– Sylvain Tesson, La panthère des neiges, Paris, Edition Gallimard, 2019, pp. 142- 146.
تقديم
هذا النص هو أحد الفصول المهمة في رحلة الكاتب الفرنسي سيلفان تيسون رفقة مصور الحيوانات الفرنسي فانسون مونيـي (Vincent Munier) إلى منطقة التّبت في جمهورية الصين الشعبية، من أجل ملاحقة حيوان فهد الثلوج المهدد بالانقراض. تدافع الرحلة عن الطبيعة والحيوان. والعمل أشبه بنوع من التأبين المسبق للطبيعة وللحياة على كوكب الأرض قبل سقوطها الأخير. ويرى الكاتب في هذا النص أن تدمير الإنسان –مجتمعات التصنيع على وجه الخصوص- للطبيعة وبقية الأنواع يُؤذِن بنهاية الإنسان نفسه، ومن ثم يؤكد الكاتب أن على الأدب ألا يُـحَلِّق بعيداً عن الواقع، وأن ينخرط في الدفاع عن عالمنا وقضاياه المصيرية وفي مقدمتها الإشكال البيئي.
سيلفان تيسون كاتب فرنسي. ولد سنة 1972 بمدينة باريس. كاتب ذو مواهب متعددة، تتقدمها كتابة الرحلات، والقصص، والأعمال النقدية… تخصصه الأصلي هو الجغرافيا. قام تيسون في سن مبكرة برحلات وبعثات عديدة عبر العالم، في ظروف قاسية (كعبور قاراتٍ إما راجلاً أو على متن دراجة)، عاد منها بدفاتر ملاحظات كانت أرضية لأعمال إما إبداعية أو نقدية أو لأفلام وثائقية أو سينمائية. تعرّض سنة 2014 لحادث سقوط من واجهة أحد المنازل في منطقة الألب، وهو ما تسبب له في أضرار جسدية دائمة. حصل على جوائز عديدة، من أهمها: جائزة غونكور سنة 2009، عن مجموعته القصصية “حياة للمبيت في العراء”، وجائزة رونودو سنة 2019 عن رحلة “فهد الثلوج”. (المترجم).
كُنَّا قد بدأنا اليوم بالترقّب. وكانت تنتصِب في جنوب لبنان، في قلب مقاطعة صيدا، كنيسة مخصصة للسيدة العذراء تُدعى “سيدة الـمَنْطَرَة”. سميتُ كهفنا بهذا الاسم. كان ليو هو القس فيها. وكان يتفحص الجبل بالتلسكوب حتى المساء. وكان على مونيي وماري أن يقوما بالأمر نفسه، في البرج السفلى، ما لم يقضيا الوقت في أمر آخر. كان ليو في بعض الأحيان يرتدّ إلى الخلف يمشي على أربع حتى يحتسي رشفة من الشاي في قاع تجويف الكهف، ثم يستأنف المراقبة. لقد تحدّث إلينا مونيي عبر الراديو. وكان يعتقد أن الوحش، فهد الثلوج، قد عبر الوادي، والتحق بأعلى الصخور، على المنحدر المقابل: «سيستريح وعينه على الفريسة، راصداً الصخور الأمامية، التي تقع في نفس الارتفاع».
كانت تلك الساعات هي دَيْننا الذي سَدَّدْناه للعالم. بقيتُ في هذا المكان المعلق، بين الوادي والسماء، أتفحص الجبل. وقفت على رجلي، وواصلت التحديق في المشهد خلف بخار زفيري. وأنا الذي طلبت من الرحلة أن تجود علي بالعديد من المفاجآت، «مُولع إلى حد الجنون بالتنوع والتقلُّب»(1)،كنت قانعاً بمنحدر متجمد في حاضنة. هل كنت قد تحوّلتُ إلى وو وي (Wu Wei)(2)، فن عدم التدخل الصيني؟ لا شيء يتفوق على ثلاثين درجة تحت الصفر ليذعن لهذا النوع من الفلسفة. لم أكن أرتجي شيئاً. فكل حركة تُعَرِّض الظهر لكتلة من البرودة الشديدة، التي لا تسبق عادة المشاريع الكبرى. أوه بالتأكيد، لو برز فهد أمام ناظري لانغمرتُ به، لكن لا شيء تـحرّك. وفي هذا السبات اليقظ، لم أكن أحمل أي ضغينة. لقد كان الترقّب تمريناً أسيوياً. كان الطاو (Tao)(3) حاضراً في هذا الانتظار لأحد الأشكال الفريدة. كان هناك أيضاً بعضٌ من تعاليم البهاغافاد-غيتا (Bhagavad-Gita)(4) الهندية، وهو “نفي الرغبة”. لم يكن ظهور الحيوان ليغير شيئاً من الحالة المزاجية. إذ «يظل النجاح معادلاً للفشل» كما طمأننا كريشنا في الأغنية الثانية.
وبما أن الزمن المفتوح على مصراعيه يؤدي إلى خلط الأفكار، فقد قلت لنفسي بأن علم الترقُّب الذي كشف لي عنه مونيي كان ترياقاً لصَرَعِ عَصْرِي. في سنة 2019، لم تعد إنسانية ما قبل السايبورغ (الإنسان الآلي)(5) راضية بالواقع، ولا قانعة به، ولا متناغمة معه، ولا تعرف كيف تتآلف معه. وهنا في كنيسة “سيدة الـمنطرة”، طلبت من العالم أن يستمر في تقديم ما كان موجوداً بالفعل.
في مطلع القرن الواحد والعشرين، بلغنا ثمانية ملايير نسمة، ونحن نستعبد الطبيعة بشغف، ونُنْهِكُ التربة، ونحمّض المياه، ونسمِّمُ الأجواء. لقد أكدّت جمعية علم الحيوان البريطانية أن 60 % من نسبة الأنواع البرية قد انقرضت خلال خمسة عقود. لقد أخذ العالم يتقهقر، والحياة تنسحب، والآلهة تختفي. والجنس البشري بخير. فهو يُهيئ الظروف الملائمة لجحيمه، ويستعد لتجاوز عتبة عشرة ملايير نسمة. لو اقتصرت الحياة على تلبية الاحتياجات البيولوجية من أجل تكاثر الأنواع، لكان المستقبل المنظور مشجعاً: فبوسعنا أن نتكاثر في مُكعّبات خرسانية متصلة بالويفي وعن طريق التهام الحشرات. ولكن لو طلبنا من عبورنا في هذه الأرض، نصيبه من الجمال، ولو كانت الحياة جزءاً من لعبة في حديقة سحرية، فإن اختفاء الحيوانات سيكون خبراً مروعاً. بل الأشنع على الإطلاق. وقد تم التعامل مع الحدث باللامبالاة. فالسِّكَكِيُّ يدافع عن السككي. والإنسان يهتم بالإنسان. ولهذا فالإنسانية ليست سوى حركة نقابية مثل أي حركة أخرى
لقد كان تدهور العالم مصحوباً بأمل محموم في مستقبل أفضل. فكلما تدهور الواقع، كلما دوّت اللعنات المسيحية. لقد كان هناك ارتباط نسبي بين اجتياح الكائن الحي والحركة المزدوجة لنسيان الماضي وتوسل المستقبل.
«غداً أفضل من اليوم»، هو شعار الحداثة الشنيع. لقد وعد رجال السياسة بالإصلاح (نادوا بـ«التغيير»)، والمؤمنون ينتظرون حياة أبدية، ويعلن لنا تقنيو مختبرات وادي السيليكون عن ميلاد إنسان سامٍ. باختصار، علينا التحلي بالصبر فقط، فغداً سيكون مُزهراً. كانت نفس اللازمة تتكرر: «بما أن هذا العالم قد دُمِّرَ، فلنهيئ منافذ هروبنا». فرجال السياسة والمؤمنون يتوسلون بالآمال. ومن ناحية أخرى، لم يكن هناك الكثير من الناس من أجل الحفاظ على ما أُنْعِمَ بِهِ علينا.
فهنا نـجد خطيباً شعبوياً خلف متراسه يدعو للثورة، وقد اندفعت قطعانه حاملة معاول الهدم، وهنا نُلفي نبياً يستدعي الآخرة ورعيته ساجدة للوعد، وهنا فيلم فولامور2.0 (Folamour)(6)يبشر بما بعد الإنسان، وزبناؤه مفتونون بأوثان التكنولوجيا. لقد كان هؤلاء البشر يقتاتون على قنافذ البحر. ولم يتحملوا وضعيتهم، ولا تلك الحياة الأخرى التي كانوا ينتظرون نعمها دون أن يعرفوا شكلها. من الصعب أن نقدّر ما نتمتع به فعلاً من أن نحلم بامتلاك الأقمار.
تُـخْفي الأجهزة الثلاثة – الإيمان الثوري، والأمل المسيحي، والتصاعد التكنولوجي- خلف خطاب الخلاص، ولامبالاة عميقة بالحاضر. والأسوأ من ذلك أنها قادتنا بنبل –هنا والآن- نحو توفير الجهد للحفاظ على ما هو قائم.
وخلال هذا الوقت كان الجليد يذوب، والبلاستيك ينتشر، والحيوانات تنفق.
«إن تأليف خرافاتٍ عن عالم “آخر” غير هذا الذي لدينا أمر لا معنى له البتة.» كنتُ قد سجلّتُ هذه العبارة-القذيفة النتشيوية في مستهل دفتر صغير خاص بالملاحظات. وقد كان بإمكاني نحتها عند مدخل كهفنا، كشعار للوديان.
كثيرون منا في الكهوف وفي المدن لا يرغبون في عالم متنام، بل في عالم يُـحْتَفى بتقاسمه العادل، كجزء من مجده الوحيد. جبلٌ، وسماء مَلأى بالأنوار، ومطارداتٌ للغيوم وثورٌ تِبتِـيٌّ على التلال: كل شيء كان كافياً. فما كان متخفياً كان مرجّحاً أن يظهر. وما لم يظهر كان يعرف كيف يختفي.
كان هذا هو الاكتفاء الوثني، الأغنية العريقة.
قلت: ليو! سألخص لك المعتقد.
قال بتأدب: أنا أنصت.
علينا أن نقدِّرَ ما يوجد أمامنا. ولا تنتظر شيئاً.
لنتذكّر كثيراً، ونتحاش الآمال، فهي مجرد أبـخرة فوق الأنقاض. لنستمتع بالمتاح. لنبحث عن الرموز ونتيقن بأن الشِّعر أكثر قوة من الإيمان. لنرض بالعالم. ولنحارب من أجل البقاء.
كان ليو يتفحص الجبل بالتلسكوب. ومركزاً أكثر من أن يستمع إلي حقاً، ما منحني فرصةَ مواصلة عرض إيضاحاتي.
أبطال الأمل يصفون رضانا بـ”الإذعان”. هم مخطئون. إنه الحب.
هوامش:
1- Gérard de Nerval, Aurélia.
2- وُو وي (Wu wei) مفهوم في الفلسفة الطاوية، ويمكن ترجمته “بعدم الفعل” أو ” عدم التدخل” ومعناه في هذه الفلسفة: “إتباع التدفق الطبيعي للأشياء والنظام الكوني الأصلي، دون الإخلال به أو محاولة تعديله.” أي التصرف وفق حركة الطبيعة والطريقة الطاوية. (المترجم).
3- الطاوية: تقليد ديني أو فلسفي صيني. يؤكد على العيش في وئام مع الطاو، وهو فكرة أساسية في معظم المدارس الفلسفية الصينية. ويشكل هذا المبدأ في الطاوية مصدرَ ونمطَ ومضمونَ كل شيء موجود في الحياة. وتدعو الطاوية بمختلف مدارسها للانصياع إلى مجموعة من السلوكيات التي تحقق “الكمال”من خلال تناغم الفرد مع إيقاعات الكون غير المخطط له. مع انهمامها بالطبيعية، والبساطة، والعفوية، بالإضافة إلى الكنوز الثلاثة: الرحمة، والتقشف، والتواضع. ويعتبر كتاب “طاو تي تشينغ” المنسوب إلى لَاو تسي، ركناً أساًسياً في الفلسفة الطاوية علاوة على كتابات زوانغ زي الأخيرة. (المترجم).
4-البهاغافاد غيتا: أحد من الكتب الهندية المقدسة في الديانة الهندوسية، ويتضمن الحوار الذي جرى بين السيد أو الرب المبارك كريشنا وأرجونا عند بداية المعركة. ويتضمن سبعمائة بيت أو آية تقع في ثمانية عشر فصلاً، تعرف باسم البهاغافاد غيتا، ويعود تاريخها إلى قرابة الألف الثالث قبل الميلاد. وتعني كلمة بهاغافاد الله أو الرب أو الإله له، وترمز إلى السيد كريشنا، وتعني كلمة غيتا القصيدة أو الأنشودة. مُعلم البهاغافاد غيتا هو الرب كريشنا الذي يقدسه الهندوس بوصفه مظهراً من مظاهر الله أو براهما الخالق الأعظم، ومانح الحياة، وينسبون إليه الشمس التي تجري بسببها الحياة. وهو أحد ثُلاثي الآلهة العِظام لدى الهندوس وهم فيشنو، وشيفا. والبهاغافاد غيتا هي الآن أكثر النصوص الهندوسية المقدسة شهرة، وتشكل جوهر الديانة الهندوسية الحديثة. وحسب البهاغافاد غيتا فإن المؤمن عليه أن يتجنب ستة شرور هي: الشهوة والغضب والجشع والوهم والفخر والغيرة. (المترجم).
5- السايبورغ مصطلح مأخوذ من الانجليزية (Cyborg)، وهو اختصار لمركب (Cybernetic Organism) ، هو كائن متشكل من مزيج من مكونات عضوية وبيو–ميكاترونية .(المترجم).
6- دكتور فولامور أو دكتور سترينجلوف (Dr. Strangelove)(1964): فيلم للمخرج الأمريكي ستانلي كوبريك (1928-1999). (المترجم).