أود في مطلع هذه الكلمة أن أنوه بجميع القراءات التي همت الترجمة العربية لكتاب “تاريخ العالم في القرن التاسع عشر”، الصادر أصلا باللغة الفرنسية تحت إشراف بيير سينغارافيلو وسيلفان فينير. قراءات متنوعة ومتفاعلة مع فصول ومضامين هذا العمل الجماعي تفاعلا متكاملا، وذلك من زوايا نظر مختلفة: من قضية المركزية الأوروبية التي وُضعت على المحك في مقاربة المؤلفِين (الطيب بياض) إلى مسألة الهامش وكيف تلقى الحداثة وتعامل معها (عادل الطاهري)، مرورا بتسليط الضوء على صورة القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي (سعاد بنعلي) أو في عوالم العالم المتعددة (محمد حاتمي) أو بالتركيز على الثقافة المادية كما تظهر في المستحدثات الكثيرة التي يمكن اعتبارها مداخل لفهم القرن التاسع عشر وكتابته (خالد طحطح). ومن شأن هذه القراءات أن تحفِّز المتلقِّي على الاطلاع على الكتاب، وأن تحسِّسه بأهمية تاريخ العالم في تكوين الباحث في التاريخ، وفي فتح آفاقه على التواريخ الأخرى.
من نظرة أولى، وبقراءة أفقية، هكذا يبدو القرن التاسع عشر: موجةٌ عارمة من الحداثة الأوروبية النابعة من تحولات عصر الأنوار، الرأسمالية والعقلانية، غمرت العالم بواسطة أدوات وأفكار وممارسات ومستحدثات وأسلحة، من جهة. ومن جهة ثانية، رد فعل متعدد ومتباين بحسب المجالات التي غمرتها هذه الموجة، وثقافاتها ومرجعياتها:
- مجالات خضعت لارتجاجات هذه الحداثة خضوعا تاما، مثل إفريقيا جنوب الصحراء.
- مجالات قاومت هذه الارتجاجات، ثم ناقشتها، وفي نهاية المطاف كيَّفتها بأشكال وأساليب مختلفة، مع ما ترتب عن ذلك من نتائج متباينة (مصر وتركيا).
- مجالات استملكت ذبذبات هذه الموجة، وطوَّعتها، وجعلت منها سلاحا في مواجهة الغرب نفسه (اليابان).
لكن هذه النظرة لا تظهر في الكتاب إلا على نحو مضمَّن. لقد رغب أصحاب العمل في خلق مسافة تحليلية مع الفهم التاريخي المألوف ذي النزعة المركزية الأوروبية، الذي ساد لمدة زمنية طويلة. بطبيعة الحال، منذ سنوات 1990، مع البعد العالمي الذي اكتسبته الدراسات الثقافية التي وضعت مفهوم الهيمنة موضع تساؤل، تغيرت المقاربات والقراءات. والكتاب في حد ذاته يقدم مقاربة من هذه المقاربات، التي قد تغني النقاش الدائر حول مفاهيم الحداثة والهيمنة والاستعمار، وذلك في خضم الإصدارات العديدة التي خرجت من رحم الجامعات الأوروبية والأمريكية والهندية، حول القرن التاسع عشر، والحداثة وما بعد الحداثة، والاستعمار، والنزعة المركزية الأوروبية. يتعلق الأمر بنقاش كثيف ومتعدد: أصوات غير أوروبية، كالهندية مثلا، وأيضا أصوات أوروبية، في إطار ما يمكن تسميته بِ “جلد الذات”، والتي تدعو إلى مراجعة الإسطوغرافيا الغربية التي تحكمت فيها أوروبا، وجعلت منها شبكةَ قراءةٍ لتفسير التاريخ، بواسطة المؤسسات المعرفية التي أقامها الاستعمار في أرجاء العالم. وكل ذلك يصب في مجرى كبير: “التشكيك الإبيستيمولوجي” كما يقول هايدن وايْت في “التاريخ وما بعد الحداثة”، كون أن هذه الإسطوغرافيا الغربية مرتبطة بعلوم إنسانية واجتماعية كانت قد ادعت “اليقين العلمي”، لكن “من دون أساس”، لأن الحداثة أصلا، انطلاقا من هذا التصور، “فشلت في إنتاج علوم اجتماعية مشابهة من حيث قوتها التفسيرية لعلوم الطبيعة”. ولذلك، وتحت شعار “النسبية الثقافية”، يسير هذا التشكيك في مجرى الطعن في “المنهج التاريخي” واختزال التاريخ في تمرين بلاغي، و”اعتباره (أي التاريخ) نصاً أكثر منه تراكما لوقائع حقيقية”.
هذا المنظور الما بعد حداثي هو الذي وجه كتاب “تاريخ العالم في القرن التاسع عشر”، حيث تختفي أو على الأقل تصير باهتةً قيّمُ الحداثة التي اعتُبرت، لوقت طويل، مرجعا رئيسيا لأمم عديدة ومصدرا لتحولات كثيرة: الأنوار التي نبعت منها معظم الأسس الفكرية والعلمية والأدبية؛ والثورات التي أسست لممارسات التغيير الاجتماعي والسياسي في مناطق عدة من العالم، والتحولات الصناعية التي كانت من وراء اتساع التمدن وتبدل نمط الحياة اليومية. وفي المقابل، أوْلى المؤلفون أهمية لأدوات وممارسات، في آسيا بالخصوص، واعتبروها محدِّدة، مثل صناعة النسيج في الهند، وفن الرسم في اليابان، والنُّصب في الفيتنام، أو لعادات وتقاليد بعض المستعمرات، التي فرضت نفسها في قلب العواصم الأوروبية.
هنا، تختفي تماما النظرية الانتشارية القائلة بتدفق التقنيات والمستحدثات والأفكار والممارسات الثورية الأوروبية باتجاه باقي العالم، وتضعف مقولة التجاوز التي كان الأوروبيون قد بنوا عليها فكرهم الإسطوغرافي، بالتأكيد على أن العالم إلى حدود القرن الخامس عشر كان يعيش أساسا من الزراعة ويرتبط ارتباطا قويا بالمعتقدات الدينية، وأنه ابتداءً من القرن السادس عشر دشنت أوروبا لنظام اقتصادي وفكري جديد قائم على الميركانتيلية (الرأسمالية) وإعمال العقل (العقلانية)، وأن فكرة التقدم أوروبية صرفة، باعتبارها وليدة فكر الأنوار حيث حررت الناس من جاذبية الماضي ووجهت أنظارهم نحو المستقبل. من هذه الزاوية، وفي الباب الرابع، الخاص بأقاليم العالم العشرة، تأتي أوروبا سابعةً بعد آسيا الشرقية، وماليزيا، وجزر المحيط الهادي، والأمريكيتين الشمالية والجنوبية، وإفريقيا، وتظهر “كأنها نتاج تشكيلة لا تتحكم مكوناتها أصلا إلا في جزء صغير من الديناميات”.
ومع ذلك، يصعب الإجماع على هذه الرؤية، من داخل العالم الغربي بطبيعة الحال. لا يتفق عدد من المؤرخين مع الطرح المعروض في هذا الكتاب، كما في كتب أخرى مماثلة صدرت منذ مطلع الألفية الحالية، والذي (أي هذا الطرح) ما فتئ يغيِّب أوروبا من ساحة الفعل والتأثير في قصة الحداثة هذه، منهم ريتشارد إيفانس، وإرنست بريساش، وبيريز زاغوران، وآخرون، حيث عبَّروا عن رفضهم لهذه التصورات التاريخية التي تتضمن تشكيكاً إبيستيمولوجيا ومراجعةً لا تاريخية. فقد انتقد المؤرخ البريطاني ريتشارد إيفانس، مثلا، في كتابه “دفاعا عن التاريخ”، الطروحات ما بعد الحداثية المرتبطة بِ “المنعطف الثقافي” أو “اللساني” في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ونبَّه من منزلقات السقوط في التمرين الخطابي المنفصل عن الواقع التاريخي، وفي النظرة التي تفصل الكتابة التاريخية عن التاريخ الحقيقي. ومن جهته، تحدث المؤرخ الأمريكي إرنست بريساش في دراسته “حول مستقبل التاريخ: تحدي ما بعد الحداثة”، عن ما بعد الحداثة باعتبارها واحدة من التحديات الكبرى التي على المؤرخين مواجهتها بنفْس النفَس الذي دافعوا به عن التاريخ وأسسوا لقواعده ومناهجه منذ القرن التاسع عشر.