بيير سينغارافيلو وسيلفان فينير، تاريخ العالم في القرن التاسع عشر، نسق الترجمة وراجعها، محمد حبيدة، مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، الدار البيضاء، 2020.
القرن التاسع عشر هو قرن انتشار الحداثة داخل أوربا وخارجها، وهو قرن الحداثة الكبرى الذي انتصرت فيه قيمها واستحالت مثالا يحتذى في كل أرجاء المعمور، وما دمنا بصدد تناول بعض الجوانب من كتاب “تاريخ العالم في القرن التاسع عشر”؛ فسيكون من الجدير هنا التعرف على مظاهر انتشار الحداثة في الهامش غير الأوربي، وما يعطي لهذه الزاوية من النظر أهمية مضاعفة أن من غايات كتابة التاريخ العالمي رصد الترابط بين المجتمعات وكشف أوجه التلاقح؛ بعبارة المؤرخ محمد حبيدة كاتب مقدمة الترجمة العربية :”دراسة تاريخ العالم هي دراسة لآليات الترابط والتكامل والاندماج التي حصلت في حقبة زمنية معينة” (ص. 5). وبالنسبة إليه، ثمة لحظتان مهمتان حدث فيهما هذا الترابط؛ لحظة مغامرة الكشوفات الجغرافية في القرن 15، ولحظة القرن التاسع عشر بما هي فترة التوسع الاستعماري الذي ساهم فيه تطور التقنيات ومهد لما سيسمى لاحقا بالعولمة.
من المعلوم أن الحداثة روحٌ تجسدت في مختلف أبعاد الحياة الإنسانية، في الاجتماع الحداثة ظفر للعمران المدني على العمران القروي، ومن هنا كانت المدينة إفرازا لوتيرة التحديث، وفي السياسة كانت الحداثة تعني سيادة الشعب وفصل السلط والشرعية الدستورية، وفي الاقتصاد هي الرأسمالية والثورة الصناعية واعتماد الآلات أو المكننة في الإنتاج، وفي الفكر الحداثة هي الحرية وحقوق الإنسان واستخدام العقل.. إلخ.
ثلاثة أسئلة يمكن طرحها هنا لها علاقة وطيدة بانتشار الحداثة :
– أولا: تبعا لأية آليات استطاعت قيم الحداثة أن تتسلل إلى الهامش؟
– ثانيا: أي صدى خلفته رجة الحداثة هناك وكيف استقبلها الهامش؟
-ثالثا: أية مفارقات خلفتها الحداثة؟ ولا يخفى أن هذا السؤال الثالث يطمح للانعتاق من أسر المركزية الأوربية. لقد كانت إيديولوجيا التقدم التي شاعت في عصر الأنوار بمثابة يوتوبيا العصر الحديث المبشرة بفكرة السعادة على الأرض؛ فإلى أي حد وُفقت الحداثة في ذلك؟
أسئلة سنحاول أن نجيب عنها من داخل متن كتاب “تاريخ العالم في القرن التاسع عشر”.
- آليات انتشار الحداثة :
تعددت طرق تعرف الهامش على النموذج الغربي؛ واختلفت السبل التي روج من خلالها الإنسان الأبيض للحداثة كنموذج متاح للبشرية جمعاء. بعض هذه الأساليب لم يكن مختلفا عن كل الأساليب القديمة لدمج الحضارات؛ أعني هنا الاستعمار المباشر. وقد حاول الفكر القانوني الغربي أن يناقش حيثيات هذا الاحتلال وارتأى إلى الخلاصة التالية كما تشير إيزابيل سوزان “لقد توصل رجال القانون في أواخر القرن التاسع عشر بعد مناقشات عديدة حول مسألة الاحتلال الفعلي، إلى صيغة الحماية الاستعمارية التي تشمل الانتقال التدريجي من احتلال غير مباشر على النحو الذي يطرحه الاتفاق المبرم مع قائد محلي إلى احتلال فعلي غير معلن (ص. 445)، بمعنى آخر أن الإنسان الأوربي في خضم مغامرته الاستعمارية كان يُقدم نفسه كصاحب رسالة منذور لإخراج أمم الهامش من ظلام التقليد إلى أنوار الحداثة؛ وهي “نوايا” معلنة في تقارير المؤتمرات التي انعقدت تمهيدا لعملية الاستعمار.
بالنسبة للقارة السوداء؛ مهّد الغرب لاستعماره بمؤتمر برلين (1884-1885) بدعوة من المستشار الألماني أوتوفون بيسمارك. وعن حوض الكونغو الذي كان المحرك الأساسي لهذا المؤتمر ينص البند السادس على “التزام القوى التي كانت تمارس سيادتها وتأثيراتها في هذه المنطقة بتطوير الشروط المادية والمعنوية للأهالي والمساهمة في إلغاء الرق وخاصة الاتجار بالبشر” (ص. 444)، وما قد يثير بعض التحفظات حول هذه الأهداف المعلنة؛ أن المؤتمر الذي عرف مشاركة 12 دولة أوربية ذات أطماع استعمارية بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وممثل الإمبراطورية العثمانية، غيّب من كان موضوع عملية التحديث، أي الدول الإفريقية، فلم تحظ بأية تمثيلية في المؤتمر (ص. 445)، وهو ما قد يفهم منه أن المؤتمر في عمقه طمح لتصريف أي خلاف بين القوى العظمى حول القارة الإفريقية، وتُرجم ذلك في اتفاقيات ثنائيات بعد انعقاده.
نفس الأهداف وجهت علنًا احتلال دول المغرب العربي، كانت المقولة الاستشراقية عن “الاستبداد الشرقي” رائجة لدى القادة السياسيين الأوربيين، لهذا فمن أهداف احتلال الجزائر (1830) القضاء على الاستبداد الشرقي وطرك الأتراك من البلد وإحلال القيم السياسية الحداثية، يقول دانييل نُوردْمان في الفصل المخصص لاحتلال الجزائر إن الحاكم بورمون “يعلن بأن الجيش الفرنسي جاء لطرد الأتراك”، وأنه كانت هناك “اتهامات مرتبطة بالاستبداد الشرقي روج لها الجميع من رجال الدين إلى الفلاسفة” (ص. 331)[1].
كانت الطريقة الأخرى التي اعتمدها الغرب في نشر مشروعه الحداثي هي التبشير الديني، وهي من المفارقات الأخرى للحداثة الغربية التي قامت على فكرة التحرر من قبضة الدين، نقرأ في كتاب “تاريخ العالم في القرن التاسع” العنوان التالي : التنصير من أجل التحضّر. فالقساوسة ورجال الدين الذين أرسلوا إلى الهامش لم يحملوا معهم إنجيل عيسى فقط، بل حملوا معهم أفكارا إصلاحية بروتستانتية عن تقديس العمل، أو كما يقول كلود برودوم: “كانت المهام التبشيرية الأكثر أهمية قد اتخذت شكل مقاولة صغير”، ثم يشير إلى استعادة معنى الإصلاح البروتستاني و”إنجيل العمل”. ويقدم لنا القس فرانسوا ليبرمان نموذجا دالا على هذا التمازج بين الدين والحضارة، أو بين التنصير والحداثة، وقد عبر عن ذلك في كتابه: “مذكرات حول تنصير السود” (1846) بهذا المبدأ :”لا وجود لحضارة من دون ديانة”، والعكس صحيح كذلك، يقول :”تكمن مهمة المبشر ليس فقط على المستوى الأخلاقي، بل أيضا على المستوى الفكري والمادي : التربية والزراعة والحرف” (ص. 182).
ويمكن إضافة هنا مما لم يذكر صريحا في الكتاب؛ الرحلات التي نظمت من دول الهامش إلى الدول الأوربية في سياق إرسال بعثات رسمية من أجل الاطلاع على الحضارة الغربية، يُشير الكتاب في سياق حديثه عن الدستور العثماني إلى مؤلف الطهطاوي “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” (ص. 422)؛ وهو كتاب ألف بعد رحلة رسمية من مصر إلى فرنسا؛ وكان الطهطاوي هو الفقيه الأزهري الذي رافق البعثة كمرجع ديني، في أدب الرحلة من المغرب كذلك نصادف كتابا ألفه محمد الطاهر الفاسي قريب في من عنوان كتاب الطهطاوي وهو “الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية” حيث يروي مشاهداته ومؤاخذاته على الحضارة الاوربية في إنجلترا.
- مظاهر التحديث في الهامش
التحديث السياسي
من المعلوم أن التحديث السياسي في أوربا اتخذ بدءاً شكل إعادة النظر في الشرعية التي تقوم عليها دولة ما، فكان أن ترجمت عمليا ما توصل إليه مفكروها الأنواريون؛ بجعل السلطة حكرا على الإرادة العامة لا باختزالها في يد شخص ما : ملكا كان أو رجل دين، وقد عُبر عن هذا الطموح لتعزيز سلطة الجماعة في كتابة الدساتير، وهكذا انتقلت أوربا من مشروعية تكون معياريتها متجسدة في شخص؛ إلى مشروعية قائمة على قدسية بنود الدستور، ولهذا ارتأى السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر أن الشرعية الدستورية هي المشروعية الوحيدة السائدة في العصر الحديث[2].
أول ما يمكن الإشارة إليه هنا في سياق مناقشة مظاهر التحديث في الهامش هو سرعة انفتاح بعض دول أمريكا على المنجزات الدستورية للثورة الفرنسية، حيث نلاحظ إقبال دولة كولومبيا على ترجمة أول إعلان لحقوق الإنسان (1789) إلى اللغة الإسبانية بعد خمس سنوات فقط من الحدث، نقرأ في الكتاب :”ليس من قبيل المصادفة أن نجد أول ترجمة إسبانية لحقوق الإنسان لعام 1789 في بوغوتا عام 1794، وأن تكون هذه المدينة هي التي احتضنت أول مخطط يرمي إلى إنشاء نظام جمهوري وإلى إلغاء العبودية عام 1797″، وبلا شك أن إلغاء العبودية كان منجزا من منجزات انتصار الثورة البرجوازية على النظام الاجتماعي الفيودالي الذي كانت فيه العبودية مظهرا طبيعيا من مظاهر الهرمية الاجتماعية.
حاول العالم الإسلامي كذلك أن يحذو حذو أوربا بكتابة دساتير لكن معظم هذه المحاولات باءت بالفشل إما بسبب النزعة الاستبدادية للحكام أو بسبب غياب حاضنة ثقافية نابعة من تجديد في البنية الثقافية؛ وهذا ما عبر عنه آن لورد وبون وهو يتحدث عن مشروع دستور 1876 للإمبراطورية العثمانية التي أطلقت عليه اسم “مشروطية” أو “الشرطية” المشتقة من الكلمة الفرنسية “شارْت”[3]، يقول :”توضح هذه التجربة الدستورية القصيرة مدى الصعوبات التي اعترضت ثقافة سياسية جديدة كانت في طور التشكل داخل العالم العثماني الإسلامي” (ص. 422)، وقد كان هذا المشروع امتدادا لإصلاح التنظيمات العثمانية سنة 1839، يقول أوليفيي بوكي “تعتبر سنة 1839 لحظة حاسمة في تاريخ الإصلاحات العثمانية (ص. 350)، وهي إصلاحات باشرها السلطان عبد المجيد، وقرأ نص هذا المرسوم وزير الشؤون الخارجية مصطفى رشيد باشا في أجواء احتفالية.
في تونس كذلك خيضت تجربة إصلاح سياسي بكتابة دستور عامة 1861، إلا أن هذه التجربة باءت بالفشل بعد ثلاث سنوات فقط، وقد كان لهذه التجربة بعض التداعيات على المستوى الفكري، حيث ألهمت خير الدين التونسي الذي سيكتب واحدا من أهم النصوص المؤسسة لما يسمى في أدبيات الفكر العربي المعاصر بفكر النهضة بكتابه “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” (ص. 422)، وهو كتاب أشاد فيه بالتنظيمات الغربية الأوربية، ودعا إلى الأخذ بها من أجل القطع مع عهد الاستبداد.
نجد إشارة في الكتاب إلى إصلاح سياسي دستوري في دولة هايتي بعد ثورتها سنة 1804، لكن الملاحظ أن المؤرخ الذي كتب المحور موجه على نحو ما بفكرة المركزية الأوربية، فهو من جهة يقر بكتابة دستور حُرر بعد استقلال البلد، لكنه في المقابل يصدر الحكم التالي “لم يتم التنصيص في هذا الدستور على السيادة الشعبية والمساواة المدنية اللتين تعدان من أعمدة دولة الحق والقانون” (ص. 291). والحال أن هايتي عرفت ذات التقلبات التي ستعرفها أوربا لاحقا حيث سيتحول الحاكم إلى إمبراطور، وعلى الرغم من أن فرنسا عرفت ذات التغييرات إلى أننا لا نصادف مثل هذه الأحكام عنها، يقول بيرنار غينو “منح دوسالين لنفسه لقب إمبراطور سنة 8 أكتوبر 1804 (…) وكان متسما بالرغبة في تقليد بونابارت” (ص. 291).
يكاد المنظور نفسه هو الذي أطر رؤية الكتاب إلى الإصلاحات السياسية في اليابان التب باشرها الميجي (1868)، فبرنار ثومان يقر بأن “الإصلاحات كانت نتيجة لانفتاح البلاد منذ 1854 على نظام التجارة العالمية التي فسحت المجال لسياسة تحديث المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية استنادا إلى النموذج الغربي” (ص. 403)، إلا أن المؤرخ يستدعي التأويل الماركسي من أجل الحط من هذه التحولات السياسية، إنها حسب هذه القراءة :”كانت وراء العديد من التحولات التي اعتبرها الشعب الياباني كارثية” بل إنها كذلك “نظام أخذ تدريجيا شكلا استبداديا”.
يمكن الخلوص، إذا، إلى أن الكتاب في تناوله لمظاهر الحداثة السياسية في الهامش كان محكوما بنظرة المركزية الأوربية معياريا، فعلى الرغم من أن الطموح لكتابة تاريخ عالمي يؤسس إبستمولوجيا لطرح المركزية، إلا أن النظر إلى أوربا كمعيار تقاس عليه التجارب الأخرى هو ضرب من ضروب هذه المركزية، ففي الكتاب نلمس واضحا أن الغرب وحده هو الذي تمكن من بناء نظم ديموقراطية حديثة بينما فشل الآخرون في ذلك[4]، ونجد اعترافا في خاتمة الكتاب بهذا الخيط الرقيق من المعيارية المركزية، فكريستوف شارل يتحدث عن “استعادة شبكة القيم الغربية لإعادة قراءة عالم القرن 19” (ص. 885)، ويشير هذا المؤرخ إلى الانثروبولوجي جاك غودي كأحد المتفطنين لهيمنة المركزية الأوربية في كتابة التاريخ، وبالفعل نجد في كتابه “سرقة التاريخ” نقدا لهذه المركزية عند تناول تحقيب التاريخ، يقول عن الانتقائية في اختيار الأبعاد التي يحقبها :” هناك معايير أخرى يمكن أن يقاس التغيير بها وهي إلى حد معين معايير حاضرة بوصفها خطابات مضادة في الثقافات وفي ثقافتنا الخاصة في الجملة، وإذا أخذنا مقياسا بيئيا على سبيل المثال فإن مجتمعنا في كارثة بانتظار أن تحدث”[5].
التحديث الاجتماعي
كانت الحداثة انتصارا للعمران المدني على العمران القروي المتصل عميق الاتصال بالفيودالية، لقد ظهرت المدينة في أوربا العصر الحديث بتشكيلة اجتماعية جديدة، لم يعد هناك أسياد وأقنان، وإنما برجوازية رأسمالية وطبقة عاملة مستأجَرة، وكان ذلك نتيجة لعدة تحولات أهمها هجرة الأقنان من إقطاعات الأسياد الفيوداليين نتيجة ارتفاع وتيرة الضغط عليهم وظهور متنفس المدينة الذي استقطب أنظارهم بعمرانه الجديد ومتعه المثيرة[6]، فكيف كانت حركة التمدن في القرن التاسع عشر؟
داخل أوربا نفسها يمكن التمييز بين مرحلتين؛ مرحلة ما قبل 1850، حيث عرفت حركت تمدين نشيطة دول أوربا الغربية، وبعد هذا التاريخ بدأت هذه الصيرورة تطال مجموع بلدان العالم (ص. 140). لكن عموما فإن التمدين في العالم بأسره في القرن التاسع عشر كان يشكل نسبة 20 % من سكان العالم، أي أن أربعة أخماس من العالم كان عبارة عن امتداد قروي.
يمدنا الكتاب بنسب مهمة عن حركة التمدين في مختلف مناطق العالم؛ في الهند سجل البلد تراجعا في نسبة التمدن، فبعد أن كانت تشكل 11% سنة 1800، صارت تشكل نسبة 8,7% سنة 1872، ولم تعد إلى نسبة 11% إلا سنة 1911 مع الحركة الاستعمارية البريطانية، وعرفت إيران نفس التراجع، فمدنها الكبرى المرموقة عرفت تراجعا مثل أصفهان وقم وشيراز. يسجل الكتاب نفس المصير بالنسبة لمدن الشرق الأوسط التي تضررت من الصراع بين الأعيان المحليين والسلطان العثماني، باستثناء مدينة اسطنبول التي كانت المدينة الرابعة في العالم خصوصا في فترة التنظيمات (1839-1876). بالنسبة للقارة الإفريقية نلحظ أن المؤرخ لا يقدم أرقاما دقيقة عن الوضع التمدني بقدر ما يصدر أحكاما عامة، فيقرر تراجعا ملموسا بسبب الحروب والأوبئة والكوارث، فمدن إفريقيا الغربية مثل سوكوتو تقهقرت تقهقرا سريعا، والحال نفسه شهدته مدن المحيط الهندي، أما جنوب إفريقيا فعرفت في القرن التاسع عشر خرابا كبيرا بسبب دورة من الحروب نشبت مع اعتلاء ملك الزولو شاكا للسلطة. في الصين نشهد جمودا شاملا في حركة التمدن بسبب سيطرة “الحكمة الكونفوشيوسية” التي تمدح حياة الزهد، لهذا فإلى حدود أواخر القرن التاسع عشر لم يكن سكان المدن يشكلون سوى 5 إلى 7% من إجمالي سكان البلد. أما مدن أمريكا اللاتينية فقد احتفظت بطابعها القديم كمراكز إدارية وأسواق تجارية، وحوالي عام 1880 فقط ثماني مدن تجاوزت 100000 نسمة، لكن مباشرة بعد هذا التاريخ ستشهد مدن أمريكا اللاتينية خصوصا البرازيل والأرجنتين انفجارا ديموغرافيا نتيجة تدفق هجرة الأوربيين.
وعموما فإن حركة التمدن التي شهدها العالم كانت نتيجة لتصدير أوربا لنموذجها الحضاري، ويذكر الكتاب سببين مباشرين: أولهما التوسع الاستعماري، والذي كان ملحوظا بالخصوص بعد 1870، ثم “الهجرات الأوربية التي أطلقت عنانها خلال هذه السنوات بالذات” (ص. 144).
التحديث الاقتصادي
دخلت أوربا الحداثة مع بروز المذهب الرأسمالي في الاقتصاد، وظهور كتابات تنظِّر لهذا المذهب وبالخصوص كتاب “ثروة الأمم” للاسكُتلنْدي آدم سميث والذي جعله جاك لوغوف بمثابة بيان للرأسمالية[7]، وجوهر الرأسمالية هو حركة التصنيع النشيطة التي أدخلت خصوصيات جديدة على هذا النشاط الاقتصادي، ويمكن اختزالها في ثلاث: المكْنَنَة، تقسيم العمل، اعتماد مصدر جديد للطاقة[8]، وعن هذا الأخير نقرأ في كتاب تاريخ العالم استعارة تعتبر الفحم الحجري بمثابة “الحجرة السحرية الحقيقية للحداثة” (ص. 577).
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الصناعة في القرن التاسع عشر تحولت إلى إيديولوجيا تجاوز نطاقها مجال الاقتصاد ليمتد إلى مقياس للتفاضل بين المجتمعات، لقد وُظف مفهوم الثورة الصناعية لأول مرة سنة 1830، وصارت الدول الأكثر تصنيعا هي الدول التي نالت قصب السبق في الحضارة؛ وتم ترسيم الفكرة في درس الاقتصاد السياسي، حيث ميز غوستاف فونش مولين بين “المتحضرين” و”نصف المتحضرين” و”الهمجيين” على أساس من التصنيع، وبلا شك أن أوربا في القرن التاسع كانت الأكثر تحضرا تبعا لهذا المقياس الصناعي؛ إذ أمّنت أوربا الغربية سنة 1870 ما نسبته 62% من الإنتاج الصناعي؛ واحتكرت مع أمريكا الشمالية في مطلع القرن العشرين 82% من الإنتاج.
وعموما كان الهامش متأخرا في مجال التصنيع، واعتُبر بمثابة خزان واحتياطي لأوربا من المعادن والمواد الأولية واليد العاملة الرخيصة، يورد الكتاب مقتطفا من خطاب ألبرت زوج المليكة فيكتوريا جاء فيه :”موارد جهات الكون الأربع تحت تصرفنا، وعلينا فقط اختيار الطريقة الأفضل والأكثر اقتصادا لخدمة أغراضنا” (ص. 130)، وهو ما عمق الفوارق في القرن التاسع عشر بين دول الشمال ودول الجنوب بدلالتها التنموية، نقرأ في الكتاب : “في أعقاب عمل بايروك تبنت الاسطوغرافيا عموما مسؤولية الاستغلال الاستعماري في تعميق التفاوتات العالمية” (ص. 131).
وكان من نتائج الثورة الصناعية تضرر اليد العاملة أو طبقة البروليتاريا وأصحاب الحرف، سواء داخل أوربا أو خارجها، لقد عرفت أوربا ثورات متتالية للبروليتاريا احتجاجا على المكننة المتزايدة التي أضرت بقيمة يد العامل، فكان من تداعيات هذا التمرد العمالي: “كسر الآلات وإحراق المصانع في إنجلترا خلال الفترة اللودية” (ص. 127). يسجل كارل ماركس كذلك تضرر عمال النسيج في الهند من غزو التصنيع الـمُمكنَن للبلاد، ونعى غاندي في كتيب صغير يحمل عنوان: “سواراج أو الحكم الذاتي الهندي” (1909) هذا الاجتياح الآلاتي للهند، فكتب يقول :”الحضارة الآلية لن تتوقف عن صنع الضحايا. آثارها مميتة، ينجذب الناس إليها ويحرقون أنفسهم مثل الفراشات في لهيب الشمعة” (ص. 131). وفي الشرق الأوسط اندحرت الحرف التقليدية نتيجة للمنافسة الصناعية الأوربية وخاصة في صناعة الأقمشة الحريرية، والأمر نفسه ينطبق على الدول العثمانية خصوصا في فترة التنظيمات، إذ “رافقت بداية التصنيع تراجعات في الحرف اليدوية والصناعة التقليدية” (ص. 131).
ومما سجله الكتاب بخصوص موجة التصنيع وآثارها في الهامش أن الدول المستعمَرة لم تستفد إلا قليلا من هذه الثورة الصناعية، إذ لم تنفتح في الغالب على التقنيات الحديثة بل ظلت متمسكة بأدواتها البدائية البسيطة في التصنيع، يقول فرانسوا جريج :”لم تعرف عملية المكننة في البلدان المستعمرة نفس الإيقاع الذي شهدته في الميتروبول” (ص. 132)، ففي الفلاحة لم يبد الفلاحون في البلدان المستعمرة أية رغبة في استعمال التقنيات الحديثة، وهو ما انعكس على وتيرة الإنتاج، إذ ظلت المستعمرات بشكل رئيسي مناطق قروية تهيمن عليها زراعة الكفاف بعيدا عن الديناميات الصناعية (ص. 132).
وعموما ظلت مساهمة دول الهامش في عملية التصنيع ضئيلة، فاليابان في عصر الميجي وبتشجيع من الدولة والطلبات العسكرية بلغت 1% من الإنتاج العالمي، وكذلك عرفت الهند نوعا من اليقظة الصناعية خصوصا في مجال الصناعة النسيجية؛ إذ أنها احتلت المرتبة السادسة عالميا مشغلة 260000 عامل، وقد تحكم في طبيعة التصنيع بدول الهامش الاحتياج الأوربي وطلبه، ومن هنا تخصص بعض الدول في صناعات بعينها تلبية لهذا الطلب، وإلى هذا المعطى يشير الكتاب بقوله :”في أمريكا اللاتينية ارتبط التصنيع أولا بالاحتياجات المتزايدة للأوربيين من المواد الخام والمنتوجات الغذائية (مصفاة السكر ومصانع التعليب في كوبا، مطاحن الدقيق ومصانع التبريد في البرازيل والأرجنتين)” (ص. 134)، وفي هذا السياق كذلك يمكن ذكر مصر كمصدر للقطن وتخصص لبنان في الحرير، لقد كان المبدأ المتحكم في التصنيع بالهامش هو تكميل دينامية التصنيع في أوربا وتزويدها بما يمكنها من الاستمرار في هيمنتها الصناعية، إما باستغلال المواد الخام أو استيراد اليد العاملة الرخيصة أو بإنشاء مصانع لخدمة الاحتياجات الأوربية، يقرر أحد المؤرخين ذلك بقوله :”لقد تعامل الاستعمار مع العديد من المناطق المستعمرة أولا وقبل كل شيء كخزانات للمواد الخام واليد العاملة القابلة للاستغلال” (ص. 132).
وفي الختام، يمكن الحديث عن بؤس رافق مغامرة نشر الحداثة في الهامش؛ سواء بالفشل الذريع لاستنبات أنظمة سياسية على الطراز الغربي، أو بالاستغلال الممنهج اقتصاديا للهامش، ويمكن أن نضيف أزمة أخرى فجرتها الحداثة في بعض دول الهامش؛ أعني تصدير الأقليات الإثنية والدينية من أجل تحقيق ذلك النقاء الهوياتي الذي طمحت إليه الحداثة في الغرب، لقد تعالى في أوربا صوت القومية الوطنية، وهو ما ولّد في كثير من الأحيان أزمات حُلت بتهجير مقصود للأقليات، أيقظ الاضطهاد الذي تعرض له اليهود (قضية دْريفُوس مثلا) فكرة الحنين للعودة إلى أرض الميعاد في فلسطين (ص. 475)، كما أن وجل الإنسان الأبيض في أمريكا الشمالية من السود وما قد ينجم عن التزاوج بينهما من هجانة العرق قد أدى إلى التفكير في تهجيرهم إلى ليبيريا، وهي من النزعات العنصرية التي خلقتها الحداثة، كتب المؤرخ آن هوكون عن هذا التهجير للسود :”إن مشروع تهجير السود إلى إفريقيا تضمن بعدا عنصريا قويا، لأنه ساهم على المدى الطويل في جعل الولايات المتحدة الأمريكية بلدا أبيض في غالبية ساكنيه” (ص. 317).
[1] قام رجال الدين المصلحون في العالم الإسلامي بعد صدمة الحداثة بمناقشة السياسيين والمفكرين الأوربيين حول مقولة الاستبداد الشرقي، ناقش الشيخ محمد عبده وزير الخارجية الفرنسي غابرييل هانوتو، وناقش جمال الدين الأفغاني المستشرق أرنست رينان. وقد كتب إدوارد سعيد لاحقا عن هذه الكتابات الاستشراقية: “كان رجل أوربا المريض، أي الدولة العثمانية، يستلقي على منضدة العمليات [الاستشراقية] استعدادا للجراحة، ويكشف عن جميع مناحي ضعفه”، وفي موضع آخر يشير سعيد إلى أن رسالة أوربا إلى الشرق تتمحور حول تعليمهم معنى الحرية. ينظر المحور الرابع من الفصل الثاني: “الحجاج ورحلات الحج من بريطانيا وفرنسا”.
Edward Said, Orientalism, New York, Vintage Books, 1978, p. 166.
[2] Max Weber, Le savant et le politique, Paris, Union Générale des Editions, 1963, p. 88.
[3] “والقانون الذي يمشي الفرنساوية عليه الآن ويتخذونه أساسا لسياستهم هو القانون الذي ألفه لهم ملكهم المسمى لويز الثامن عشر (…) والكتاب المذكور الذي فيه هذا القانون يسمى الشرطة“. رفاعة الطهطاوي، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، القاهرة، دار الشروق، د.ت، ج. 2، ص. 116.
[4] بعد فشل النزعات الشمولية في أوربا القرن العشرين، والكوارث التي جرتها الحروب العالمية والإشكالات الإنسية التي طرحها التشييء المرتبط بعملية التصنيع ستتصاعد أصوات ناقدة من داخل أوربا لتدعو إلى إعادة النظر في كل المفاهيم التي شكلت في الماضي الإطار المرجعي للمركزية الأوربية، نقرأ لرائد مدرسة فرانكفورت هربرت ماركيوز “عقلانية المجتمع المعاصر وتطوره في مبدئها لا عقلانية”.
Herbert Marcuse, One Dimensional Man. Studies in the ideology of advanced industrial society, London, Routledge Classics, 2002, p. 30.
[5] Jack Goody, Le vol de l’histoire. Comment l’Europe a imposé le récit de son passé au reste du monde, Paris, Gallimard, 2010, p. 146.
[6] Jacques Le Goff, La civilisation de l’Occident médiéval, Paris, Arthaud, 1964, p. 333.
[7] Jacques Le Goff, Faut-il vraiment découper l’histoire en tranches, Paris, Editions du Seuil, 2004.
[8] Maurice Dobb, Studies in the Development of Capitalism, London, Routledge, 1950, p. 258.