دخل مصطلح العوْلمة القاموس العالمي في عقد التسعينيات من القرن الماضي، واحتل مكانته ضمن الأنساق المعرفية الإنسانية “كمفهوم اقتصادي يقوم على مبدأ توحيد الأسواق ورفع الحواجز والقيود أمام الشركات الاقتصادية العملاقة المتعددة الجنسيات، والسماح بسيولة السلع والبضائع عبر أرجاء المعمور…وسرعان ما امتد إلى الفضاءات السياسية والاجتماعية والثقافية، وهذا الفضاء الأخير هو الذي يعنينا باعتبار أن حقل التاريخ يعد إحدى واجهاته الأساسية” (1) . فما هي إذن علاقة التاريخ بالعوْلمة؟ وهل فعلا يمكننا الحديث عن عولمة التاريخ؟ وقبل هذا وذاك ماذا نعني بعوْلمة التاريخ؟
مدخل إلى مفهوم العوْلمة
يعتبر البعض العولمة مفهوما طارئا على مستوى الطرح، بيد أنها قديمة قِدم الإنسان من حيث التداول كفعل، فعلى الدوام اقتبست المجموعات البشرية من تجارب بعضها البعض. ألم يكن الإنسان مقلِّدا لغيره في الأصل؟ ألم يقتف خطى الآخرين، فاستخدام الحجر المشذب في الصيد واكتشاف النار واختراع أدوات الزراعة وتدجين الحيوانات، واتخاذ السكن في الكهوف والخيام، وبناء المنازل، كلها عادات انتقلت من مكان إلى آخر، ولو بشكل بطيء، لكنها غدت مع مرور الوقت عادات إنسانية مشتركة، أي معولمة. وبالرغم من هذا الانتقال بقيت العوْلمة بمفهومها الحديث بعيدة عن التحقق في مجتمعات يكاد ينقطع بينها عامل التواصل.
شاع لفظ العوْلمة “globalization” بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين، إذ دخل العالم مرحلة جديدة تميزت بانسيابية المعلومة، وتسهيل تبادل السلع تحت إمرة النظام الرأسمالي، مع ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم، سواء في تبادل السلع والخدمات، أو في انتقال رؤوس الأموال، أو في انتشار المعلومات والأفكار، أو في تأثر أمة بقيم وعادات غيرها من الأمم. كل هذه العناصر يعرفها العالم منذ عدة قرون، وعلى الخصوص منذ الكشوفات الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر، أي منذ ما يزيد عن خمسة قرون. منذ ذلك الحين والعلاقات الاقتصادية والثقافية بين الدول والأمم تزداد قوة، باستثناء بعض الفترات التي عرف فيها العالم أزمات، مثل أزمة 1929 التي فرضت على الدول الانكفاء على أحوالها وتدبير شؤونها ذاتيا دون اللجوء إلى التعامل مع الدول الأخرى. كما عرفت بعض الدول استثناءات من هذا التداول نتيجة سياساتها أو اختياراتها الاقتصادية التي أخرجتها من العالم الرأسمالي وصنعت لها اقتصادا يختلف في آلياته عن اقتصاد السوق المتعارف عليه في الغرب.
الظاهرة إذن عمرها خمسة قرون على الأقل، وبدايتها ونموها مرتبطان ارتباطا وثيقا بتقدم المواصلات وتكنولوجية الاتصال والتجارة، فالسياحة تعتبر دخلا قارا لسدس سكان العالم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما أن السلع المتعددة الجنسيات دخلت كل البيوت في العالم حتى تلك التي لازال طراز بنائها تقليديا، فالتلفزة والغسالة والفرن الغازي والدراجة أصبحت من الأساسيات التي يعتمد عليها الإنسان في كل مكان. وبالتالي، فإن عوْلمة التجارة، مع عوْلمة المواصلات، مكَّنت الإنسان من الاستفادة من أحدث التقنيات بطرق بسيطة وسريعة. لكن، حتى لو وضعنا تاريخا تقريبيا لشيوع ظاهرة العوْلمة، يبقى هذا التاريخ مجرد تخمين نسبي لا يمكن لنا أن نحدد به عمر هذه الظاهرة بالتدقيق. وفضلا عن هذا وذاك، يبقى مفهوم العوْلمة في حد ذاته ضبابيا تتضارب بشأنه الأقوال والرُّؤى.
كما أنه من الصعب للغاية تحديد من استخدم أولا مفهوم العوْلمة وفي أي حقل استعمل لأول مرة؟ لا شك أن رونالد روبتسون يعتبر من أوائل من استخدموا المصطلح، وذلك طبقا لما جاء في كتاب واترز عام 1995 تحت عنوان: (العوْلمة ككتاب تمهيدي … والعوْلمة كمفهوم له تاريخ قصير في علم الاجتماع)” (2). لم يظهر تعريف محدد للعوْلمة في القواميس بمفاهيمها الحالية، بل يتعلق الأمر بإشارات مرتبطة بعلوم أخرى مثل علم الاجتماع. نقرأ في كتاب “العوْلمة والحياة اليومية” ما يلي: “وقد ظهر في قاموس أكسفورد المختصر في علم الاجتماع مادة حول العوْلمة جمعتها مع نظرية العوْلمة، وتنطوي على إشارة إلى كتاب مارتن ألبرو وإلزابيث كينج الذي حرراه عام 1990 تحت عنوان: (العوْلمة، والمعرفة، والمجتمع)، والذي يضم مجموعة مقالات سبق نشرها في أعداد متباينة من المجلة الدولية لعلم الاجتماع” (3).
ومع مرور الوقت اقتحم هذا المولود الجديد مختلف ميادين المعرفة الإنسانية، وأصبحت مجالاته واسعة في المنظورات السوسيولوجية والاقتصادية والثقافية والسياسية والتكنولوجية، وغدا رافدا مهما من روافد التعبيرات اليومية لكل المثقفين وعلى مختلف مشارب تخصصاتهم، فأصبح الجدل والحوار اليومي في مختلف المنابر الإعلامية والثقافية، يجد مادة دسمة في الحديث عن العوْلمة كميدان سلبي أو إيجابي، وحتى المفاهيم العقائدية لم تنج من هذا الجدل.
رواد تعريف المصطلح
لنقف لحظةً أمام أهم من حاولوا تعريف مفهوم العوْلمة: فريدمان، وجيدينز، وروبرتسون. يرى فريدمان “أن ثورة الاتصالات التي أعلنت في العالم الجديد قد بدأت عام 1989 مع بداية فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد صاحبها حزمة من التحولات؛ من المجالات السياسية للتأثير إلى تكامل الأسواق، ومن التفاوض إلى الاتفاق كمحدد للتعاون الدولي، ومن التصنيع إلى الرقمنة، ومن إلغاء التهديد النووي إلى الإرهاب الكوني كتهديد رئيس. وإذا كانت العوْلمة المبكرة في القرن التاسع عشر قد بنيت على تراجع كلفة الانتقال عبر الحدود ـ خاصة طـرق السـكك الحديدية والسفن التجارية ـ والتي كانت محصلتها تزايد حجم التجارة وحركات السكان بمعدل سريع، فإن العوْلمة الآن قد بنيت على انخفاض تكاليف الاتصالات التلفونية، وساعدت الفضائيات، والأنترنيت، والشركات، على توظيف أجزاء مختلفة من الإنتاج، والبحث والتسويق، في بلاد متباينة، ولكنها تربط بينها معا كما لو كانت توجد في مكان واحد” (4). هذا معناه أن العالم أصبح قرية صغيرة.
أما روبرتسون فكان من الأوائل الذين قدموا تصورا نظريا للعوْلمة، “يشغل فيه مفهوم الوعي الكوني وضعا مركزيا، إذ يشير إلى ضغط العالم، وعملية تركيز الوعي في العالم ككل؛ حيث جعل الوعي الكوني العالم من خلال الفكر والعمل مكانا واحدا” (5). وتفكير روبرتسون هذا واحد من الأبواب التي فتحت الباب ليخوض المؤرخون في التاريخ المعوْلم.
واعتبر أنتوني جيدينز، أن العوْلمة ليست كلمة جذابة، فهي تعني حسب مفهومه “أننا نعيش في عالم واحد، وهي كما نعيشها ليست فقط جديدة من جوانب كثيرة، وإنما هي أيضا ثورية، ولم يتمكن المعارضون ولا الراديكاليون، من فهمها على نحو مناسب؛ لأن كلا الجماعتين نظر إلى الظاهرة من خلال مصطلحات اقتصادية وهذا خطأ؛ لأن العوْلمة تعتبر ظاهرة سياسية ، ثقافية، بمثل ما هي اقتصادية، وقد تأثرت بالتطورات في نظم الاتصالات، ويمكن التأريخ لها منذ نهاية عام 1960 … إن العوْلمة عبارة عن مجموعة معقدة من العمليات وليست عملية واحدة، وهي عمليات تتم على نحو متناقض ومتعارض، فكما تدفع العوْلمة بعض الأمم إلى الأعلى، فإنها تدفع غيرها إلى الأسفل، وتخلق ضغوطا جديدة من أجل الاستقلال الوطني… وقد دفع إلى هذه التغيرات مجموعة من القوى، بعضها بنائي، والآخر تاريخي، والثالث أكثر خصوصية” (6).
ولذلك، يمكن اعتبار العوْلمة ظاهرة جديدة وحَّدت النظم الاقتصادية والمفاهيمية، وجعلت من الثقافة بمختلف مشاربها ثقافة إنسانية بامتياز، ومكنت التاريخ كعلم من أدوات جديدة، أدخلته إلى التعوْلم وأغنت جهازه المفاهيمي بعُدة جديدة.
التاريخ المعوْلم
يعد التاريخ المعولم مصطلحا مركبا قليل التداول في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويعتبر علم الاجتماع من الميادين المعرفية الرئيسية التي تناولت هذا الموضوع بالدرس والتحليل. فقد أولى علم الاجتماع لهذا الموضوع اهتماما واسعا، لكون المجتمعات تأثرت بصورة مباشرة بكل ما جاءت به العوْلمة. لكن، علينا هنا ألا ننسى أن التاريخ كعلم كان قد أُسِّس على قاعدة الاهتمام بالإنسان وبمحيطه حيث كانت جدلية الزمان والمكان حاضرة بكل تجلياتها في مسيرته عبر التاريخ. “حتى عام 1800، يقول جرار ليكلرك، كان مجال التاريخ في الغرب متطابقا مع تاريخ الحضارات التي أسهمت بتشكيل الحضارة الأوروبية، ولم يهتم المؤرخون إلا بالتاريخ البعيد نسبيا عن بلادهم، أما الذين أبدوا تعاطفهم مع الماضي فلم يتجاوزوا إما العالم اليوناني أو اللاتيني، وإما المسيحية القديمة وأجدادها المباشرين (اليهود كما تبرزهم التوراة)… ونحن لا نعرف شيئا عن شعوب قديمة إلا ما تتحدث عنها التوراة، أو هيرودوت والمؤرخون اليونان… أما فيما يخص الحضارة الهندوسية أو الصينية، فقد فضل اعتبارها دون فائدة تذكر بالنسبة للتحديد الزمني لتاريخ البشرية.”(7)
لقد كان التاريخ، كتصوُّر، ممركزا في حقله المعرفي حول أوروبا. وهذا التمركز هو الذي جعل المؤرخين يفسرون كل الظواهر التاريخية انطلاقا من المصدر الرئيسي، أي أوروبا، بصفتها مركز العالم: “كل الطرق تؤدي إلى روما”، بالتعبير المألوف لدى الأوروبيين. وبطبيعة الحال، كان هذا نابعا من التفكير اللاهوتي الكنسي، الذي اعتمد الفلسفة السكولاستية، وجعل كل المفاهيم العلمية تتمحور حول مركزية كنيسة روما الأوروبية. وعليه، يمكن أن نقول بأن نظرة الذين فكَّروا في العالم كانت ضيقة لا تستوعب العالم بمكوناته. وبعبارة أوضح، كانت الثقافة الإنسانية تعتمد على كل ما هو محلي ولا تنطلق إلى أفق أوسع تستطيع من خلاله تفسير الظواهر التاريخية برؤية معوْلمة واسعة تعمل على توطين هذه الظواهر في أماكنها المناسبة.
في القرن الثامن عشر، استطاع التاريخ أن يخرج من شرنقة اللاهوت بفضل فلسفة الأنوار، وفي رحلة القرن التاسع عشر، تمكَّن التاريخ من التحرر من المطارحات الفلسفية، وأن يجد له دفة علمية بين العلوم. لقد حدثت في القرن التاسع عشر “ثورة تاريخية قلبت هذه الرؤية للتاريخ وللإنسان” بتعبير جرار ليكلرك، كما “قلبت مفهوم الحضارة الغربية ومكانتها في الزمان والمكان”. ومرد ذلك “عدة اكتشافات ما كانت لتكون ممكنة لولا وجود طرق جديدة في تصور الزمان، ووجود أدوات جديدة للبحث في الماضي (علم الآثار) وفي علم ما قبل التاريخ واللسانيات وفقه اللغة المقارن ودراسة المتحجرات.” (8). وفي القرن العشرين، وبفضل الحوار مع العلوم الاجتماعية المجاورة، انطلق التاريخ بأدواته المنهجية الجديدة نحو العالمية. هنا يمكن أن نتحدث عن علاقة التاريخ بالعوْلمة، أو ما يمكن تسميته بالتاريخ المعوْلم، فعلماء التاريخ صاروا يقارنون بين التواريخ والحضارات في منطقة عريضة من مناطق العالم أو بين مناطق العالم هذه، وذلك أخذا بعين الاعتبار التأثيرات المتبادلة بين الحضارات والروابط الموجودة بينها، في مدة زمنية معينة أو بين الأزمنة. فعادات الإنسان وتقاليده وثقافته وأعرافه وعقائده تتداخل فيما بينها، وتجعل مختلف مناطق القارات الخمس تُظهر عناصر شبه كثيرة، كما تجعلها، في كثير من الأحيان، تنهل من نفس المعين الفكري والمعرفي.
لقد أتاح تقدم البحث التاريخي ومناهجه، في مختلف جامعات العالم، تطور تعامل المؤرخين مع تاريخ الإنسان ومكَّنه من اقتحام “الأبحاث التاريخية الشمولية” منذ نهاية سنوات 1990 وبداية الألفية الثالثة، وذلك برؤى جديدة، متحررة من النزعة المركزية الأوروبية، وبنظرة ما بعد حداثية تأخذ مأخذ الجد عطاءات كل مناطق العالم وثقافاتها (9). ومعنى ذلك أن “دراسة تاريخ العالم هي دراسةٌ لآليات الترابط والتكامل والاندماج التي حصلت في حقبة زمنية بعينها، والتي كانت لها تأثيرات هائلة على الأزمنة اللاحقة، والتي عوْلمت هذا العالم ووحدته اقتصاديا وثقافيا” (10). لقد أصبح تاريخ العالم “تاريخا واسع المنظور، تاريخا تندمج فيه الأمكنة والأعراق والثقافات، تاريخا يتجلى فيه الزمن الطويل (زمن البنيات) والزمن القصير (زمن الأحداث)، تاريخا تظهر فيه القطائع والاستمراريات، تاريخا يتجسد فيه الثابت والمتحول، التعدد والتنوع، التنافر والتآلف، وذلك ضمن صيرورة من التأثير والتأثر، والابتكار وإعادة الابتكار، والاستملاك والتبني” (11). تاريخُ العالم تاريخٌ معوْلم بامتياز. ويعتبر المتن الموسوم بـ “تاريخ العالم في القرن التاسع عشر” واحدا من المؤلفات الضخمة الذي مثَّل بحق التاريخ المعوْلم، حيث ضم بين دفات صفحاته مجموعة من الفصول التي كتبها مجموعة من المؤرخين ينتمون لحضارات مختلفة من أوروبا وآسيا وأمريكا، والتي تحدثت عن أهم الوقائع والأحداث والمستحدثات المؤثرة في مسيرة الإنسان في القارات الخمس، والتي كان لها وقع كبير على مسارات التاريخ العالمي، فقد فرضت عليه تغيرات كبرى ورسمت سبلا جديدة مؤشرة بذلك لعهد جديد من الحضارة الإنسانية. وحتى الوقائع البعيدة عن أوروبا كان قد أصبح لها، بشكل من الأشكال، تأثير على الفكر والثقافة الإنسانية. وهذه الوقائع والأحداث، وفق ما جاء في هذا المؤلَّف، انطلقت منذ نهاية القرن الثامن عشر، مع الثورة الفرنسية لسنة 1789، التي حررت الإنسان من القيود الإقطاعية، والتي وجدت صداها عام 1794 في كولومبيا حيث تُرجِم إعلان حقوق الإنسان والمواطن.
تعتبر مقدمة الكتاب السالف الذكر من أهم المداخل التي أراد لها المشرفان عنه أن تكون مقدمةً مساعدة على فهم ما ورد في هذا السفر الضخم (940 صفحة). يكفي هنا أن نذكر العناوين الفرعية التي وسمت هذه المقدمة لتبيان أهميتها: “كيف أصبحنا معاصرين؟” و”أي قرن تاسع عشر؟” و”أي عالم؟” و “أي تاريخ؟” وأخيرا “قراءة تاريخ العالم في القرن التاسع عشر”. من خلال هذه العناوين يتضح أن المشرفين على العمل، بيير سينغارافيلو وسيلفيان فينير، قد استحوذ عليهما هاجس المفهوم، وهاجس المكان، وهاجس التحقيب. وهذا هَمُّ كل مؤرخ، لأن هذا الأخير ينطلق دائما من إشكاليات المفهوم والزمان والمكان. فالقرن التاسع عشر، قرن الحداثة بامتياز، اصطدم هو الآخر بإشكالية التحقيب. أشرنا قبل قليل لمسألة البداية، لكن النهاية أيضا تطرح الكثير من الأسئلة. “نظريا لا يوجد تحقيب متفق عليه، برأي عبد الله العروي [لأن] كل دولة تكتب التاريخ العام من منظورها، وذلك المنظور يختلف من قارة لأخرى، من ثقافة لأخرى، من ملة لأخرى، وقد تختلف الآراء والاتجاهات داخل الدولة الواحدة حسب المصالح والعقائد” (12). ويذهب المشرفان المذكوران بهذه النهاية إلى غاية اكتساح القطب الشمالي (1909) أو الثورة المكسيكية (1910) أو حتى الثورة الصينية (1911).
ومن جهة أخرى، يطرح تاريخ العالم إشكالية في منتهى الصعوبة، ألا وهي إشكالية اللغة، ذلك أن الأرشيفات التي من شأنها إنارة مناطق الظل في تاريخ العالم مكتوبة بكل اللغات، الحية والمحلية والكلاسيكية، وكذلك الشأن بالنسبة للدراسات المنشورة في مختلف الجامعات، والتي يصعب في معظم الأحيان الاطلاع على نتائجها بحكم غلبة اللغات الأوروبية. ولذلك فإن التغلب على الصعوبة التي تطرحها هذه الإشكالية هو العمل الجماعي الذي يساهم فيه باحثون من مختلف الثقافات واللغات، مما يتيح الحديث، بنظرة تعددية، عن الظواهر التي غيرت العالم من منظور شامل: “الحركة الديمغرافية، الهجرات والمبادلات، والمواصلات، والثورات، والتصنيع، والتمدن، والطباعة، والثقافات، والزراعات، والحروب، والأديان، وحركات الاستعمار، والحركات السياسية … والنظريات الاقتصادية، والبعثات التبشيرية، والمعارك، والمعتقدات، والعائلات، والترفيه، والرحلات، والقراءة، وأنماط الاستهلاك”(13).
من أجل عوْلمة التاريخ؟
هل بالإمكان عوْلمة التاريخ؟ هذا هو السؤال الذي يتردد على لسان عددٍ من الباحثين في التاريخ. لكن عناصر الإجابة عنه لا تتأتى إلا بتوسيع المنظور التاريخي والتسلح بالمناهج العالمية التي تمكِّن من فتح أبواب التركيب والشمولية. في تقديمه لترجمة كتاب “تاريخ العالم في القرن التاسع عشر، كتب محمد حبيدة: “يطرح علينا هذا الكتاب، نحن معشر المشتغلين في حقل الدراسات التاريخية، سؤالا غاية في الأهمية حول المنظور التركيبي العالمي، والفائدة التي قد يجنيها الكاتب والقارئ معا حين يتم التحرر من التقوقع المحلي والقومي، وتوسيع مقياس الملاحظة لاعتناق الفضاءات الرحبة. في المغرب، مثلا، وفي بلدان عربية أخرى، نجد أكثر من تسعين بالمائة من الباحثين تخصصوا طيلة مسارهم في أعمال مونوغرافية مرتبطة بقبائل ومدن ومؤسسات دينية، من منظور محلي صرف، وهو أمر لا معنى له، ولن يفيد البحث التاريخي في شيء، لأنه يضيِّق الأفق ويحجب الرؤية. صحيح أن المونوغرافيات أساسية لامتلاك ناصية البحث والكشف عن آليات التحول واللاتحول على المستوى المجهري، لكن في مرحلة موالية يفترض في الباحث الانتقال إلى مستوى أرحب. ففي تطور المعارف، كما قال مارك بلوك، “يسدي التركيب… خدمات أهم من الكثير من المونوغرافيات” لأنه هو الكفيل بالتفسير وتوليد الأفكار، ومعنى ذلك أن تطور المعرفة التاريخية مرتبط بالانفتاح على التجارب العالمية، من حيث المنهج والرؤية والمعطيات، لأن معرفة التواريخ الأخرى، الأوروبية والآسيوية والأمريكية، هي التي من شأنها توسيع عملية الفهم، ومراجعة الكثير من المسلمات، والنظر إلى العديد من الأمور بما يلزم من النسبية.”
يحفزنا هذا القول على الانخراط في هذه الرؤية، ذلك أن نضج المؤرخ واتساع عدسة رؤيته من شأنهما، في نهاية المطاف، أن يدفعا باتجاه الكتابة بنظرة عالمية تجعل من التاريخ تاريخا معوْلما يبحث في أصول مسارات التحول وراهنيتها، وفي المقارنات العريضة بين الثقافات التي تسعى إلى بناء كونية متعددة بعيدة عن الغائية، وعن مبدأ تعاقب الحضارات، كما كان عليه الأمر في الدراسات التقليدية التي ظهرت في بداية القرن العشرين، مع أوسفالد شبينغلر وأرنولد توينبي.
ومع ذلك، لا ينبغي التفريط في المونوغرافيات التي على مجهريتها تبقى مفيدة جدا في الانتقال إلى الكل وفهمه فهما شموليا. تاريخ المواد والعادات، مثل الشاي والتوابل والملح والشوكولاتة والقهوة والذُّرة والقطن، وآداب المائدة، وغيرها من المكونات، التي سافرت في المجال وفي الزمان، والتي تكتسي اليوم سمة عالمية، هي التي تسمو بنا إلى عالمية التاريخ أو بعبارة أخرى إلى هذا “التاريخ المعوْلم” الذي بدونه تبقى نظرتنا للأمور ضيقة. لكن عمليةً تاريخيةً مثل هذه تقضي بأن يتوفر المؤرخ على ما يكفي من الأدوات المنهجية لتركيب المعطيات والتجول بين الحضارات والثقافات برشاقة معرفية تشد اهتمام القارئ سواء كان من أهل الاختصاص أو من أهل العلوم المجاورة وحتى القارئ النبيه الذي لا اختصاص له. لقد باتت عوْلمة التاريخ ضرورةً ملحة في عصرنا الراهن، لأنها تحيلنا إلى تاريخ تركيبي شمولي قادر على الكشف عن آليات تمازج الأفكار والأشخاص والممارسات، والتي تتضمن تفسيرات لأسئلتنا العالقة.
في متم هذه الورقة، لابد من التأكيد على مسألة أساسية، كون أن مداخل تاريخ العالم متعددة. المداخل الشمولية تبقى بطبيعة الحال في واجهة أعمال التاريخ العالمي، مثل ما كتبه المؤرخ البريطاني كريستوفر بايلي عام 2004 (“ميلاد العالم الحديث: 1780-1914”)، أو المؤرخ الألماني يورغن أوستيرهاميل عام 2009: (“تحول العالم: تاريخ القرن التاسع عشر”) أو ذلك العمل الجماعي المذكور المنجَز تحت إشراف المؤرخين الفرنسيين بيير سينغارافيلو وسيلفيان فينير عام 2017 (تاريخ العالم في القرن التاسع عشر). لكن ثمة مداخل جانبية تلقي الضوء على تاريخ سائر في طريق العوْلمة بواسطة مادة من المواد أو ممارسة من الممارسات أو مستحدثة من المستحدثات. وهذه المداخل الجانبية تشترك فيها مجموع العلوم الإنسانية والاجتماعية. تاريخ الشوكولاتة، مثلا، المكتوب بنفَس عالمي، على النحو الذي يظهر في كتاب الأنثروبولوجية الأمريكية صوفيا دوبزانسكي كُو الموسوم بـ “جينيالوجيا الشوكولاتة” (2019) يتيح إمكانيات هائلة لفهم مسار مادةٍ حملتها آليات النظام الرأسمالي من المحلية إلى العالمية لتتحول من نبتة ذات حمولة رمزية إلى سلعة مصنَّعة ذات رواج تجاري مفتوح على جميع القارات. لقد عملت كل هذه الجهود على تفكيك القضايا وإعادة بنائها لتصنع منها موضوعات ذات أفق عالمي، تجيب عن الأسئلة العالقة، وتسلط الضوء على العلاقات والتأثيرات الحضارية، العابرة للقارات، والتي جعلت إنسان اليوم، وبدون عناء يُذكر، يتناول قطعة شوكولاتة، أو فنجان شاي، وهو يحمل هاتفه الذكي ليطوف العالم بأسره بنقرة زر عبر الشبكة العنكبوتية العالمية، متجاوزا كل الحدود الجغرافية والمادية والسياسية والعقائدية والفكرية. إن التاريخ المعوْلم هو تاريخ سيرورة جعلت الإنسان، عبر تنقلاته وهجراته ومغامراته وتجاراته وانفتاحه على الثقافات الأخرى، يصنع عالما مترابطا قبل أن يشعر بكونية هذا العالم ويسعى إلى التسلح بالمعارف ليجعل من التاريخ معرفة معوْلمة.
الهوامش:
- إبراهيم القادري بوتشيش، مستقبل كتابة التاريخ العربي (aljabriabed.net)
- علي عبد الرازق جلبي وهاني خميس، العولمة والحياة اليومية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 2011، ص 14.
- نفس المرجع، ص 15.
- نفس المرجع، ص 15، 16.
- نفس المرجع، ص 16.
- نفس المرجع، ص 17.
- جرار ليكلرك، العولمة الثقافية: الحضارات على المحك، ترجمة جورج كتورة، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2004، ص 151.
- نفس المرجع، ص 151-152.
- بيير سينغا رافيلو وسيلفان فينير، تاريخ العالم في القرن التاسع عشر، نسق الترجمة وراجعها محمد حبيدة (تقديم الترجمة: لنوسِّع المنظور التاريخي)، منشورات مؤسسة الملك عبد العزيز بالدار البيضاء، 2020، ص 5-6.
- نفس المرجع، ص 6.
- نفسه.
- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، ط 4، 2005، ص 281.
- تاريخ العالم في القرن التاسع عشر، مرجع سابق، ص 24.