بيير سينغارافيلو وسيلفان فينير، تاريخ العالم في القرن التاسع عشر، نسق الترجمة وراجعها، محمد حبيدة، مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، الدار البيضاء، 2020.
الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه، تأليف من العيار الثقيل وفق جميع المعايير، لذلك خصته الصحافة العالمة في فرنسا حين صدوره باهتمام كبير، وقامت العديد من المجلات بتقديمه وتحليل مظانه. إنه بحق أكثر من مجرد مؤلف يفصل في العديد من القضايا والمواضيع ذات الصلة بتاريخ القرن التاسع عشر، تمت معالجتها من وجهات نظر وزوايا مختلفة، ووسعت إلى الأقصى المناطق التي تطرقت لها مواده، ومن ثمة يمكن العودة إليه مرارا ومرارا، وفي كل مرة لحاجة تختلف عن سابقتها، أساسا لأنه فضلا عما يعرضه من معلومات وفق خطة عمل مدروسة وممنهجة، يستفز المساءلة، ويدعو إلى قراءات إضافية، ويدفع بالتحليل إلى الأمام، ويُقنع بجدوى تنويع المقاربات وتقليب المواضيع من زوايا متنوعة ومختلفة، وتلك لعمري من ميزات المؤلفات القيمة التي لا تشيخ، بل لا تظهر على آثار التجاعيد بفعل التقادم.
إنه حقيقة عمل ضخم، ليس سهلا بالمرة التنسيق بين ما يقارب المائة مؤرخ متخصصين في مجالاتهم، وبالطبع متنوعي القناعات والمناهج والميولات الإيديولوجية والانتماء لمدارس مختلفة. والترجمة من نفس صعوبة الكتابة الأصلية، لأنها تستوجب الانضباط لأجندة محددة، وضوابط متفق عليها، وقبل هذا وذلك، فهم المقصود، وهي عملية فضلا عن التمكن اللغوي، تستوجب إدراكا لغائية العمل مقالة مقالة، وبابا بابا، ثم العمل في مجمله.
لا بد من الإشارة إلى أن الكتاب يندرج في إطار نهج يرمي إلى تبسيط المادة التاريخية، وجعلها في متناول الجمهور العريض، وأكثر من ذلك تحبيب التاريخ للجميع بالتأكيد على أنه لا يمكن فهم الوقائع الحالية، ولا التيارات المعاصرة، ولا حتى ما نشهده من اجتياح للآلة والمعلوميات، دون الإلمام بأحداث كبرى حصلت في قرن بذاته، هو نفسه نتاج قرون خلت، ومن رحمه انبثق القرن العشرون، والذي والاه. إننا جميعا في العالمين العربي والإسلامي، والعوالم الأخرى بما فيها أمم تعتبر نفسها عريقة كما هو حال فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا، نشتكي من أزمة هوية، ونعتبر العولمة تهديدا للخصوصيات الدينية والفكرية والحضارية والأخلاقية، والحداثة هي بشكل من الأشكال، الابن الشرعي للقرن التاسع عشر.
وما يحسن التنبيه إليه بداية هو أنه من الصعب ولا المطلوب أصلا قراءة الكتاب كما تقرأ في العادة الكتب ذات الموضوع الواحد. وجب أولا الاطلاع وبتمعن (وأشدد على مسألة التمعن)، على لائحة المحتويات (ص. 941-944). وقد شدني بصحيح الباب الرابع بعنوان “العالم وأقاليمه”. إنه الباب الأخير، أي أن المفترض أن تصب فيه جميع المقالات السابقة، ويجد فيه القارئ عصارة ما قدم له من أحداث محضة، ويفصل في عديد العوالم التي حصلت على ترابها الوقائع التي يسردها كُتاب المقالات. وبفعل تراكم الوقائع وحجم التفاعل مع ما وقع في أقاليم أخرى قريبة وبعيدة، انتقلت هذه الأقاليم، مجالا وسكانا وعقليات إلى مرحلة أرقى، طبعا إذا اعتبرنا الانخراط في منطق الحداثة دليلا على التقدم نحو الأمام، ومؤشرا على التحرك في اتجاه مسيرة التاريخ. إنها العوالم التي أكسبتها حركية التاريخ كما ضبطت إيقاعاتها المقالات في فصول الأبواب الثلاثة، أبعادا تندرج فيما بات يسمى مسلسل العولمة. وفعلا يحس القارئ أن كُتاب المقالات أخذوا بعين الاعتبار ما قدمه غيرهم في تفكيك الأحداث ووسائل نشر السلطة.
وقبل الخوض في عرض بعض ما جاء في هذا الباب بالذات، ثمة أمران اثنان يحسن إثارتهما، الأول ذو صلة بالحداثة على اعتبارها الابن الشرعي للقرن التاسع عشر، والثاني منهجي مرتبط بالموقف “الفلسفي” من الحداثة في مضمونها وشكلها كما بسطت على طول المقالات.
العادة أن يقدم القرن التاسع عشر كزمن الجبروت الأوربي والحداثة في معناها الواسع والشامل، أي قرن تداعيات الثورة الفرنسية والثورة الصناعية وإنشاء المدن الكبرى بشكل جعلها مراكز مستقطبة للسكن ومحتضنا للمعالم العمرانية الكبرى، وزمنا لفرض الاستعمار خارج مجال القارة العجوز، وتمسيح مجالات واسعة في إفريقيا وآسيا، وحتى في استراليا، وكل هذا بفعل/بفضل قارة واحدة هي أوربا. وحين التفحص مليا فيما بات من قبيل المسلمات، يبدو ودون عناء أن الأمر ليس كذلك. لقد كانت أوروبا من دون شك فاعلا مهما، ولكنه ما كان لها أن تذهب بعيدا في جبروتها لولا التفاعل مع معطيات من نفس قدر الأهمية في إفريقيا وآسيا والمحيطات وأمريكا الشمالية والجنوبية. والحال وجب قلب زوايا المقاربة. لم يكن الأوروبيون وحدهم من استعمروا مناطق خارج مجالاتهم، ولا من سعى لوحده إلى نشر دينه وقيمه، ولم تنجح وسائل النقل الحديثة في توحيد المجالات، بل استمرت عمليات الكشوفات، وهمت مناطق واسعة داخل القارات. ثم إن العقليات والذهنيات ظلت على حالها متشبثة لما تظنه مؤسسا لثقافاتها الأصيلة.
وفيما يخص النقطة الثانية، لا بد من التنبيه إلى أنه على طول تحاليل العوالم أجمعها، يقف القارئ على عبارات من قبيل أحكام القيمة تؤشر على كون مستعمليها يبوحون عن قصد بما يعنونه بالحداثة والعولمة. إنهم يتفقون على أنه عوض إنتاج عالم موحد، تحصل في نهاية المطاف عالم متشردم، على شاكلة لعبة ألغاز (بوزْل). لقد تحكمت في عالم القرن التاسع عشر قاعدة الأقطاب المتعددة، مما ترتب عنه تقاطع في المؤثرات. والمحصلة أنه عوض أن يكون قرنا أوروبيا، كان بصحيح قرنا متعدد البوصلات، وقرن ظهور المقاومات العنيفة، وقرن التأسيس للقوميات الوطنية، وقرن التنافر مما أدى إلى وقوع حروب دامية في النصف الأول من القرن الموالي.
ومهما يكن فإن الباب الرابع يتناول بالتفصيل العوالم المكونة لعالم القرن التاسع عشر، كل على حدة وهي: آسيا الشرقية بمعناها الواسع، أي المحتضن للمجال الماليزي ومجالات المحيط الهادي، وعالمي الأمريكيتين اللاتينية والشمالية، وعالم إفريقيا جنوب الصحراء، وعالم أوروبا، والعالم الإسلامي، والعالم الروسي، ثم أخيرا العالم الهندي. إنه تقسيم اعتباطي كما يقر به أحد منسقي الكتاب، ولكنه يسمح بضبط ديناميات التطور الذاتي في مناطق مختلفة، وهي الديناميات ذاتها التي سمحت لكل عالم بالانخراط طوعا أو كراهية في منطق الحداثة، ولكن مع الحفاظ على الخصوصيات، ومكنها في وقت لاحق من تثبيت ما يؤسس لشخصيات تاريخية ذات جذور ثقافية وحضارية. إن في ردود الفعل ما جعل ما أريد له أن يكون عالما واحدا، عوالم مختلفة، ولكنها مترابطة، كما جعل مسلسل الحداثة على النمط الغربي، يحيد عما أريد له أصلا، أي أن يكون في اتجاه واحد، ليأخذ اتجاهات متعددة.
من بديهي الأمور أن الأقاليم العشرة المذكورة كانت قائمة قبل القرن التاسع عشر، وقبل زمن استئساد القوى الاستعمارية وإعطائها لنفسها الحق في إعادة رسم الخرائط، وتثبيت الحدود وفق مصالح ذاتية لا تأخذ إلا لماما وبشكل عرَضي بعين الاعتبار مصالح سكان هذه العوالم، ومن بينها سكان بعض مناطق العالم الأوروبي نفسه. وما تتفق في شأنه مساهمات الكتاب جميعها، هو أن دينامية التجارة العابرة للقارات، وما ترتب عنها من اختراعات مست وسائل النقل من حيث حجم الشحن وسرعة الربط، دفعت بسكان العديد من مناطق هذه العوالم إلى الانفتاح على محيطها المباشر، أي على الشعوب المجاورة، وكانت قبله لا تهتم بها إلا بالقدر القليل، إما استعلاء أو لعدم الحاجة إليها، ثم امتدادا له على العوالم البعيدة، خاصة على أوروبا. ما حصل في الصين واليابان وكوريا وجنوب شرق آسيا، هو من نفس طبيعة وحجم وتداعيات ما وقع في العالم الإسلامي، وبقدر أقل في إفريقيا جنوب الصحراء. فكما تصدُق مجازا مقولة بيرنارد لويس “اكتشاف الإسلام لأوروبا”، يمكن القول “اكتشاف آسيا للعالم”.
هل ينطبق نفس الأمر على أمريكا الشمالية والعالم الروسي؟ لا شك أنه كان للاختلاف على طرفي النقيض بين نظام يقوم على الحق الإلهي وآخر على الحرية والتسيير الجماعي، الأثر في تطور عالمين كلاهما من حجم قارة. لم يتم بلوغ مرحلة التجانس في التركيبة البشرية والوحدة السياسية في الأول إلا بقوة القهر، أما الثاني فقد استطاع المهاجرون من أغلبية أوروبية خلق دينامية دمج واندماج انبنَتْ أساسا على قوة الحركية الاقتصادية.
ومن الناحية، فإن جميع عمليات اكتشاف العوالم لبعضها وإدماجها في حركية واحدة بنسب مختلفة، تمت بشكل أو بآخر تحت ضغط التدخل الأوروبي. فبعد مرحلة أولى انطلقت من الموانئ، واعتمدت أساسا على مبادلة السلع المصنعة بمنتجات محلية، جاء دور استعمال السلاح وفوهات المدافع، وبعدها شراء الأراضي والاستقرار بها، ثم تنصيب ممثلين دبلوماسيين ما فتئوا أن ضموا إليهم عملاء من أهل البلاد رُقي بعضهم إلى محميين وآخرون إلى مخالطين، ثم جاء دور تسريب الأفكار والقيم وأنماط العيش والملبس وظواهر أخرى أُلبست بشتى المصوغات الفلسفية والأخلاقية والقانونية ليكون لها الأثر على أهل البلد، فكان لها مجتمعة ومترادفة نصيب في تمهيد الطريق لمنطق الاستلاب. لم يؤد المسلسل بطبيعة الحال إلى ردم هوة الاختلافات بين العوالم، ذلك أن بعضها ظل على حاله القديم، ولكنه بشكل يكاد يكون طبيعيا، وُسع من سعة ما هو مشترك، أو على الأقل ما يمكن الاتفاق عليه تحت وطأة ما تفرضه الحاجة المتزايدة ليس فقط للسلع، وإنما كذلك لما يؤسس معرفيا لمعرفة الذات من خلال معرفة الآخر. ما كان للنخب أن تبقى وإن شاءت سلبية ومنغلقة. وجب عليها والحال الانفتاح، وفي انفتاحها سقطت في فخاخ ما لم يكن بوسعها أصلا أن تدرك درجة ما يمارسه من قوة جذب. والشعوب كما هو معلوم على دين نخبها.
بدأت العملية في اليابان كما في الصين وكوريا وماليزيا والمجال المجاور للأخيرة، ووفق نفس السيناريو تقريبا في مجال الدولة العثمانية لاسيما في المنطقة التي أطلقت عليها في نهاية القرن تسمية “المجال العربي”. وفي جميع هذه العوالم، حصلت أولا هزيمة عسكرية ضد أسطول أوربي، ودشن الحدث لعملية نقد الذات استنفرت قوى كانت كامنة انتصبت فئة منها تدعو للانغلاق باسم التقاليد والوفاء للأجداد، وأخرى تدعو إلى الانخراط في منطق الإصلاح، ويعني عمليا أخذ القوى المنتصرة كنماذج يُقتدى بها لاكتساب القوة الذاتية لتحقيق غرضين أساسين متلازمين هما، أولا الوقوف في وجه الأطماع الخارجية، وثانيا الاستقواء في الداخل. وعمليا، غلب الثاني على الأول، وما نجحت الأنظمة القائمة في صد التوسع الأجنبي، ولكن الرعايا أذيقوا ويلات القهر والقمع واستفحال الكُلف من ضرائب وسخرة. فكما وقعت ثورات شعبية وإقليمية آذنت بنهاية عهد في عوالم آسيا، تعرضت الإمبراطورية العثمانية لنهش أفقدها مجالاتها الحيوية في البلقان، ثم انتشرت تدريجيا من الداخل أفكار الحداثة في المنطقة العربية. وإذا عرف عالم إفريقيا جنوب الصحراء عطلا في مسيرة انبثاق النخب المحلية لأسباب بنيوية ذاتية فصل فيها المقال المخصص لهذا المجال، فإنه في أمريكا اللاتينية بالنظر لتوافر أسباب كثيرة، بعضها بنيوي والآخر من صميم الدين والثقافة الرائدة، فإن حركات التحرير القُطرية صنعت عالما جديدا انبثق من رحم العنف العسكري، وحافظ على العديد من مميزاته إلى حد الآن.
لنركز أكثر في تحليلنا لأسباب ذاتية على عالم “الإمبراطورية العثمانية والملكيات العربية والإسلامية”. وما يثير بحق في المقال المخصص له، هو المقاربة غير المتداولة للموضوع. آثر مارك أيمس مقاربة أصيلة بناء على مسارات شخصيات بعينها في علاقاتها مع المجتمعات التي تعيش فيها، والسلطة التي تدبر المجال، والنظرة للآخر الأجنبي. وإن جمع بين الشخصيات المختارة عامل مشترك هو التنقل، فإن كل واحد أخذ منحى خاص طبع نظرته للأنا والآخر. والمحصلة أن القرن التاسع عشر كان بحق قرنا طويلا بالنسبة للأفراد والجماعات، فانقلبت رأسا على عقب معطيات كانت مترسخة لقرون؛ وفي العديد من المجالات، اختُلقت أوضاع جديدة بفعل المدفعية، وبفعل ما مارسه الفكر المستورد من أثر على العقليات. فلا عجب إذن أن استأنست بعض النخب بفضائل التدخل الأجنبي إلى حد مناشدة القوى الغربية بالتدخل بشكل أو بآخر. إن في سرد الباحث لمسارات أشخاص بعضهم مغمور زمنه وظل كذلك، تبيان لطول المسافة بين نقطة البداية وما تم قطعه في عقود معدودة قطعت مع فكر دام لقرون عديدة. ولم يقتصر التغيير على البنيات الاجتماعية والاقتصادية، بل سرى أثره بسرعة فبات ممكنا الحديث عن زمن قديم وآخر جديد يتماهى مع قيم مستوردة، ولكنها تحمل ما يؤهلها لتفرض نفسها حتى ولو ألبست لبوسا مشرقية. تلك حالة جمال الدين الأفغاني وعبد الرشيد إبراهيم.
ومهما يكن، فإن بدت في الظاهر عوالم من اختراع أوروبا، لأن الأخيرة هي التي اعتمدت التقسيم حين رسمها لخرائط الاستعمار ومناطق النفوذ، فإن هذه العوالم في وقت لاحق، خاصة خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، أنتجت نخبا من رحمها عملت من مواقع مختلفة على الانتفاضة ضد ما هو مسَطر لمجالاتها انطلاقا من عواصم تعتبر أن لها الجبروت العسكري والقوة الاقتصادية والسداد الفكري، ما يؤهلها لتقسيم العالم وفق مصالحها، ومصالحها لوحدها. إن في ردود الأفعال ما جعل ما أريد له أن يكون عالما واحدا، عوالم مختلفة ولكن مترابطة، كما جعل مسلسل التشبه بالغرب، يحيد عما أريد له، أي عالما في اتجاه واحد، ليأخذ اتجاهات متعددة.
وما يثير القارئ في الدراسة التي حللت عوالم القرن التاسع عشر، هو ما ينبعث من انطباع في كون المؤرخين أصحاب المقالات، رسموا لأنفسهم جملة من خطوط البعد التاريخي التزموا بعدم القفز عليها، مما أكسب الاجتهادات صفة موضوعية من الصعب التشكيك فيها. والمشكل الذي يطرح نفسه بقوة، هو: هل بإمكان القارئ التخلص من الترسبات العميقة ذات الصلة بالموقف من الامبريالية والاستعمار والاستلاب ومجمل المفاهيم التي تجعل مشروع التخلص من عقدة الاستعمار أمرا صعبا، بل مستحيلا، ونعني هنا مشروع تخليص التاريخ من النظرة الاستعمارية؟ ثم إن مجرد القول بوجود عوالم مختلفة، هو إقرار بحتمية التنافر والصدام، لذلك فمن الصعب قراءة المقالات بتجرد مما لصق في الأذهان جراء الترويج الواسع لنظرية صدام الحضارات لصامويل هنتغتون، حتى وإن افترضنا أن التقسيم المعتمد في الكتاب لم يتم على أسس دينية وثقافية، بل تم على أسس جغرافية.
ومهما يكن من أمر، يستوجب التنبيه إلى أمر على قدر عال من الأهمية شدد عليه منسِّقا الكتاب، ويقف القارئ على العديد من معالمه في المواد المقدَّمة. أولا وقبل كل شيء، إن الكتاب في مجمله محاولة جادة للانفلات من إكراهات النزعة المركزية الأوروبية في كتابة التاريخ. ماذا يعني هذا عمليا؟
لا بد أن أقر بأن محمد حبيدة، واضع مقدمة الترجمة العربية، أسدى خدمة جليلة من صميم مهمته كمنسق للترجمة، لأنه منذ البداية يضع القارئ في الإطارات العامة، ويرشد مسارات القراءة، بل إنه دون قصد، يرسم خطها العريض، وهو خط يمكن اختزاله في لفظ/مفهوم “العولمة” كنتيجة منطقية للحداثة والتحديث، ونشر قيم بذاتها. يفهم القارئ منذ البداية أنه في خضم دينامية التاريخ العالمي، ويسمى كذلك بالتاريخ المقارَن، وكذلك التاريخ المترابط، مما يعني أن السرد التاريخي لا ينطلق من نقطة أو منطقة تعتبر نفسها مركزية، ويعتبرها الآخرون كذلك، وهي في الغالب أوروبا القارة العجوز والقلب النابض للكون، وهو على كل حال ما اعتاد المؤرخون الأوروبيون على القيام به، ولكنه سرد يقوم على فكرة كون العديد من الفاعلين والمناطق تفاعلوا بأشكال مختلفة وبأسهم متفاوتة في الدفع بدينامية، أو بالأحرى بديناميات مترابطة، سمتُها الرئيسة التشابك والتعقيد، ليصنعوا جميعا تاريخا كانت الغلبة فيه لجهة بعينها، ووجب على الأطراف الأخرى التفاعل من مواقع أضعف مع مالكي وسائل الضغط والإكراه، وهو إكراه مادي أساسا، ولكنه تجاوز القوة المادية، العسكرية والاقتصادية، ليبلغ مراتب نشر القيم. ففي بداية القرن التاسع عشر، كان الغالب هو أن تفكر كل جماعة انطلاقا من نفسها، وتظن أنه بإمكانها العيش في استقلالية متحكمة في مصيرها، ولكنه في نهاية القرن نفسه وبداية القرن الموالي، وجب على الجماعات التفكير في أخذ متغيرات عديدة بعين الاعتبار، كثيرها لا تتحكم فيه، وأدركت أغلب الجماعات أن حاضرها ومستقبلها مرتبط بجهات أخرى، وأنها لا تتحكم بالضرورة في مصيرها كما تريده هي كما لو كانت تعيش في انفصال عن غيرها.
نفهم عبر مواد الكتاب أن القرن التاسع عشر لم يكن على وتيرة واحدة، ويمكن الحديث عن قرون عديدة داخل القرن عينه، وإن شئنا وضعنا خطا فاصلا عريضا بين حقبتين كبيرتين، فثمة قرن تاسع عشر أول، ثم قرن تاسع عشر ثاني، والأخير بطيعة الحال أكثر تسارعا وحركية، ومليء بالأحداث الكبرى، بعضها من قيمة المنعطف.
وثمة مسألة ثانية لا بد من التأكيد عليها، وهي تعدد المؤلفين المتخصصين؛ وفي التعدد أكثر من تعدد الأشخاص، لأنه في واقع الأمر تعدد في المقاربات وزوايا المقارعة، ولكن الجميع، أشخاصا ومقالات، يصبون في مقاربة مشتركة تجعل القارئ ملما بالمحاور الكبرى التي بُني عليها ما دأب المؤرخون على نعته بالقرن التاسع عشر الطويل. لقد وجب على زميلنا دانييل نوردمان حين الحديث عن واقعة المروحة وما استنفرته من تجييش وحصار أدى إلى احتلال الجزائر (ص. 329-332)، الاعتبار بما قدم للواقعة في البابين الأول والثاني، وجميعها تتحدث عن انطلاق حركة الاستعمار واتساع رقعة التجارة العالمية، بدليل تخصيصه لفقرة تفصل في النقاشات الدبلوماسية الدولية وردود الأفعال من “إسطنبول، وسان بيترسبورغ، وكوبنهاغن، وطنجة، وتونس العاصمة…”. والحال أن القارئ يقف في مجمل المقالات على ما يدل على أن جميع كتاب المقالات متفقون على ما هو أساسي من صميم دينامية القرن المدروس، وهي الترابط في المصائر، والشعور بأن فوز طرف ما وحيازته لمكسب ترابي أو حتى رمزي، هو بالضرورة خسارة للأطراف الأخرى، وأن الخطر حتى ولو كان مكان وقوعه بعيد، لا بد وأن يؤثر بشكل من الأشكال على المنظومة برمتها، وعلى كل طرف على حدة.
إن الكتاب يقر وفي الآن نفسه يشكك في مقولة أضحت من قبيل المسلمات، وهي كون القرن التاسع عشر عصر الحداثة بامتياز، أساسا لأن مفهوم الحداثة ارتبط به، وبأحداث ووقائع وتطورات واختراعات واكتشافات عصفت بالتوازنات في مناطق المعمور، كما كان لها الأثر المباشر على العقليات والنظرة للأنا وللآخرين، وجراءها أقحمت “شعوب وقبائل” في دوامة الامبريالية والاستعمار والتصنيع والسوق المفتوحة والتجارة العابرة للقارات. إنه اعتقاد شائع. ولكن السؤال هو: هل الأمر صحيح حقا؟ تسعى المقالات في مجملها إلى توضيح أن الأمر غير ذلك، أو على الأقل ليس بالمركزية المطلقة التي تدعيها أوروبا في حكيها لتاريخ القرن التاسع عشر.
لقد آمنت بالحداثة واعتقد في فضائلها وقيمها شرائح عريضة من المجتمعات الأوروبية، ولكن غالبية شعوب القارة العجوز أنفسهم، لم يدركوا لا كنهها ولا واقعها. أما خارج أوروبا، وحتى في أمريكا الشمالية، فلم يندرج في منطق الحداثة على النمط الأوروبي إلا من كانوا على اتصال مباشر بالتجار، وهم قلة قليلة. إن القارئ المتمعن لمواد الكتاب، خاصة بايبه الأول والثاني، يقف على أنه في مقابل الحداثة، انبرت تيارات لا تعزها قوة الاستقطاب، ابتغت نصرة الخصوصيات، وعمدت إلى الانغلاق لصد كل وافد. هل يعني هذا بروز حداثات خارج أوربا؟ سؤال يبقى مفتوحا.
وقبل الختم، إذا كان لا بد من التماهي مع المقولة المغربية “حْتى زين ما خْطاتو لُولة”، نذكر من حيث الشكل غياب الإحالات في أسفل الصفحات، وهي كما هو متفق عليه مادة معضدة للنص ومكملة له. وكون الغالبية الكبرى من المساهمين فرنسيين، ليس فقط الجنسية بل المنازع الفلسفية والإيديولوجية والانتماء للمدارس التاريخية. والأمر ليس عيبا في حد ذاته، ولكن الرغبة في الانفلات من النزعة الفرنسية المركزية كانت تستوجب التنويع، وإعطاء الكلمة لمؤرخين من المناطق التي انصب عليها الاهتمام، من ذلك مؤرخون من المغارب، والدول الوريثة للإمبراطورية العثمانية، ودول غرب إفريقيا ووسطها، ومؤرخون من القارة الأسيوية.
اسمحوا لي في نهاية هذا العرض التنبيه إلى قيمة الكتب من قبيل هذا الذي نحن نقدم له الآن.
عندما كنت طالبا في فرنسا، شد انتباهي كون طلبة المدارس الكبرى، ومن يهيئون شهادات رفيعة مثل التبريز، ومن يستعدون لاجتياز المباريات المهنية، يتمتعون في غالبتهم بقدرات ومهارات في فنون السجال والتحليل والتخريج تأسيسا على كم متواضع، بل أحيانا هزيل من المعلومات والمعطيات والإحصائيات. ولأني ممن يؤمنون بأن المهارات تكتسب، تساءلت كثيرا عن أسباب تميز هؤلاء الطلبة. ومن بين ما وقفت عليه، اعتمادهم في مرحلة أولى على الكتب الجامعية الموجهة أساسا للتكوين قصد اجتياز المباريات، وهي في الغالب كتب من إخراج جميل خطا وصورا وبيانات وإحصائيات ونصوصا مساعدة، ومهيكلة وفق خطة عمل مدروسة ومؤسس لها توضح بالملموس الخطوط المتحكمة في العرض والسرد، ويُشدد في مقدماتها على توضيح ما يتحكم في استعراض المعلومات من سياقات تاريخية وسياسية واقتصادية وفكرية، وما إلى ذلك من العوامل المترابطة والفاعلة. وفي الغالب يقوم على هذه المؤلفات مفتشون وأساتذة من ذوي التكوين البيداغوجي يدرسون في الثانويات الراقية والجامعات والمدارس الكبرى، وتصدر في شكل سلسة مسترسلة ومتجددة، منها سلسلة بورداس، وماسّون… وتبين لي في وقت لاحق أن إحدى مكامن الخلل في التكوين الجامعي في المغرب هو غياب ثقافة مؤلفات الاستئناس، وأعني بها بالضبط هذا النوع من المؤلفات المهيكلة بشكل منهجي، وتكون في الغالب وبالضرورة جميلة في الإخراج، وتحمل عناوين عريضة رئيسية وأخرى فرعية، وتتخللها نصوص وخرائط وصور وبيانات، ولها هوامش عريضة تسمح بالكتابة والتعليق والرسم ووضع علامات… إن العقل البشري يتماهى أكثر مع ما هو مفصل وملون. لهذا أضم صوتي لأصوات من ينادون بتأليف ونشر مؤلفات تركيبية تتسم بالجمالية في الإخراج، والانسيابية في العرض، والسهولة في القراءة.
وخالص القول إن الكتاب في مجمله مفيد للقراء على اختلاف مجالات اهتماماتهم، وأكثر إفادة للطلبة والأساتذة، أساسا لأنه يوفر خلاصات قصيرة ومركزة، ويطرح الكثير من القضايا بربطها بسياقاتها، كما يفرض علينا نحن يتامى المركزية الأوروبية، خاصة شطرها الفرنسي، الانفتاح على عوالم أخرى.