Romain Bertrand, « Histoire globale, histoire connectée », in Ch. Delacroix et autres collaborateurs, Historiographies : Concepts et débats, Paris, Gallimard, 2010, t. I, pp. 366-377.
التميُّز الذي يكتسيه مفهوم التاريخ الكوني مضلِّلٌ، بسبب تعدد مقاربات البحث التي تستتِر وراء هذا النعت. في اللغة الإنجليزية يزيد التذبذب بين عبارتي “التاريخ العالمي” (وُورد هيستُري) و”التاريخ الكوني” (غلوبْل هيستُري) من الخلط، مع أن التباينات المفاهيمية بين المدرستين تبقى في نهاية المطاف ضعيفة بالمقارنة مع ما يجمعهما. على الأرجح، يمكن القول إن “التاريخ الكوني” يقترب عادة من مسائل التاريخ المعاصر بالتساؤل عن “أصول” مسارات توسع الرأسمالية وانتشار الدولة القومية، أخذا بعين الاعتبار راهنيتها، بينما يهتم “التاريخ العالمي” بالدرجة الأولى بمجالات التاريخ القديم والحديث، ويبحث عن التغيرات أكثر مما يبحث عن حالات السبق. نشأ التاريخ الكوني في سنوات 1970، في وقت كانت قد تعزَّزت فيه أقسام “الدراسات الثقافية”، وألهم فيه الإرث البروديلي (نسبة لفيرناند بروديل) المنفتح على العالم، دراسات مقارنة عريضة، كما يظهر في عمل دونيس لومبار عن ملتقى جافا: دراسة في التاريخ الكوني (1990)، وحظي بدعم مؤسساتي في بداية سنوات 1980، مع ميلاد “جمعية التاريخ العالمي” عام 1982، والتي أصدرت “مجلة التاريخ العالمي”، وجمعت ما يقرب من 1500 منخرط. ومن جهة أخرى، أصدرت كلية الاقتصاد بلندن منذ 2006 “مجلة التاريخ الكوني”، كما أطلقت منشورات جامعة بيركلي الإلكترونية عام 2008 مجلةً تحت اسم “الدراسات الكونية الجديدة”. وإذا كانت هاتين المجلتين الأخيرتين قد تمكنتا من استقطاب ممارسي التاريخ الكوني، فإنهما احتضنتا مع ذلك مقاربات متنوعة كثيرة بدءاً بالتاريخ الاقتصادي الكمي الذي يعالج مجاليا قارات بأكملها وزمنيا قرونا بحالها، وانتهاءً بدراساتٍ في التاريخ الاجتماعي المحلي ذات صلة بِـ “اللقاءات الأولى” بين المجتمعات الأوروبية وغير الأوروبية.
لقد أفسد هذا التاريخ الكوني، الوريث البعيد والمضطرب لِـ “التواريخ العامة” العزيزة على فلاسفة الأنوار، المشاهد الأولى. بنهجه مقاربة تقضي بمراجعة الزمنيات والتساؤلات الأوروبية، ابتعد التاريخ الكوني عن الكونية الأحادية التي كان قد عبَّر عنها إمانويل كانط، الذي لم يأخذ مشروعه عن “تاريخ العالم” التواريخ الأخرى بعين الاعتبار إلا نادرا، إذ “أضاف بصورة عابرة تاريخ الشعوب الأخرى السياسي” إلى تاريخ الإغريق والرومان الرئيسي والمرتبط بالكشف التدريجي عن “منحى الطبيعة” (فكرة عن تاريخ كوني من زاوية نظر المواطنة العالمية، 1784). وأيضا، لا ينسجم التاريخ الكوني كما يمارَس اليوم مع المثاليات الأوروبية المركزية التي عرفها القرن التاسع عشر. فقد انتقد هذا التاريخ دوما إنكار هيجل لكل تاريخيةٍ خاصة بالشعوب الإفريقية، كما شجب أفكار إرنست رينان عن الإسلام كونه ديانة “متعصبة”، “مستخفة بالعلم” و”متنافرة تماما مع أوروبا” (دور الأمم السامية في تاريخ الحضارة، 1862). ولذلك، انخرط التاريخ الكوني في المسار النقدي الذي همَّ المشاريع الكبرى المرتبطة بتاريخ “الحضارات” العام الذي انطلق خلال سنوات 1910-1930 على خلفية خيبة الأمل التي ميزت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، كما يظهر في أعمال أوسفالد شبينغلر (اندحار الغرب، 1918-1922) وأرنولد توينبي (دراسة التاريخ، 1939). لقد ظل هذان العملان موسومين برؤية تطورية عن مآل “الحضارات” التي اجتهدا في بلورتها على مدى مدار من التعقيد المتنامي، وفق معيار “مورفولوجي” عند شبينغلر، وانطلاقا من تصميم زمني تقليدي من حيث تعاقب الإمبراطوريات عند توينبي. وعلى العكس من ذلك، قطع التاريخ الكوني المعاصر مع كل منطقٍ تصنيفي بالانتقال إلى ميدان المقارنة. رغم ذلك، ارتبط مشروع “لا مركزية أوروبا” لأحد أنصار دراسات التابع (السوبالتيرن ستاديز)، المؤرخ الهندي ديبيش شاكرابارتي (لا مركزية أوروبا: الفكر ما بعد الكولونيالي والاختلاف التاريخي، 2000) بحركة لم ترفض التقاليد الفلسفية الليبرالية الأوروبية، بل حاورتها حوارا نقديا، معبِّرةً عن قبول تكتيكي لبعض “مبادئها العامة” (في طليعتها صورة الرعايا-المواطنين). هكذا، انتقد التاريخ الكوني خطابات “المعجزة الأوروبية” التي أسندت لمجتمعات آسيا وإفريقيا دور الكومبارس الأبكم في السرد الكبير لمسيرة العالم نحو “الحداثة”، معدِّلا، عن دراية، المقولات المألوفة لممارسة البحث التاريخي “الغربي”.
لقد ارتبط التاريخ الكوني، وقد رفض في كثير من الأحيان قاعدة المقارنة ذات الصلة بدراسة ممالك إفريقيا، وروسيا زمن بطرس الأكبر، واليابان في عهد الميجي، والصين تحت حكم المينغ، والهند المغولية، برسم لوحة “التشابهات” و”الترابطات” و”التباينات” بين هذه المجتمعات ومثيلتها في أوروبا الغربية منذ مطلع العصر الحديث. لذلك، يتفادى هذا التاريخُ النموذجَ المعياري لِـ “المسار الغربي”، حيث يظهر السيناريو الأوروبي مناسبا لمصير المجتمعات الكوني، بل يسعى إلى توثيق تنوع أنماط التصنيع وتشكُّل الدولة أو بلورة المعارف. على هذا النحو، ينخرط التاريخ الكوني وبصفة نقدية في الامتداد المتصل بالمشاريع الإسطوغرافية الثلاثة الأخرى: أولا، تاريخ “التوسع الأوروبي” الذي يجسده منذ النشأة عام 1977 معهد تاريخ التوسع الأوروبي في ليدن، والذي يصدر مجلة “إتينيراريو” (الطريق)، وثانيا، “التاريخ الأطلنتي” الذي يشمل تاريخ حركات الاستعمار بشمال أمريكا وتاريخ تجارة العبيد وميلاد المجتمعات الخِلاسية بمنطقة الكاريبي، وثالثا، تاريخ المحيط الهندي الذي همَّ إعادة بناء شبكات التجارة الملاحية، في تعقيداتها المتعددة، من عدن إلى بحر الصين، ومن ثم ربط تنامي الهيمنة الأوروبية في آسيا بصيرورة تفاعلية تأخذ بعين الاعتبار عمليات التعاون والتبادل المتنوعة المقاييس. لقد اشتركت هذه المشاريع في الأصل في تقاسم الرغبة في التصدي للملف الضخم لأسباب التعميم الكوني تقريبا لِـ “الهيمنة الغربية” في العصر الحديث.
ومع ذلك، تبقى هذه الأسئلة في صلب التاريخ الكوني، كما يدل على ذلك النقاش الذي انطلق منذ عشرين سنة حول طروحات جوفري باركر عن ميزة أوروبا الغربية على مستوى التقنيات العسكرية في بدايات الحقبة الحديثة (الثورة العسكرية: الابتكار العسكري وصعود الغرب 1500-1800، 1988). يرى باركر أن الغزوات الإمبراطورية الأوروبية صارت حتمية بحكم التقدم الفجائي الذي حققته بعض الدول، في العقود الأخيرة من القرن السادس عشر، وخاصة هولندا التي كانت قد عرفت ثورة كبرى ليس فقط على صعيد التجهيزات المادية وأسس التنظيم، بل أيضا من حيث أساليب القتال (حصون المدافع وخطوط البنادق). والحال أن الدراسات الأكثر تفصيلا عن تطور جيوش الإمبراطوريتين العثمانية والمغولية تبيِّن أن هذا “التطور العسكري” كان قد تحقق خارج أوروبا الغربية، وأن ميزان القوة بين هذه الأخيرة وخصومها المسلمين والآسيويين لم ينقلب إلا في وقت متأخر، عند مطلع القرن الثامن عشر أو في أواسطه. وتمثل مشكلة انقلاب علاقة الهيمنة الاقتصادية في المبادلات بين أوروبا وآسيا خلال منتصف القرن الثامن عشر قضية أخرى من القضايا الخاصة بالتاريخ الكوني. في هذا السياق، أظهر كينيث بومرانز صعوبة تأويل “التباين الكبير” بين أوروبا والصين تأويلا حتميا وميكانيكيا، بعد سنوات 1750. لقد مكنت الدراسات المقارنة والدقيقة، التي أنجزت على مستوى الأقاليم وخارج إطار كل تصور تطوري، من ربط التقدم الصناعي الأوروبي بتعاقب أو بتداخل العناصر ذات الصلة مثلا بالتوزيع الجغرافي لمناجم الفحم الحجري (التباين الكبير: الصين وأوروبا وصناعة الاقتصاد العالمي الحديث، 2000). أما رُويْ بِين وُونغ فقد ذكَّر بأن الصين الإمبراطورية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر لم تكن إطلاقا “متأخرة” عن أوروبا فيما يتعلق بالتقنيات المصرفية والتجارية، بل كانت تمتلك قدرة خاصة على التطور باتجاه نمط فريد من التصنيع (التحول الصيني: التغيير التاريخي وحدود التجربة الأوروبية، 1997).
لقد ركز ممارسو التاريخ الكوني، عبر نقدهم للنظريات الانتشارية التي جعلت من أوروبا الغربية (أو الشمالية) البؤرة الوحيدة لابتكار المستحدثات الأخلاقية والسياسية والعسكرية أو الاقتصادية، على التاريخية الخاصة بالمجتمعات غير الأوروبية، وبعبارة أخرى على قدرتها الداخلية على امتلاك أشكال معقدة من المذاهب والمؤسسات السياسية. في هذا الإطار، عمل كريستوفر بايلي، بالخصوص، في كتابه نشأة العالم الحديث (2004) على تنسيب نظرية “تغريب العالم” بإظهار سلسلة من التطورات المتزامنة في أنماط الحياة والتفكير التي حصلت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كونها ثمرة شبكة من علاقات التبادل المتباينة الأطراف بين الهند والصين وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا وليس نتيجة لهيمنة هذه الأخيرة. وبالاعتماد على مفهوم “الحداثة المتعددة”، الذي نظَّر له صمويل أيزنستاد في دراسته تاريخ الحضارات المقارن والحداثة المتعددة (2003)، ساهم التاريخ الكوني في “نزع المركزية”، جغرافيا وزمنيا أيضا، ليس فقط عن تاريخ الممارسات الاقتصادية، وإنما أيضا عن الأفكار الدينية والسياسية.
ومن جهة أخرى، تشكل مسألة وجودِ مقياسِ تحليلٍ “كوني” (وليس مقياس تجربة كونية) موضوع نقاش نظري بالنسبة للتاريخ الكوني. وتبدو بعض الموضوعات أكثر يسرا من غيرها من حيث استجابتها لتاريخ “متعدد المواقع”، كما هو الحال بالنسبة لشبكات تجارة العبيد الأطلنتية، ومحاور الهجرة و”الشتات” البشري، أو على مستوى تجارة الكاكاو والقهوة (مثلا دراسة جيرفاز كلارانس سميث). أيضا، ترسم الوثائق المتوفرة “العالمية” (وثائق عصبة الأمم ومكتب الشغل الدولي) دروبا بحثية تقع بين السيادات السياسية والتخصصات العلمية. لكن، ما أن يتعلق الأمر بإعادة زيارة الموضوعات الكلاسيكية للتاريخ الاقتصادي والديني والسياسي، فإن إمكانية كتابة تاريخٍ متحرر من النزعة المركزية الأوروبية غالبا ما تفضي إلى خلافات حادة بين أنصار المقارنات العريضة القليلة التنوع، من جهة، وأصحاب توصيف “الترابطات” الكثيف، من جهة ثانية. ولذلك، يتعايش تحت راية التاريخ الكوني مشروعٌ من التصنيف العام للمجتمعات الحديثة ومن العمليات المقارِنة المهتمة بإعادة الاعتبار للتاريخ المحلي المستقل والخاص بهذا المجتمع أو ذاك من مجتمعات أمريكا اللاتينية والآسيوية والأوقيانية.
من هذه الزاوية، يحتل التاريخ المترابط مكانة فريدة في المشهد المعاصر للتاريخ الكوني. ولنقل أولا وقبل كل شيء أنه لا يشكل مدرسة أو تيارا إسطوغرافيا بقدر ما يمثل مرافعة لصالح مقاربة ملموسة في البحث التاريخي. لقد جعل التاريخ المترابط، الذي ظهر في سنوات 1990 في خضم نقد الميولات الأوروبية المركزية للتاريخ الكوني، من “اللقاءات الأولى” بين العالم الأوروبي والمجتمعات السياسية غير الأوروبية، إشكاليةً رئيسية. لقد اهتم بالخصوص بتشكُّل الشبكات الإمبراطورية العابرة للمحيطات من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر (الهند البرتغالية، المستعمرات الإسبانية، المراكز التجارية التابعة لشركة الهند الشرقية على سواحل الهند). ونظرا لهاجس الالتصاق بالوثائق، سواء الأوروبية أو غير الأوروبية، فإنه يُلقي على حالات اللقاء هذه نظرة متفاوتة، محاولا معالجة الأرشيفات الأوروبية والنصوص والإخباريات العربية والماليزية والفارسية أو المغولية، التي تصف الأوروبيين بأوصاف قاسية في غالب الأحيان، معالجةً متساوية. ولذلك، يشكِّكُ التاريخ المترابط بتفصيل في ذلك السرد المطمئن لِـ “الكشوفات الكبرى” التي يحتل فيها الأوروبيون الدور الريادي بدون منازع، ويوضِّحُ فضلَ التوافقات السياسية والإيديولوجية مع المجتمعات المحلية على عمليات الهيمنة الإمبراطورية الأوروبية، البطيئة والهشة، في بداياتها (سانجاي سوبراهمانيام، فاسكو دي غاما: المسار والأسطورة، 1997).
وبناءً على هذه الأمور، يواجه التاريخ المترابط خصمين. أولا، يجابهُ التاريخَ التقليدي المرتبط بِـ “التوسع الأوروبي” الذي يترك جانبا مسألةَ التاريخيةِ الخاصة بالمجتمعات السياسية غير الأوروبية، حيث لا يظهر الاهتمام بِـ “الزراعة أو بتكوُّن الدولة في الصين أو في أمريكا ما قبل كولومبوس، إلا بواسطة التأثير الذي يمارسه التوسع الأوروبي” (بيتر كورنيليس إيمير). وبرفض النظرة إلى تاريخ الهند “من على سطح السفينة الملاحية الأوروبية أو من على أسوار القلعة أو الرواق الأعلى لمستودع البضائع” (جاكوب فان لُور)، يسترجع التاريخُ المترابط قواعدَ السياسة المعقدة للعوالم التي اندمج فيها الأوروبيون. وبعيدا عن الصور المجيدة التي تُظهر أوروبا الحديد والنار وهي تغزو بلا هوادة آسيا الخائفة، بيَّن سانجاي سوبراهمانيام كيف أن البرتغاليين لم يكن باستطاعتهم البقاء على السواحل الجنوبية لدول فيجاياناغارا القوية وللإمبراطورية المغولية من دون الاستناد إلى حلفاء محليين (إمبراطورية البرتغال الآسيوية، 1500-1700: التاريخ السياسي والاقتصادي، 1999). ومن جهته، أكد جون أوبان على الدور الكبير الذي لعبه المخبرون والشركاء المنتمون للمجتمعات المحلية في صيرورة التوسع في الهند البرتغالية خلال العقود الأولى من القرن السادس عشر. ومعنى ذلك أن “الاستئناس بالهند” كان ثمرة تثاقف متبادل (اللاتينية والأسطرلاب: أبحاث عن البرتغال خلال عصر النهضة. التوسع في آسيا والعلاقات الدولية، ج 1، 1996). وفي نفس الاتجاه، أوضح سيرج غروزينسكي، انطلاقا من دراسة نظرة الأعيان “الخِلاسيِّين” الذين اعتمدت عليهم الشبكات الملاحية الأوروبية في البيرو والمكسيك، بأن هؤلاء لعبوا دورا كبيرا في بناء “العوالم المختلطة” للمستعمرات الإسبانية (أركان العالم الأربعة، 2004). وعلى عكس الفكرة الثقافية القائلة بميزة الأوروبيين الفطرية، يصر التاريخ المترابط على السمة العَرضية للغزوات الأوروبية. أما بالنسبة لآسيا الجنوبية والجنوبية الشرقية خلال مرحلة 1500-1750، يشدد هذا التاريخ، فضلا عن ذلك، بخلاف الخطاب التمجيدي لرُسل الماضي الإمبريالي، على الصبغة الدخيلة أو “الطفيلية” للحضور الأوروبي. من هنا، يصطدم التاريخ المترابط بخصم ثانٍ من الوجهة النظرية. يتعلق الأمر بتيار الدراسات ما بعد الكولونيالية التي تعتبر الاستعمار تجربة أو حالة عامتين ممتدتين بدون انقطاع من 1492 إلى حركات الاستقلال.
وفي خضم هذه السجالات المنهجية، يخضع التاريخ المترابط، وفق عبارة أحد رواده الكبار، لإشارة خاصة، هي “المشي جانبا” (سانجاي سوبراهمانيام، الكشوفات من زاوية التاريخ المترابط، 2005). وهذه الخطوات الجانبية تهدف أولا وقبل كل شيء إلى التخلص من رسوبات التواريخ القومية، المغلوطة في غالب الأحيان فيما يتصل بعالم الإمبراطوريات خلال القرن السابع عشر. في واقع الأمر، يتنبَّه هذا التاريخ لمجالات ووجوه “البيْن بيْن”، سواء تعلق الأمر بحالات “تمازج” الممارسات والأفكار أو بالأشخاص الذين تأرجحوا بين الهويات والولاءات، كما هو الحال بالنسبة للمتمردين الذين استطاعوا اقتطاع أراضٍ على حساب مستعمرات غُوا وماليزيا وغوجارات التي اقتدى بها الملاحون الأوروبيون في مغامراتهم في بحار الأرخبيل الماليزي، وللتجار الأرمينيين المرتبطين بالبلاط الصفوي، وللقراصنة البرتغاليين الذين كانوا في خدمة ملوك بيرمانيا، ولمعتنقي المسيحية في اليابان زمن الطوكوغاوا أو في الصين إبان العقود الأخيرة من سلالة مينغ. ويبحث ممارسو التاريخ المترابط، في نقدهم للتاريخ الكوني باعتباره يحكِّم النظرة الماكروتاريخية ولا يهتم بالوثائق المحلية غير الأوروبية، عن سبل التوفيق بين التاريخ المترابط هذا ومقاييس التاريخ ذي الرؤية المصغرة والمتوسطة، وبعبارة أخرى، عن تبيان أهمية التحليل المجهري الخاص بحدث أو ظرفية محددة في الزمن، أو حتى بمسار بيوغرافي فريد، في طرح أسئلة ذات أفق عام عن طبيعة العلاقة السياسية في العصر الحديث.
يتوفر التاريخ المترابط على كلمتين مفتاحيتين نظريتين، هما “الترابط” و”الكونية” اللتين أثارتا نقاشات حادة. ويستحق استعمال مقولة “الترابط” (عوض كلمة “شبكة” أو “نقطة التقاء”) توضيحا أساسيا حسب البعض. فهل تدخل هذه المقولة في خانة الحكم التراجعي الذي يعبر عنه المؤرخ أو في الأفق المرسوم من طرف الفاعل؟ هل تمكن من الخروج من مآزق المقارنة الحرفية لفائدة دراسة “الظرفيات” العابرة للقارات، كما يؤكد على ذلك الباحثان سانجاي سوبراهمانيام وفيكتور ليبرمان (تماثلات غرِيبة: جنوب شرق آسيا في السياق الكوني، 800-1830، ج 1، 1996) أو أنها لا تعمل سوى على إعادة صياغة مشكلة التقطيع القبْلي للوحدات واللحظات المناسبة (جون بول زونيكا، مجلة التاريخ الحديث والمعاصر، 2007)؟ وكما شدد على ذلك روجي شارتي، يبقى التاريخ المترابط، وهو يتذبذب بين صورة “اللقاءات” ولوحة “الظرفيات”، مفتوحا على “التوتر بين المقاربة المورفولوجية التي ترصد القرابات الموجودة بين مختلف الأشكال (الجمالية والطقوسية والإيديولوجية) خارج كل شهادة عن اللقاءات الثقافية، وعلى المقاربة التاريخية التي تكشف عن الرواجات والاقتباسات والتمازجات” (الوعي بالكونية، 2001، ص 121). وتعرضت أيضا مقولة “الكونية” التي عبَّر عنها سيرج غروزينسكي تحت عنوان “العوْلَـمات الأولى” لنقد حاد. في واقع الأمر، تطرح فكرة “العولمة قبل الأوان” سؤالا صعبا عن التفاوت، الاجتماعي والسياسي، لِـ “الوعي بالكونية” في زمن ومكان محددين، بل قد ترمي بالتاريخ المترابط إلى تاريخ النخب (سواء كانت “أهلية” أو “خِلاسية”). ويمكن أن نضيف إلى سؤال روجي شارتي: “التفكير في العالم؟ لكن من يفكر في هذا العالم: رجال الماضي أم مؤرخو الحاضر؟”، سؤالاً آخر: “الملوك وأهل القلم، أم البحارة والعبيد؟”. يرسم، على ما يبدو، الغياب المتكرر للشهادات المرتبطة بالفاعلين المنتمين للفئات الدنيا عن حالات اللقاء التي حصلت في السياقات الإمبراطورية، حداً في شكل خط أحمر على مستوى التأويل التاريخي. والمقولة الثالثة والأخيرة هي “التمازج” (سيرج غروزينسكي) أو “التهجين” (سانجاي سوبراهمانيام) التي انتُقدت هي أيضا، كونها تشير بالضرورة، وبشكل تعسفي، إلى المكونات الثقافية الكلية الموجودة قبل تبلورتها، والذي، أي هذا التبلور، قد ينجم على العكس من ذلك عن عملية الاحتكاك. غير أن هذا النقد يبدو سطحيا، لأن الانتباه الدقيق لتشكلات أصناف الانتماء (الاجتماعي، السياسي، الديني)، بالضمير المتكلم، يغيِّر، بخلاف ذلك، وعلى نحو فعال، اتجاه صفارات الإنذار على فقر منظومة “السِّعة الثقافية” (سانجاي سوبراهمانيام، مجلة التاريخ الحديث والمعاصر، 2007).
مراجع:
Chartier (R.), « La conscience de la globalité », Histoire, sciences sociales, 2001, 56 (1), pp. 119-123.
Gruzinski (S.), Les quatre parties du monde. Histoire d’une mondialisation, Paris, La Martinière, 2004.
Manning (P.), Navigating World History: Historians Create a Global Past, London, Palgrave Mac Millan, 2003.
Revue d’histoire moderne et contemporaine, « Histoire globale, histoires connectées : un changement d’échelle historiographique? », 54 (4 bis), décembre 2007.
Subrahmanyam (S.), Explorations in Connected History. Vol. 1: From the Tagus to the Ganges. 2: Mughals and Franks, Oxford, Oxford University Press, 2004 et 2005.