تقديم
في كتابه الجديد “محن الحياة. كيف نفهم الفرنسيين بصورة مختلفة” الصادر مؤخرا، يدعو المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي بيير روزانفالون إلى إعطاء أهمية خاصة لتحليل العواطف والمشاعر الإنسانية من أجل فهم التحولات التي يعرفها المجتمع الفرنسي والتي ترتبط، برأيه، بتحولات مجتمعية عالمية. يقول أستاذ كوليج دو فرانس في مقدمة هذا الكتاب: “استطلاعات الرأي لم تحك لنا عن الحياة الحقيقية للفرنسيين. الاستطلاعات قامت بتوثيق جيد لإعادة تنظيم الانقسامات السياسية في ظل صعود الشعبوية وظهور مناخ عام لعدم الثقة، لكنها لم تقم بتفكيك شيفرة الصندوق الأسود لانتظارات ومشاعر الغضب والخوف التي ينبني عليها هذا المناخ. هذه المحاولة تقترح أدوات لفتح ولفك شيفرة هذا الصندوق الأسود”. (1)
في هذا الكتاب يقدم روزانفالون “قراءة فريدة لعلاقة الفرنسيين بالسياسة «حسب وصف جريدة “لوموند”. يحلل تحولات أدوار النقابات والأحزاب ومظاهرات أصحاب السترات الصفراء التي أثارت اهتمامه وتفكيره في هذا الكتاب. وهو يرى أن ظاهرة أصحاب السترات الصفراء ليست حركة بل هي “ردود أفعال” مرتبطة بالمشاعر والأحاسيس. ويؤكد على أدوار السياسيين والعلماء والقوانين لمعالجة هذه التحولات المجتمعية.
نص الحوار (2)
سؤال: حسب ما جاء في كتابك، فإن المصالح لم تعد وحدها هي ما يحرك المواطنين، ولكن هناك أيضا المشاعر مثل الخوف، والشعور بالتحقير أو ب”التغييب” … هل أصبحت أدوات التحليل التقليدية مثل الإحصاء والاقتصاد القياسي، أدوات عفا عنها الزمن لفهم المجتمع؟
جواب: هذه الأدوات تبقى ذات قيمة لإجراء تحليل موضوعي للاقتصاد والمجتمع في ما يخص عدم المساواة، وظروف العمل، وبنية الشغل، وكيفية تكوين الربح … لكنها أدوات لها محدوديتها. فهي لا تسمح بفهم الحوافز والدوافع. والمؤرخون يعرفون جيدا أننا إذا أردنا أن نفهم الثورات أو الحركات الاجتماعية، فإن إحصائيات الأجور أو عدم المساواة ليست كافية. والأحداث الأخيرة تبين أننا نحتاج اليوم إلى فهم ذاتي للوقائع الاجتماعية.
إن حيرة الاقتصاديين وعلماء الاجتماع أمام أصحاب “السترات الصفراء” هو ما جعلني أطرح التساؤلات. من الواضح أنه لفهم سبب ظهورهم المفاجئ، لا تكفي المتغيرات الموضوعية مثل الأجور أو الارتباط والتعلق بالأرض والمنطقة. إن ما دفعهم إلى الخروج إلى الشارع هو، قبل كل شيء، شعور عميق بالاحتقار من قبل من هم في الأعلى، أي أولئك الذين يتحدثون لغة أخرى تختلف عن لغتهم والذين لا يفهمونهم. ومن هنا جاءت الكراهية العميقة أيضا التي عبروا عنها ضد الرئيس ماكرون. إن الصراع الطبقي، حسب المنظور التقليدي، هو ذلك الذي يتصارع داخله أرباب العمل مع العمال؛ لكننا كنا، في هذه الحالة، أمام وضعية مختلفة. بحيث إنه كانت هناك نداءات لتنظيم مسيرات في اتجاه قصر الإليزيه، لكن لم يفكر أي أحد في مهاجمة مقر رجال الأعمال. بل الملاحظ هو أنه كان يوجد في أوساط “السترات الصفراء” بعض المقاولين الصغار والمقاولين الذاتيين …
إن ما أدى إلى إثارة هذه الحركة، إذا جاز أن نسميها حركة، هو أنها جاءت كرد فعل على ضريبة البنزين، وهو يشبه رد الفعل على قرار تخفيض السرعة إلى 80 كم / ساعة في الطرق. وفي كلتا الحالتين، كان لدى الكثير من الناس إحساس بأن هناك سلطة تتخذ القرارات بالنظر فقط إلى الأرقام العامة، وليس بالنظر إلى وضعهم الخاص. فهم كانوا يرفعون شعارات تقول: “سيارتي هي حياتي” إلا أنهم كانوا يشعرون بأنه لا أحد ينصت إليهم.
هل يمكن تحليل الحركة المعارضة لإصلاح أنظمة التقاعد على أنها دفاع كلاسيكي عن المصالح؟
لا أوافق على ذلك. في البداية، كانت هذه الحركة تبدو، بالفعل، متوافقة تماما مع التعريف التقليدي للصراع الاجتماعي. حيث كان هنالك مشروع خطة مكتملة أدت إلى التراجع في امتيازات العمال المستفيدين من أنظمة تقاعد خاصة، فاعتبر هؤلاء العمال أن هذا التراجع أمر لا يطاق. لكن، إذا كانت حركة المتقاعدين هاته قد أصبحت كبيرة، فإنها لم تأت لتكمل ردة الفعل الأولى ضد ذلك التراجع. فتزايد قوة الحركة كان يعكس موجة شك عامة حول قيمة معاشات التقاعد في المستقبل. فهي مثل “السترات الصفراء” حركة تختلف اختلافًا عميقًا عن الحركات الاجتماعية الكلاسيكية في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. فهي لا علاقة لها مثلا بما حدث في 1995: كنا في ذلك التاريخ ما نزال نعيش في ظل الصراع التقليدي الكبير بين النقابات وأرباب العمل والحكومة.
الملاحظ هو أنك تضع مفهوم “المحنة” في قلب تحليلاتك. ماذا تقصد بذلك؟
إن ما تم التعبير عنه خلال هاتين الحركتين (المتقاعدون والسترات الصفراء) كان بمثابة تعبير عن عواطف قوية جدا لها أشكال مختلفة وهي: الضغينة والغضب، والخوف من المستقبل. وبالتالي كنا إزاء أرضية تختلف عن أرضية المصالح، وهذا ما يميز الظاهرة المعاصرة الكبرى. هناك بالطبع، اختلافات في المصالح، وهناك استمرارية للصراع الطبقي، لكنها ليست هي الخيط الرابط الوحيد للواقع الاجتماعي. فالصراع يتم التعبير عنه أيضًا في مجال آخر هو مجال العواطف التي تنبع في حد ذاتها من الإحساس بعيش محن صعبة جدا. وهذه المحن قد تكون وجودية: لماذا نتحدث، مثلا، أكثر فأكثر عن التحرش الجنسي وعن سفاح القربى والعنف الجنسي والسيطرة؟ الجواب هو أن تعريف “الذات” لم يعد يأتي فقط من ملاحظة الواقع المادي، ولكن من خلال تحليل مجموعة كاملة من العلاقات الاجتماعية التي يُنظر إليها على أنها مدمرة لشخصية الفرد. لقد اقترحت في الكتاب أداة مفاهيمية من أجل فهم هذا التحول الحاصل في مجالات الصراع. حيث أميز بين المحن الوجودية، ومحن الازدراء، ومحن الظلم … كما أن هناك صراعات مرتبطة بالخوف من المستقبل، ومن مظاهر التمييز… لقد تطورت الصراعات على الخصوص نظرا لبروز إحساس باتحاد الأشخاص وهو ما أظهرته بشكل جيد حركة “أنا أيضا # MeToo” المناهضة للتحرش الجنسي. أصبح كل شخص يعتقد أنه يساوي قيمة معينة بالنسبة لنفسه ولشخصه، وأنه ليس مجرد رقم. وهذا تطور إيجابي للفردانية.
هل هو تطور إيجابي؟
نعم، لأننا نخطئ عندما نقيم معارضة بين الفرد والجماعة. فنحن نشهد حاليًا إعادة تعريف لهذين المفهومين. ما أسميه “فردانية التفرد” لا يحيل إلى تقلص وضيق الرؤية إلى العالم، وإلى الاستغراق في الذات، والأنانية، وتفتيت المجتمع. إنه تعميق للفردانية التي أصبحت تعاش كحق، وهي مسألة أساسية: إذا كانت حقوق الإنسان مهمة جدًا، فلأنها تظهر كرافعة لنزاهة الشخص. اليوم، صار كل شخص يريد أن يتم الاعتراف به في نفس الوقت كشخص وأيضا مثل أيها الناس: أي أنني أريد أن أحظى بالاحترام كشخص متميز، وفي نفس الآن، بغض النظر عن أصلي، أريد أن أكون مثل أي شخص آخر. وهذا تطور كبير: قبل خمسين عامًا، كان يتم تحديد الفرد فقط من خلال كونيته: أي أننا كنا نتقدم ونتطور من خلال كوننا “أي شخص”، أما اليوم، فلم تعد الجماعات تُبنى فقط حسب نمط الهوية: الجماعات الجديدة للمحن أصبحت تعبر عن قواسم مشتركة أكثر إلحاحًا ووجودية.
هذه المحن كانت دائما موجودة. والجديد فيها هو التعبير عن المعاناة التي تسببها، لماذا اتسع نطاق هذا التعبير بشكل كبير؟
لقد كان هناك دائما ازدراء اجتماعي. لكن الناس على مستوى أسفل السلم الاجتماعي، كانوا يقومون ببناء شعور وإحساس بالفخر من خلال تنظيماتهم الجماعية. وكانت فكرة الطبقة العاملة، كما استخدمتها النقابات والأحزاب، آلة لإنتاج ليس فقط ما هو مشترك بين الناس ولكن أيضا وسيلة للإحساس بالفخر. وهو ما كان ظاهرا جدًا في العالم الشيوعي، فالعامل كان يشعر بالفخر، وكان هناك اعتراف بالعمل، بل أكثر من ذلك كان يقال: “المستقبل سيكون لنا”. كان هناك اعتقاد بأننا رعايا تاريخيين: المستقبل كان لنا وليس لغيرنا! كنا نعيش في عالم للطبقة العاملة يمتلك هو نفسه نخبا خاصة به. كان هناك مثلا إحساس بالفخر بوجود شخصيات ومفكرين مثل لانجوفان، وبيكاسو، وأراغون يقفون إلى جانب هذه الطبقة. لكن هذا الفخر الطبقي تم تدميره، وأصبح هناك شعور قوي وأكثر حدة بالاحتقار. وفي نفس الوقت، ازدادت حدة الحساسية تجاه مظاهر التمييز. فالعمال الجزائريون في الخمسينيات كانوا يحنون رؤوسهم. لكن لم يعد الأمر كذلك اليوم مع أبنائهم الفرنسيين الذين صاروا مواطنين كاملي المواطنة يعتبرون أن سوء معاملتهم من قبل الشرطة أو الحط من قيمتهم هي قضية تثير الغضب والتمرد. فيحسون بوجود خلل في الروابط الاجتماعية، وبمس بإحدى مبادئ الجمهورية التي تنص على أننا نعيش في “مجتمع المساواة”.
هناك مظاهر احتقار، وتمييز، وتغييب … هل السياسة عمياء فعلا وإلى هذه الدرجة أمام هذه الظواهر؟
لقد ظلت لغة السياسة غير مكترثة بهذه التطورات، باستثناء الأحزاب الشعبوية التي تبنت موقعها كقائدة ومنسقة للمخاوف ولمظاهر الغضب، حيث فهمت أن الانفعالات والعواطف لها نفس أهمية المصالح. لقد تم التنظير لأهمية العواطف من قبل شانطال موف، وإرنيستو لاكلاو [وهما باحثان ما بعد ماركسيان]، وأيضًا من قبل حزب “حركة المتمردين” التي خصص زعيمها جون لوك ميلونشون عدة فصول من مؤلفاته لهذه القضية. أما حزب التجمع الوطني فلم يقم بأي تنظير، لكن من الواضح أن مراعاة العواطف حاضرة أيضًا عنده. فهذا الحزب هو “مستثمر قوي للعواطف”. إلا أنه استغل جانبها السلبي فقط بدون أن يربطها بمشروع حقيقي للتحرر. أما عند إيمانويل ماكرون، فنلاحظ عكس ذلك تقريبًا: فهو يجسد مشروع العودة إلى العقلانية الاجتماعية المحضة. وإحدى عباراته الرئيسية هي: “دعوني أشرح لكم”. فهو يجسد فكرة أن السخط والصراع لا يمكن أن يكون إلا نتيجة لفهم معكوس للواقع الاجتماعي. ونحن هنا نمس العمق البعيد للنظرية الماكرونية. وسيكون من الخطإ أن نرى فيها فقط شكلًا من أشكال الليبرالية الاجتماعية التي قد تكون تحولت إلى نيوليبرالية كلاسيكية. فالحقيقة الأساسية ليست كذلك: إنها ثقافة العقلانية الحاكمة والحسابات الخالصة للمصالح المادية.
هل هي ثقافة تقنوقراطية؟
إنها تتضمن بالطبع بعدًا تقنوقراطيًا، لكنها تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. إنها فلسفة للسلطة وللمجتمع. ولهذا السبب لم يفهم ماكرون حركة “السترات الصفراء” ولا الحركة المناهضة لإصلاح نظام التقاعد. كانت خطة التقاعد بناء على النقاط، كمشروع على الورق، خطة يمكن الدفاع عنها تمامًا. والحقيقة هي أن مصدر إلهامها الأول كان هو معهد السياسات العمومية وكلية باريس للاقتصاد.
أي أن مصدر إلهامها هما: أنطوان بوزيو وطوماس بيكيتي …
نعم بالفعل. لكن تحويل الخطة وتطبيقها على أرض الواقع عرف انحرافا، حيث أثارت شكوكا متزايدة، فانتهى الأمر إلى إعدام هذا المشروع. إن الفكرة القائلة بأننا يمكن أن نحكم المجتمع من خلال تطبيق نماذج نظرية بدون الاشتغال على شروط تنفيذها، هي مجرد وهم.
هل كان تطبيق هذه النماذج أسهل في الماضي؟
هناك فرق كبير. في الماضي كانت تجري مفاوضات حول الإصلاحات الهيكلية الرئيسية مع نقابات أقوى مما هي عليه الحال اليوم. لقد كانت هناك فعلا مشاورات حول إصلاح نظام التقاعد، لكنها كانت مشاورات ذات طبيعة عامة: فهي لم تتناول جانب التنفيذ الملموس للمشروع. والأهم من ذلك هو أن النقابات اليوم هي أضعف من السابق. لكن ما هي النقابة؟ إنها قوة للوساطة تنتج شيئًا مشتركًا، كما أنها بمثابة رابط يجمع بين المشاعر الشخصية والحقائق الجماعية. في الماضي، كانت تتم غربلة الإصلاحات العامة من خلال هذه البيداغوجية النقابية التي كانت أساسية. وهو ما لم يعد يحدث اليوم.
لماذا لم تتنبه الطبقة السياسية، باستثناء الأحزاب الشعبوية إلى ظهور هذه التحولات؟
ليست هي الوحيدة التي لم تنتبه إلى ذلك. أدوات المعرفة بدورها ساهمت في هذا الجهل. لقد لاحظنا مثلا أن طبيعة الفقر تغيرت. وقد بدأنا منذ فترة قصيرة جدًا فقط، نأخذ بعين الاعتبار “الفقر الشخصي”، ونلاحظ أن التخوف من الوضعية هو بنفس أهمية الوضعية نفسها.
بمعنى أن التخوف من النزول الطبقي لا يقل أهمية عن هذا النزول في حد ذاته …
جواب: تماما! لقد كان كتاب إريك مورين “النزول الطبقي” (3) الذي سبق أن قمنا بنشره، مؤلفا رائدا في هذا المجال، لأنه أظهر لنا لماذا يمكن أن تكون هناك فجوة كبيرة بين موضوعية الظواهر وبين إدراكنا لها. كما أن بروز أصحاب “السترات الصفراء” كان عبارة عن مجموعة من ردود الفعل الذاتية أكثر منه “حركة”. إنها ظاهرة اجتماعية واسعة النطاق لكن من الصعب تفكيك شفرتها، لأن طبيعتها تغيرت. إذ إنه في ظل تجمعات أصحاب “السترات الصفراء” في ملتقيات الطرق، وتجمعاتهم المنظمة داخل المدن، قام العديد من الفاعلين باستغلال الفرصة ل”بيع بضاعتهم”: اليمين المتطرف، واليسار المتطرف، والنشطاء… بحيث أصبح من الصعب قراءة وتحليل هذه الظاهرة. لكننا أصبحنا على الأقل ندرك من خلالها أن العواطف تحكم المجتمعات مثلها مثل المصالح. وستبقى هذه الظاهرة لحظة مهمة في التاريخ الاجتماعي.
هل هذا التحول يتجاوز حدود فرنسا؟
نعم، إن المحن صارت مرتبطة بجميع أنواع البشر. فإذا نحن أخذنا لغة الثورات العربية، نلاحظ أنها كانت لغة تتحدث عن الكرامة والاحترام والإذلال … ولم تكن تتحدث عن النضال ضد الرأسمالية أو القوة الشرائية. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، تتحدث بعض الحركات بمصطلحات مماثلة جدا مثل حركة “حياة السود مهمة” black lives matter . إنها ظاهرة عالمية بالفعل.
هل نحن أمام إيديولوجية جديدة تتشكل حول هذه المفاهيم؟
يمكن أن يشكل فهم هذا الواقع الاجتماعي الجديد أرضية خصبة لثقافة سياسية جديدة. ففي مواجهة تجارب ومحن الازدراء والظلم يمكن أن تتطور سياسة تنبني على الكرامة والاعتراف. وعندها ينبغي ربما، عكس المنظور التقنوقراطي، إعادة دمج القانون في الواقع المحلي والاجتماعي. أي التخلي عن استغلال الخوف كما تفعل بعض الأحزاب الرجعية، والقيام عكس ذلك، بتطوير استراتيجية للحد من الشك … كان توماس هوبز يعرف الدولة بأنها هي “من يحد من الشكوك”: وهو أيضًا دور العمل الفكري. وهناك جهود تبذل في هذا الاتجاه. وإذا أخذنا مثلا موضوع المناخ: قبيل الصيف الماضي، حاولت هيئة الخبراء الحكوميين الدولية المعنية بتغير المناخ في تقرير جديد أن “تبني” الشكوك من أجل توفير إطار يسمح بجعل آثار العمل العمومي مفهومة وواضحة.
ألا يأتي الشك أيضا نتيجة تدهور سلطة العديد من الفاعلين مثل العالم، والقائد السياسي، والقائد النقابي؟
هناك تراجع لمفهوم السلطة لسببين. الأول هو أن الشعور ب “بداهة” المعرفة قد اختفى. ففي الماضي، كان الباحثون أو العلماء وحدهم من ينتج المعرفة. أما اليوم، ومع الانتشار الكبير للمعلومات، أصبح الأفراد يدعون بأنهم ينتجون المعرفة بأنفسهم. وهو ما يبدأ فعلا مع الصحة الشخصية مثلا: لم يعد هناك اعتماد على ما يقوله لنا الطبيب، بل إننا نبحث في الإنترنت عما يسمح لنا بأن نجري بأنفسنا تشخيصنا للمرض. لكن الأهم من ذلك هو وجود تصور بأن المعرفة أصبحت مجالا يتخلله ويعبره الصراع، وأنها أصبحت حقلاً أساسياً للنضال الاجتماعي: نضال بين الأقوياء والضعفاء، بين الحكام والرعايا. وإذا أردنا تغيير هذا الوضع، ينبغي أن نجعل المعرفة أقل عجرفة وغطرسة. ويجب أن تتوافق المعرفة مع ممارسة الشك ومع التواضع. كما يجب أن نزيل طابع القداسة عن العالم (بكسر اللام). ينبغي أن نكشف واقع الممارسة العلمية حتى يتمكن الجميع من فهمها، بدلا من أن يتم الشك في أن هذه الممارسة تتلاعب بها جماعات الضغط التابعة لشركات البترول أو الدواء أو غيرها.
كان بإمكان الصراع بشكله القديم الذي تتواجه داخله المصالح أن يكون خصبا: فعلاقات القوى كانت تفرض نفسها ثم يتم التوصل إلى حل وسط. وبالتالي كان هناك عمل وتفاعل. لكن نتيجة ما وصفته من صراع للعواطف ولتقسيمها وتوزيعها، نتساءل كيف يمكن أن نجد لها منافذ …؟
بالتأكيد، لن ينفعنا تنظيم الندوات من أجل معالجة قضية الازدراء في المجتمع: فمعالجتها عمل سيكون بالضرورة عبر أشكال متفرقة. فالقوانين والسياسات العمومية يمكنها أن تلعب دورا في مكافحة مظاهر المس بسلامة الأفراد عبر التحكم فيهم، أو عبر الإرهاق، أو العنف الجنسي. كما أن فهم هذه الظواهر يمكن أن يلعب أيضًا دورًا مهمًا عبر جعلها ظواهر حساسة في المجتمع. وهو ما لاحظناه فعلا مع حركة “أنا أيضا” #MeToo، بحيث إنه من الأساسي الكلام والحديث عن تجارب التحكم، والتمييز والظلم والازدراء: وهي شهادات تشكل بداية لعملية إعادة الانتصار. وهي شهادات يمكنها أن تتحول إلى أفلام سينمائية. كما أن هناك دور آخر يتمثل في إنجاز ثورة على مستوى اللغة السياسية التي يلاحظ أنها ما تزال ملتصقة أكثر من اللازم بعموميات يُنظر إليها على أنها منفصلة عن الواقع ولا تعكس، بما فيه الكفاية، ضروريات ومتطلبات الكرامة أو الاعتراف أو المساواة التي تعبئ الأشخاص بالدرجة الأولى. هذه الثورة اللغوية يجب أن تستند إلى طرق جديدة في وصف المجتمع وتعبيراته. إنهما شرطان مسبقان لإعادة توجيه فلسفة ومضمون مختلف السياسات العمومية.
تقديم وترجمة: محمد مستعد
هوامش
1- بيير روزنفالون: محن الحياة، كيف نفهم الفرنسيين بصورة مختلفة، دار لوسوي، 2021
Les épreuves de la vie. Comprendre autrement les français, Editions le Seuil. 2021.
2- حوار باسكال ريشي مع بيير روزانفالون في مجلة “نوفيل أوبسرفاتور”، عدد 2966. بتاريخ 26 يوليوز 2021.
3- إريك مورين، النزول الطبقي، جمهورية الأفكار، منشورات دار لوسوي، 2009.