شكري المبخوت، باغندا، دار التنوير للطباعة والنشر، تونس، 2016.
1- تقديم
“باغندا”[1] هي الرواية الثانية للكاتب التونسي شكري المبخوت، وهي امتداد لروايته الأولى “الطلياني التي يعرفنا فيها الكاتب على مسار الطالب اليساري عبد الناصر العسلي الذي سيصبح صحفياً حاذقاً في إحدى الجرائد الفرنكوفونية التونسية، ويُسلّط الكاتب من خلال مسار هذه الشخصية، الضوء على التحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها تونس خلال المراحل الأخيرة لحكم الحبيب بورقيبة، والمراحل الأولى لحكم زين العابدين بن علي. تنتهي الرواية بأزمة نفسية للبطل بعد طلاقه من زينة زوجته ورفيقته في النضال خلال المرحلة الطلابية. ويستكمل هذا البطل في رواية “باغندا” عمله كصحفي، حيث سيدخل مغامرة جديدة وخطرة، تتعلق بإجرائه لتحقيق استقصائي حول اختفاء لاعب كرة قدم تونسي موهوب يدعى فتحي بركة ويحمل لقب “باغندا” الذي اختاره المؤلِّف عنواناً للرواية. لذلك نجد هذا العمل يمزج بين السرد الروائي وأدبيات فن الصحافة بلغاته وتقنياته وأجناسه المتنوعة. كما تطغى في هذا النص، علاوة على ذلك، ثلاثة موضوعات أخرى هي السياسة واقتصاد الريع وكرة القدم، وجميعها موضوعات متعالقة ومتشعبة.
2- القصة
سيعود الصحفي والطالب اليساري السابق عبد الناصر العسلي، إلى تحقيقٍ صحفي كان قد باشره قبل خمس عشرة سنةً مضت. وهو تحقيق استقصائي حول اختفاء لاعب كرة القدم الموهوب “باغندا”، في ظروف غامضة، وهو ما يزال في أوج عطائه. باغندا هو أحد أبناء حي الصحفي عبد الناصر، وقد كان ذلك من بواعث البحث عن حقيقة اختفائه المفاجئ من الميادين ومن الحياة العامة. كانت البداية بمقال حول أسباب الاختفاء، نشره الصحفي في الجريدة الفرنكوفونية التي يشتغل فيها. وهو المقال الذي سيُدخل الصحفي في عش دبابير لسّاعة كما يصفها، حيث احتج على المقال وزير الشباب والرياضة، وعماد بلخوجة رئيس فريق الاتحاد التونسي الذي كان يلعب فيه باغندا، وتسبب ذلك في أزمة داخلية للجريدة التي سارعت إلى كتابة مقال اعتذار على لسان الصحفي الفاسد عز الدين الجعايبي. ابتعد عبد الناصر عن الكتابة حول الموضوع، لكنه ظل يتقصى عن ملابسات الحادث، وقد كانت أغلب الأدلة تدين رئيس الاتحاد التونسي عماد بلخوجة الذئب الفاسد الذي يمتلك الجميع: سياسيين، وإداريين، ورجال قانون، وحتى الخارجين على القانون، لأن باغندا تمرّد على بلخوجة واتصل بأندية أجنبية، وأصبح يشكل تهديداً لسلطة الرئيس، وسطوته في سوق لاعبي كرة القدم التونسية. كما ظهرت روايات أخرى عن محاولة اغتيال باغندا، منها فرضية الاعتداء عليه من طرف أب فتاة جميلة كانت على علاقة باللاعب الأسمر. وكذلك إمكانية اغتياله من طرف عصابة مراهنات، كان يهددها باستمرار بعدما امتنعت عن تسليمه مبلغا مالياً، نتيجة تواطئه مع رؤوس العصابة، وتسجيله لهدف في شباك شبيبة الملاسين. كل الأدلة والروايات بدت للصحفي هشة ومضطربة، بعد مغادرته للجريدة الفرنكوفونية، واشتغاله كمراسل في وكالة الأنباء الفرنسية. في سنة 1994 سيخبره صديقه سي عثمان ضابط الأمن المتقاعد، أن باغندا تعرض لحادث مُفتعل، وفقد إثر ذلك القدرة على الحركة، ثم وُضِع من طرف من لهم علاقة بالحادث في مستشفى للمجانين، إلى أن نشب حريق في الجناح الذي كان يتواجد به ليلة انقلاب زين العابدين بن علي على الحبيب بورقيبة، حيث عُثر على اللاعب المقعد في اليوم التالي متفحماً فوق أريكته.
تتصارع في هذا العمل -كما أشرنا من قبل- أربعة موضوعات أساسية كفواعل سردية مؤثرة في مسار البطل الباحث عن الحقيقة، وهي السياسة والمال والصحافة وكرة القدم. فكيف تم توظيف هذه القوى في اللعبة السردية، إذن، سواء في تحفيز أو في كبح الذات الفاعلة خلال مسارها السردي.
3- السياسة
تُعرض السياسة في الرواية من خلال تجليات متعددة بدءاً من رصد الطبيعة المستبدة والفاسدة والمتلونة لنظام الحكم في عهد الحبيب بورقيبة (يمنحه السارد لقب “المجاهد الأكبر” سخريةً)، أو نظام زين العابدين بن علي القهري الذي روّض الشعب التونسي، ومكّن أبناء الخونة وعملاء الاستعمار والفاسدين من التغلغل في دواليب الحكم، وهمّش الوطنيين، وجعل من وزارة الداخلية الحاكم الفعلي للبلاد وصندوقها الأسود. كما تَعرِض الرواية مجموعة من الممارسات السياسية المنحطة من قبيل انتشار الارتشاء والسطو على المال العام في صفوف الوزراء وكبار المسؤولين. علاوة على تكريس النظام السياسي لظواهر التزلّف والوصولية بغية الظفر بالمناصب السياسية السامية. وكذلك تحول الأحزاب السياسية إلى قبائل لا هَمَّ لها سوى البحث عن مصالح أفراد العشيرة.
يبرز في الاتجاه نفسه، داخل هذا العمل، دور النظام السياسي في استغلال لعبة كرة القدم لإلهاء وتخدير الفئات الشعبية، وجعل هذه اللعبة الشعبية أفيوناً وديناً جديداً يدعم استمراريته. ورغم إحكام النظام السياسي لقبضته على البلاد والعباد، تنفلت الأمور أحياناً من بين يديه، كما يظهر في تمرد أبناء الأحياء الهامشية وجماهير كرة القدم على عناصر الأمن التونسي، كشكل من المقاومة، وتعبير سياسي عن حالة الاحتقان السائدة في الدولة والمجتمع.
ويتضح بشكل عام أن ما يتحكم في الممارسة السياسية المسرّدة في هذا العمل الروائي، هي الأهواء والنوازع الذاتية، سواء أ كانت رغبة في السلطة والنفوذ أو في الإثراء غير المشروع. كما يظهر في نفس السياق، هذا البون الشاسع بين السياسة كفعل وممارسة تتحكم فيهما النزوات كما يجسدها رموز الحكم في تونس، أو شخصية وزير الشباب والرياضة، والسياسة كتنظير وأحلام وردية يجسدها البطل عبد الناصر العسلي الشاب اليساري، الحالم بمجتمع العدل والمساواة في بيئة عبثية عسيرة حتى على مجرد الفهم.
4- المال
يظهر في معظم الرواية أن الأصل هو المال، وأن السياسة مجرد تابع له، حيث يصرّح عبد الناصر قائلاً في الصفحة 207 من الرواية: “لا يستغربن أحد أن يكون المال وراء تفسير كل ما يجري في البلاد… ابحث عن المال تجد الجواب.” وتمثل هذا الجانب شخصية عماد بلخوجة بامتياز، وهي أبرز العوامل المعاكسة لمسار البطل في البحث عن حقيقة اختفاء اللاعب باغندا. عماد بلخوجة رجل أعمال شاب، فاسد، وماكر، ومخادع… استطاع بأمواله ودهائه امتلاك رجال السياسة، وفي مقدمتهم اليساريون، ورجال الأمن والعدل والصحافة والإدارة وحتى الخارجين عن القانون والعصابات، وهذا ما يقدّم في الرواية، صورة واضحة عن كون المتحكم الحقيقي في مفاصل ودواليب الدولة هو اقتصاد الريع، ورجال المال والأعمال الفاسدين. لقد استطاع عماد بلخوجة الذي لم يحصل حتى على شهادة البكالوريا أن يكوّن ثروة هائلة، ويؤسس سوقاً موازية استثمر فيها ثروة العائلة، وما حصّله من كرة القدم وسوق اللاعبين، حتى أصبح المتحكم الحقيقي في جامعة كرة القدم، والقادر على سبّ وزير الرياضة والشباب في جمع عام، دون أن يستطيع أحد زحزحته من مكانه.
هنا يظهر أن المال قادر على كل شيء، بدءاً بتطويع القانون الذي صار في تونس الرواية، خادماً للفاسدين ومصاصي الدماء، ولممارسات التهرب الضريبي وتبييض الأموال. وانتهاء بإخضاع السياسيين الذي صاروا خداماً لدى عماد بلخوجة وأمثاله.
5- الصحافة
ما يميز هذا العمل هو هجنته الواضحة ومزجه بين السرد الروائي وأدبيات الصحافة، التي تحضر في هذا العمل بلغاتها وتقنياتها وأجناسها المتعددة، وفي مقدمتها التحقيق الاستقصائي الذي تُسهب الرواية في الحديث عن مخاطره وفخاخه، وتخلُّفه مقارنة بنظيره الفرنسي، ثم البورتريه، ومقال الرأي، والتصريح، والحوار وغيرها. لذلك نجد العمل الروائي موشى بنماذج لمقالات، أو مقتطفات منها، أو حوارات صحفية أو قصاصات لوكالات الأنباء. وتبرز في هذا العمل أيضاً الصحافة كمهنة، بما تتطلبه من مهارات وتقنيات كتصميم الجرائد، وحجوم العناوين، وطبيعة الألوان المستخدمة، والصور وغيرها.
وتظهر الصحافة في مقابل ذلك، كممارسة مقيدة، وتابعة لعصابات السياسة والمال في دولة الاستبداد، ونموذجها في الرواية الصحيفة الفرنكفونية التي يشتغل فيها بطل الرواية، فهي خاضعة بشكل مطلق، لسلطة الرقيب أبي السعود الحمزاوي، التي تتجاوز حتى سلطة الرئيس المدير العام للجريدة. فالرقيب هو خليفة “المجاهد الأكبر” في الجريدة والحريص على مصلحة البلد، وعدم تجاوز الخطوط الحمر مهما كان الثمن. ومن نتائج هذا الخضوع والتبعية والرقابة المشددة، أن صار الطابع الأساسي للصحافة التونسية هو التحيز والفساد، فهي تعج بمقالاتٍ تحت الطلب أو مدفوعة الأجر، ومثل هذا الجانب شخصية عز الدين الجعايبي رئيس قسم الرياضة في الجريدة الذي لا يدبّج مقالاً بدون مقابل. كما يبرز نفاق وتحايل الصحافة التونسية في ابتكارها للغة خاصة، فيها الكثير من المخاتلة والتحايل حتى تستطيع التكيف مع طبيعة النظام المستبد.
6- كرة القدم
ينبش العمل في ممارسة غير مطروقة بالشكل الكافي كما يبدو، سواء في الإبداع الأدبي أو حتى في بحوث العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويتعلق الأمر هنا بلعبة كرة القدم وعوالمها وخباياها. وسيكتشف كل من يطالع هذا العمل المعرفة الكبيرة والدقيقة للكاتب بعوالم هذه اللعبة في تونس: فهو مطلع بشكل واسع على تاريخ كرة القدم التونسية سواء أ تعلق الأمر بتاريخ المنتخب الوطني أو تاريخ الفرق المحلية، ومحيطٌ بالسياسات الحكومية المتلاحقة في هذا المجال، وبفرق الدرجة الأولى والثانية، ولاعبي البطولة الوطنية التونسية، واستراتيجيات اللعب وتقنياته، وعوالم الجماهير ومحبي كرة القدم، كتنظيم ما يسمى بمجموعات “الأولتراس”، ومواردها المالية، وطرق تكوينها، وأساليب تشجيعها للفرق، وصراعاتها مع بعضها ومع قوات الأمن. كما يُبرز العمل جانباً آخر غير واضح المعالم في عالم هذه اللعبة، وهو كرة القدم باعتبارها سوقاً تبيض ذهباً لبعض الفئات الفاسدة في البلد، حيث سيكتشف الصحفي عبد الناصر العسلي في سياق تحقيقه الاستقصائي، أن سوق كرة القدم سوق نخاسة حقيقية، عبيدها اللاعبون وفي مقدمتهم اللاعب الموهوب باغندا، وأسيادها عصابات منظمة يعتلي هرمها في الرواية رئيس فريق الاتحاد التونسي ورجل الأعمال الفاسد عماد بلخوجة، وشخصية أخرى مقربة من قصر قرطاج، تُدعى عياض الجزيري، وجيش من الوسطاء، والمتعاونين، والسماسرة، والمراقبين، علاوة على عصابات القمار والمراهنة.
كما يظهر من خلال تصريحات شخصية الحلّاق عم صالح الشيوعي، أن كرة القدم دين جديد، وأفيون فعّال يستخدمه النظام القهري لإلهاء العامة والفئات الشعبية عن مطالبها الحقيقية، من خلال منحه الضوء الأخضر لرجال أعمال فاسدين حتى يتحكموا في مفاصل البطولة الوطنية، ويختبئوا خلف فكرة الاحتراف التي تحجب غابة الفساد المالي والشطط في استعمال السلطة، مُسهمين بذلك في خلق مجتمع فرجوي سطحي يسهل التحكم فيه.
خاتمة
وبما أن السياسة ملقاة على قارعة الطريق، وقلَّما نجد سلوكاً بشرياً سواء أ كان عاماً أو ذاتياً يخلو من سياسة، ولو بمعناها البسيط، وهو ما انتبه إليه أرسطو مبكراً عندما أشار إلى أن “الإنسان حيوان سياسي بطبعه”، فإن الموضوعات السالفة الذكر جميعها مخترقة بفعل السياسة، فالاقتصاد الموازي الذي يشيده أمثال شخصية عماد بلخوجة ليس منفصلاً عن السياسية، فالسياسيون ومن يدبرون الشأن العام هم من سمح لعماد بلخوجة بأن يصبح قطاً سميناً يخدم مخططات النظام السياسي ولو بطريقة غير مباشرة. وقصر قرطاج هو من أعاد بلخوجة في نهاية الرواية، إلى حجمه الحقيقي عندما رأى مصلحته مع أطراف أخرى.
والصحافة ممارسة سياسية، ومرتبطة بشكل وثيق بالسياسات التي ينهجها حكام تونس، وهي مثل النظام السياسي ينخرها الفساد والزبونية والارتشاء. وما كرة القدم إلا لعبة سياسية لإلهاء الفئات المسحوقة، ومنحها فسحاً للتعويض النفسي عن الظلم والقهر الذي ترزح تحته. فالملعب، كما كان منذ أزمنة الرومان، وسيلة لإلهاء الجماهير عن مطالبها في العدالة والكرامة والعيش الكريم.
أما عن طريقة تسريد هذه الموضوعات المتقاطعة جميعها في حقل السياسة فهي فواعل سردية تتصارع داخل العمل الروائي، وهي بالنسبة لبطل الرواية إما فواعل محفزة للذات على الفعل السردي كالصحافة وكرة القدم، أو معاكسة للفعل السردي كالفساد المالي والسياسة. ستفشل شخصية البطل في بلوغها هدفها السردي المتمثل في كشف حقيقة اختفاء اللاعب باغندا، لكنها ستنجح في مقابل ذلك، في كشف تعقيدات وتشعّبات النظام السياسي وفساده، وإبراز التعاقدات الاجتماعية الجديدة في تونس ما بعد الاستقلال؛ لذلك لم تكن شخصية باغندا في واقع الأمر، سوى أداة سردية لكشف حقيقة وحجم الفساد السياسي والمالي في تونس خلال عهدي الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي.
وبناء عليه، أرى أن المنجز الروائي لشكري المبخوت والذي بلغ اليوم ثلاث روايات، هو في واقع الأمر، أحد ثمرات الربيع التونسي، ولا يمكن لأحد أن يتصور ظهور أعمال من قبيل روايتي “الطلياني” أو “باغندا” في زمن حكم بورقيبة وزين العابدين بن علي، ولعل هذا من أسباب تأجيل شكري المبخوت لكتابة الرواية إلى حين رحيل بن علي عن الحكم.
مقال ثري شامل عن رواية “باندا “..كما يقول البعض ظلمت هذه الرواية لانها صدرت بعد ” الطلياني “لشكري المبخوت …وانا اليوم اقول، بعد قراءة هذا المقال، ان الرواية اتقنت تشبيك ما تعرضت له في مقالك استاذي : المال،،السياسة،،كرة القدم،،الصحافة..وهي عمل متكامل ،والتشابك هنا يخص المجتمع التونسي ولكنه كذلك في كل العالم. ..فعلا قدرة الرواية كانت عالية في هذا الباب …اتمنى ان يعيد هذا المقال ما اعتمدته منذ اول وهلة:ثراء الرواية شكلا ومضمونا..
تصحيح اخطاء وردت في تعليقي السابق :باغندا وليس باندا – وفي آخر التعليق :ما اعتقدته وليس ” اعتمدته”