توطئة: للزمن أهمية قصوى وجوهرية في تشكيل الوجود الإنساني بكل أبعاده، لذا سعى الإنسان منذ فجر التاريخ إلى تقديم تفسيرات أسطورية لبعض الظواهر الطبيعية كتعاقب الليل والنهار، وظهور النجوم في الليل وأفولها في النهار في محاولة منه للتخفيف من حالة القلق التي كان يعيشها وهو يواجه سر تلك المتغيرات. إلا أن أكبر سر واجهه هو سر الموت والنهاية، مما جعله يقف مشدوها عاجزا أمام هذه الظاهرة، وعندما ربطها بالزمن وعبوره في ذاته بدأ بحثه عن الخلاص والخلود، وعرف أن الزمن هو آفة النهاية والموت، لذلك كان لابد من البحث في مفهوم الزمن؟
إن الزمن قضية أساسية تعايشه وتعيه جميع الكائنات على مختلف مستوياتها وتدرجها التطوري. وإذا كان المكان يدرك حسيا، فإن الزمان لا يدرك إلا بآثاره “إننا لا نرى الزمن بالعين المجردة ولا بعين المجهر أيضا، ولكنا نحس آثاره تتجلى فينا، وتتجسد في الكائنات التي تحيط بنا “.[1] لقد أولت جميع الحضارات في مختلف العصور والأزمان أهمية خاصة للعنصر الزمني، بل أدركت حقيقته وأهميته، وتبعا لذلك اخترعت الأساطير والرموز لتصويره تم شيدت الأدوات والآلات لقياسه باعتباره جزءا من حياتها اليومية. من هذا المنطلق أولى الفلاسفة على مرّ العصور أهمية بالغة للزمن باعتباره أنه ” هو من ينبئ الإنسان بموته وزواله وعبثية كل جهوده. إن الزمان هو الذي يحمل أمل الإنسان ويأسه.. إنه الكيان الموجود الفاني “([2]). لقد جسدت أساطير الحضارات المختلفة عبر التاريخ الصراع الإنساني مع الزمان والعدم بحثا عن الخلود، ففي الحضارة السومرية نجد أسطورة “جلجامش” الذي أنفق طرفا واسعا من عمره يبحث عن نبتة تمنحه الخلود، وانتهى في آخر رحلته إلى أن ما يبحث عنه مستحيل، وأن خلود بني البشر لا يكون إلا بالعمل. وذهبت الحضارة الفرعونية إلى التأكيد على عقيدة الخلود من خلال عمليات التحنيط فيما يشبه التحدي للزمان ، وانشغلت الحضارة الإغريقية بمقولة الزمان مما نتج عنه كثير من الأساطير المتعلقة بشأن الزمان أشهرها أسطورة “الإله كروسوس” الذي خشي على ملكه من أبنائه فالتهمهم، مثله مثل الزمان الذي ينجب الكائنات ثم يقضي عليها. لقد انشغل الإنسان الإغريقي بنحت مفاهيم كالأزلية والسرمدية والأبدية وإبداع فنون كشعر الملاحم والأغاني الفردية والجماعية التي اهتمت بالزمان ولاسيما جانبه المأساوي كمحاولة منه للتغلب على سطوة الزمان. وعلى غرار باقي الحضارات اهتم العرب بمقولة الزمان، ففي العصر الجاهلي شاع الاعتقاد لدى العرب بأن للزمان قوة قاهرة تهيمن على الحياة وتهلك الناس. ومن ثم اعتاد العرب سب الزمان وصب أشد اللعنات عليه باعتباره مصدر الشر والشقاء. وقد أظهر القرآن الكريم نظرة عرب الجاهلية إلى الزمان في قوله تعالى «وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر”([3]).
إن النظرة إلى الزمان والموت باعتبار أن أحدهما لابد أن يستدعي الآخر، تجلى واضحا في فن أيقونات العصر الوسيط إذ كان الموت يمثل في صورة شخص حاملا ساعة رملية، وكان “إله الزمان” يبرز حاملا منجل الدمار، وكانت الساعات القديمة تحمل نقوشا لعبارات مثل ” الزمان يطير “الموت حق والحياة وهم” ” كل ساعة تمضي تحمل الفناء لك”. إن معظم الإبداعات الإنسانية جسدت صراعها المرير ضد الزمان وآثاره المدمرة ونظرت إلى ترابط الزمان بالموت باعتباره ترابطا من أجل إحداث الخراب.
1- المفهوم الأدبي للزمن
يحدد هانزميرهوف(Hans mur hof) الزمن في الأدب بأنه ” الزمن الإنساني، إنه وعينا للزمن بوصفه جزءا من الخلفية الغامضة للخبرة، وتعريف الزمن هنا هو خاص، شخصي، ذاتي أو كما يقال غالبا نفسي “([4]). وانطلاقا من هذا التحديد يمكن التمييز بين مفهومين للزمن :
أ- زمن موضوعي فيزيائي: وهو الذي تسير وفقه نواميس الكون جميعا.
ب- زمن ذاتي: وهو الزمن منظورا إليه من خلال علاقته بالذات. إن البعد الزمني مرتبط هنا بالشخصية لا بالزمن، بحيث، أن الذات تأخذ محل الصدارة، ويفقد الزمن الموضوعي معناه، ويصبح منسوجا في خيوط الحياة النفسية. ولانجد مثالا أبلغ من مثال غاستون باشلار(Gaston Bachlar) حينما يقول: “فتارة يبدو زمن الأنا يمشي بسرعة أكبر من سرعة زمن العالم، الأمر الذي يجعلنا نشعر بأن الزمن يمر بسرعة وأن الحياة تضحك لنا، وأننا نشعر بالغبطة، وتارة تنعكس الآية فيبدو زمن الأنا متأخرا عن زمن العالم. عندئذ يتأبد الزمن ويتخلد فنحن ضائعون والسأم يستولي علينا” ([5]).
إن تجلي الزمن في الإبداع الأدبي يتلون بتلون الذات، فيطول أو يقصر بحسب رغباتها وميولها. ولما كانت الزمنية مميزة للكائن الإنساني من جهة أنه يدرك مآله للزوال، فإنها تتجلى بطرائق عدة ومكثفة في كل أشكال إنتاجه الفني. فمنذ القدم كان مفهوم الزوال الذي يتهدد الشاعر وأثره الفني باعتبارهما مرتبطين بعالم مادي يسير نحو التلاشي ضرورة، أي أن الشاعر يعيش بأثره القصور الأنطولوجي.([6]) فالشاعر يعالج قصوره الأنطولوجي بإعادة عناصر الكون وخلق دينامية فاعلة في ذاته المتعلقة بالكون على الدوام، ومن هنا يتأسس مفهوم الجمالية الشعرية.
إن الزمن في الشعر هو زمن يصنعه الشاعر، مخالفا به الزمن الطبيعي الذي لا يخرج عن تلك الخطية المعهودة. فالزمن زاوية نظر جديدة للإبداع ومدخل لتحديد علاقة المبدع بالكون وبنفسه وبمحيطه، ودراسة الزمن في النص الشعري ليست إلا كشف عن الجمال المنسي، ذلك الزمن الذي يجعل من مفردات اللغة عناصر تتراقص في النص لتدل على حركية الزمن وتداخلاته المعقدة في النص والكشف عن فاعليته وطعمه الخاص في القصيدة.
ومن هذا المنطلق أولى النقد الموضوعاتي أهمية خاصة لدراسة الزمن وخاصة مع رائده “غاستون باشلار” رجل القصيدة والنظرية و”جون بيير ريشار” و “جورج بوليه”، هذا الأخير الذين انفرد في قراءته للأعمال الإبداعية بما تحمله من وعي بمفهومي الزمان والمكان من أجل تحديد المقولات الزمانية والمكانية التي تحدد خصوصية الإبداع. ففي كتابه “دراسات حول الزمن الإنساني Etudes sur le temps humain ” بأجزائه الأربعة، يعرض بوليه تحقيقا واسعا حول أنماط الإدراك الحسي بالزمن في تاريخ الأدب من وجهة نظر موضوعاتية، ويبدو ذلك جليا في العناوين الثانوية التي وضعها لهذه الأجزاء: “البعد الداخليLa distance intérieure (الجزء الثاني)، “نقطة الانطلاقLe point de départ (الجزء الثالث)”، و”قياس اللحظةMesure de l’instant (الجزء الرابع)”. ويمثل هذا الجزء الأخير الإجراء النقدي الذي يسعى لتحديد “العالم” الخاص بكل كاتب من خلال فهمه الخاص لصنف من أصناف العلاقة مع العالم: أي الزمن، وبالتحديد هنا اللحظة “. إن “للحظة كل الحدود والتجاوزات.. فهي تختزل إلى آنيتها فتكون اللحظة هي ذاتها ولا تكون شيئا دون ذلك أو أبعد من ذلك، وعلى العكس فهي تنفتح تارة أخرى على كل شيء محتوية كل شيء فتنعدم بذلك حدودها”. ففي سياق اهتمام جورج بوليه “بالعالم” الخاص “بستندال Stendhal ” على سبيل المثال، فلقد بين أن اللحظة لدى هذا المبدع رشيقة، واثبة تعبر عن وعي بالحياة فيه البهجة والحماس ولحظات الحب عنده خير مثال.
لقد أولى النقد الموضوعاتي أهمية خاصة لعنصري الزمان والمكان في الأعمال الإبداعية، باعتبارهما يكشفان عن علاقات كل مبدع بما حوله، وتم اشتراط درجة عالية من التركيز في الشرح والتعليق، إذ يبسط الناقد العمل الأدبي ثم يجول فيه كما لو كان في فضاء يتزامن ظهور ما فيه مع تطرقه إليه، فيخضع بالتالي كل جزء من العمل الأدبي للنظرة الشاملة التي تلتقطه أولا بأول.
2– عبد الله راجع في عيون مجايليه
يشكل ديوان “أياد كانت تسرق القمر” بداية المعزوفة التي لم تكتمل، والتي ظل الشاعر لردح طويل من الزمن يسوي بلغة الموسيقيين أوتار آلاته لعزفها. من هنا، فإن الديوان يجسد ذروة تجربته الشعرية، ويعكس مستوى متقدما من النضج تحقق من خلال تراكمات إبداعية استندت على المنجز الشعري الذي أبدعه في “الهجرة إلى المدن السفلى” و”سلاما وليشربوا البحار”.
إن هذا النضج الشعري الذي لمسه المبدعون والنقاد على السواء في الديوان، قد تم تتويجه والاحتفاء به في مطلع سنة 1988 بنيل الجائزة الكبرى للأدب، والتي هي في الصميم وضعية اعتبارية أكثر منها مادية، رسّخت بإصرار أن عبد الله راجع صوت شعري له تفرده ونغمته الخاصة بين ثلة من الشعراء المغاربة الذين أحبوا الكلمة ونزّهوها ونفخوا فيها من روحهم. إن ذات التألق والتوهج الشعريين لن يخبو بريقهما دون أن يلفت اهتمام كبار الشعراء المغاربة الذين وضعوا الحجر الأساس لمسار التحديث في القصيدة المغربية، وساهموا بحق في صناعة المشهد الشعري المغربي، وجعل القصيدة بمثابة مخاض دائب ودائم من البحث والتجريب والاستكشاف أمثال محمد الخمار الكنوني ومحمد السرغيني وأحمد المجاطي الذين أشادوا جميعا بالتجربة الشعرية المتميزة. ووسموا صاحبها بفقيد القصيدة المغربية.
وفي هذا السياق اعتبر محمد الخمار الكنوني أن الشاعر قد رحل في بداية عطائه، وأن الشعر المغربي قد فقد بموت عبد الله راجع شاعرا كبيرا. وذهب أحمد المجاطي في مناسبة أخرى إلى الاعتراف بقدرة الشاعر الراحل على تقديم الشيء الكثير إلى الشعر المغربي الحديث فيما لو استمر في الإبداع الشعري بالشكل الذي تم في بداية تجربته. إن الحظوة الرفيعة التي كانت لعبد الله راجع عند المجاطي دفعت بهذا الأخير إلى رثائه في قصيدة معنونة “بباقة موت على ضريح شهيد” نشرت بالعدد1 من سنة 1991 بمجلة الثقافة المغربية والتي يقول فيها:
أهي السنون برتك عبد الله
أم خذلتك أشرعة القوافي
بات منك العصف مأكولا
وأسلمك المداد إلى الرماد
إن عبد الله راجع يمثل عن جدارة تجربة شعرية تتسم بذائقة فنية نافذة، ومرجعية ثقافية ثرية، زاوجت بين الشعر والفكر وصاغت باقتدار جدل الشهادة والاستشهاد، وحاولت إيجاد مسلك لمعادلة الكلمة والفعل. وإذا كانت تجربة “الهجرة إلى المدن السفلى” تجربة تراثية حاول فيها الشاعر- كما عبر هو عن ذلك بنفسه – الاستفادة من التراث وتضمين ديوانه العديد من التوظيفات والنصوص والأقوال والإشارات التاريخية والأسطورية، ولاسيما على مستوى الرمز الشعري الذي طغت عليه كما يذهب إلى ذلك نجيب العوفي نظرة بدوية، وأن هذا الديوان عكس- بوجه من الوجوه- ارتباط الشاعر بواقع وفضاء مدينة الفقيه بن صالح و بمعاناة الإنسان المسحوق، والإنسان الفلاح، في حيز مكاني محكوم بالإقطاع والدرك كما صرح الشاعر بذلك في أحدى حواراته، مما جعل أشعاره في معظمها صرخة تفجع وشهادة على بروز وعي مأساوي يدفع بالشاعر لمجابهة قدره واختيار موته . فإن هذا الوعي المأساوي بضرورة تجاوز الكائن نحو الممكن سيتبلور في “سلاما وليشربوا البحار” في شعرية يطغى عليها التجريب، والدفع بالصراع مع الذات والآخر إلى أقصى تخوم المواجهة التي تقود إلى الموت النبيل.
لقد ظل الشاعر في هذا الديوان مهووسا بالرغبة في الوصول إلى القصيدة المرئية بالإصرار على توظيف العين وإخراجها من هامشيتها، ومحاولة سرقة الخط المغربي من لاهوتيته والاحتفاظ به مع حشوه بمفاهيم ومضامين ملائمة للفترة المعاشة معبرة عن الواقع المعيش. ستتقلص التطعيمات التراثية، إذن، في هذا الديوان وتتراجع التضمينات الأسطورية، مقابل بروز جملة شعرية منغلقة أحيانا بحكم العلاقات الغير مسبوقة بين عناصرها.
لقد صاغ عبد الله راجع في كل ما كتب شعرية مرتبطة بقضايا الوطن، وبالانتماء إلى البسطاء والكادحين، وجسّد في شعره وحياته حالة الرفض للقهر السياسي واستبداد الحكام، ومعظم المؤسسات الرسمية التي تمارس الإكراه على الحرية الإنسانية وتتعدى على الكرامة البشرية.
لقد كانت كتابته في تطور مستمر تحفزه طاقة إبداعية كبيرة تتمثل سيمات الحداثة المتبلورة في الشعر وفي الفكر، وتنسج الروابط الحميمية بين الكائن والممكن، بين الإنسان والأرض، بين الطبيعة والتاريخ في جميع التفاصيل وفي أدق الصور وأعمق الحيثيات. وإذا كان من الصعب الإحاطة بكل المكونات الشعرية لعبد الله راجع، فإن “أياد كانت تسرق القمر” هو محاولة للاقتراب من الموت عبر رؤية يبرز فيها الجانب الذاتي الذي كان غائبا في التجارب السابقة بكل ثقله. وقد يعود ذلك إلى تجربة المرض وإحساس الشاعر المتعاظم بالموت يتربص به في كل زاوية. إن هذا الاعتراف الصريح بالموت دون توظيف صريح للأسطورة يعكس بوضوح إدراك الشاعر للحقيقة التي طالما بحث عنها، والتي عمل على التعبير عنها عارية من المجاز بدون ايحاء ولا رمز ولا تلميح.
إن” أياد كانت تسرق القمر” يضمر بطريقته الخاصة أسئلة الذات وأسئلة الكتابة في تعالقهما بالموت. لقد حاول الشاعر في هذا الديوان كما صرّح بذلك في حوار له نشر في مؤلف (أسئلة الشعر حوارات مع الشعراء العرب) لصاحبه ذ. جهاد فاضل أن يعبر بصدق عن تجربة رجل يدعى”صالح الشكدالي” “هذا الرجل بعض قسماته قسماتي، والبعض الآخر من قسماته إن لم يكن من قسماتي فهو من قسمات نفس الذي يعايشني. كل قصائد الديوان تقريبا تشكل في مجملها سيرة ذاتية لرجل، هذا الرجل فيه شيء مني، في معاناته لواقعه في مواجهة نفسه في وقوفه أمام المرآة عاريا ليكتشف نفسه وسط هذا العالم مفرغا من كل قوة، أعزل يواجه العالم في كثير من اللحظات بنبضه فقط، وفي لحظات أخرى يحس نفسه قادرا على إحداث تغيير داخل هذا العالم”.
إن الاستضاءة بحديث الشاعر عن شعره – الذي نسوقه على سبيل الاستئناس- قد يقودنا لارتياد المسالك والدهاليز المعتمة للنصوص الشعرية، وقد يكشف لنا أيضا عن الطرائق التي يبرر بها الشاعر في حديثه عن شعره تصوراته وأساليبه. إن حضور الجانب الذاتي في “أياد كانت تسرق القمر” لم يلغ إطلاقا تلك النكهة الراجعية الرافضة والمتمردة والحزينة التي تنحت معاناته وتقتات من جسده بلغة في كامل استوائها وشفافيتها.
3- جدلية الزمن والموت في ” أياد كانت تسرق القمر”
يحضر الزمن في “أياد كانت تسرق القمر” بشكل لافت، إذ لا تكاد قصيدة من قصائد الديوان تخلو من لفظه أو تركبيه، ولعل الخاصية التي تطبعه هي عدم ثبوته، بحيث لا يستقيم على هيئة أو صورة واحدة. ولعل المتتبع لمسار تجربة “راجع” الإبداعية كلها يدرك أن الزمن في علاقته بالموت قد اتخذ أشكالا مختلفة، واكتسى أبعادا دلالية ورمزية متنوعة بتنوع تجاربه. وعلى الرغم من هذا التنوع، فإنه بإمكاننا اختزال تمظهرات الزمن في الديوان إلى ثلاثة محاور.
أ- زمن الشهادة والحلم:
إن رصد بعض تجليات الزمن القائم في المنجز الشعري لعبد الله راجع من خلال الصفات التي يقيّم بها الشاعر زمانه الحاضر والمتمثلة في العبارات التالية: الزمن الكاذب، الزمن الغادر، الزمن الراكض، الزمن الداعر، الزمن المنهار، الزمن الباكي، يكشف عن رؤيته لهذا الزمان وطبيعة العلاقة التي تربطه به، وهي رؤية تشي بعدم توافق الشاعر مع واقعه، وبتعارض القيم التي يؤمن بها ويسعى لتحقيقها مع قيم مجتمعه. فالزمن بهذا الوعي، لم يعد عنصرا محايدا في حياة الشاعر. ولم يعد مجرد ظرف يحتوي الإنسان والأشياء، بل صار الإنسان قابضا عليه باعتباره أداة تشكيل فني جمالي، وباعتباره مادة فكرية يتفاعل فيها ويقدمها على الشكل الذي يرغب فيه. فالزمن غدا بيد المفكرين والأدباء والنقاد … كائنا حيا يتشكل بصور وأفكار بعيدة الإيحاء والأثر.
إن السطوة التي يمتلكها الزمن بجريانه وتعاقبه الأبدي على الإنسان والأشياء، وقدرته على طيّ الجميع برداء النسيان، سرعان ما يخبو بريقها أمام سلطة اللغة، التي تمتلك قوة سحرية خارقة على تسمية الأزمنة وإعادة تشكيلها، وتلوينها بما يختلج في النفوس من مشاعر، وإخراجها من دوائر التجريد والزّج بها في غياهب التجسيد.
إن الزمان أزمنة “وهناك من الأزمنة بمقدار ما هناك من الأشياء” وقد أكد “أ .أمندلاو” أن الأزمنة تتعدد بتعدد النفوس التي تدرك الزمن. ومن هذا المنطلق فإن المنجز الشعري لعبد الله راجع يتأثث بعالم فسيح من الأزمنة المتعددة، التي تضيء جملة من الأحاسيس والمشاعر المتضاربة، وتستثير سلسلة من المواقف المتباينة. إن مشاهد الزمن بتنوعها والتي يرصدها الشاعر تختزل صورة العالم والإنسان من حوله، وهي صورة قاتمة لعالم “تعصف فيه ريح الرعب وتحفر في جوانبه الكهوف المعتمة، وتترمد في صحاريه شعل الحياة وخصوبتها، فإذا الحياة كلها نهر من رماد الموت والعقم، أو ركام من عفن الجثث، جثت الأفكار والتقاليد والحضارات والآدميين.”7
يقول الشاعر في (أياد كانت تسرق القمر)،ص. 10:
كل الشعراء لصوص غشاشون ومحتالون.
إن قبلوا هذا الزمن المنهار.
لقد اتسعت الصورة القاتمة، لتصيب كل نواحي الحياة وعناصرها، نتيجة قناعة الشاعر بأن العالم من حوله قد بات خرابا نتيجة الإحباطات المتكررة التي تضرب عمق الإنسان من الداخل، والتي توسع الهوّة بين ما يأمل في تحقيقه وما هو آخذ في الانتشار. إن وصف الزمن بالانهيار هو إحساس نفسي، يؤكد أن الشاعر لم يكن على وفاق تام مع العالم من حوله، لذلك راهن على القصيدة، وعلى رسالة الشعر، في الكشف عن واقع مختل وتعرية بؤر فساده، ممّا أهّله ليكون صوتا آخر في تلك السلسلة من الشعراء الرافضين في الشعر العربي، الذين أبدعوا شعرية تعانق التاريخ، وتؤمن أن دور الشاعر لا يمكن أن يقوده إلى المهادنة.
إن حديث الشاعر عن الزمن الحاضر في معظم الأحيان، هو حديث عن صور الواقع المريرة ومشاهده السلبية. فكل شيء مما حوله يخالف رؤياه وتطلعاته ويشكّل مبعث اغترابه. إن شعرية الكشف والشهادة التي أبدعها “راجع” قد جعلت من صور الزمن في القصائد جداريات لواقع مرعب تشعّبت مواجعه، وإدانة صارخة لعالم مقهور انتفت قيمه.
يقول الشاعر في (أياد كانت تسرق القمر)، ص. 17:
لأني أحسّ بأن السفينة تهوى إلى مستقر ولا مستقر
وأن الربيع الذي وعدوني به ليس غير الخريف
صرخت من القلب لا
إن التناقض القيمي باعتباره شعور الفرد بتعارض قيمه الخاصة مع قيم المجتمع، وبمحدودية جهوده عن إجراء أي تغيير إيجابي في حياته، وفي محيطه الاجتماعي والقومي الذي يعيش فيه، وبعجزه عن القيام بإنجازات حقيقية تعبر عمّا يعتقده من القيم الأساسية لم تدفع بالشاعر إلى الانزواء أو إعلان استسلامه، بقدر ما حفّزته لإعلان رفضه وتمرده وفتح جبهات متعددة للمواجهة.
إن “شهوة إصلاح العالم” التي يؤمن بها الشاعر ويسعى جاهدا لتجسيدها على أرض الواقع، هي القوة الدافعة في حياته، إذ “يرى النقص فلا يحاول أن يخدع عنه نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه، ويجعل دأبه أن يبشر به (…..) وقد يحمل الفلاسفة والأنبياء رؤية مرتبة للكون، وقد يصطنعون منهجا مرتبا في النظر إلى نقائصه. وقد يبشرون بنظريات مرتبة في تجاوز هذه النقائص، ولكن الشعراء يعرفون أن سبيلهم هي سبيل الانفعال والوجدان وإن خطابهم يتجه إلى القلوب. وقد يكون أثرهم أكثر عمقا، إذ أن التعليم والنصح المجرد مقيتان إلى النفس، كما أن التعبير بالصورة أعمق أثرا من التعبير باللغة المجردة. وكثيرا ما أدرك الأنبياء والفلاسفة ذلك فاصطنعوا منهج الشعراء، ففي آثار كل نبي عظيم أو فيلسوف كبير قبس من الشعر”.
لقد سعى عبد الله راجع عن طريق الشعر، إلى الكشف عن كل الأزمنة الفاسدة ومواجهتها، ووقّع قصائد تفيض إحساسا شاعريا في تعاملها مع الزمن والكتابة عن الموت. ومن هذا المنطلق واجه لحظة الحاضر المكتنزة بكل معاني الموت وصوره بالحلم.
يقول الشاعر في (أياد كانت تسرق القمر)، ص. 10:
الليلة بالوطن القاتل في مشيته أحلم
بالبسطاء يزيلون العرق اليومي
ويأتون صفوفا كي يهبوا الشاعر وردا، أحلم.
بالعشق الأنقى، بالخبز الأنقى، أحلم.
لقد شكّل الحلم ركيزة أساسية، وموضوعة متواترة في المنجز الشعري لعبد الله راجع، وشرّع قصائده على آفاق رحبة من التأمل، وعوالم يسودها الوئام والتآلف وتصان فيها حرية الإنسان وكرامته. إن بروز أزمنة الحلم وأمكنته ومجالاته إلى الوجود، لا يتم إلا عندما تعي الذات غياب ذلك عن التواجد في الواقع، سواء بواسطة الافتقاد القسري، أو بسبب القسوة والقمع الذي يمارسها الحاضر على الذات.
لقد جسّد الحلم طموحات الشاعر التي سعى إلى تحقيقها دون أن يبلغها، وكان السفر الحلمي وسيلته وأداته. إن قراءة الحلم في شعر عبد الله راجع، هو قراءة للطموحات والآمال التي سعى إليها دون أن يبلغها، ممّا دفعه إلى انتقاء الصورة الشعرية التي تقفز فوق حدود المكان من خلال تقويض أركانه، وتتجاوز الزمان عن طريق عدم الاعتراف بأمدائه وآناته.
ومن منظور السعي إلى تجاوز قتامة الراهن وسوداويته، عاد الشاعر إلى بعض الأحداث الأسطورية والوقائع التاريخية، باعتبارها مخزونا ثقافيا قادرا على إثراء النص الشعري بما تملكه من دلالات مكثفة تغني النصوص بحقيقتها، وإيغال رموزها وتوهّج أحداثها في الذاكرة.
ب- الزمن الأسطوري والتاريخي والبحث عن النموذج المخلص:
يعرف ميرسيا إلياد الأسطورة بأنها قصة مقدسة، تروي حدثا جرى في الزمن الأول، الزمن الأسطوري البدائي زمن البدايات. وتتميز أحداثها بجريانها في زمن مقدس لا تاريخي، ورسالتها لا زمنية غير مرتبطة بفترة ما. إنها رسالة سرمدية خالدة، فزمان الأسطورة هو كل الأزمنة، ومكانها كل الأمكنة. إن هذه الخاصية قد منحت للفكر الأسطوري سمة الخلود. ” إن الأسطورة نتاج جماعي ونحن لا نعرف لأي أسطورة مؤلفا وحدا. ذلك أن وراء كل أسطورة رؤية شعب كامل حاول أن يدرك المجهول ويفسره ليصل إلى القوانين الكلية التي تدير الكون، ويمسك بالحقيقة لحظة انبثاقها وتوهجها. معنى هذا أنها ليست نشاطا عقليا بل هي نبوءة الإنسان الأول، غير أن النبوءة لا تتحقق كرسالة تمارس فعلها في التاريخ إلا متى أفلتت من شرط الزمن، عندها فقط لا يدركها البلى وهذا ما حققته الأساطير وما تصبو إليها القصيدة الجديدة”.
لقد أسرع عبد الله راجع على غرار الشعراء المعاصرين إلى الأساطير بغية تمثلها في قصائده، متجاوزا بذلك أشكال البناء الشعري القديم وقوالبه الجاهزة، والاقتراب من نبع الشعر ومفهومه كما تمليه الظروف الجديدة، ودواعي الحداثة والمعاصرة. إن الأساطير باعتبارها بنى درامية وفرت للشاعر مجالا غنيا من الرموز، وحاملا رئيسا للأسئلة والمشاعر المركبة التي كانت تعج بها دواخله. وفي هذا السياق التقط الشاعر فكرة التضحية أو الموت فداء في أسطورة بروميثيوس، ورأى فيها توصيفا حيا لنزوعه الروحي في البحث عن الحرية والخلاص، بينما بدت له فكرة المعاناة شديدة الارتباط بأسطورة سيزيف. إن العودة إلى الأسطورة وتوظيفها في الشعر العربي المعاصر قبل أن يكون عودة إلى التراث والميثولوجيا، فإنه رؤية تستمد مكوناتها من الواقع، واتجاهات هذا الواقع ورؤاه. لقد شكلت أسطورتا بروميثيوس وسيزيف في المنجز الشعري لعبد الله راجع المعادل الموضوعي الذي استطاع من خلاله الشاعر أن يؤكد أن التغيير، وقهر الظلم، وذك البنى المتهاوية، رهين بوجود بطل يتقمص صورة بروميثيوس، ويتمثل حالاته ويجسد قيم التضحية والفداء التي نافح عنها، باعتباره المفدي والمخلص والشعلة التي تنير طريقا مظلما.
إن الشاعر عندما اتجه إلى الرمز الأسطوري، أراد إظهار تجربة إنسانية قديمة وإسقاطها بصورة معاصرة على واقع آخذ بالانهيار والتداعي، ومن ثم تحقيق حالة الحلم التي ترتكز على معطيات مشرقة في الماضي.
وبالموازاة مع الزمن الأسطوري الذي اتخذه الشاعر وسيلة لخلق بديل جديد، وعامل توازن نفسي مع محيطه ومجتمعه، إذ بواسطته تتم عملية الحلم والتخيل والاستذكار، لاذ الشاعر بالزمن التاريخي مجسدا في توظيف الشهيدة اللبنانية سناء المحيدلي.
(1968-1985) الفتاة التي ولدت بالجنوب اللبناني وكرست حياتها فداء للوطن عبر عملية استشهادية.
يقول الشاعر في (أياد كانت تسرق القمر)، ص. 32:
خمس وثلاثين من سنوات هذا الجيل ننتظر الإثارة لانفجار شيق
يهب البلاد خريطة أخرى
خمس وثلاثين من سنوات هذا الصمت نرقد في الخطب السمنية
نستجير بمجلس الأمن الموقر
والطائرات تغير من بيروت حتى القدس.. لا
وسناء أجملنا وأحلى.
إن استدعاء نموذج “سناء” الشهيدة هو نقد صريح ورفض لواقع الاستكانة في مواجهة الموت المسلط من طرف الأعداء، وإشادة بالدور الذي لعبته هذه الشخصية في حركة التاريخ ومجريات الحياة، بما تمسكت به من قيم وما دعت إليه من أهداف وغايات إنسانية نبيلة، جاهدت وناضلت وضحت في سبيلها، فاكتسبت الشخصية بذلك قدسية وجلالا جعلها جزءًا من التاريخ، ونزّلها مكانة مرموقة في وعي الشعوب ولا وعيها.
لقد جسدت هذه الشخصية في أفكارها ومواقفها بانحيازها إلى الموت البطولي، أهم السمات والخصائص التي تحوزها الشخصيات التاريخية والأسطورية في نماذجها العليا، والتي استطاعت أن تكتسب بفعلها الإنساني الخلود، وشيئا من هيبة التاريخ وقدسيته.
إن نزوع الشاعر نحو الزمن التاريخي من أجل صوغ نموذج للموت الفدائي، يكشف عن البعد القومي الذي عمل عبد الله راجع على ترسيخه طوال تجربته الشعرية، والذي تردد صداه في أدبيات الاتجاه القومي الليبرالي الذي عبرت عنه مجلة “الآداب” البيروتية، ودعت إليه.
لقد أعلى هذا الاتجاه من شأن القومية العربية، وحتّم على الأدب أن لا يكون منعزلا على المجتمع الذي يعيش فيه، وأن يدخل في علاقة تفاعل معه ليعبّر عن مشاكله وهمومه قصد تجاوزها، الشيء الذي جعل من هذا الأدب يرتبط في الخمسينيات بحركات التحرر الوطنية في العالم العربي، وبالمد القومي الصاعد مع حركة الضباط الأحرار في مصر، وأن يعانق كل الحركات الساعية إلى التغيير.
إن كل الأزمنة التي استثمرها عبد الله راجع في تعالقها بالموت من أجل الآخرين تؤكد أن شعريته لم تكن أبدا مستسلمة لقضائها وقدرها، ولم تكن خانعة تجترها فواجعها، بقدر ما كانت متمردة رافضة، وكان طموح الشاعر هو امتلاك القدرة على تطويع التجارب السابقة والتصرف بها، من أجل صوغ نموذج مخلص يؤمن بالفداء ويتجرع المعاناة ليعانق الحياة من خلال الموت.
ج – زمن التداعي والرغبة في الانتصار على الموت.
إذا كان موقف الشاعر من الزمن الحاضر في المستويات السابقة، قد كشف لنا عن عالم شعري يستحيل التصالح معه، وداخله تنسحق الذات وتعيش معاناتها وغربتها، الشيء الذي حول النص إلى واجهة نضالية ودفاعية، وأداة للتحريض المبطن، وتمرير خطاب الإدانة لواقع التردي والاستغلال والمهانة، فإن تجربة المرض كانت مؤشرا قويا عملت على تحويل مفاهيم الزمن، في علاقته بالموت، ونقلها من الإطار الاجتماعي والسياسي إلى الإطار الحميمي الذاتي الذي بدا منصهرا في التجربة الإنسانية والكونية.
لقد صارت القصيدة صدى لهموم الذات وانكساراتها، بعدما ما أدرك الشاعر استحالة القبض على اللحظات الهاربة أمام نهر الزمن الجارف. إن الإحساس الفاجع بالسير الحثيث للزمن هو مبعث عذاب الذات وشقائها، لأن مثل هذا “الإحساس هو في حد ذاته إحساس بالفناء والعدم، إنه جلادنا الحقيقي، إنه أشد وألعن من كل صنوف العذاب، إنه أصل كل تلك المشاعر التي لا تنتج عن دوافع معينة وأسباب خارجية: الكآبة المبهمة، القلق من المجهول، الهم دون مبرر، الضجر الذي يسحقنا فجأة دون أن نعرف له مصدرا أو غاية. الإنسان إذن، محكوم عليه بالعذاب المؤبد طالما أنه يحمل في أعماق ذاته هذه الساعة اللعينة التي تتكتك كالعلة“ ([7])، وتذكّره في كل آن وحين بأنه يمضي حثيثا إلى مصيره المحتوم. لقد أدرك الشاعر بحس فجائعي أنه بات خاضعا لقوى الزمن المدمرة، وأن كل لحظة يعيشها تقرّبه من تيار الزوال الجارف.
يقول الشاعر في قصيدة معنونة ب(أيمن) نشرت بمجلة رصيف بالعدد 9 صيف1991.
نفشت طيور السين بعض مواجعي، فرأيت هذا النبض
يهرب من يدي، ويشد عنقي في المدى حبل الحصار
فكأن نبضي ليس لي… وأنا بدونك واحد وسط الحصار.
إن إيقاع الزمن المتسارع، وانفلات لحظاته الهاربة يشعر الذات بانصرام لحظات عمرها، ويؤكد لها حس الفناء والعدم العقيم. ” فمقياس الوقت في الإحساس- وفي الشعر الذي هو صورة من صور الإحساس- ليس هو الساعة المركبة من حديد ونحاس، وإنما هو النفس المركبة من خيال وتصور وشعور. وهذه النفس قد تنظر إلى العام فإذا هو لمحة للهفتها على فواته، وقد تنظر إلى اللمحة فإذا هي دهر سرمد لازدحامها بالمنظر بعد المنظر، والخيال بعد الخيال، إلى غير نهاية يحدّها الحس ويقف عندها الاستحضار”.
إن الإحساس المأساوي بتدفق الزمن المتسارع والرغبة في تخليص الذات من هواجس الإحباط والفناء والعدم، قد قاد الشاعر إلى نشدان لحظات خصب تجدد الحياة وتدعمها بحس البقاء المركوز في الذات البشرية، وفي هذا السياق ازدادت أهمية الماضي في نفس الشاعر، واشتد حنينه له، وللذكريات المطبوعة في النفس. فالذكرى تحاول مقاومة المحو والتلاشي ولكن بعملها تذكي نار اللوعة والحرقة على اللحظات الجميلة، وتهيئ الذات لتقبل القلق الوجودي المؤرق،” إننا حين نتذكر، بلا انقطاع، إنما نخلط الزمان غير المجدي وغير الفعال بالزمان الذي أفاد وأعطى، ولا تكون جدلية السعادة والتعاسة مستحوذة إلى هذا الحد إلا عندما تكون متوافقة مع الجدلية الزمانية. عندئذ نعلم أن الزمان هو الذي يأخذ وهو الذي يعطي، وفجأة نعي أن الزمان سيأخذ أيضا. إن معاودة عيش الزمان الغابر معناه تعلمنا قلق الموت”.
أن عملية التذكر تقوم حسب غاستون باشلار على مزج الزمان الماضي المفرح، بالزمن الحاضر المحبط للتخفيف من حدة هذا الأخير. من هنا لاذ الشاعر باسترجاع صور الأبناء في انشغالاتهم وممارساتهم اليومية باعتبارها لحظات للأنس والفرح.
يقول الشاعر في قصيدة له بعنوان (غرب الشمس) نشرت بمجلة الثقافة المغربية 1991:
فالآن- وباريس على أهبة ليل شتوي
يوغل أيمن في قفزة نينجا”
يقتات على ” شوملة”، ويؤسس بين يديه كلاما
والآن تزاوج بين تمارين القسم
وتهيئ طعام الليل ندى وجيهان
فبالقدر الذي يعتبر فيه استرجاع أجمل صور الماضي، ممثلا في الأبناء ملاذا لقهر الإحساس بالغربة والحنين إلى الأهل، وتميمة لقهر الموت والانتصار لاستمرارية الذات في النسل، فإنه عودة كذلك، لأكثر الذكريات التصاقا بالنفس، وأشدها فاعلية في بعث الفرح ومواجهة الفناء الذي يلازم الذات نتيجة إحباطات الحاضر. إن الإنسان توّاق إلى حيث لايوجد أو كما يقول “جان بيير جوف Jean Pierre jouve” “لأننا نكون حيث لانوجد ونتوق إلى أمكنة ذكرياتنا “.
فالعودة إلى استرجاع زمن الطفولة هو عودة إلى زمن مطلق لا يقيم فواصل وحدودا بين الذات والوجود الموضوعي، ولا يرى فارقا بين الأنا والعالم. فالطفولة لا تعرف حس الفناء ولا قلقه، ولا تعرف رعب الزوال، إنها” بحسب مفهوم “ريكله” فترة سرمدية مليئة بالحماس، مهيئة دائما للدهشة أمام الاكتشافات ،يعيش خلالها الطفل في نوع من الأبدية المسحورة خارج أسوار الزمن، ولا يعاني من وطأة الزمن. فالطفل يعيش فرحا دائما، لكونه قد تحرر من ضغط الزمن وغدا يعيش في الأبدية ،فهو ينظر إلى الكون بعين روحه لا بعين جسده، وما يعيش في الروح لايطاله الزمن أبدا ولا يعرف للموت معنى.
إن الحنين إلى الطفولة واعتبارها ملاذا وحمى يمدّ الشاعر بسند روحي يمكنه من مواجهة حاضره المحبط، ويترحم رغبة حادة في التمسك بالخلود، وتوقا مركوزا في اللاوعي البشري إلى الدخول في دائرة الأبدية والمطلق الزماني.
وبالموازاة مع زمن الطفولة، لاذ الشاعر بصور ومواقف تضيء الذاكرة، وعانق وجوها وأشخاصا انتزعها من عدم النسيان، يقول الشاعر في قصيدة (غرب الشمس)
سلام عليك عنيبة
كيف تجر الخطو شيقا بين غيم القصيد
وغيم الإدارة … هل نحتسي قهوة؟
لن نقول ليوسف.. أهلا.
فيوسف لا يستطيب التحية إن كان يكتب
بعد قليل سيقبل نجمي
نزوج ريما بأيمن
ثم نغمس أحلامنا في المحال.
إن استحضار الذكريات وإحلال الخبرات الماضية محل الحاضر هو في نظر “مارسيل بروست” معانقة للماهية الميتافيزيقية بقية للخبرات الفريدة، وهي “ماهية لازمنية تعطي الشاعر حسا بالامتلاء والراحة، وتوفر له شعورا بالخلاص من أسر الزمن وضغوطه، بل وتمنحه شعورا بالأبدية، تستوي عنده فيه البداية والنهاية، بحيث لا يصبح عنده لحالات الزمن العادية (الماضي والحاضر والمستقبل) أي تمييز”.
إن ارتماء الشاعر في أحضان الذاكرة في الوقت الذي يشكل فيه هروبا من هجير الحاضر، بكل ما يكتنفه من وحدة وغربة ومعاناة، وإحساس وشيك بالزوال، فإنه احتماء بالأحداث التي نجت من غلواء الزمن، ولم يصبح بقدوره أن يطالها .
لقد جسد محور الزمن معاناة الشاعر الكبيرة، وإحساسه الفاجع بتيار الزمن المتدفق، وشحذت تجربة المرض والغربة حدسه بقرب انقضاء العمر، فحاول الإمساك بالزمن واعتماده ما يسمى (بالإبطاء الزمني) المتمثل في النزوع نحو الماضي وإحلاله محل الحاضر القاتم المرعب. لقد قاده الإحساس بالفناء والعدم الذي يفترس الذات، وفقدان الإحساس بالحصانة إزاء القوة التدميرية للزمن إلى نشدان الخلاص بالعودة إلى الله.
يقول الشاعر في قصيدة (غرب الشمس).
قلت قريبا يسرقني الهاتف من هذا البرد
فأشرق في قلبي وجه الله
طلعت شمس، غابت شمس، نوّرني وجه الله.
لقد أصبح اليقين القلبي بقدرته الخارقة على النفاذ إلى أعماق النفس الإنسانية، هو الملاذ الذي يحقق لذات الشاعر توافقها مع مشاعر الزوال والفناء التي تقض مضجعها. إن الزمن الصوفي في جوهره زمن نفسي لارتباطه بإحساس الفرد وشعوره الداخلي، وهو المسافة التي يقطعها المتصوف بمجاهدة ورياضة نفسه في قهر ظلمة الجهل بين الروح والذات الإلهية.
إن التوحد بالذات الإلهية ومعانقة المطلق الإلهي كفعل عشقي متماه وأبدي يتأبّى على الموت والفناء، فالموت لا يغير ولا يفني من المتصوف سوى صفاته الإنسانية والبشرية في حين تتعالى صفاته الإلهية عن كل فناء ،محققة له بذلك الخلود.
إن الرؤية الصوفية للزمن في جوهرها موقف وجودي من الحياة، وموقف رفض لما هو قائم وراهن، ومحاولة للعودة بالأشياء إلى انسجامها وبراءتها الأولى والقضاء على الوعي المنقسم وتحقيق الاتحاد المطلق وبالتالي قهر الاغتراب.
لقد اجتمعت لعبد الله راجع خبرة كبيرة في عرض الزمن والموت بأنماط متعددة، وقد ظهرت هذه الأنماط متشبعة في نصوصه وعلى امتداد مسيرته الشعرية. لقد سعى عن طريق الحلم والتخليل والاستذكار إلى مواجهة الإحساس بالزوال والاندثار، حاشدا كل الأزمنة الممكنة التي أثبتت جدارتها في مغالبة الزمن قصد نيل الخلود.
إن الخطاب الشعري عند عبد الله راجع في تعالقه بالزمن يعكس صراع الذات وتوزعها بين عدة جبهات، إذ في الوقت الذي يخوض فيه صراعا مع العالم الواقعي، عالم التجربة الإنسانية من أجل فرض زمن ممكن آخر بطموحاته في التغيير وقيم الحرية والكرامة الإنسانية تنهشه نوازع وجودية، تشعر الذات بانصرام لحظات العمر وقرب ساعة الرحيل.
إن الحاضر باعتباره أهم لحظات الوجود بمختلف آناته، يختزل لدى الشاعر كل صور الجحيم، لذلك سعى إلى مواجهته وتجاوزه بزمن الحلم، بانتظاراته وآماله، وبزمن الأسطورة بشفافيته ونبوءته ولازمنيته، وبالزمن التاريخي بأبطاله وطموحاته، وبزمن الذاكرة بأفراحه وسلطانه، والزمن الصوفي بصفائه ومطلقيته.
إن مجموع هذه الأزمنة مترافدة ومتمازجة قد عكست على مستوى الإبداع طموح الشاعر بالخلاص من أسرار الزمن وضغوطه، وجسدت رغبته في الخلود وهي رغبة لا يمكن أن تتحقق إلا بالفن وحده.
1- عبد المالك مرتاض “في نظرية الرواية “، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكوبت، 1998، ص. 199.
[2] – يمنى طريف الخولي ” اشكالية الزمان في الفلسفة والعلم ” ألف مجلة البلاغة المقارنة، الجامعة الأمريكية، القاهرة، العدد 9، 1989، ص. 16.
[3] – سورة الجاثية، الآية 24.
[4] -هانز مير هوف” الزمن في الأدب” ترجمة اسعد رزوق، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1972، ص. 10 و11.
9 -غاستون باشلار ” جدلية الزمن ” (م.س) ص. 114 و115.
[6]– محمد بن عياد ” الزمن والشعر ” مجلة علامات، العدد 17، السنة 2004، ص. 42.
[7]– سمير الحاج شاهين” لحظة الأبدية “دراسة الزمان في أدب القرن العشرين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، بيروت، 1980، ص: 213.