكبير»)، وباختصار ملتبس تارة أخرى، كعدم الإفصاح عن أهدافه من بعض أسفاره المفاجئة إلى الشرق. ظل جبريل مهتماً بأخبار صديقه، بما في ذلك اهتمامه بعودته إلى المغرب، بعد انفراج الحياة السياسية، ولقائه برفاقه الحزبيين وقدامى المقاومين، وقيام بعض أنصاره بتنظيم تظاهرة ترحيب به في مدينة خريبكة، وفشل هذه التظاهرة بسبب خلافات حزبية، ثم عودته إلى النضال على الصعيد العربي عن طريق دعم مقاومة العراقيين للاحتلال الأمريكي، وإعلانه عن رغبته في قيام تحالف بين الإسلاميين واليساريين والقوميين، وعمله كاتباً في الصحافتين اللبنانية والسودانية، إلى حين وفاته المفاجئة أثناء نزوله من الطائرة في مطار أورلي بباريس سنة 2003.

كانت اللقاءات التي تجري بين (الفقيه) وجبريل تتم غالباً في مطعم بشارع كليبير في حي الطروكاديرو بباريس، وكانت سيدة جميلة، في مقتبل العمر، تتردد على المطعم باستمرار، وكلما حلت به بادرت إلى الانفراد بالحديث مع (الفقيه) بصوت خافت أقرب إلى الهمس، بحيث لم يتمكن جبريل قط من معرفة محتوى تلك الأحاديث رغم جلوسه لصق صديقه. يصف السارد هذه المرأة من وجهة نظر جبريل: «تبدو كائناً مجبولاً على التأمل، ملامحها من ملامح نساء جهتها الأصلية: نساء جبال أقصى شمال البلاد. قسمات دقيقة، وعينان خضراوان، وشعر طويل يميل إلى السمرة، وقامة باسقة، وأناقة طبيعية». من جهة أخرى، لم يجرؤ جبريل على سؤال (الفقيه) عن هوية تلك المرأة، ولا عن طبيعة علاقته هو بها، مع أن قدومها إلى المطعم كان يستحوذ على اهتمامه، ويستثير في ذهنه أسئلة لا يجد لها جوابا.

ملامح امرأة

وأثناء لقاءات عابرة، هنا وهناك، مع بعض المقربين من (الفقيه) أو المساعدين السابقين له أو المنقطعين عن تياره، تمكن جبريل من معرفة أن اسم المرأة هو (ريم)، وأنها صاحبة مطعم شارع كليبير، وأن والدها، الذي سبق أن عمل مع الجيش الفرنسي، كان من رفاق (الفقيه)، بل مستشاراً له إبان سنوات مقاومة الاستعمار، لكنه اختار الانحياز للمخزن عقب الاستقلال، والانخراط في صفوف الجيش، وأن زوجها (عمر) كان من ضمن العسكريين الذين تم إعدامهم بعد محاولة الانقلاب على الملك سنة 1971، وأنها ارتبطت، إثر ذلك، بعلاقة غرامية مع ضابط مخابرات كبير، هو الجنرال عبد الكريم، قضى نحبه في حادثة سير غامضة، وإن كان البعض يتحدث عن تصفية متعمدة. عقب ذلك، ضاقت بالمرأة سبل العيش في المغرب، فهاجرت إلى فرنسا، واستقرت بباريس صحبة خادمتها عايشة، إلى أن أتيح لها الاتصال بـ (الفقيه) الذي ما أن علم بأنها ابنة رفيق له سابق في المقاومة، حتى بادر إلى تقديم يد المساعدة لها، إلى أن حصلت على ترخيص يسمح لها بفتح مطعم.

رغم رغبته الشديدة في التعرف على (ريم)، إلا أن جبريل لم يتمكن من مجالستها في باريس، متهيباً من حرص (الفقيه) على عدم الحديث مطلقاً عن صديقته، لكنهما سيلتقيان صدفة في مدينة أكادير التي قدم إليها لإلقاء درس افتتاحي في مركز للصحافة، حيث حلاّ بنفس الفندق، فقرر التعرف عليها عن كثب، ليكتشف أنها بدورها كانت تطمح إلى التعرف عليه منذ رأته بمعية (الفقيه) في مطعمها، ومنذ سماعها عن أنشطته الثقافية والندوات التي يشارك فيها في أوروبا والمشرق العربي. تتعدد لقاءاتهما، ويتواصل بينهما حبل المودة، إلى أن يتفقا على السفر معاً إلى الجنوب في رحلة استكشاف للقرية التي كانت مسقط رأس (الفقيه)، وذلك بغية اللقاء ببعض من بقي من سكانها ممن يتذكرونه أو يتذكرون ماضي عيش أسرته، والمهانة التي تعرضوا لها على يد المستعمر والقايد الگلاوي، ما نمّى فيه نزعة التمرد والمقاومة. أثناء السفر الطويل والمرهق بالسيارة، ازدادت علاقة (ريم) بجبريل متانة، لكنها ظلت محتشمة ومبهمة، فيما كان الأخير يميل، ربما، إلى التفكير في الارتباط بها، خاصة بعد فشل علاقته بـ (زينب).

مواعد مُخلِفة

يعود جبريل وريم إلى الرباط، ثم تسافر (ريم) إلى باريس للاطلاع على أحوال المطعم، واعدة جبريل بالعودة في أقرب الآجال للاتصال به أو للبحث عن أفق ما لعلاقاتهما. عقب ذلك يكرس السارد الفصل الأخير (رقم 24) للرسائل العديدة والقصيرة جدا التي يتوصل بها جبريل من (ريم)، والتي تتساءل فيها المرأة بتحفظ عن أحواله ومشاريعه العلمية وأسفاره، فيما تعلن في كل رسالة عن موعد محدد بدقة، زمنيا، للمجيء إلى الرباط، لكنها كانت في كل مرة تخلف الموعد دون الاهتمام ببيان الأسباب، إلى أن يتجلى لجبريل، فيما بعد، أنها كانت تعاني من مرض عضال، لم تلبث خادمتها عايشة أن أخبرته بشأنه، في رسالة طويلة، قائلة إن (ريم) شعرت بنذره قبل سفرها إلى أكادير، وأنها قضت نحبها أخيراً في أحد مستشفيات باريس.

ليس هناك في غلاف الكتاب ما يدل على أن النص رواية، أو سيرة ذاتية، أو عمل تخييلي مُطعم بعناصر واقعية عاشها عبد الله ساعف، كما هو شأن علاقة جبريل بـ (ريم). لكن الواضح هو أن جاذبية السرد هنا إنما تتحقق من خلال هذا الالتباس النوعي المتراوح الذي يجمع العناصر السابقة ويؤلف بينها. يلاحظ القارئ أن النص يعتمد على ثلاثة محكيات متواشجة: 1- محكي جبريل في السجن، 2- محكي جبريل و(الفقيه البصري)، 3- محكي جبريل و(ريم). هكذا يتم الانتقال من المحكي الأول إلى الثاني بواسطة رسالة تضامن (الفقيه) مع جبريل، ويحدث الانتقال من الثاني إلى الثالث عند رؤية جبريل لـ (ريم) في مطعم شارع كليبير. فيما يتشكل المحكي الثالث أساساً من لقاء جبريل بـ (ريم) في أكادير وسفرهما معاً إلى مسقط رأس (الفقيه) في جنوب المغرب.

إننا بإزاء نص يستثير ذكريات عن تاريخنا السياسي منذ خمسينات القرن الماضي ودور (الفقيه) فيه: فترة مقاومة الاستعمار، ومناهضة المخزن، والمحاكمات السياسية، والمنفى، والانقلابات العسكرية؛ كما يدعونا إلى تتبع تطور علاقة عاطفية (؟) بين مثقف مناضل عاش الاعتقال والسجن، وامرأة كابدت ظروفاً معقدة في المغرب إبان الانقلاب على الملك، وظروفاً قاسية أخرى إبان حلولها بباريس خاوية الوفاض. لكن (ريم) ظلت، بالنسبة لجبريل، لغزاً يصعب الولوج إلى أسراره، خاصة وأنه، وهو المهتم بخفايا السياسة، لم يلتمس قط منها أن تحدثه عن زوجها وكيفية ضلوعه في المؤامرة، وكذا عن عشيقها رجل المخابرات وظروف الحادث الغامض الذي أودى بحياته. فهل يكون كل ذلك هو السر الذي يشير إليه عنوان الكتاب؟ أم أن السر هو تلك الأحاديث الهامسة التي كانت تدور بين (الفقيه) و(ريم) في مطعمها والتي لم يتمكن جبريل قط من معرفة محتواها؟

- إبراهيم الخطيب

ناقد أدبي

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.