على غرار سعيد بنـﮕراد عندما عرفنا بالظرفية المباشرة لنشأة كتاب وتحملني حيرتي وظنوني، أي النزول عند رغبة طالب سعودي في الحصول على نبذة من السيرة العلمية للمؤلف، والحجر الصحي الذي فرض المرابطة في البيت بسبب وباء كورونا، أجدني أبدأ باستعادة ظرفية قراءتي الأولى لهذا النص. لقد تفاعلت معه بقوة، وفي مستوى وجداني/ معرفي، وذلك بسبب عاملين اثنين:
أولاً، هناك ظرفية ما بعد رحيل صديقي وزميلي عبد الرحمان المودن (غشت 2020). فقد ختمت الكلمة التي ألقيتها في أربعينية الوفاة بالحديث عن مسار “جيل السبعينيات”، بمختلف تنويعاته، وانتقاله من زمن الحماس المتوثب إلى زمن الخيبة، والتشبث بقيم حفزته على الاستمرار في العطاء في مستويات متعددة. وقد عادت بي الذاكرة إلى ما كان يرد في أحاديثنا الحميمية في موضوع عُزوفنا عن تسجيل التجربة المعيشة بواسطة الكتابة واكتفائنا بالمشافهة. فها نحن أمام شهادة / “بوح”، تساهم إلى جانب شهادات أخرى في ملء ذلك الفراغ.
ثانياً، هناك اكتشاف تقاطعات متعددة بين مساري ومسار سعيد بنـﮕراد، خاصة الانعطاف الفكري الذي ارتبط بالانتقال إلى باريس من أجل متابعة الدراسة الجامعية لما بعد الإجازة. وكان الاختلاف بيننا هو أن بنـﮕراد انتقل من الماركسية إلى النص، بينما اخترت الانتقال من هاجس تحديد نمط الإنتاج والتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية إلى تركيبة تؤلف بين التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجيا والمقاربات النصية، وذلك هو ما أهَّلني لاقتراح هذه القراءة المتواضعة التي يؤطرها موضوع التوتر بين السياسي والمعرفي.
محطات التكوين والعطاء
عند القراءة الأولى يشعر القارئ أن الهندسة العامة للكتاب تتبعت خمس محطات، ثلاث منها تمثل مرحلة التكوين، واثنتان تمثلان مرحلة العطاء.
كَافِي مُورْ وبركان
هناك فضاء النشأة. كَافِي مُورْ (“مركز العثامنة” حالياً)، وبركان في شمال شرق المغرب. القرية ثم البلدة. اليُتم والتسجيل في المدرسة الابتدائية بفضل عامل الصدفة. ثم الثانوية، واكتشاف عالم الكتب والانغماس في شغف القراءة. ثم اكتشاف النضال في إطار التنظيم التلاميذي الذي كان بمثابة امتداد لليسار الراديكالي الحديث النشأة آنذاك.
فاس
وفي سنة 1974، التحق بنـﮕراد بالدراسة الجامعية بمدينة فاس. وتم هناك الانتقال إلى الالتزام السياسي داخل” منظمة 23 مارس” السرية. كان الوسط الجامعي يعيش فورة “الحلم بالثورة”، وكانت القضية الفلسطينية تحتل هاجساً مركزياً في الوعي السائد. ويحكي بنـﮕراد مشاهد الاعتقال عبر صفحات تذكِّرنا بـ”أدب الاعتقال السياسي”، حيث الصمود أمام أساليب التعذيب.
باريس
في سنة 1981، ينجو بنـﮕراد من اعتقال جديد، ويتمكن من دخول التراب الفرنسي بجواز مزوَّر. وفي باريس “السنوات الجميلة”، يساعده الرفاق على الحصول على وثائق الدراسة والإقامة، وينتقل حسب المتاح من سكن إلى آخر، ويعتاش من مهن بسيطة أتاحت له أن يتعرف على المجتمع الفرنسي خارج أسوار الجامعة. نُحسُّ بانبهار بنـﮕراد بالمدينة التي احتضنت فكر الأنوار، واستضافت طه حسين وتوفيق الحكيم، وعاشت أطوار ثورة 1789، ثم انتفاضة ماي 1968. غير أن الفضاء المركزي الذي ألهم الطالب المغربي ظل هو الحي اللاتيني الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفضاء الجامعي. “كانت الجامعة تتوفر على كل شيء: الفرجة والسياسة والعمل النقابي والعمل الجمعوي ومجموعات البحث”. وبالتالي فقد كانت عبارة عن “مجتمع مصغَّر يعكس الطابع المفتوح للمجتمع الفرنسي برُمته”.
يشعر القارئ أن محطة باريس طبعت بنـﮕراد في مستويين: هناك تأثير السيميائيات السردية من خلال ارتياد دروس ألجيرداس جوليان ﮔريماص، أحد أقطاب السيميائيات السردية ومؤسس “مدرسة باريس”. وقد ارتبط هذا الاسم بالمربع السيميائي”، و”المستودع السلوكي”، وفصل النص عن المحيط. وهناك صدمة فكرية جعلت الطالب المغربي يتخلى عن الماركسية المبسَّطة المقترنة بـ”الطمأنينة الثورية”، ويعمد إلى مراجعات سوف تلازمه فيما بعد، بحيث كانت، وفق تعبيره، بمثابة “الأساس الذي سأبني عليه كل اختياراتي المعرفية والوجودية اللاحقة”. فعوض اختزال الفعل السياسي في الطموح إلى امتلاك السلطة، أصبح بنـﮕراد يعتبره “فعلاً حضارياً يقتضي سيرورة في التفكير وفي تصريفه في الزمان”، وأصبحت تشغله “قضايا العلمانية وقضايا التخلف الحضاري الذي يشكو منه كل الفضاء الثقافي العربي” (ص. 155)، وجل هذه المبادئ تلتقي مع هاجس أولوية التنوير التي دعا إليها عبد الله العروي.
مكناس
في سنة 1985، عاد بنـﮕراد إلى المغرب في سياق عفو عام تمتع به عدد من المعتقلين واللاجئين السياسيين. عاد على متن سيارة تحمل ثلاثمائة كتاب. وسوف يحط العائد الرحال بمدينة مكناس حيث تمكن من الحصول فيها على منصب أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية.
كانت المحطة الجديدة فضاء الانتقال إلى العمل الفكري في شتى تلاوينه. فقد انهمك بنـﮕراد في التدريس والترجمة والتأليف. وأطَّر مبادرات جماعية تتمثل في مجلة علامات التي تأسست سنة 1994. وبعد عشر سنوات، انطلقت تجربة أكاديميا التي لم يُكتب لها الاستمرار، لكنها تعبر عن طموح مد الجسور بين الهم المعرفي وهم إغناء النقاش العام، وإرساء تقاليد الحوار الهادئ والمنتج. كان لقاء شهرياً متعدد التخصصات والحساسيات الفكرية، يتناول قضايا فلسفية، وسياسية، وثقافية، وفكرية اجتماعية، وهو فضاء مفتوح يرتاده أساتذة، وباحثون، وطلبة، ومواطنون مهتمون. لقد رأى بنـﮕراد في تلك التجربة انتقالاً من “خسران معركة السياسة” إلى “كسب معركة الفكر”. واعتبر أن الظرفية تقتضي معركة تُخاض بالفكر، معركة يقوم بها الأكاديميون، فلا يمكن للسياسيين وحدهم أن ينفردوا بالشأن الحضاري للأمة (ص. 218).
الرباط
وفي سنة 2010، كان انتقال بنـﮕراد إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وجد نفسه داخل مناخ يبعث على الخيبة.
“لقد أفرغ هذا الفضاء الجامعي العريق من مضمونه ومن إشعاعه وتقاليده (…) وتحول إلى مجرد مؤسسة تعليمية بسيطة لتلقين بعض المعارف لطلبة لم يعد الكثير منهم معنياً سوى بالحصول على شهادة قد تمكنه من الاعتصام أمام البرلمان” (ص. 286).
وجد المؤلف نفسه داخل مناخ تطبعه “الحروب الصغيرة”، وانفصال التخصصات، وإدارة تُعامل الأساتذة الباحثين بمنطق يجعل الولاء والصمت بمثابة سر النجاح، بل وجد المؤلف نفسه يجازَى على اجتهاده بمضايقات إدارية أوضحها حرمانه من تمديد الترخيص بالتدريس عند بلوغ سن التقاعد. في هذه المحطة الأخيرة، عزف بنـﮕراد عن النشاط السياسي والنقابي والثقافي، وركَّز على القراءة والتأليف والترجمة، وحرص على استمرار تجربة علامات التي صدر منها مؤخراً العدد السادس والخمسون.
نص متعدد
عندما نتأمل في كثافة الكتاب، نتنبه إلى أن الرحلة عبر المحطات المكانية تمثل في الواقع مستوى ضمن مستويات “نص متعدد”، حسب تعبير رولان بارط. فإلى جانب الانتقال من فضاء إلى آخر، هناك رحلة داخل عالم السيميائيات، وهناك المزاوجة بين السرد والتأويل، وفق حركة انتقال من زمن إلى آخر أو من مكان إلى آخر، عبر بناء أشبه بـ”التوضيب المتوازي” أو “الفْلاشْ باك” في الكتابة السينمائية.
رحلة في عالم السيميائيات
يقول بنـﮕراد إنه عاش في باريس بداية رحلة فكرية لم تنته بعد. وقد بدأت هذه الرحلة بالانتقال الراديكالي من مركزية المنظور الاجتماعي من خلال الماركسية إلى مركزية النص من خلال السيميائيات السردية القائمة على بنيوية ﮔريماص التي تلغي السياق، وتبحث عن المنطق الداخلي للنص، وتنطلق من وجود “مستودع سلوكي” وأشكال كونية تتحدى الزمان والمكان، بالإضافة إلى أن هذه المقاربة تفضل محاورة النصوص القديمة مثل الخرافات والأساطير والحكايات الشعبية.
انطلاقاً من محطة مكناس، بدأ بنـﮕراد يتشبع بقراءات جديدة مثل أعمال إيكُو وبارْط وبُورْسْ ورِيكُور، ويعمق معرفته بالهرموسية والفينومينولوجيا، وينتقل من البنيويات إلى التأويليات، ومن النصوص التراثية إلى “نصوص الحياة”، مثل أشكال التواصل السياسي والصورة الإشهارية، وهو ما جعل البعض يصف الأعمال الجديدة لـبنـﮕراد بـ”السيميائيات المناضلة”.
عندما انتقل بنـﮕراد من الحديث عن تجربته في التأليف والترجمة إلى الحديث عن حقل السيميائيات في المجالين المغربي، نجده يقول على سبيل الاستطراد إن احتفاظ اللغة الفرنسية بمكانتها في المغرب خلق فضولاً معرفيا إزاء اللغات الأجنبية عند مُجايليه من ذوي التكوين المزدوج، ويضيف أن “الفرنكوفونية” لم تقدم الشيء الكثير للفكر المغربي” (ص. 49-50). في اعتقادي أن هذا الإقرار غير مُقنِع، وأخشى أن يحيل على ثنائية يكتنفها قدر من التعميم والاختزال والأدْلجة. فالتأليف في مجالات الفكر والعلوم الإنسانية بالفرنسية ما زال يمارس تأثيراً قوياً. وهناك فرق بين ثلاثة مستويات، وهي: جودة الإنتاج الفكري، وقُدرته على الوصول إلى أكبر عدد من القراء، والدور الحيوي الذي تقوم به حركة الترجمة، علماً أن هذه الحركة تعاني من لامبالاة المؤسسات الجامعية والثقافية.
التجربة والاستعادة البَعدية
لقد نبَّهنا بنـﮕراد في مقدمة الكتاب إلى أنه يستعيد التجربة بطريقة توظِّف “المضافات”، و”يتأمل التجربة الفعلية من خارجها”. وهذا ما جعل الكتاب يحفل بالمزاوجة المستمرة بين السرد والتحليل.
فالمؤلف يسترجع مرحلة الطفولة على ضوء التقابل بين الإدراك الحسي وهيمنة الإدراك الافتراضي في الزمن الراهن. وهو يسترجع تجربة فاس على ضوء تجربة باريس، ويحكي تجربة باريس على ضوء نواقص تجربة فاس. وهو يقارن بين الحركات الاحتجاجية في فرنسا ومثيلتها في المغرب. غير أن الموضوع الذي تخلل الكتاب بشكل لا فت هو المشهد الراهن للجامعة المغربية، بحيث نشعر أننا أمام صرخة استغاثة يُصدرها باحث متمرس ومفكر غيور على مصير الجامعة التي يُفترض فيها أن تضطلع بدور محوري في التطور الحضاري للبلاد.
تعرف الجامعة تناقضاً كبيراً بين الواجهة والممارسة اليومية، أي بين التطور الصُّوري لهندستها المؤسساتية (فرق ومختبرات ومراكز)، وبين الاشتغال اليومي والمردودية العلمية الملموسة لهذه المؤسسات. ونلاحظ كذلك أن المجال الجامعي يعاني من وجود فجوة متزايدة بين أجيال الأساتذة الباحثين، وكأن المؤسسة تُتقن أساليب إعاقة التواصل بين الأجيال، وذلك ما يظهر من خلال غياب إطار إداري يسمح بولوج الباحثين الشباب لسلك التدريس في الجامعة قبل الحصول على الدكتوراه، ومن خلال إقصاء الأستاذ من الفضاء الجامعي عند بلوغ سن التقاعد، وكأن دوائر القرار لا تعي بأن تدبير الجامعة لا ينبغي أن يخضع للمعايير الإدارية الصِّرفة.
* * * *
في الختام أود أن أشير إلى نقطتين:
أولاهما- ربما كانت المقولة المركزية للكتاب هي كسب معركة الفكر بعد الانهزام في معركة السياسة، أو بعبارة أخرى التألق الفكري الذي يلي الانسحاب من ساحة السياسة، وهو نموذج نلتقي بنظائره خارج التيار السياسي الذي انخرط فيه المؤلف، بل وحتى خارج جيله. إنه انسحاب من السياسَة بمعناها الحزبي، أما السياسِي فهو يخترق الكتاب من أوله إلى آخره، وهو يستوطن مبادئ وقيماً “مركزها الإنسان، كرامته وعزته وحقه في الحرية والديموقراطية والعيش الكريم”(ص. 188). ومن هذا المنظور يمكن اعتبار الكتاب مساهمة في استشكال المنطقة الرمادية التي يتقاطع فيها الباحث والمفكر والمثقف، لاسيما وأن الظرف الراهن يطرح أسئلة جديدة، إذ يعرف تشظي الحقل السياسي والثقافي، وهي ظاهرة ألح عليها بنـﮕراد في أكثر من سياق، ولا تخص المغرب، كما أنها تتصل بمضاعفات الثورة الإعلامية المعاصرة.
ثانيهما- هل الكتاب شهادة أم سيرة ذاتية أم سيرة ذاتية فكرية؟ لقد أوحى لي الفصل المخصص لمحطة باريس بأن الحيز الذي حظي به الحديث عن ﮔريماص والسيميائية البنيوية فيه إسهاب قد يُتعب القارئ غير المتخصص، كما أنه يشوش على خط السيرة الذاتية الفكرية التي يُفترض فيها أن تتبع نشأة مشروع فكري متماسك لدى المؤلف. والكتاب يعبر بشكل عام عن تواضع لافت جعل المؤلف يعترف بأن انجذابه لتيار ﮔريماص ربما جاء نتيجة لعامل الصدفة، ويضيف: “لم أكن في الأيام الأولى في باريس أعي بشكل كاف ما يجري في الساحة الفكرية في جامعاتها” (ص. 117)، ومعلوم أن أصداء تلك الحركة الفكرية قد وصلت إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط منذ السبعينيات. وهنا يحضرني التمثل الجديد للسيرة الذاتية الفكرية عند عبد الله العروي في كتابه بين الفلسفة والتاريخ (صدر بالفرنسية سنة 2س016 وأصدر عبد السلام بنعبد العالي ترجمته العربية سنة 2020)، حيث يؤكد على أهمية عاملي الزمان والمكان، ويقارن عند استرجاع محطات تكوينه الفكري بين ما حصَل وما كان يمكن أن يحصُل، وهو ما يتيح فهم التجربة الفردية في تاريخيتها وسياقاته الأوسع.