الخميس , 5 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » قاموس المِيدِيتِيرَانْيُوسْ

قاموس المِيدِيتِيرَانْيُوسْ

ديونيدجي إلبيرا وماريلين كريفيللو ومحمد الطوزي (إشراف)، قاموس البحر الأبيض المتوسط: الإنسان، المجال، الثقافة، التاريخ، ترجمة بإشراف محمد الصغير جنجار، مراجعة الحسين سحبان، الدار البيضاء، منشورات مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، 2021، مجلَّدان.

أبدأ هذه الورقة بقولةٍ واردةٍ بمدخل كتاب فيرناند بروديل، البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي زمن فليبِّي الثاني الصادر عام 1949، وهي لِـخوسِّيه أكوسطا (1540-1600)، هذا الطبيعاني والتبشيري الإسباني الذي عاش بأمريكا خلال القرن السادس عشر، وأصدر كتابا بإشبيلية عام 1590 تحت عنوان التاريخ الطبيعي والأخلاقي لأمريكا: “إلى حد الآن، لم نكتشف بعدُ بالعالم الجديد بحرا شبيها بالبحر الأبيض المتوسط كما هو الحال في أوروبا وآسيا وإفريقيا”.

وقد أكد فيرناند بروديل نفسه، في كتابه هذا، كيف أن الكشوفات الجغرافية واتساع حركة التجارة في “محيط إشبيلية” (المحيط الأطلنتي)، و”بحيرة البرتغال” (المحيط الهندي) خلال القرن السادس عشر، لم يُضعفا ديناميةَ التجارة وحركة الملاحة وزخمَ الأحداث بالبحر الأبيض المتوسط، الذي ينعته بِـ”الشخصية المركَّبة والوازِنة والخارجة عن المعتاد”، إذ لم يحصل نوع من التراجع إلا في القرن السابع عشر، حيث تأسست شركات الهند الغربية والشرقية في هولندا وإنجلترا وفرنسا التي تاجرت مع الهند وأمريكا، وحيث اتسعت حركة التعمير بأمريكا الشمالية. بل إن الدينامية الملاحية المتوسطية تجددت في القرن التاسع عشر مع حفر قناة السويس التي فتحت ذراعيها لسفن أوروبا والعالم ابتداءً من عام 1869.

ولذلك، يبقى البحر الأبيض المتوسط حلقةً فريدةً في تجربة العالم، حلقةً غنيةً بالإنسان والمجال والثقافة والتاريخ، كما جاء في العنوان الفرعي للقاموس الذي بين أيدينا. وهذا الغِنى يبدأ باللغة أولا وقبل كل شيء: “ماريه ميديتيرانيوم” وفق عبارةِ كتَّاب العصر القديم للدلالة على هذا البحر الذي يتوسط الأراضي، كما هو وارد لدى إيزيدور الإشبيلي في القرن السادس؛ “بحر الروم”، كما قال العرب؛ “بحرُنا”، كما افتخر بذلك قيصر روما؛ “البحر الداخلي”، كما كتب العلاّمة بلينيوس الأكبر؛ “البحر الأبيض”، كما يرد في اللغتين العربية والتركية (سمي هكذا لأن البحارة، على ما يبدو، كانت تمتد أنظارهم في الأفق فيظهر لهم الماء مائلاً إلى اللون الأبيض).

حوضٌ التقت فيه الثقافات وتعاقبت وتداخلت، فأغنت اللغة والأسطورة والدين والفكر والممارسات والتقاليد: الثقافات الفرعونية والفينيقية والأمازيغية والإغريقية والرومانية والعربية والأندلسية والعثمانية والأوروبية. كان الحوض المتوسط منبعاً للديانات السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام؛ ومنبعاً لإعمال العقل: الفلسفة الإغريقية؛ ومنبعاً لعظمة الدولة: الإمبراطورية الرومانية. وكان مُلتقىً للقوافل والسفن؛ ومُعتركاً للحروب الصليبية؛ ومِحكاً للاستعمار والحركات التحررية

هذا الكتاب يتحدث عن كل هذه الأمور والقضايا، لكن بطريقة معجمية تضع القارئ في صورة هذا البحر البالغ التعقيد. يتعلق الأمر بِـقاموس البحر الأبيض المتوسط: الإنسان، المجال، الثقافة، التاريخ، الذي أشرف عليه ديونيدجي إلبيرا وماريلين كريفيللو ومحمد الطوزي، والصادر في طبعته الفرنسية عام 2016 بعد عشر سنوات من عملٍ جماعي شارك فيه باحثون من جامعاتٍ من أوروبا والمغرب والجزائر وتونس وتركيا. وهذا العمل هو الذي رأى النور، هذه السنة، باللغة العربية تحت إشراف محمد الصغير جنجار، ومراجعة الحسين سحبان، عن منشورات مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، والذي ساهم في ترجمته باحثون من المغرب وسوريا وتونس.

لماذا إذن هذه الترجمة؟ إجابةً عن هذا السؤال، يستحضر محمد الصغير جنجار في تقديمه للترجمة العربية، ما قاله طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر الصادر عام 1938. كان عميد الأدب العربي قد انتهز فرصة إصلاح المنظومة التعليمية في مصر للتأكيد على “انتماء مصر للحوض الحضاري المتوسطي الذي انصهرت فيه روافد الثقافات الفرعونية والإغريقية والرومانية والعربية الممزوجة بتعاليم الديانات التوحيدية الثلاث”. هذا الطرح الذي استند إلى التعددية في فهم هوية مصر لم يلق الترحيب المنشود لا في مصر ولا في باقي البلدان العربية، ومنها بلاد المغرب الكبير، حيث أدارت ظهرها للبحر الأبيض المتوسط غداة الاستقلال، وظلت كذلك إلى اليوم، “فتحولت البحيرة المتوسطية تحت ضغط التوترات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والهجرات السرية المتولَّدة عنها، إلى منطقة عازلة وسور مائي يفصل ضفافها”.

وفي نفس السياق، وبالتشديد على أهمية الجهد المبذول في هذه الترجمة، التي تطلبت ست سنوات من الجهد والإشراف والمراجعة، وعلى الدور التاريخي الذي لعبته عملية نقل المعارف من لغة إلى أخرى عبر أرجاء هذا الحوض، لابد من التفكير في رهان الزمن الراهن، كون أن “الترجمة، كما جاء في تقديم هذا التعريب، هي أداةٌ لاستعادة التوازن في علاقات ضفاف المتوسط وإسهام لغاته في بناء فكرٍ جماعيٍّ متعددٍ يكون البعد المتوسطي واحداً من آفاقه الرئيسية”.

تنتظم هندسة هذا المعجم وفق خمسة محاور موزعة على أكثر من مائتي مادة معرفية، وهذه المحاور هي:

  1. المعارف التي تراكمت حول البحر الأبيض المتوسط منذ القرن التاسع عشر في ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية، وأيضا تلك التي ارتبطت نشأتها بهذا الحوض، مثل الخيمياء وعلم الفلك وعلم الخرائط.
  2. المجالات الترابية أو البيئية التي “خضعت للملاحظة من زاوية تنوعاتها وتناظماتها”، وأيضا من حيث التغيرات الراهنة التي لحقتها والمخاطر التي تتهدَّدُها.
  3. التاريخ الاجتماعي والسياسي الموسوم بالنزاعات المتكررة، كالحروب الصليبية والمعارك والتطهير العرقي والاستعمار.
  4. الوجوه البارزة، خاصة كبار العلماء والكتّاب الذين “أعطوا دفعة خاصة لنمو منظور متوسطي في الأنثروبولوجيا والجغرافيا والتاريخ”، أو “أسهموا في تعريف البحر الأبيض المتوسط بوصفه كياناً جمعيا، وأسطورةً، أو هويةً مرْوية”، مثل هوميروس، وابن رشد، وموسى بن ميمون، وابن خلدون، وليون الإفريقي، وطه حسين، وفيرناند بروديل، وجوليان بِيت ريفرز، وجيرمين تيون، وغيرهم.
  5. الممارسات الثقافية ذات الصلة بالجسد واللباس والألعاب والمواسم والتظاهرات الفنية والرياضية (قيلولة، مؤادبة، موسيقى، زواج، قفطان، حمامات، مصارعة الثيران).

لقد ابتُكِر البحر الأبيض المتوسط كمفهوم في القرن التاسع عشر على الأقل، حيث تعددت حوله الدراسات والأبحاث، لكنها، وإن كانت قد راكمت كماً من المعارف يمكن نعتها بالدراسات المتوسطية، فإنها لم تُكسِبه ذلك التماسك ليكون منيعاً كمفهوم أوروبا على سبيل المثال. ولذلك، ظل هذا الفضاء الموزَّع بين الشرق والغرب، عرضةً للجدال، كما هو الحال بالنسبة لمفهومي الشرق الأوسط والشرق الأدنى اللذين ارتبطا بالتفكير الاستراتيجي للقوى العظمى في القرن العشرين (فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية). هذا ما يفسِّر تعدُّد المداخل العلمية أو ما سماه المشرفون بِـ”البؤر التحليلية” التي تتغير تبعا لمرامي البحث المنهجية والمعرفية: المنظور الشامل (بروديل)، المنظور الجغرافي-السياسي (إيف لاكوست)، المنظور الاجتماعي-الثقافي (بِيت ريفرز).

يقدم هذا القاموس، المعزَّز بدليل زمني وكشاف للموضوعات والأعلام البشرية والجغرافية، للقارئ المتخصص، وأيضا لمختلف الفاعلين في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة، أداةَ عملٍ أساسية لتناولِ الحوض المتوسط، ودعامةً للتفكيرِ في قضاياه الممتدة في الزمن، والتدخلِ لإيجاد ما يمكن إيجاده من حلول لمعضلاته العديدة والمستعصية. هنا تكمن وظيفة العلوم الإنسانية والاجتماعية التي استُثمرت بذكاء في هذا العمل، عموديا وعلى نحو متداخل، ألا وهي التفكير في هذا الحوض بعيدا عن التوترات والرهانات السياسية، من منظورٍ جماعي يؤسِّس لرؤية شاملة من شأنها المساهمة في الفهم، وفي التحليل، وفي التأثير في السياسات العمومية. وتقدم مادة “حرّاكَة” مثالا لهذه الرؤية، حيث يضع موضوعُ “المهاجرين السريِّين وغير الشرعيِّين وشروط عودتهم إلى بلدانهم” بلدانَ المغرب الكبير وأوروبا الجنوبية في موقف حرج، بالقياس إلى الرهانات السياسية، والانشغالات بمحاربة الإرهاب، وحفظ قيم حقوق الإنسان. ولذلك لا حل لهذه المشاكل إلا بِـ”الحوار بين الشمال والجنوب وسياسة التعاون، إضافة إلى تناولها في بعدها الإقليمي ضمن بلدان الضفة الجنوبية وعلاقاتها بإفريقيا الغربية وآسيا الوسطى وأوروبا”.

يتيح هذا العمل، بتصوره المعجمي، مداخل متعددة على مستوى الفهم والتلقِّي، وعلى مستوى التفسير والتأويل، وعلى مستوى التفكير وإثارة النقاش، هو مخرجٌ ذكيٌ لتفادي الدراسة الأفقية، جغرافيةً كانت أم تاريخية وحتى أنثروبولوجية، لأن البحر الأبيض المتوسط، كما نبَّه إلى ذلك فيرناند بروديل في كتابه المذكور، وهو محِقٌّ في ذلك، “ينفلت من مقاييسنا وتصنيفاتنا”، لأنه أصلا ليس بحراً واحداً، وإنما مجموعة من البحار المزدحمة بالجزر والمقطوعة بأشباه الجزر والمحاطة بأراضي متشعِّبة، ولأن أهاليه هم في نفس الوقت ملاحون وفلاحون ومحاربون. ولذلك، من الصعب جدا الفصل في الحوض المتوسط بين البحر والبر. في هذا الإطار، يقول مثلٌ يردِّده أهل منطقة بروفانسيا، التي نبع منها مشروع هذا القاموس: “امتدح البحر، والْزِم البر”[1].

من هذه الزاوية، يرى المشرفون على المشروع أنه “لا وجود لبحر أبيض متوسط من وجهة نظر البحث العلمي. لا وجود له على الأقل بوصفه واقعا معطى وفضاءً موجودا وجودا قبليا”. ولذلك، واستحضارا لصعوبة هذا التمرين، يبقى هذا المعجم، على حد قولهم، “دعوة للرحلة” في أرجاء البحر الأبيض المتوسط، إذ بإمكان القارئ أن ينظم جولته حسب “مبتغاه الشخصي”، وأن “يسير في الطريق الذي ترسمها له اهتماماته”.

ومن جهة أخرى، يطرح هذا القاموس قضية أساسية ذات صلة بالمساهمة في تحرير مواده. ما يلاحظه القارئ هو غلبةُ المؤلفين الأوروبيين وهيمنة المراجع المكتوبة باللغات الأوروبية. وهذا أمر يسائلنا جميعا. صحيح أن الجامعات الأوروبية تتوفر على أفضل الظروف التي تسمح لها بإنتاج المعرفة كمّاً وكيفاً وتوزيعها على أوسع نطاق، وصحيح أيضا أننا في الضفة الجنوبية والشرقية لهذا الحوض لم نراكم ما يكفي من المعارف حول ثراء هذا الحوض وتعقيداته المجالية والثقافية، وبلغات أوروبية. لكن عددا من القضايا المرتبطة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية ساهم فيها بعض الدّارسين، وبهذه اللغات، خاصة في المغرب وتونس، بما يكفي من البحث والكتابة، لتظهر أعمالهم على الأقل في قوائم المراجع، في مواد مثل “القرصنة” و”الاغتذاء” و”ابن خلدون”، وغيرها. ولذلك، فإننا نلمس تحيُّزاً تأليفيا وبيبليوغرافيا واضحا لا يمكنه إلا أن يميل إلى إعادة إنتاج نفس الإشكاليات والتصورات.

 

ملحوظة: قُدمت هذه الورقة خلال لقاء “المتوسط أفقاً للتفكير” الذي نظمته مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء في إطار برنامجها الثقافي “كتاب ومؤلف”، وذلك يوم الخميس 2 دجنبر 2021.

 

هوامش:

[1]  F. Braudel, La Méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Philippe II (1949), Paris, A. Colin, 1990, t. 1, p. 12 : «Lauso la mare e tente’n terro (Fais l’éloge de la mer et tiens-toi à terre)».

 

- محمد حبيدة

جامعة ابن طفيل – كلية الآداب القنيطرة

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.