السبت , 25 يناير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » اليهود وتجارة ريش النعام الدولية: محاولة في كتابة التاريخ الشمولي

اليهود وتجارة ريش النعام الدولية: محاولة في كتابة التاريخ الشمولي

سارة أبريڤايا ستاين، يهود في مهب الريش: تجارة ريش النعام الدولية، ترجمة خالد بن الصغير، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2018، 388 صفحة.

 

برز “التاريخ العالمي” في أوائل القرن الواحد والعشرين بوصفه حقلا بحثيا جديدا، لا يهدف إلى كتابة تاريخ شامل للعالم، بقدر ما يؤكد على تتبع الترابطات العالمية العابرة للحدود ومساءلة السرديات الأوربية المتمركزة حول الشعوب الغربية وثقافتها، وفتح المجال أمام الاعتراف بالمساهمة الفعالة لغير الأوربيين. ومن شأن اكتشاف الترابطات العالمية ودور الثقافات والأعراق الأخرى في هذا التاريخ، أن يغير الكثير من الأحكام والمواقف التي توجه كتابة التاريخ بشكل عام. فحتى وقت قريب جدًا، كان المؤرخون ينظرون إلى الماضي بأدوات القرن التاسع عشر؛ لكن العولمة غيرت منظورنا إلى المعرفة بشكل جذري، ولم يعد من الممكن دراسة تاريخ الدول والشعوب بشكل منعزل، كما لم يعد من الممكن الانكفاء على الفهم الأحادي لتاريخ العالم بوصفه نابعا من أوربا.

وإذا كان التاريخ العالمي أو بتعبير أقرب إلى الدقة “التاريخ عبر الإقليمي”، أو “التاريخ المترابط”، لا يدعي لنفسه القدرة على تقديم تاريخ شامل للعالم، فإن حرصه على الانعتاق من هيمنة المركزية الأوربية في تدوين التاريخ وأثرها المدمر في تهميش المساهمة الواضحة للشعوب والثقافات الأخرى في صناعة أحداث التاريخ العالمي وتشييد مساراته، يبشر بمستقبل واعد لهذا الحقل البحثي الجديد الذي يبدو أنه سيغدو قريبا المجال الأكثر دينامية وابتكارًا في التاريخ، من خلال اتخاذ ترابط العالم نقطة انطلاق لفهم ماضي هذا العالم ككل متكامل، وإعادة المؤرخين رسم تضاريس تخصصاتهم في سياق حاضرنا المعولم، دون السقوط في فخ إنشاء “مركزيات” جديدة. وتتوقف المشاريع الناجحة في التاريخ العالمي على استعداد الباحثين والمؤرخين لولوج سياقات ثقافية متعددة ومختلفة والانفتاح على لغات متمايزة.

لقد برزت العديد من الأعمال المثيرة للاهتمام، تولدت بفضل نمو دراسات ما بعد الاستعمار التي أثارت بالفعل العديد من القضايا الهامة (1). ويعد كتاب يهود في مهب الريش: تجارة ريش النعام الدولية لسارة أبريڤايا ستاين (2)، والذي قام بنقله إلى العربية خالد بن الصغير، من بين الدراسات الجادة والمفيدة في هذا المجال. وقد تبنت المؤلفة، كما ذكر مترجم الكتاب، “مقاربة التاريخ الشمولي بكل ما تقتضيه من شروط علمية وقواعد منهجية، فاعتمدت مواد وأرشيفات تاريخية متنوعة حصلت عليها في جهات مختلفة من العالم”. وسعت إلى اقتفاء آثار تجارة ريش النعام وملاحقتها في المجالات والعوالم التي شملتها هذه التجارة من جنوب إفريقيا وشمالها إلى أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، مدفوعة بهاجس مركزي يتعلق بالحضور اليهودي في مجمل مراحل وأنشطة تجارة هذه السلعة وصناعتها.

 

قصة الكتاب وخلفيته

تبدأ قصة كتاب اليهود وتجارة ريش النعام باطلاع صاحبته على كتاب بعنوان “أودتشورن أورشاليم الإفريقية” الذي ألفه لَايْبَل فِّيلدمان باللغة الييديشية (لغة يهود أوربا الشرقية) ونشره بجوهانسبورغ سنة 1940م. وهو كتاب كرّسه صاحبُه لموضوع تاريخ اليهود في بلدة صغيرة تدعى أودتشورن بمنطقة الكاب الغربية في جنوب إفريقيا، حيث احتضنت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أكبر مركز في العالم لتربية طيور النعام، كما احتضنت جالية كبيرة من المهاجرين اليهود الوافدين من ليتوانيا بأوربا الشرقية احتكروا تجارة ريش النعام وتصديره. وانطلاقا من هذا الكتاب بدأت سارة ستاين رحلتها في جولة مثيرة امتدت عبر ثلاث قارات، لاحقت خلالها تجارة ريش النعام ودور اليهود في مختلف مراحلها وأنشطتها، لتروي لنا قصة فريدة عن صعود وهبوط تجارة إحدى السلع الكمالية التي شكلت جزءا مهما في التجارة العالمية حينئذ. والمثير في هذه القصة أنها تحكي مسارا شموليا لا يمكن توقعه من العلاقات والترابطات بين أماكن كثيرة وأناس مختلفين، كما أنها مزجت بشكل أخّاذ بين قصص الأفراد المهمّين وغير المهمّين، وبين الأحداث الأساسية والأحداث التي يمكن عدُّها “تافهة”.

زارت الكاتبة سنة 2004م جنوب إفريقيا، وكم كانت دهشتها حين وقفت على ثروة غنية من المواد الوثائقية، كما صادفت ثروة وثائقية أخرى في المجالات الجغرافية التي اجتازتها هذه السلعة الفاخرة، خصوصا أوربا والولايات المتحدة الأمريكية. وتذكر أنها أصيبت بالدهشة والذهول حين وقفت على الدور الحاسم والملموس الذي اضطلع به اليهود في تجارة ريش النعام ليس في جنوب إفريقيا وحسب، بل أيضا في مختلف أرجاء بلدان شمال إفريقيا والإمبراطورية العثمانية وبلدان أوربا ومناطق مختلفة من الولايات المتحدة. لقد كانت علاقة اليهود بتلك التجارة وصناعتها هائلة ومتنوعة، غير أن هذا الحضور تعرض لحصار وتغييب متعمد، قد يجد جذوره في الشائعات التي ربطت انهيار تجارة الريش بوجود مافيا يهودية احتكرت هذه التجارة على الصعيد العالمي، وهي شائعات لم تكن تنفصل عن معاداة السامية ونظرة الازدراء التي لاحقت اليهود في المجتمعات الأوربية.

يبدو الرهان الكبير لسارة ستاين في هذا العمل هو تسطير الرواية التاريخية لصعود نجم اليهود وتألقهم في سماء تجارة ريش النعام العالمية عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهذا “ما يجعل لهذا الكتاب أهمية”، حسب تعبير المؤلفة. فعلى الرغم من أهمية مكانة اليهود فيما يتعلق بتاريخ تجارة الريش وغيرها من السلع الحديثة المتداولة عالميا، فإن تدوين تاريخ اليهود في علاقاتهم بالتجارة الحديثة عبر العالم لم يتحقق بعد بطريقة منهجية. ويعود ذلك إلى أن الاهتمام بدراسة علاقة مجموعة عرقية أو ثقافية بالتجارة العالمية يقع عند خطوط تماس التاريخين الاقتصادي والثقافي، وهو حقل بحثي جديد لم يكتمل نظريا بعد.

إن عمل المؤلفة في هذا الكتاب يسعى لإثارة الاهتمام إلى هذا الحقل البحثي المنفتح على مجالات جغرافية أوسع وفضاءات ثقافية أرحب، من خلال طرح الأسئلة حول العلاقات القائمة بين اليهود والتجارة العالمية الحديثة. وغايتها هي تبديد وصمة العار المرتبطة بعلاقة اليهود برأس المال والتبادل الدولي، وتنمية التقدير المتزايد لمكانة اليهود في العالم الحديث.

لقد أظهرت بعض البحوث انغماس اليهود إلى أقصى الحدود في التجارة العالمية الحديثة في ميادين الوساطة والسمسرة والتمويل، ولكن أيضا من خلال التجارة في مواد كثيرة مثل الأحجار الكريمة والمعادن والأفيون القانوني والخمور والنفط والصوف. واستعان بعض الباحثين بالخصال التي يمتلكها اليهود لتفسير هذه الاتجاهات، منها أنهم كانوا غرباء ومتعلمين وكثيري الحركة والترحال من مكان إلى آخر، ويمتلكون إمكانيات كبيرة للاتصال بأقربائهم عبر البحار والمحيطات ومختلف الحدود السياسية.

كان اليهود تجارا من ذوي النفوذ والتأثير في سلع كثيرة، وانخرطوا في سلسلة من الشبكات السلعية عبر العالم، غير أنه لم يقع تشكيل أي سلسلة سلعية من قبلهم وحدهم تقريبا باستثناء تجارة ريش النعام. ومن هنا سعت الباحثة إلى محاولة فهم الخصائص المميزة لهذه السلعة العالمية التي جلبت اهتمام اليهود وأغرت طوائفهم وطبقاتهم المختلفة من أشكناز وسيفارديم، وتجار وأرباب المصانع والمانيفاكتورات، وعمال وحرفيين.

ما الذي دفع اليهود إلى ممارسة أنشطة تجارية وحرفية ومهنية مرتبطة بتجارة الريش؟

يحاول هذا الكتاب تفكيك علاقة اليهود بهذه التجارة واستكشاف أدوارهم في توفير هذه السلعة ونقلها وصناعتها وتجهيزها حتى تصل إلى المستهلكات من نساء الطبقات العليا في المجتمعات الأوربية والأمريكية، وذلك على جميع المستويات والمراحل، وعلى امتداد المجالات الجغرافية والمراكز الحضرية والحدود السياسية للدول والإمبراطوريات الاستعمارية. إنه بذلك يبتعد عن الأبحاث التقليدية التي تناولت تجارة ريش النعام في داخل مجالات إقليمية محدودة، وبالمقابل يهدف إلى وضع تجارة ريش النعام الإقليمية وتجّار الريش اليهود في مناطقهم المختلفة ضمن “إطار قصة متناسقة ومحبوكة المضامين على نطاق قاري وشمولي أوسع”، أو بعبارة أخرى وضع المجهود الذي بذله تجار الريش في السياق الأوسع للتاريخ العالمي والتاريخ اليهودي الحديث.

وانطلاقا من هذا التصور راعت المؤلفة في تنظيم فصول كتابها الامتداد الجغرافي والتعاقب الزمني، متتبعة حضور اليهود وأدوارهم في ازدهار تجارة الريش ثم كسادها، في كل من جنوب إفريقيا وشمالها بوصفها مصدر إنتاج ريش النعام، ولندن مركز التجارة العالمية في هذه السلعة، ثم الولايات المتحدة الأمريكية التي احتضنت مصانع الريش بنيويورك ومزارع تربية النعام بالجنوب والغرب والجنوب الغربي.

ورغم أن هذه الفصول اتسمت بطابع محلي مكثف إلى درجة أنها لا تتحاشى الانغماس في تفاصيل جزئية تخص أفراد محليين وشركات صغيرة ووقائع بسيطة، فإن حجم الترابطات التي تمكنت الباحثة من اكتشافها وصلابة البنيات المتوارية التي أسفرت عن وجهها، جعلت هذه الدراسة تكتسي بحق طابعا شموليا، إذ تمكنت من إثارة الانتباه إلى تأثير حركة السكان وتيارات رأس المال والسلع العابرة للعالم على اليهود في الفترة الحديثة من جهة، وإلى الإسهام الكبير لليهود في تشكيل الاقتصاد العالمي الحديث.

 

تجارة ريش النعام بين الازدهار والكساد

تكتسي قصة صعود وهبوط التجارة الدولية لريش النعام قدرا كبيرا من الإثارة والغرابة، فقد حققت تجارة هذه السلعة أوج ازدهارها في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، وارتبط هذا الازدهار بتغيرات الموضة والارتفاع غير المتوقع لطلب نساء الطبقات الرفيعة في المجتمعات الأوربية والأمريكية على الأزياء والقبعات المزينة بريش الطيور. لكنها في تلك اللحظة بالذات تدحرجت في دورة كساد سريعة ومروعة قضت بشكل نهائي على تجارة سلعة كانت براقة ومثيرة للأهواء.

كانت مادة ريش النعام قديما من السلع النادرة، لأن الحصول عليها كان يقتضي جهدا كبيرا في اصطياد النعام البري وملاحقته في الصحاري والمناطق المقفرة، غير أن ارتفاع الطلب على هذه السلعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أقنع الكثير من التجار ورجال الأعمال بالعمل على تدجين طيور النعام وتربيتها داخل المزارع. وانطلقت هذه المشاريع في ستينيات القرن التاسع عشر بمنطقة الكاب في جنوب إفريقيا تحت رعاية الحكومة الاستعمارية البريطانية، ثم انتقلت في بداية القرن العشرين إلى المناطق الغربية والجنوبية بالولايات المتحدة. ومنذئذ تضاعف حجم الإنتاج لتلبية الحاجات المتزايدة للسوق، وأصبح ريش النعام يحتل المرتبة الرابعة من حيث القيمة بين السلع المصدرة من اتحاد جنوب إفريقيا، بعد مواد الذهب والماس والصوف، كما أضحى من المواد الثمينة جدا، حتى كادت تتساوى قيمة وزن منه مع قيمة نفس الوزن من حجر الماس النفيس.

أسهم تحول ريش النعام إلى سلعة مربحة جدا في جلب انتباه السلطات الاستعمارية والمبعوثين الأجانب والتجار. وكان اليهود من أكثر المنخرطين في جميع مراحل هذه التجارة التي صعد نجمها بسرعة غير متوقعة. ولقد تهيأت ظروف اقتصادية وسياسية وثقافية وتقنية أتاحت لليهود المساهمة بقدر كبير من الفعّالية في هذه السلسلة السلعية. فقد بدت ريشة النعام جذابة جدا لأذواق المستهلكين عند بداية القرن العشرين، وتعطشت النساء الأوربيات والأمريكيات للريشة باعتبارها إحدى وسائل الزينة وصيحات الموضة، فزينت مجموعة متنوعة من أصناف الريش القبعات والمراوح والملابس النسائية.

وأسفر تطور وسائل النقل الحديثة وأشكال الاتصالات عن ازدهار النشاط التجاري العالمي في مختلف السلع بما فيها ريش النعام، فاختراع الباخرة والتلغراف سمح للمزارعين ورجال الأعمال التجار والمصنعين المنخرطين في تجارة ريش النعام بمراقبة التحولات الطارئة في السوق وأتاح لهم إمكانية اتخاذ القرارات الملائمة في الوقت المناسب. كما أن السياسات الاقتصادية التي تبنتها الإمبراطوريات الاستعمارية والدول الوطنية قد حددت ملامح هذه التجارة العالمية، وهكذا استفاد التجار اليهود في جنوب إفريقيا وبريطانيا من رعاية الدولة البريطانية لتجارة ريش النعام، بينما استفاد إخوانهم بشمال إفريقيا من الامتيازات التي حصلوا عليها من السلطات العثمانية.

وعموما فإن السرعة التي بدأت تتنقل بموجبها السلع والمعلومات في جميع أنحاء العالم، والمطالب المتزايدة للمستهلكين، والسياسات التجارية للإمبراطوريات والدول، إضافة إلى السمات العامة للأقليات اليهودية، كلها عوامل أسهمت في ازدهار تجارة الريش. غير أن هذه السلعة سرعان ما انهارت مقوماتها بالكامل ابتداء من سنة 1914م، وانهار الطلب على ريش النعام الذي بات الاستخدام الوحيد له هو صناعة منافض الغبار. وتسبب ذلك في حدوث خسائر فادحة حلت بجميع المنخرطين في هذه التجارة من مربي الطيور والتجار والممولين والوسطاء وأصحاب المصانع والعمال.

فما الذي تسبب في تحويل فترة ازدهار تجارة ريش النعام إلى فترة تراجع وكساد؟ ولماذا انقلبت الأمور رأسا على عقب فبَهُت بريقها وذبُلت أناقتها المعهودة بعد ذلك على نحو حاد وسريع؟

تستبعد سارة ستاين المواقف الشعبية والرسمية التي راجت وقتئذ وحمّلت وزر هذا الانهيار لليهود وربطته بممارساتهم الاحتكارية والتآمرية، وتم الترويج لوجود “مافيا يهودية” تتلاعب بالسوق وتمارس المضاربة. وإذ ترفض المؤلفة مثل هذه النعوت التي تتسم بقدر كبير من “الفضاضة وقلة اللباقة”، أو هي في أقل الأحوال “غير مناسبة وتُعوزها الدقة”، فإنها بالمقابل تحاول مقاربة هذا الموضوع من خلال أدوات تحليلية ومنطقية تستحضر السياق العالمي لهذه التجارة والتحولات الكبرى التي أسهمت في هذا الانهيار. فقد شكلت على سبيل المثال الحملات التي نظمها دعاة المحافظة على حياة الطيور ضربة قوية لصناعة وتجارة الريش بصفة عامة، وتم إقرار عدة قوانين وتشريعات مناوئة لاستغلال الريش صناعيا وتجاريا. كما اضطرت الحرب العالمية الأولى النساء الأوربيات والأمريكيات إلى الالتحاق بصفوف القوات العاملة، الأمر الذي منح الامتياز للملابس النفعية البسيطة والعملية، بما في ذلك القبعات. هذا إضافة إلى طفرات الموضة وسرعة تبدل أذواق الناس.

وفي سياق تأكيد قصور مروجي مثل تلك الادعاءات من الأوربيين والأمريكيين وأهل شمال إفريقيا، عن إدراك أسباب الحضور الواضح لليهود في هذه التجارة، تحرص الكاتبة على سرد قصص إفلاس التجار والصناع اليهود من المنخرطين في هذه التجارة الذين كانوا أول المتضررين وأصابتهم كارثة اقتصادية حقيقية. وعن طريق حكاية قصص الفشل تلك تهدف الكاتبة إلى تحطيم القوالب النمطية الجاهزة حول العلاقة الحميمة لليهود مع التجارة ورأس المال.

 

رحلة الريش بين عوالم مختلفة

لعل من أهم مُتَع الكتاب، إضافة إلى أسلوبه الرشيق وقصصه الكثيرة والمثيرة، تلك الرحلة الطويلة التي تحملنا إلى مجالات جغرافية مختلفة وعوالم متباينة في محاولة لملاحقة الريش ومجاراة سرعة انتقاله وانفلاته، وهي نفس السرعة التي ازدهرت بها هذه التجارة ثم انهارت. وما يُميز هذه الرحلة الطويلة والمتشابكة أن القارئ يلتقي مرة أخرى في كثير من مسالكها بشكل غير متوقع مع أناس ووقائع وعلاقات، كان قد مرّ بها سابقا في فضاءات أخرى.

تنطلق هذه الرحلة من جنوب إفريقيا، وتمر عبر لندن، ثم شمال إفريقيا، وأخيرا شرق وغرب وجنوب الولايات المتحدة الأمريكية. وفي كل محطة من هذه المحطات يقص علينا الكتاب حكاية ريشة النعام وعلاقتها باليهود.

استهلت سارة ستاين رحلتها من منطقة الكاب في جنوب إفريقيا، وتوقفت عند حدث ذي دلالة بالغة، ففي سنة 1910م وجهت السلطات البريطانية بالمستعمرة بعثة استكشافية سرية إلى صحراء شمال إفريقيا للحصول على ريش النعام الأكثر جودة في العالم والمطلوب بلهفة. وتمكنت هذه البعثة من جلب عدد من طيور النعام البرية من أجل تربيتها واستيلادها في مزارع تربية هذه الطيور التي كانت قد أُنشأت بالبلاد منذ ستينيات القرن التاسع عشر. غير أن هؤلاء المتحمسين لم يكونوا يعلمون أن هذه السلعة ستنهار أربع سنوات فقط بعد هذه المغامرة الشاقة، دون أن يتمكنوا من تحقيق حلمهم في السيطرة على سوق الريشة.

كانت جنوب إفريقيا أول بلد أنشأ مزارع لتربية طيور النعام، إذ تم تدجين النعامة الأولى سنة 1863م، وفي عام 1913م قُدرت أعداد طيور النعام بحوالي ثمانمائة ألف طائر، وأصبحت البلاد المورّد الرئيسي لريش النعام في العالم. ومنذ البداية برز اليهود بقوة على مسرح تجارة ريش النعام، ولعبت الجالية اليهودية الوافدة من شرق أوربا دورا حاسما في هذه التجارة، وحقق تجار هذه السلعة نجاحا باهرا إذ جمعوا ثروة لا تُقدر. أما أسباب هذا النجاح في امتلاك ناصية التجارة الدولية فيعود إلى امتلاك اليهود للخبرة والخلفية المعرفية السابقة بالميدان، فضلا عن وجود شبكة فعالة من أواصر الاتصال مع الأصهار والأقارب سواء داخل أوساط المهاجرين أو في بلدان أوربا، إضافة إلى العلاقات الطيبة مع السلطة الحاكمة، والقدرة على الحركة والتنقل عبر جغرافية العالم.

كان الريش يتخذ مساره من منطقة الكاب في اتجاه مركز الريش العالمي في لندن التي مثلت القلب النابض لتجارة ريش النعام العالمية. واحتضنت المدينة صناعة نشيطة لهذه السلعة، حضر اليهود بقوة في جميع مرافقها ومراحلها، من كبار التجار المتحكمين في المزاد العلني للريش الذي يُنظَّم كل شهر، مرورا بتجار التقسيط وأرباب أوراش صناعة الريش وعمال وعاملات هذه الصناعة الذين تشكل أغلبهم من اليهود المهاجرين الوافدين من أوربا الشرقية. ومن لندن كان الريش يوجه إلى المدن الأوربية والأمريكية لتصنيعه وتقديمه جاهزا للمستهلكين.

تحولت جنوب إفريقيا إلى المزود الرئيسي لسوق لندن الدولية بحاجياتها من هذه السلعة، ومع ذلك استمرت منطقة شمال إفريقيا في تزويد هذه السوق بجزء مهم من الريش ذي الجودة العالية. وأشرفت العائلات اليهودية على جمع الريش وتصديره من مراسي الشمال الإفريقي مثل طرابلس والصويرة والإسكندرية وغيرها، مستفيدة من الامتيازات التي خصتها بها السلطات الحاكمة بالمنطقة.

أما المحطة الأخيرة التي توقف عندها الكتاب فهي الولايات المتحدة الأمريكية التي احتضنت بعض مدنها الكبرى، خصوصا نيويورك، مصانع كثيرة لتجهيز وإعداد ريش النعام، كما احتضن الغرب والجنوب الأمريكي مزارع لتربية طيور النعام. وفي كل هذه الأنشطة كان الحضور اليهود لافتا.

دارت في جميع هذه المحطات قصص متميزة ومثيرة عن ازدهار وانهيار تجارة ريش النعام، وعلاقة ذلك بالطوائف اليهودية. واستطاعت سارة ستاين أن تروي تفاصيل هذه الحكايات بطريقة لا تخلو من قدر كبير من المتعة والتشويق، وقدمت تاريخ صعود وأفول تجارة ريش النعام التي اضطلع اليهود بأدوار أساسية في جميع مراحل صناعتها، من منظور شمولي يستحضر العلاقات بين المجالات الجغرافية البعيدة والكيانات السياسية المختلفة، والتيارات الاقتصادية والبشرية والثقافية التي شكلت العالم إبان فترة ازدهار هذه التجارة وانهيارها.

وختاما نود الإشارة إلى أن المؤلفة ما فتئت تشير إلى رهانات هذا العمل في إعادة الاعتبار لليهود وتحرير تاريخهم الحديث من الأحكام القاسية التي لازمت نظرة الأوربيين وغيرهم للطوائف اليهودية خصوصا في علاقتها برأس المال والتجارة العالمية الحديثة. وعلى الرغم من تركيز الدراسة على التجارة العالمية، فإن جزءا أساسيا من أهدافها هو استكشاف سمات الثقافة اليهودية في العصر الحديث ودورها في تشكل الهوية اليهودية الحديثة، إذ إن توجيه الاهتمام إلى الممارسات التجارية من شأنه تغيير التصور السائد حول التاريخ اليهودي الحديث. وفي هذا السياق يبدو الحرص على إبراز الصورة المقابلة لعلاقة اليهود مع تجارة وصناعة الريش، من خلال الحديث عن معاناة العمال اليهود مع القذارة والأوساخ في أوراش صناعة الريش، وضعف الأجور والمعاملة السيئة، إضافة إلى معاناة التجار وأرباب الصناعة من الإفلاس الكامل والمفاجئ بعد انهيار هذه التجارة؛ ينطوي على الكثير من الرغبة في استبعاد الأحكام المسبقة حول علاقة اليهود بالتجارة والمال.

من جهة أخرى فإن الكاتبة تتجنب في أغلب الأحيان انتقاد الممارسات المشينة في هذه التجارة، مع العلم أنه سواء تعلق الأمر باليهود أو بغيرهم لا يمكن إغفال جوانب أساسية في الممارسة التجارية مثل الاحتكارات أو الغش أو غيرها من الأمور المتعلقة بالاستغلال. غير أن حجم الانتقادات التي تعرض لها الحضور اليهودي في هذه التجارة سواء من طرف الرأي العام الشعبي أو السلطات السياسية أو المصادر الصحفية والبحثية، كل ذلك جعل المنظور الدفاعي والتبريري يهيمن على بنية الكتاب وحججه.

ولأن فهم قيمة الانتماء اليهودي ومعناه الحقيقي في التحالفات التجارية الحديثة، وعلى الأخص في تجارة الريش العالمية، هو النقطة المحورية والأساسية في كثير من فقرات الكتاب، كما أكدت المؤلفة ذلك؛ فإن السؤال الذي يفرض نفسه علينا في هذه الحالة هو: ألا يحجب عنا مثل هذا الطرح جوانب أخرى من تاريخ التجارة العالمية لريش النعام التي ربما تكون مساحتها أوسع مما تم عرضه في الكتاب؟ ألا يعني التركيز على الدور اليهودي تغييبا متعمدا لأدوار عناصر عرقية وثقافية أخرى؟ ثم هل يمكن الفصل بين المشاركة اليهودية الواسعة في هذه التجارة وفي غيرها من الأنشطة المالية والتبادلية العالمية وبين التوسعات الامبريالية العالمية التي قد تكون وظفت اليهود في مشاريعها وأدمجتهم في بنية النظام الرأسمالي العالمي؟

 

الهوامش:

(1) انظر مثلا بعض العناوين التي أوردها سيبستيان كونراد:

Sebastian Conrad, What Is Global History?. Forum Transregionale Studien and Max Weber Foundation, eds., All Things Transregional? A Conversation about Transregional Research. TRAFO – Areas and disciplines 4,

2019, https://perspectivia.net/receive/pnet_mods_00001155) accessed 17.05.2021.

(2) باحثة أمريكية وأستاذة التاريخ في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلس، تعنى بالبحث في التاريخ اليهودي والثقافة اليهودية، فازت بعدة جوائز منها جائزة كتاب قومي يهودي وجائزة سامي رور للأدب اليهودي. لديها مواهب بحثية متينة وأسلوب مثير للإعجاب. وقد صدر لها تسعة كتب من بينها بالإضافة إلى الكتاب الذي نحن بصدد قراءته (2008): صوت يهودي من سالونيك العثمانية (2012)، يهود الصحراء ومصير الجزائر الفرنسية (2015)، الهولوكوست وشمال إفريقيا بالاشتراك مع عمر بوم (2018).

- محمد بكور

باحث في التاريخ، طنجة

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.