الإثنين , 13 يناير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » من الحب ما قتل

من الحب ما قتل

يكرس سعيد –بإصدار سيرته الذاتية الفكرية1 – تقليداً اعتاد كتاب السَّيْرَ على نهجه منذ عقود تطلعاً إلى التوقف عند المؤثرات التي أسهمت في صنع شخصياتهم، ونسج هوياتهم السردية، وتوجيههم إلى تبني اختيارات ومواقف بعينها. يصرح بالميثاق السيرذاتي في العنوانيْن الأساس والفرعي بتواتر ياء المتكلم من جهة وبالتركيز على التكوين الشخصي من جهة ثانية. يوحي في العنوان الرئيس بأنه منقاد ومذعِن لحيرته وظنونه التي أفضت به إلى مآل ما وفق ما سطرته ظروفه الاجتماعية وأحواله النفسية. وفي هذ الإطار عاش امتحاناً عسيراً فرض عليه  إثبات ذاته في الوجود عن جدارة واستحقاق، وتدارك الأخطار والمزالق التي كانت تؤثر سلباً في تحقيق متمنياته وأهدافه، وتزرع الشك والارتياب في نفسيته، وتحبط إرادته وعزيمته في الحياة.  إن ظن العاقل خير من يقين الجاهل، كما يقول المثل السائر. فالحيرة – لما تَستْبعُه من شك وتردد- بوابةُ المعرفة، ومسلكٌ لارتياد المجهول واستكشافه. في حين أن اليقين هو تسليم أعمى بالحقيقة دون تبصر ونظر.  وهذا ما أجمله ديكارت في قوله الشهير. ” أنا أشك، إذن أنا موجود”، لإثبات أن الشك هو السبيل الأمثل للوصول إلى الحقيقة واليقين باعتماد القرائن والحجج المناسبة.

علاوة على إحالة المتكلم إلى ذاته المفترضة، يؤكد، في الآن نفسه، على استمراريةَ الزمن من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر. يتشكل الماضي بفضل الحاضر الذي يتسم براهنيته وفوريته، وبقدرته على الاحتفاظ بما وقع وإعادة تحيينه وإنتاجه، وبفاعليته في رسم معالم مستقبل غامض ومتذبذب. لا يشعر الإنسان في تعامله مع الحاضر بحدة القلق التي تنتابه عادة في استحضار وقائع الماضي أو توقع ما سيحدث لاحقا. “الحاضر هو النقطة  التي أكون فيها مُتماهياً مع تاريخي، وهو، بالنسبة إلي، هو اللحظةُ الأكثر واقعية في وجودي؛ فبفضله، وبفضله فحسب، أندمج في الأشياء”2. يؤدي “الحاضر الموضوعي والنفسي “مهمة الفصل بين ما أصبح في خبر كان وما يلوح في الأفق، وبين ما تراكم في طوية الإنسان من أحاسيس متناقضة وما يؤرقه في مواجهة شبح المستقبل الغامض. تكمن قيمة الحاضر في إعادة  تركيب تجارب الماضي وفق سياقات جديدة للسباحة ضد التيار، إما بمجاراة وتيرته ومُداراتها تطلعاً إلى الوصول إلى بر الأمان، وإما بالانسياق والانجراف معها إلى هاوية المجهول.

يتضح  من خلال العنوان الفرعي أن سعيداً بنـﮕراد حصر ما سرده عن ذاته في نطاق “سيرة التكوين”، مركزاً على الظروف والعوامل التي أسهمت في بناء شخصيته، وتأثيث مكونات هويته السردية، وبلورة مواقفه من الوجود. لو عاش في ظروف أخرى لسلك مسارب وطرقاً مغايرة مُفضيةً به إلى مصير مختلف جذرياً عن مآله الحالي. إن الظروف التي عاشها سعيد بنـﮕراد، وحتمت عليه المرور  بمحطات بعينها أدت به في آخر المطاف إلى النتائج نفسها حتى لو درس الفلسفة أو الرياضيات عوض الأدب. الحاصل أن المكان والظرف هما اللذان جعلا من بنـﮕراد سيميائياً، و “من عبد الله العروي تاريخانيَّاً، مثلما جعلا من سارتر وجودياً ذا نزعة إنسانية، ومن ألتوسير ماركسياً ضد النزعة الإنسانية، وهذا باعترافهما نفسهما”3.

اعتاد كثير من الكتاب استرجاع مسارهم الفكري عوض التركيز على حياتهم الخاصة لبواعث وجودية وثقافية وفنية. وهم بذلك  يتبنون نمطاً خطابياً يتميز ويختلف عن السيرة الذاتية، وإن كان يستند إلى جملة من بنودها الأساسية (الحكي الاستعادي، تطابق الهويات السردية، تاريخ شخصية معينة)، ويندرج ضمن الأدب الخاص أو الشخصي. وما يميز بين النمطين هو أن السيرة الذاتية تُعنى بحياة السارد الخاصة والحميمة (الحياة الخاصة)، في حين تستوعب السيرة الذاتية الفكرية الأجواء والظروف التي أسهمت في تكوينه الشخصي، وصقل مواهبه، وتحسين مؤهلاته. لا يتناول حياته الخاصة إلا بالقدر الذي تسعفه على توضيح مساره الفكري، وإبراز المعارك التي خاضها والعوائق التي تغلب عليها حرصاً على نيل مراده.

على غرار كتاب، من قبيل بول ريكور، وميخائيل نعيمة، وعبد الله العروي، يميز سعيد بنـﮕراد أيضاً بين الحياتين الخاصة والفكرية قائلا: “لم أكن معنياً في ما قدمته في هذا النص بمحددات السيرة الذاتية، فهو لا يُصنف ضمنها، لأنه لا يتحدث عن وقائع حياة نفعية لا تبعات لها. لقد أهملت الكثير من تفاصيل حياتي، فذاك جزء من حميميتي لا يخص شخصاً آخر غيري، ولا أتذكر الكثير من التفاصيل فيها على كل حال. ما عرضته أو ما حاولت عرضه على القراء هو ما يمكن أن يحيط به التاريخ في الفكر والسياسة والمعرفة والنشاط التربوي. إنها محاولة لبناء زمنية خاصة بالوعي الفردي ضمن زمنية موضوعية”4. نعاين في هذا المقتطف مدى وعي سعيد بنـﮕراد بمقاصد استرجاع حياته الفكرية في امتداداتها السياسية والمعرفية والتربوية لتشييد زمنية الوعي الفردي ضمن الزمنية البشرية الموضوعية؛ ولذا اضطر  إلى استبعاد حياته الخاصة، لأنها جزء من عالمه الخاص  الذي لا يهم شخصاً آخر غيره.

نزع في هذا المنحى إلى استحضار المحطات الأساسية في مساره الفكري وهو واع بمزالق الكتابة وخدعها، التي تلون ما حدث بمقتضيات الحاضر، وبشطحات أحلام محبطة، وتعيد تركيبه بفلسفة ورؤية جديدتين لتعمق المسافة بين الماضي والحاضر، ولانتقائية الذاكرة ومكرها، ولهوى الانتماء، وتضفي الانسجام على شتات الذكريات الحقيقية والمتوهمة مانحة لها معنى يناسبها.

يجد الإنسان نفسه أمام طرق متعددة، وعليه أن يختار أيها أنسب وأفضل لتحقيق متمنياته في الحياة. عندما يقطع أشواطا ًفي الطريق المنشود يصعب عليه أن يعود القهقرى لتبني اختيار آخر من الاختيارات الممكنة. وأياً كان الاختيار فهو يؤدي إلى الخطأ نفسه مقتفياً أثر الإنسان الأعلى وسنته في الحياة (أسطورة العود الأبدي أو التكرار الأبدي بحسب نيتشة). “يحيي المأساة الكونية في أعلى مظاهرها.. يرحب بالقدر ولا يخشاه.. يعلم أنه لو كانت للكون غاية لحققها منذ أمد طويل، يعرف أن اللحظة الحالية تمر لتعود، وتعود بلا نهاية”5. وهكذا شجعت شروط وظروف معينة  سعيداً على السير في الطريق الممهد له مهتدياً بنبض قلبه، ومستنيراً بمنطق عقله، وحريصاً على تعزيز مطامحه وتفادي الخسائر الممكنة. ويمكن أن نجمل ما اكتنف حياته في مفترق الطرق، وما كابده فيما يأتي:

1- استرجع سعيد شريط حياته من ولادته في المغرب الشرقي إلى استقراره بالعاصمة الرباط، متوقفا عند محطات بعينها كان لها عظيم الأثر على تكوين شخصيته، وصقل مواهبه ومؤهلاته. كما حفزته أيضاً على المواءمة بين النضال السياسي والتحصيل المعرفي، والحرص على التثقيف الذاتي ليكون عنصراً فاعلاً في فهم الواقع وتغييره. ظل وفياً لهذه الازدواجية التي أهلته لأن يؤدي دور المثقف العضوي في خوض النضال اليومي بقلمه صادعاً بالحق، ومقاوماً أساليب الظلم والاستبداد، ومنتقداً السلطة التي تقمع وتناهض الأصوات المخالفة والمعارضة، ومدلياً برأيه بصوت مرتفع. وفي هذا الصدد أثار جملة من القضايا الحساسة بروح علمية، ومن ضمنها: التدريس بالعامية، وصياغة الدستور عام 2011، والحجاب، ومقاربة النوع الاجتماعي، ودلالة رموز الأحزاب في الحملة الانتخابية، والتجربة الوجودية في القصص القرآني. ونظراً لانتفاء تقاليد “النقاش العمومي” في المغرب لبواعث كثيرة (الإعلام الموجه، واستقواء نظام التفاهة، وإخفاق “الجماعات الوسيطة” في تكوين نخب مثقفة ومؤهلة)، أضحت مثل هذه المواضيع لا تثير الرأي العام، ولا يُلتفت إليها رغم جديتها وملاءمتها وراهنيتها. والحالة هكذا، يصعب أن نراهن على التحديث دون أن تؤدي الثقافة دوريْها التنموي والتنويري لتوعية المواطن بواجباته وحقوقه، وتطوير مؤهلاته وقدراته. قد نتذرع أحياناً بأن ما نعيشه هو ثمرة حتمية تاريخية لا فكاك عنها بالنظر إلى ما نجم عن الثورة الإعلامية من سلبيات يصعب معالجتها والتحكم فيها. لكن هذا الزعم مردود بحجة أن الغرب منغمر حتى النخاع في خضم الثورة المعلوماتية إلى درجة أن الخدمات الاجتماعية جلها تقدم عن بعد بواسطة تطبيقات خاصة. ومع ذلك، لم يؤثر نظام التفاهة في مستوى “النقاش العمومي”، وفي مدى قدرته على توجيه الرأي العام وتنويره بالبرهان الحجاجي، وتصحيح مكامن الخلل في المجتمع، وتقبل الرأي المخالف.

2- بقدوم سعيد إلى باريس حصل تحول جوهري في حياته وموقفه من الوجود. وهو ما صيره إنسانا آخر، وحفزه على معاودة النظر في كثير من اليقينيات والأوهام العالقة في ذهنه. تأثر بموجة البنيوية التي كانت سائدة وقتئذ، ومال إلى  المقاربة السيميائية لقراءة النص وتحليله دون إسقاط معطيات جاهزة عليه، وانفتح على أفكار ومناهج جديدة جعلته يعيد النظر في السلوك السياسي اليساري مهتماً بقضايا جديدة قلما يهتم بها المناضلون، رغم ملاءمتها (التعدد الثقافي واللغوي، العلمانية، التخلف الحضاري)، ودفعته إلى التعامل مع النضال بصفته فعلاً حضارياً وثقافياً لتغيير ذهنية البشر وطريقة تفكيرهم، ورؤية حضارية تقاس وتيرتها وفاعليتها بالرقي في العلم والسلوك، والتخلص من الفكر الأحادي، والتشبع بالقيم الإنسانية .

عندما عاد سعيد إلى المغرب اصطدم بواقع عنيد يقاوم التغيير والتنوير لحرص الاتجاه المحافظ على إعادة إنتاج البنيات الذهنية نفسها والتحكم في إدارتها من جهة، ولانشغال القوى اليسارية بحروب هامشية أدت -بمرور الوقت- إلى نخر كيانه وإضعافه من جهة ثانية. وهو ما حضَّ سعيدا على اتخاذ قرار حاسم بالتخلي عن الأنشطة السياسية، وتكريس وقته جله للمطالعة والتأليف.

ساعده استقراره في مدينة الرباط على إيجاد ضالته في الحياة والشعور بالارتياح والطمأنينة لهدوئها وجمالها ويُسر التنقل بين أرجائها. دشن حياة جديدة بعد أن تخلص من الأنشطة الزائدة التي غالباً ما تربك مشاريع الباحث، وتقلق راحته، وتسبب له مشاكل هو في غنى عنها. لعل هذه الفترة من أزهى مراحل عمره وأخصبها؛ إذ أصدر خلالها مؤلفات وترجمات كثيرة، واطلع على مصادر هامة في مجال تخصصه، وانفتح على آفاق جديدة بقدر ما أبهجت روحه، حفزته على تجديد نفسه وفكره وطريقة عيشه.

3- سعى سعيد، من خلال استعادة شريط مراحل من حياته، إلى فهم ذاته لتبيُّن المؤثرات التي صنعت شخصيته، وغيرت كينونته عبر الديمومة الزمنية. وبقدر ما يتعرَّفُ القارئُ على المحطات التي مر بها سعيد لتحقيق أهدافه ومتمنياته، يستخلص العبر المناسبة منها لعلها تفيده وتنير طريقه في الحياة. فعلاوة على تحليه بالصبر والإرادة والكد والكدح في العمل لتخطي الصعاب وطلب العلا، يتسم أيضاً بقدرته على التكيف مع الوضع الجديد عوض معاندته ومكابرته، وهذا ما أهله إلى تغذية روحه بأفكار وقيم جديدة. لم يكن يتعامل مع المعرفة بصفتها مادة صماء وجوفاء، بل يعدها عصارة حياة، وأداة من أدوات استيعاب ممكنات العالم وتنوعه. كان مفتوناً في قلب باريس بمبدأ الكون كما كرسته فلسفة الأنوار، وبصيرورة التحديث التي مست مرافق الحياة جميعها بما فيها الجامعة باعتبارها رافعة للتنمية المستدامة.

4- ينتهي القسم الأول من الكتاب بنبرة رثائية (Tonalité élégiaque) قد توحي للقارئ بنشيد البجع. وما يلفت النظر في هذا القسم هو اعتماد سعيد بنـﮕراد على قوة الحافظة دون الاستناد إلى سندات أو دعامات سيرذاتية، وهو ما جعله مطبوعاً بالصدق (الصدق (Sincérité) مشتق من اللفظ اللاتيني (Sincerus) الذي يعني عسلاً دون شهد؛ أي عسل خالص. وهذا ما يجعل الصدق مقترنا بالطُّهر). “لا يفيد الصدق-بحسب جون ستاروبنسكي- إنتاج واقع مسبق، بل يعيد إنتاج حقيقة في تطور حر ومتواصل”6.

ينتهي القسم الثاني بنبرة الشكوى (Tonalité plaintive) التي يغلب عليها الجدل والنقد لإثبات الحقيقة والبرهنة على صحتها وصدقيتها. ولذلك اضطر سعيد بنـﮕراد إلى الاستعانة بما يثبت جدارة طرحه وملاءمته لمُحاجَّة خصمه المفترض الذي يكرس الأساليب الدنيئة والملتوية للتغطية عن ضعفه العلمي.

أيهما أقرب إلى المجال السيرذاتي عموماً، الصدق أم الموضوعية؟ غالباً ما يُؤْثَرُ الصدقُ على الموضوعية لحرص المؤلف على نقل الحقيقة الداخلية بالأداء السردي الذي يجعله يحس ويدرك بأن ما يحكيه حقيقي ومطابق للواقع. “لم تغد الموضوعية الهدف المتوخى: تتبع حركة الكتابة حركة الذاتية الداخلية التي تحس بأن الوقائع والأعمال والأحاسيس كما لو كانت حقيقية، ومطابقة لما تريد الأنا تذكره. ما يضمن شكل الحقيقة والأحداث المروية هو التيقن من كوننا عشناها كما وقعت، وأدركناها كما وقعت، بل أكثر من ذلك أننا نتذكرها كما وقعت”7.

ختاماً ليس كاتب السيرة الذاتية حرا في تمثيل ماضيه الشخصي بدعوى أنه يوعز إليه وقائع بعينها أو يوجهه إليها أو يحضُّه على ذكرها دون غيرها. لا يجدي في هذا الصدد إثبات قوة الحافظة وجدارتها على تذكر حدث ما، بل ما يهم أكثر هو فاعليتُها وقدرتُها على إدماجه في استراتيجية سردية؛ وهو ما يعلل ارتباط “الذاكرة الحية” بالتجربة الشخصية والميول التكوينية عبر الصيرورة الزمنية8.

لا تستطيع الذاكرة استحضار التجربة المثالية والموثوق بها أسوة بالحاسوب أو آلة التسجيل (الملاحظة الدقيقة) لتدخل ذاتية المؤلف فيما يحكيه. “إن تدخل المنظور الشخصي يقلب ظروف الوجود رأساً على عقب”9. لا يتلقى الفرد وضعية جاهزة، بل يصنعها أو يحدثها بإحساسه ونبض قلبه. يصعب أحيانا أن نتذكر لون عيني شخص نصادفه يوميا في طريقنا أو يقدمَ الشهود شهادات متشابهة حول حادثة السير. كل واحد يحكيها من منظوره الخاص، وبحسب ما يمليه عليه إحساسه وضميره. لا معنى للصدق التام ما دام يعيد تمثيل ما عاشه أو عاينه بإخراج لغوي جديد يلتبس فيه الواقع بالتخييل. ولهذا لا يجب أن نقول إن ذاكرته ضعيفة في تذكر حدث ما، بل إن إحساسه هو الذي كان ضعيفا10. ما يقوي ذاكرة قدماء المحاربين ليست دقة التفاصيل المروية، بل إعادة تشكيلها في قالب روائي لإيهام مخاطبهم بأدوارهم وأمجادهم البطولية. وعليه فالذاكرة غير تامة من حيث الكم، لآنها تنتقي أحداثاً بعينها تمليها حاجات الحاضر، وغير تامة من حيث الكيف لأنها تسرد ما في جعبتها وفق منظور وإنارة خاصين11.

كان سعيد واعياً بأن ما كتبه عن ذاته يتغيا تشكيل تجربة جديدة لعلها تسعفه على فهم ذاته، وردم الفجوة بين ما وقع له وما أصبح عليه، وتحقيق المصالحة بين الحقيقة والاستيهام. تضافرت- في هذا المنحى- إرغامات الحاضر في توجيه سعيد إلى تبني استراتيجية خطابية تستوعب مسيرته الفكرية في الحياة. لو قُدر له أن يعيد ما دونه في زمن آخر لتغيرت تفاصيل السرد وطرائق عرضه. فما سَردَه  وليد لحظة صاخبة أوحت له أن يعود إلى حضن الأم، ويثبت مرونته في مداراة الرياح الهوجاء التي اعترضت سبيله، ويبرز قدراته على التكيف مع الوضعيات الجديدة، وتنمية شخصيته والرقي بذوقه، وإبراز عيوب المجتمع ونقائصه. كما حفزته أيضا على ممارسة النقد الذاتي لتحطيم أسطورة المناضل المثالي، والتخلص من الأوهام الأيديولوجية والطهرانية المزيفة، والكشف عن هشاشة روحه وقلقه الوجودي في مواجهة جبروت الزمن، وتعليل انسحابه من المشهد العام ليختلي بنفسه تطلعاً إلى تحقيق جزء من أحلامه الهاربة.

ما يسترعي الانتباه في مساره الفكري- علاوة على صبره ومكابدته وعزيمته وطموحه- وفاؤه لسيدة المقام “العلامة“، التي منذ أن تعرف عليها أول مرة في باريس وقع في عشقها إلى حد الجنون، وظل وفياً لها ومتشبثاً بها لتوافرها على سمات لا نظير لها (الحضور البهي، وكثرة الأسرار والألغاز، والصمت الموحي، والإقناع السري، والتعدد، والتنوع، والديمومة، والشباب المتجدد) إلى أن صرفته عن زينة الحياة الدنيا ومتاعها؛ فمن الحب ما قتل.

 

الهوامش

 [1] – سعيد بنـﮕراد، وتحملني حيرتي وظنوني، سيرة التكوين، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء/ المغرب- لبنان/ بيروت، ط 1، 2021.

(سأنشر دراستي كاملة عن الكتاب في مناسبة أخرى بحول الله).

2 – Georges Gusdorf,  Mémoire et personne, la mémoire concrète, tome1, PUF, 1957, p.2.

3- عبد الله العروي، بين الفلسفة والتاريخ، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، المركز الثقافي للكتاب، ط 1، 2020، ص. 9.

4- سعيد بنـﮕراد، وتحملني حيرتي وظنوني، م. س، ص.14.

5- عبد الله العروي، أوراق سيرة إدريس الذهنية، المركز الثقافي للكتاب، ط 2، 1992، ص.31.

6 – Jean-Philippe MIRAUX, L’autobiographie Ecriture de soi et sincérité, Nathan, 1966, pp.49-50.

7-Ibid., p.50.

8- يميز جورج غوسدورف بين “الذاكرة الجيدة” التي لها القدرة على التكرار الآلي وبين “الذاكرة السيئة” التي تخص الميول التكوينية للشخص، الذاكرة والشخص، م. س، ص.199.

9- المصدر نفسه، ص.204.

10- المصدر نفسه، ص. 206.

11- المصدر نفسه، ص. 211.

- محمد الداهي

أستاذ باحث في السيميائيات - كلية الآداب / الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.