الجمعة , 24 يناير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » دراســات » محمد الخمار الكنوني: الموت وألم البوح الذاتي.

محمد الخمار الكنوني: الموت وألم البوح الذاتي.

سعى محمد الخمار الكنوني (1941 م -1991 م) إلى امتلاك صوت متميز، إذ يعتبر إلى جانب محمد السرغيني وأحمد المجاطي قمة القصيدة المغربية المعاصرة خلال فترة الستينيات، نظراً لإبداعاتهم المتميزة في إعطاء القصيدة المغربية نكهتها الخاصة وطعمها المتميز على مختلف الأصعدة1. وهو من الرواد الذين “مثلوا حقيقة تاريخهم ووطنهم في قصائدهم، وهو من الجيل الذي انتقل من الرمضاء إلى النار، أي واكب بشطر من وعيه فترة الاحتلال الأجنبي وواكب بجماع وعيه فترة الاستقلال المغتصب، وكان صوتاً من بين الأصوات التي جسدت بداية إرسال جديد في عالم القصيدة المغربية في طموحها واستبسالها وتوقها إلى التعبير والتغيير”2.

يتميز الخمار الكنوني بقدرة فائقة على البوح الذاتي المتأمل تارة، والمتألم تارة أخرى، وهو بوح يطبع تجربته الشعرية بغنائية حالمة وهائمة في ملكوت الطبيعة الحية والصامتة، وقد يكون هذا هو الباعث الذي جعل أكبر مبدعي الأغنية المغربية يلوذون بنصوصه الشعرية لصياغة روائع موسيقية شنفت آذان المغاربة والمشارقة لوقت غير يسير.

إن معظم قصائد الشاعر هي تواشج بين ذات الشاعر ومظاهر الكون والطبيعة التي يستدعيها كرموز ليسقط عليها حالات وجدانية، لتكون بمثابة وسائط تعبيرية تساعده على البوح الذاتي، وعلى الرغم من انتمائه لطائفة الشعراء المقلين، إذ إن له ديواناً فريداً هو رماد هسبريس، فإنه يبقى مع ذلك صوتاً متميزاً قد طبع القصيدة المغربية المعاصرة بطابعه الخاص، فجاءت قصائده لوحات تشكيلية لملامح ذاته بآمالها وإحباطاتها، بأفراحها وأحزانها، وما رماد هسبريس في مجمله إلا بناءً لهذا المحور الذي يتجاوز الكلمة والمشهد الشعري لينسج الرؤيا التي تجمع وتوحد القصائد كما يجمع الخيط جواهر القلادة.

إن شعرية الموت عند الخمار الكنوني هي شعرية الحفر والتنقيب في الذاكرة والتاريخ والأمكنة على نماذج مضيئة، لتكون شاهداً على قتامة الراهن وسوداويته، وباعثاً على زرع الأمل بغد ممكن. لقد اختار محمد الخمار الكنوني عنوان إحدى قصائد الديوان رماد هسبريس وما يوحي به من دلالات على الموت ليكون عنواناً للديوان برمته. وكأن هذه القصيدة تختزل الديوان وتوجزه، فما المقصود بالرماد؟ هل هو رماد هسبريس التاريخ كبقايا نار خبا لهيبها بعد أن فعلت فعلها ولم يبق لها ما تأكله، فتحولت إلى ذاكرة ثقافية تمتد شرارتها إلى قصائد الديوان فتحيلها رماداً؟ أم هو رماد حريق مجازي شَبَّ في كينونة الشاعر وهو يرصد هسبريس الوطن، فتحول إلى بوح وجداني عميق وكآبة تستقر في قاع النصوص و لا تبارحها؟

إن هذا العنوان يتكئ على الأسطورة ويستدعيها، ففي مدخل قصيدة “رماد هسبريس” يقول الشاعر:

حدائق أسطورية يظهر أنها كانت تقع في شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي”3.

إن علاقة الخمار الكنوني بهذه الأسطورة يعود في رأي أحد أصدقائه إلى ما قرأه عنها في كتاب المغرب الأقصى لأمين الريحاني. وسواء اطلع الشاعر على هذه الأسطورة في كتاب الريحاني أو في غيره من الكتب، فإن هذا لا يمكن أن يشكل باعثاً على إبداع هذه القصيدة واستحضار أجوائها كخلفية نفسية وفكرية، لأن الشاعر عادة قبل أن يعود إلى التاريخ أو الميثولوجيا لاستحضار الأسطورة، فإن رؤيته تستمد مكوناتها من الواقع ورؤاه.

وبالعودة إلى أمين الريحاني في حديثه عن مدينة العرائش نجده يقول: “من بَرقة على البحر الأبيض المتوسط ومن أصيلة على البحر الأطلنتي إلى بلاد نهر الذهب في كل بقعة من هذه الشواطئ الإفريقية الشمالية والغربية، زينها الله بالجبال الخضراء والأنهار وبالمروج والبساتين، كان يتحدث الأقدمون ويسترسل المحدثون في ذكر الأسطورة اليونانية، وتفاحات بنات الهسبريد الذهبية التي كانت شائعة في هذه الديار في زمن الرومانيين، وفي عهد البيزنطيين بعدهم (…) وحدد علماء الأساطير المكان الذي سكنته الهسبريد الحسان في ظل شجرة تفاحهن الذهبي. فقالوا إنه على شاطئ النهر عند مصبه حيث تقوم اليوم مدينة العرائش. أولئك الحسان الثلاث، وقيل إنهن أربع، وقيل سبع، عدد الثريا، بنات الدجى، كن يسكن المغرب الأقصى، كما جاء في التقاليد القصصية على شاطئ الأقيانوس حيث تختفي الشمس كل يوم وتعود لتشرق عليهن وعلى بساتينهن وفيه الشجرة التي كان يحرسها التنين، شجرة التفاح الذهبي التي أهدتها الأرض إليهن ذكرا لقران الربة هيرابزوس رب  الأرباب”4.

إن قراءة محمد الخمار الكنوني لتاريخ المغرب القديم والتنقيب على أسطورة هسبريس واستدعائها بعد تشكيلها محلياً، إنما تم في سياق توجه الشاعر المعاصر إلى الأحداث التاريخية والأسطورية لتكون تعبيراً عن مواقف يريدها أو ليحاكم العصر ونقائصه من خلالها، وهو في ذلك لا يختار إلا الأحداث والشخصيات التي تتلاءم ومضمون تجربته فيتصل بها اتصالاً يعمقها، “وتكون استلهاماته التاريخية صورة رامزة للواقع المستفز بهموم القضايا السياسية حتى يخبئ الشاعر فيها لون فكره وخطوط رأيه”5. تنهض قصيدة “رماد هسبريس” على محورين متضادين هما: هسبريس الأسطورة، جنة التاريخ بحقولها ومروجها وتفاحها الذهبي، وقيمها وناسها وبطولاتها، وبين هسبريس الراهن/الوطن/الرماد. يقول الشاعر:

قد رأيتكمو ورأيتك يا جنة من رماد ووهم، غدت فرجة الغرباء

يشير الدليل إليها، يقول:

هنا هبت الريح دهراً وما حركت شجراً أو لهيباً، وكانت فصول

ومر لصوص، قضوا وطراً من دماها، وينتظر الآخـرون …….

أثمرت من حدود المحيط إلى النهـر كل الحقول

من يد ليد تتنقل هذي الحقول: تراباً، هواء، وماء

وما بين لص قديم ولص جديد تحول تفاحها الذهبـي

فهل كان ذلكموا قدراً وقضاء؟6

يعمد الشاعر فيما يشبه الحنين إلى الأجواء والظلال الشعرية التي شكلتها هسبريس التاريخ، ليصوغ منها نسيجاً شعرياً في تشكيل جمالي جديد يتيح له أن يصور ويثبت ما آلت إليه هسبريس الوطن. يعود الشاعر، إذن، إلى الأسطورة ليجعلها رافداً يقوي الدلالة ويعطي للقصيدة أبعاداً جديدة وزخماً شعرياً يكسبها حرارة التواصل. إن هذا النزوع المشوب بالحنين يتأجج في أعماق الشاعر نحو الماضي وهو يعاين الجنة قد غدت رماداً ووهماً وفرجة للغرباء. لقد استبيحت خيرات البلاد، وأصبحت غنيمة يتقاسمها اللصوص تباعاً، القدماء منهم والجدد.

يلوذ الشاعر بالتاريخ عبر استدعائه للانعتاق من قسوة الراهن وانكساراته، فالأسطورة بهذا المعنى تمثل ملاذاً للشاعر للانتصار على خيباته ولتخطي فواجعه، وهي محاولة دؤوبة لخلق بديل جديد لبعثٍ قوامه البطولة لتجاوز واقع الهزيمة والموت الذي خيم على صدر الوطن.

هـسبريس تناديك باسمك: قم أيها الجسد المرمري

لقد دق كل غريب على بابها فانتفخ بالدماء

وحرك جناحيك، اضرب على حافة النهر في سفن الغربـاء

هسبريس تناديك باسمك في كل عام، تذبح أبناءها وتقول:

من خلال الرماد رأيتك ناراً، فنارك فيك فنارك فـيك..7

يتماهى صوت الشاعر بصوت هسبريس/الوطن، فيخرج الشاعر من التعبير عن ذاتيته إلى التعبير عن ذات أخرى، يتعاطف معها ويستنجد باسمها بتنين مرمري، فيما يشبه السخرية الماكرة الممزوجة بالألم، من عالم استبيحت خيراته وسقطت مدنه ورموزه وأبطاله، ولم تبق إلا نشوة الغبار في الساحة وبعض أصداء الصهيل الميت.

لقد عاد الخمار الكنوني إلى أسطورة هسبريس ليعيد لها طاقتها الخارقة وقدرتها السحرية التي فقدتها، وهو حينما يتقنع بصوت الطبيعة/حدائق الهسبريس ليستنجد بالتنين، يلتمس فيه بعثاً وتجديداً وذوداً عن حوزة الوطن، فكأنما يريد بهذا الفعل الرمزي إيقاف صيرورة التدمير الذي لحق بالوطن من جراء هذا النهب الذي طال خيرات الجنان. يستحضر الشاعر بقناعته عمق المعاناة الإنسانية عبر مسارها التاريخي الطويل، منذ أن كان الإنسان يقدم نفسه قرباناً للآلهة حفاظاً على حياته وعلى وطنه، وهو يستنجد لعل شعلة ثاوية في الرماد تتقد وتنبعث من جديد.

هسبريس تناديك باسمك في كل عام، تذبح أبناءها وتقول:

من خلال الرماد رأيتك ناراً، فنارك فيك فنارك فيـك8.

لقد استطاع الخمار الكنوني بما يملكه من موهبة شعرية أن يفجر ما في هذه الأسطورة من قيم وطاقات، يمكن الاتكاء عليها في التعبير عن الموت الذي أصاب الوطن وأحاله إلى رماد، فلم يعد الشاعر يسوق فكرته أو يعبر عن عاطفته بصورة مباشرة كما هو الأمر في الشعر القديم، بل صار يلجأ إلى نقل انفعالاته إلى عقل القارئ عبر وسيط هو مجموعة الموضوعات والمعاني والمواقف التي تؤشر عليها الأسطورة. لقد وظف الخمار الكنوني أسطورة هسبريس بعدما أعاد تشكيلها محلياً محافظاً على طابعها الفكري والنفسي كمحاولة منه لبعث بديل آخر أكثر إشراقاً، إذ بواسطته تتم عملية الحلم والتخييل. ذلك أن الأدب في صميمه ما هو إلا نظام رمزي قادر على الإيحاء والتأويل، ومن ثم كشف اللاإنساني واللاأخلاقي في رؤية المجتمعات البشرية ونظام قيمها وإدانته. فالاتكاء على المكون التاريخي واستدعائه لإثارة مناخ من المفارقة الدرامية بين عصر مجيد مضى وحاضر تعس، يظهر في ديوان الشاعر بصورة أخرى من خلال التماهي مع عناصر الطبيعة والحلول فيها. يقول الشاعر:

فها أنت ذا أيها البرق بعد اشتعالك

تسكن بين رمادك

كالماء في الكأس

يفقد ذاكرة البحر، زرقتـه

يتحول من كائن سرمدي

التلون و الهيجان

إلى جسد دائري

غـريب عــــن اللون والموج

يسكن بيـن الزجاج

وبين النزوع إلى البحـر..9

يستدعي الشاعر عناصر من الطبيعة يتماهى معها، يحل فيها فتكون وسيطه للبوح عن ذات متشظية حالمة تجر مرارة الخيبة، فكل الأشياء التي يستحضرها الشاعر لا تأتي إلا لتأكيد اللاجدوى، الهزيمة والموت والاندحار. لقد استحال البرق رمادًا، وهربت الألوان من ألوانها.  إن هذا النزوع نحو الأفول لا يعتبر رؤية قارة في أشعار الخمار الكنوني، ذلك أنه من الشعراء الذين يؤمنون برسالة الشعر. ويلخص عز الدين اسماعيل موقف هؤلاء الشعراء في ضوء كتاباتهم بقوله: “إن الشعراء في الغالب الأعم لا يرون في أنفسهم مصلحين مسؤولين عن إصلاح الكون، ولكنهم إذ يشعرون بالألم لفساده واختلاله وزيفه، وينجحون في نقل هذا الشعور إلى الآخرين، ليكونوا قد بذروا بذور التمرد عليه. وحين يشحن الشعر النفوس بالألم والأمل، الألم لما هو قائم والأمل في يوم جديد ومستقبل مشرق، فإنه يكون قد وفى بوعده وحمل مسؤوليته10.

إن مسؤولية الشعراء، إذن، هي مسؤولية إيحاء بفساد الكون واختلاله والتمرد عليه والتطلع بأمل إلى واقع أفضل. لقد آمن محمد الخمار الكنوني بالانبعاث بعد الموت وبضرورة تجاوز الهزائم. يقول الشاعر:

هـا أنتم تحـت الأرض

أَلِبعث أو ميلاد آخر من هذا الرحم الأرضي؟

أأقـول بعيـداً؟

إن الأرض أمامي يا أهلي موت في موت، قبر في قبـر

أأقول: قريـباً؟

فلتقم الأجداث لضوء الشمس

زهوراً أو شجراً، أو إنسانًا11.

لعل هذا التوجه هو ما دفع بعض الباحثين إلى القول بأن نصوص رماد هسبريس تنطلق من “بؤرة تأطيرية هي الرؤية القيامية (vision apocalyptique) نظرا لتفاعل تجربة الشاعر الإبداعية وتجربته الحياتية وتبادل التأثير بين مكونات الخراب الذي تجسده هذه الرؤية القيامية وتستدعيه التجربة”12.

إن تجربة الخمار الكنوني في ديوان رماد هسبريس تجسيد لشعرية الحفر والتنقيب، وهي شعرية محكمة الصنعة والتعبير الشعريين. فقد حاورت الموت وطوحت به إلى أمكنة قصية لا عهد له بها، مقتنصة القابع في الأعماق بكلمات مفاجئة متلألئة هي كلمات الشعر.

 

الهوامش

1- عبد الله راجع، القصيدة المغربية المعاصرة بنية الشهادة والاستشهاد، عيون المقالات، ط1 ، الجزء الثاني البيضاء 1998 ص. 12.

2- نجيب العوفي، درجة الوعي في الكتابة: دراسات نقدية، دار النشر المغربية ، الطبعة الأولى ، 1980، ص. 120.

3- حمد الخمار الكنوني، رماد هسبريس، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987 ص:.51.

4- أمين الريحاني، المغرب الأقصى، مؤسسة دار الريحاني ودار الثقافة، بيروت، ط:2، 1975، ص. 316 – 317.

5- رجاء عيد، لغة الشعر، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1985، ص. 127.

6- محمد الخمار الكنوني، ديوان رماد هسبريس (م.س)، ص. 54-55.

7- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

8- المرجع نفسه، ص. 58.

9- المرجع نفسه، ص .71-72.

10- عز الدين اسماعيل، “مفهوم الشعر في كتابات الشعراء المعاصرين”، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد 41، يوليوز 1981، ص. 57.

11- محمد الخمار الكنوني ، ديوان رماد هسبريس، (م.س)، ص. 50.

12- بشير القمري، “شعرية التعدد شعرية التنوع: قراءة أولى في رماد هسبريس”، مجلة الثقافة المغربية، العدد الرابع، السنة الأولى، دجنبر 1991، ص. 10-11.

- حسن الأعرج

أستاذ التعليم العالي مساعد / كلية الآداب المحمدية

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.