– Adrian Marino, Etiemble ou le comparatisme militant, Editions Gallimard,1982, pp . 34-41.
المقال المترجم هنا بعنوان “العلاقات بين الشرق والغرب”، مأخوذ من الفصل الأول من كتاب أدريان مارينو، بعنوان: “إتْيامْبل أو المُقَارَنِيَّة المناضلة”. يؤكد فيه أدريان مارينو على ضرورة إنشاء تعريف جديد للعلاقات القائمة بين الشرق والغرب، سيراً على خطى معلمه المناضل الملهم إتيامبل الذي انبرى لتبديد القداسة عن عقدة التَفَوُّق «الغربي»، والإدانة الجذرية لإقصائية الموروث الفكري الأوربي واستعلائه الحضاري المتغطرس. ومن ثم الرفع من قيمة آداب أوربا الشرقية والآداب المشرقية، خاصة الأدب الصيني الحافل بالتوازيات والتناظرات والتطابقات الصينية الأوربية، إلى جانب قلب سلم التراتبيات التقليدية…وهذا يعني باختصار الاعتراف بوحدة أدب كوكب الأرض بأسره دون تمييز أو تقييد.(المترجم)
إن القضايا المُقارَنِيَّة الحَقَّة لهذه الحركة النِّضالية النقدية ستطرح نفسها بعبارات متشابهة، وستحركِّها الحوافز الأساسية ذاتها. فهذه الأمور كلها تتوقف عند روني إِتْيَامبل على إنشاء تعريف جديد للعلاقات القائمة بين الشرق والغرب التي يتوجب إعادة النظر فيها وصياغتها بصورة كلية. وهذا ما يكشف الجانب الجوهري، بل المذهل، في مذهبه الفكري. فقد رسم إطاره العام، وحدَّد هدفه الرئيس بدقة.
انسجاماً مع ذلك، يجب الانقلاب على التَّراتبية التقليدية المعهودة، وإعلان مصالحة شاملة في تصور إِتْيَامبل، «المولع بثقافة آسيا» منذ أن بلغ العشرين من عمره. فلم يعد يجِب تجاهل الثّقافات والحضارات غير الأوربية[1]؛ بل إن الكل ملزم في الآن نفسه بالعدول نهائياً عن أسطورة التَفَوُّق الغربي، وعن الصورة البالية المتداعية لبلدان الشرق؛ أي يجب الاعتراف بالمساواة بين هذين الإقليمين العظيمين. وهذا، باختصار، يقتضي من الجميع أن يحارب بلا هوادة الحكمَ المسبق الصادر عن الكاتب الانجليزي جوزيف روديارد كيبلينغ2 بقوله: «إن الشرق والغرب لن يلتقيا أبداً». فتحقيق هذا المشروع المتكامل يستدعي إجراء تغيير كامل في زاوية النظر المعتمدة وفي العقلية السائدة، واعتماد سُلَّم مغاير من القيم. والأهم من ذلك صياغة تعريف جديد لهذه العبارات الأساسية: «منذ سنوات، وأنا أكافح ضد استعمال كلمتي الشرق والغرب». إن هاتين الكلمتين المحمَّلتين بإيحاءات إيديولوجية وثقافية في غاية الأهمية، تتطلبان إعادة نظر شاملة: «فلا ينبغي المساهمة في تفاقم انعدام التفاهم بالاستمرار في استعمال مفاهيم شبه ميتافيزيقية، من قبيل مفاهيم الشرق والغرب، »لذلك يجب حظر نزعتها الإقصائية إلى الأبد، وجهل بعضهما ببعض ولا سيما كبريائهما المزيّف.
هنا يصبح إِتْيَامبل، مرة أخرى، رجلاً مشاكساً مضايقاً للغاية، أي، باختصار «المرء المزعج» من جديد. ذلك أنه يتوجه بالحديث أساساً إلى أبناء بلده وإلى الأوربيين، الرهينين منذ قرون ﻷحكام جهوية مسبقة. فأي جمهور يمكن أن يستفيد تحديداً من كاتبٍ ينادي بتصورات قلما تتطابق مع الأفكار الرائجة التي يتقبلها الجميع؟ وخصوصاً عندما يواجه التراتبيات الثقافية التي أنشأها الغربيون منذ زمن بعيد ويزعزعها بشدة؟ وفي هذا الصدد يصرح إِتْيَامبل متضجراً: «لقد أضناني التفكير، منذ ما يربو على ربع قرن، في أن الثقافات التي عشناها والتي نقتات عليها (ونحن ننتظر الموت) لا تستطيع أن تحقق بالكامل إنسانية الإنسان، رغم ما نعرِف من عراقتها، وما نمنِّي به أنفسنا من مجدها». ومن الصّعب الدفاع عن هذا الطرح أمام «الإنسان الأبيض». غير أن إِتْيَامبل يعاود الهجوم بإصرار قائلاً: «إن العرب هم الذين علّمونا «الحضارة»، وليس العكس؛ فسقراط الأوربي كان ظاهرة فكرية وحضارية هامة ولا شك، لكنه لم يكن أهم ظاهرة في تاريخ البشرية: فالحقيقة توجد أيضاً في قارة آسيا، وليس في المجتمعات الصناعية فحسب؛ وهكذا دواليك. ولنقل إن الجميع متفق مبدئياً على الحاجة إلى «امتلاك فكر منظم يسود في عصرنا»، يتكيَّف مع الظروف الدولية الجديدة، وأن الحواضر الكبرى للإمبراطوريات الاستعمارية القديمة يتعين عليها أن تقيم علاقات أخرى مع دول جديدة في القارة الإفريقية والآسيوية… وغير ذلك. لكن الأمور تتعقد في مجال الأدب والثقافة جراء عناد البُنى الفكرية القديمة، ومقاومة التقاليد المتوارثة في أوربا الغربية.
إن الجدل المحتدم الذي خاضه إِتْيَامبل يمتاز، على الأقل، بفضيلة تسمية الأشياء بأسمائها. لذلك فإن كُتّاب بلدان الشرق – الذين ما تزال هذه الظاهرة لديهم في غاية الوضوح – يشعرون بألم من عُقدة التَفَوُّق المتداولة كثيراً في «بلاد الغرب». وغالباً ما يُعبَّر عن هذه العقدة بنوع من اللامبالاة، بل قُلْ باحتقار خَفِي، وعجرفة تريد أن تكون مهذَّبة، وأحياناً لطيفة ودودة لكل الأمور الصادرة من بلدان الشرق من التصورات الايديولوجية الحالية، إيجابية أو سلبية. وينبغي الاعتراف أن هذا الرأي سائد في الأوساط الأدبية «الغربية». ومما لا حاجة لذكره أن الأدب العالمي يُقتصر فيه في الغالب على ما نعرفه عنه في «بلاد الغرب» لأسباب تاريخية، بالنظر إلى العوائق اللغوية والاعتقادات الإيديولوجية الغالبة. فعندما بدأ عدد من الكتاب في بلدان الشرق يلفتون الانتباه إلى أنفسهم خلال العقود الأخيرة، فإن «نجاحهم الفاضح»، نوعاً ما، يحمل لا محالة محتوىً إيديولوجياً وسياسياً بارزاً جداً، وليس محتوىً أدبياً. فالإبداع الصّرف، «بحدِّ ذاته» لا دخل له في ذلك، بل لا يكاد يملك أية دلالة، وأي «حظ» يُذكر. ويزداد الأمر صعوبة في مجال الدراسات الأدبية ونظرية الأدب حيث يهيمن فيها الاتجاه الذي ينحو إلى تعميم الأمثلة ودراستها واختيارها انطلاقاً من أدبين «غربيين» أو ثلاثة، أي، هذه الاستشهادات الدائمة من أعمال مالارمي، إلخ… وحسب المناهج «الغربية» الحالية، لأنها الوحيدة التي تعتبَر القول الفصل في الساحة الأدبية. غير أن إِتْيَامبل كان لهم بالمرصاد، إذْ يعير الاهتمام لكافة الآداب، ويحاول التعميم انطلاقاً من كل/ حاصل الآداب التي يعرفها؛ ويبذل قصارى جهده لإنتاج استشهادات أخرى مستخلصة من آداب اعتُبِرت في نظر البعض هامشية، إلخ…، أو مغرقة في الغرائبية. وهي تحديداً الأدب الفولاني3 في إفريقيا الغربية، أو الأدب الصيني، أو المدغشقري أو الياباني.
إن أحسن مثال لهذا النظام المرجعي المعاكس هو بالضبط الأدب الصيني الذي أثار غضب الكثيرين، بل أجَّج غيظهم. فهذه الحالة التي تبدو متناقضة في الظاهر، تُجلِّي تماماً مضمرات فكر إِتْيَامبل، وقوامها جعْل الأدب «الغربي» مساوياً ومعادلاً لأدب آخر يكون فيه «الاستشراق»، والغرابة والدلالة أموراً رمزية. ولنمُرَّ على الملاحظات المباشرة، وعلى مختلف جوانب السياسة والإيديولوجية والثقافة الصينية و«ثوراتها». ولعل كتاب «هل نعرف الصين؟» ولا سيما كتاب «أربعون سنة من ماويتي» (1934-1974) يمكنه أن يعطي القارئ المتفحص نظرة حيّة مقتضبة جدا عنها، أو حول المعلومات التي غالبا ما تكون سطحية عفوية غير منسجمة بشأن الصين التي تم نشرها في «الغرب» لئلا يحتفظوا منها إلا بالتأثيرات الأدبية، وكثيراً ما احتجَّ ضدها إِتْيَامبل غير مجانِبٍ للحق. إنه ميدان مدهش جداً بالتوازيات والتناظرات والتطابقات الصينية الأوربية، وبتطابق القيم الأوربية مع القيم الصينية؛ ذلك أن إِتْيَامبل يستطيع أن يؤكد- باسم المعايير الصينية القديمة – أن الرواية الصينية القديمة، على سبيل المثال، تصمد أمام كل «الأعمال الكبرى» الأوربية. وهو يقول بهذا الشأن: «ذلك أن السوفسطائيين الإغريق لهم في الصين تحديداً نظراؤهم الأكثر قرباً منهم»، كما أنه عن طريق مسرح النو4 الياباني يتسنى للمُنَظر المقارن الغربي محاولة تجديد فن التأليف المسرحي بأوربا وأمريكا. وهذا معناه أنه لا يجب السقوط في التوجّه المعاكس، وخلط «وجهات النظر التي تختلف اختلافاً جذرياً»، والخضوع لمظاهر الولَع السائدة حالياً عند الغربيين الذين أصبحوا يهتمون بـالزازِن5 (zazen) وبالديانة الطاوية التي أصبحت عندهم موضة، وبمفهومي اليان واليين الصينيين اللذيْن أصبح يعرفها القاصي والداني. لذلك نوافق على الاعتراف بثقافة آسيا والتعريف بها، ولا نوافق على «إطرائها» بشكل مفرط، مبتذل، مشوّه، تِجاري.
ويعمل إِتْيَامبل، في هذا الصدد أيضاً على تمديد وإعادة تحيين خط فكري تعود جذوره، من جديد، إلى فكرة «الشرق الفلسفي»، التي دخلت أوربا خلال القرن الثامن عشر، هذا الشرق الذي بدأ الأوربيون في دراسته بتأنٍّ من مظانّه، فإلى هذه الفترة الهامة تحديداً يرجع تاريخ الشكوك الأولى التي حامت حول التَفَوُّق الفكري والأخلاقي للبلدان الأوربية، والمقارنات الإيجابية الواضحة الأولى للصين ولحِكمتها مع التراث الأوربي، والانقلابات الأولى على القيم، والحديث ﻷول مرة عن نِسبيةٍ تراتبيةٍ روحية مختلفة أخرى. وكان يثير غيظَ ڤولتير أن بعضهم «يريد النظر إلى بيكين وكأنها باريز». لكن تاريخ الصين فرض نفسه على الفيلسوف گولد سميث أكثر من تاريخ أوربا في مصنَّفه المعنون بــ (المواطن العالمي، الرسالة الثانية والأربعون)؛ أما هردر فإن الشعر ليس في تصوُّره «حكْراً» على أُمَم أكثر موهبة دون غيرها، إلخ… . فهذه النظرة «الكونية»، التي ترى أن «لكل أمة ولكل لغة شياطين شعرها»6، تحفز كل مستشرقي هذا القرن في جهودهم الحثيثة للفت الانتباه إلى مظاهر الجمال، بل وحتى مظاهر التَفَوُّق في الآداب الأسيوية، الهندية، إلخ، ومن هؤلاء المستشرقين نذكر وِليام جون في مقالته “في شعر أمم الشرق”، على سبيل المثال… وسيُبِين جان ـجاك أمبّير في فرنسا عن فكر منفتح مماثل، وعن سخاء مماثل حين يقول في هذا الإطار: «إذا وجدنا أن أدباً دخيلاً يتَفَوُّق علينا في بعض النّقاط من خلال الأعمال المقارنية، فإننا سنعترف بهذه المزية وسننادي بها بإنصاف». وعليه، فلن يرفض أحد مبدئيّاً هذا الأدب في آداب آسيا. وقد شرعت الطبقة المثقفة الفرنسية الحالية في الإقرار بأن آداب آسيا «أكثر غِنى بالنصوص من كافة آداب أوربا مجتمعة»، وأنها لا تنزل عن التساوي معها على الأقل في كل الأحوال .
إن تتبع هذا التغيُّر في المنظور في شتى جوانبه، وفي مختلف الجهات الثقافية اليوم، يعني إثبات التصور الذي يستند إليه إِتْيَامبل، وبحماس كبير. ولعل ما يمثل ذلك جيداً، في هذا الصدد، دراسة جادة كالتي أنجزها جيمس روبرت هايتاور بعنوان «الأدب الصيني في سياق الأدب العالمي»، إذ حَظي فيها أدب مغمور منذ زمن طويل بمكانة عالية، وصاحبت هذه المكانة العالية سلسلة كاملة من التناظرات المجهولة، أو من مواطن التَفَوُّق في الأدب الصيني، إلخ… . وهذا التوجه حاضر لدى علماء آخرين متخصصين في الثقافة الصينية وهم يثبتون صِحّة كون «الأدب الصيني لا يمكن أن يوصف إلا بأنه أدب عالمي»، نظراً «لأهميته وانتشاره الكبير»، وأن الشعر الوصفي ظهر بادئ الأمر في الصين، وأن «الطرح الذي يرى أن أوربا من شأنها أن تكون الحضارة الوحيدة في الفكر التاريخي الحق هو طرح مردودٌ لا يمكن أن يدافع عنه عاقل»، ونحو ذلك. فعَمليات مقاومة هذه الحقائق الملموسة، وهي مقاومة موجودة للأسف، إنما سببها التقاليد الجامعية المُقارَنِيَّة «الغربية» والحواجز اللغوية (قضية لغة آسيا)، التي تمنع الدارس الغربي من تتبع هذه الآداب في مظانها. وبالطبع، فإن رؤوس هذه المقاومة يهاجمون إِتْيَامبل مباشرة وبلا تلطُّف.
إلا أن الإشكال الحقيقي المطروح يوجد في موضع آخر ليس بالهيِّن: فليس مناط الأمر بالأساس هو «تدريس» الآداب الشرقية، بل «تقبُّل» و«تفهُّم» وجود حقيقة أدبية شرقية قابلة للمقارنة مبدئيا وبالقيمة ذاتها التي يمكن الاعتراف ببنياتها وجماليتها على أنها معادِلة لقيمة أوربا، والولايات المتحدة؛ بل الأهم من ذلك الاعتراف بوحدة أدب كوكب الأرض بأسره، والاعتراف بأن ثمة فترات صينية كانت متَفَوُّقة على نظيراتها الأوربية، كعصر هَان7، وعصر التانك8 مثلاً، وحتى عصر الصونغ9. والهدف الأخير هو تحقيق الفهم المتبادل بين بلدان الشرق والغرب؛ الذي من شأنه أن يمكن الوعي «الغربي» الحديث من أن تُعَدِّله المعرفة والقدرة على التأقلم واستيعاب الفكر الذي كان يسمى استنكاراً واستهزاءً بـ«الشرقي»، «الدخيل». وثمّة أهمية قصوى لهذه الأطاريح الفكرية التي دافع عنها بالخصوص عدد من علماء بلدان الشرق، أو تلك التي لها جذور في أوربا الشرقية (انظر أعمال ميرسيا إلياد في هذا الصدد). فإِتْيَامبل ينتقد صنيع الفيلسوف الفرنسي إميل أوغست آلان ليس لأنه لا يدَرِّس الفلسفة الشرقية (وهذا عبث)، بل لأنه يرفضها، ولا يريد أن ينفتح على معرفة هذه الفلسفة.
إن فحص علاقات بلدان الشرق والغرب لأمْر مزعج بصورة خاصة، وليس ذلك في رحاب الأدب المقارن فحسب (الذي أحرزت فيه هذه الدراسات تقدما كبيراً، لأنها أصبحت موجودة أو محسوسة، أو ضمنية، أو لأن الدارسين المقارنين يعبّرون عنها عادة بمصطلحات الدونِيّة والتَفَوُّق الأدبي). فالكل يراهن على هذه المسألة الجوهرية، وعمل إِتْيَامبل عبارة عن علاج حقيقي «بالتحليل النفسي» لتلك «الضغينة» التي يبديها أعداء الآداب «الصغرى» التي تعرضت للتبخيس والازدراء، إذ يعتبرها النقاد دائماً آداباً دونِيّة. وينبغي أن نؤكِّد، مرة أخرى، أن عقدة التَفَوُّق «الغربي»، التي أعقبتها عقدة الدونِيّة «الشرقية» الحادة عموماً، ما تزال قائمة بالرغم من كل التصريحات المضادة لها. ولا محيد عن هذه العقدة حيثما احتدَّ الوعي بالخصوصية والقيمة الأدبية الوطنية، بالرغم من أن الآداب «الشرقية» المَعْنية قد نالت بعض الاعتراف الخارجي. ومهما يكن، فإن المطالب اللازمة، و«الإصلاحات»، والطرح القائل بأن «للبلدان الصغرى آداباً كبرى» أصبحت أموراً لا محيص عنها. فهذا الموقف الذي يسعى ليكون منصفاً ليس وليد اليوم، بل يعود إلى بدايات ظهور المقارنية. وذلك عندما فَطن دارسو الأدب إلى أن مفهوم «الدونِيّة» أو «التَفَوُّق» جُرِّد من المعنى داخل أدب عالمي واحد، وهذا «حكم قبلي» أدانه الباحثون المقارنون منذ انبلاج فجر المقارنية. ومؤدَّاه أن «شعباً ما قد يكون غير ذي شأن من الناحية السياسية ويكون جليل الشأن مثل أعظم أمة من وجهة نظر الأدب المقارن». وهي حقيقة صائبة تجاهلها مع ذلك الدارسون المقارنون. فهذا هو منطق الاستدلال على صحة هذه الدعوى. غير أن منطق الوقائع يظل مختلفاً غاية الاختلاف. وذلك أنه «قد ترسخت لدينا بعمق نظرة الهيمنة المطلقة للتراث الأدبي الغربي» الناجمة عن «فكرة تَفَوُّق مبدئي “للغرب”». ولذلك أصاب تماماً الناقد والمبدع الفرنسي أندريه جيد حين قال «إنه يجب أن نجاهد أنفسنا أولاً، وأن نحارب بالأساس ضد هذا الاعتقاد المشؤوم في وجود تَفَوُّق. ففكرة التَفَوُّق هاته هي بالطبع فكرة خدّاعة لأنها ترتكز تاريخياً على الماضي» . وذلك قبل إِتْيَامبل (في نص صدر عام 1946).
إن مثل هذا البرنامج الطموح الذي ينسجم بالتأكيد مع المستجدات السياسية والإيديولوجية المباشرة الراهنة يقوم بقلب العديد من الأحكام المسبقة وينتهك كبائر المحظورات. فهو يروم تبديد القداسة عن عقدة التَفَوُّق «الغربي»، والرفع من قيمة آداب أوربا الشرقية والآداب المشرقية، وقلب سلم التراتبيات التقليدية. وبهذا الشأن، فإن إِتْيَامبل ليس البتّة مقارنيا سهْل المِراس. إنه لم يكتف برد الاعتبار للمؤرخ الصيني السُّومَا تْسْيِينْ10؛ الذي لم يكن يكاد يعرفه في أوربا أحد، موازنة مع المؤرخ الروماني كورنيوس طاسيت11 (وللقارئ أن يتساءل هل هذا الأخير فعلاً أكثر شهرة؟)؛ «ضد الحكم الذي أصدره في حقه مؤرخو حضارتنا الوضعانيون السطحيون».
فهذا الرأي يمكن أن يتساهل معه الجميع، وأن يقبل به (أو يكاد). إلا أن إِتْيَامبل أوغل في الاستدلال على صحة دعواه، حيث أحدث انقلاباً في النظام، وفي تراتبية الأفكار التي نتلقاها. وهذا الفعل يرتبط بجوهر الحركة التجديدية الطلائعية. لذلك قام هنا بالإدانة الجذرية لإقصائية الموروث الفكري الأوربي وتعاليه. ونضرب مثلاً لذلك بقوله: «إننا نضع هالة كبيرة على أدب «المراسلات» عندنا. ثم إننا منذ صدور سونيتة12 الشاعر الفرنسي شارل بودلير والشعر الرمزي، أخذنا في قياس الآداب الأخرى عليها، وأجحفنا في ذلك. وما أهْزَل أدب مراسلاتنا إذا قارناه مع أدب المراسلات الذي تركته للأدب العالمي مراسلات العصر الكلاسي الصيني».
إن هذه المُقارَنِيَّة الانقلابية الجسورة تثير غيظ الكثيرين. فهي شديدة الانسجام مع منطلقاتها التي هي الاعتراف بحق الوجود لكافة الآداب من بلدان الغرب والشرق، سواء ألِفها المقارنون الأعلام أم لم يألفوها، والحق في استخراج الخلاصات الإيجابية أو السلبية التي تنبثق منها (لصالح هؤلاء وهؤلاء). وبهذا تنهار أسُس «عقدة بلدان الشرق»، وتنْدَرِس أسُس دونيتها المتأصلة المزعومة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش المترجم
1– هكذا في الأصل. ويبدو أن هذا خطأ مطبعي. فالظاهر من السياق أن المقصود هو «غير الأوربية».
2- جوزيف روديارد كيبلينغ [1936-1865Joseph Rudyard Kipling)، قصاص، وشاعر، وروائي إنجليزي، يتمتع بعبقرية سردية فائقة. عُرف أساساً باحتفائه بالإمبريالية البريطانية، وبحكاياته وقصائده عن الجنود البريطانيين في الهند، وحكاياته للأطفال. حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1907.
3- قبائل الفولاني (la peule)، وتُسمى أيضاً، حسب لهجات القبائل بـِـ: فولا أو فولاوْ أو فُلبي نطقاً بالإشمام لا بضمة كاملة (وهذه هي الصيغة التي تبنتها اللغة الفرنسية): أحد أهم شعوب وسط وغرب إفريقيا. ويعيش معظمهم اليوم في نيجريا وغينيا والسنغال ومالي والكامرون والنيجر وبوركينافاسو وموريطانيا. وتعرف ثقافتهم حضوراً كبيراً للمنشدين الجوالين الذين يتنقلون بين المداشر يغنون قصصهم ومدائحهم على أنغام معازفهم. ويسمى هؤلاء بگْرِيو Griots أو دْجيلي jeli ، djéli بالتهجئة الفرنسية.
4– مسرح النُّو Nōhأو Nô، هو نوع من المسرح الغنائي التقليدي الياباني نشأ في القرن الرابع عشر الميلادي، وغالب الظن أنه تطور من الرقصات التعبدية في طقوس ديانة الشِّنتو؛ ويعتقد أن عدد مسرحيات النو الموجودة حوالي ثلاثمئة معظمها من تأليف كاتب يدعى كوانامي [1333-1384 Kiyotsugu Kwanami، وهو ممثل المسرح الياباني الذي وضع أسس مسرح النُّو. وابنه الذي يدعى سِياميZeami 1363-1443 Motokiyo، ممثل ياباني وكاتب مسرحي، ومنظّر مسرح النُّو، وأحد الكتاب المسرحيين العظماء في تاريخ المسرح الياباني.
5- الزازِن (zazen) ، أي التأمل بالجلوس عند أتباع الزِّنْ Zen الذي هو أحد مذاهب الديانة البوذية: »زا « تعني “الجلوس”، وزن «تعني “التأمل”، سيراً على نهج بوذا خلال تأملاته. وفيها ينصرف المريد عن المشاغل والرغبات الجامحة، ويتوقف عن التفكير المنطقي التحليلي المضني طلباً للاسترخاء والطمأنينة. ويعتبر السيد زن (Zen) أبرز المدافعين عن هذا التوجه في القرن الثالث عشر، ومؤسس طائفة Sōtō في اليابان، Dōgen. واعتبر أن الزازِن (zazen) طريقة لبلوغ مرحلة التنوير.
6- الموسات (muses) لفرنسية، وتنطق عندهم بحرف الزاي. و musa باللاتينية و Μοῦσαι Moũsai بالإغريقية، وكلاهما تنطق بالسين عند الإغريق القدامى، هي إلاهات الإلهام التي تلهم الشعر والعلم واﻷدب والفنون. ويقابلها عند العرب القدامى شيطان الشعر.
7- هان (Han): سلالة حكمت الإمبراطورية الصينية العظيمة الثانية (206 ق.م – 220 م)، بعد سلالة تشو (1046-256 ق. م). اعتُبرت أحد أبرز “العصور الذهبية” في تاريخ الصين. اشتهرت بحكمها الطويل وإنجازاتها الكبيرة التي شملت تطوير الخدمة المدنية وهياكل الحكومة، والتقدم العلمي مثل اختراع الورق، واستخدام الساعات المائية والساعة الشمسية، وتطوير جهاز قياس الزلازل…إلى جانب تطور أدب الـفو(fu) الذي يجمع بين عناصر الشعر والنثر، ويصلح أكثر للوصف والعرض
8- دولة التانغ أو الدانغ (Tang) (618-907) : سلالة حكمت إمبراطورية الصين من بداية القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن العاشر عقب اضمحلال سلالة سْوي Sui [581-618]، طورت شكلا ناجحاً في الحكم والإدارة والتسيير على منوال نموذج سوي. وكان عصرهم عموماً عصر تقدم واستقرار وتوسع ازدهرت فيه الحضارة الصينية ثقافياً وفنياً. لكن بلغت أوج عظمتها في أوائل القرن الثامن الميلادي الذي كان فترة ذهبية نموذجية بامتياز.
9- سلالة الصونغ (song dynasty): حقبة في التاريخ الصيني بدأت من عام 960 واستمرت حتى عام1279. أسسها الامبراطور تايتسو [(976-927Taisu): حكمها من عام 960 حتى وفاته 976]، مُنهياً بذلك فترة حكم السلالات الخمس والممالك العشر. وحكمت البلاد خلال أزهى فتراته الثقافية الرائعة. كانت أول حكومة في تاريخ البلاد تصدر أوراقاً نقدية محلية، وأول حكومة صينية أنشأت أسطولاً دائماً، وأول سلالة شهدت استخدام البارود، وأولها تمييزاً لمعالم الشمال الحقيقي باستخدام البوصلة، وغزارة الإنتاج الفكري والإبداعي
10- السُّومَا تْسْ (87- 145 ق.م، Sima Qian Sseu-ma Ts’ien,): عالم فلك، خبير التقويم الزمني، أول مؤرخ صيني عظيم. ذاع صيته بعمله المتميز شي جي(جنس أدبي صيني) (مذكرات المؤرخ) ، والتي تعتبر أهم تاريخ معتمد في الصين حتى نهاية القرن الثاني ق. م.، خدم الحضارة الصينية، إذ اضطلع بتقديم تفسير شامل للعالم، والتعريف بمصير المجتمع، وتقييم وضع الإنسان، فضلاً عن طموحه إلى تغطية تعاقب العصور برمتها في شتى أنحاء العالم.
11- تاسيت كورنيوس (Publius Cornelius Tacitus) ، أو Gaius Cornelius Tacitus، (-توفي ج .120- env 56م) ، خطيب وسيناتور روماني، أعظم مؤرخ وأحد أمراء البيان الذين أبدعوا باللغة اللاتينية. من أعماله: “الجرمانية” (the Germania) التي تصف القبائل الجرمانية، “هيستوريا” ((the Historiae (التواريخ) ، التي تتناول أحداث الإمبراطورية الرومانية في الفترة الممتدة من 69 إلى 96م، و”الحوليات”) ((Annals التي غطت منجزاتها من 14 إلى 68م.
12- السونيتة (sonnet) قصيدة من أربعة عشر بيتاً ظهرت في صقلية في القرن 13 للميلاد، واشتهرت في أرجاء أوربا، وبقيت متداولة إلى اليوم. وقد نظم بها كبار الأدباء من دانتي إلى شكسبير إلى بودلير.