الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » ومن التأويل ما أدى إلى الظنون

ومن التأويل ما أدى إلى الظنون

ألم يصادفكم قط وأنتم تقرؤون كتاباً أن توقفتم مراراً عن القراءة، ليس لأنكم لا تهتمون لما بين أيديكم، ولكن لسبب دفق الأفكار وشدة الإثارة وكثرة التداعيات؟ باختصار، ألم يحدث أن قرأتم وأنتم للرأس رافعون؟ إن هذه القراءة بالذات تقطع النص وتكون مفتونة لأنها تعود إليه وتتغذى منه (رولان بارث).

كانت هذه بالضبط تجربتي مع قراءة السيرة الفكرية لسعيد بنـﮕراد “وتحملني حيرتي وظنوني، سيرة التكوين” (2021). وسأحاول في هذه الورقة المتواضعة استرجاع بعض تلك اللحظات التي رفعت فيها رأسي عن هذا الكتاب، وكانت كل لحظة في الحقيقة مجموعة من اللحظات تمحورت جميعها حول ثيمة أساسية وولدت تداعيات مرتبطة بتلك اللحظة.

السرنديبية Serependity

تشكل الصدفة سمة أساسية في حياة بنـﮕراد، فقد التحق بالمدرسة بشكل غريب: “لم يكن وارداً في ذهن أمي والعائلة كلها أن أذهب إلى المدرسة بعد أن توفي والدي.  وحدث مع بداية أكتوبر أنني كنت ألعب على جنبات الطريق التي تمر بمحاذاة منزلنا، فمر بي مجموعة من الأطفال صحبة آبائهم، وسألت أحدهم عن وجهتهم، فأخبرني أنهم ذاهبون إلى المدرسة.  فانضممت إليهم، ووقفت وحدي في الطابور، إلى أن وصل دوري، فسألني المكلف بالتسجيل عن والدي وأخبرته بموته، وسألني عن اسمي واسم والدي ووالدتي ودوَّن اسمي في السجل.  وهكذا أصبحت تلميذاً بالصدفة وحدها(ص 22).

كما أنه التحق بكلية السوربون بمحض الصدفة، “حيث إن الأستاذ مبارك حنون هو الذي سحب ملف التسجيل، وهو الذي أرشده إلى المصالح المختصة وأشار عليه بالأستاذ المشرف” (ص 98). والسيرة الفكرية ذاتها التي نناقشها اليوم هي ثمرة المصادفة وحدها: “عندما قررت السلطات تطبيق حجر صحي وفُرض علينا البقاء في منازلنا. في تلك الفترة بالذات اتصل بي طالب سعودي وطلب مني سيرة مختصرة عن مساري العلمي كان جزءاً من عمل سيقدمه إلى أستاذه المشرف في الدكتوراه.  وكتبت بعض الصفحات حول هذا المسار، خاصة في الفترة التي كنت فيها في باريس. ولكنني لم أتوقف. لقد وجدت نفسي منساقا مع حبل الذكريات، وبدأت معالم سيرة فكرية ترتسم أمامي وتتخذ الشكل الذي أقدمها من خلاله اليوم إلى القراء” ( ص 15).

دفع بي حكي بنكراد للحيوات التي عاشها في غفلة منه، وكذا سرده لتطورات فكره المختلفة إلى الرجوع إلى مفهوم السرنديبية، وهو مفهوم ارتبط بالكاتب البريطاني هوراس وابلبول فهو من نحته في خطاب لصديقه هوراس مان سنة 1754، فقد كان معجباً بقصة خيالية عن مغامرات أمراء سرنديب الثلاثة الذين كانوا يكتشفون بالمصادفة والفطنة أشياء لم يكونوا يسعون لاكتشافها”.  استخدم والبول الكلمة لوصف بعض اكتشافاته العجيبة بالمصادفة.

على أن السرنديبية لا تقلل من قيمتهم أو من قيمة اكتشافاتهم.  وكما قال لويس باستور: “المصادفة لا تواتي سوى العقول المستعدة”.  لقد كان بنكراد مستعداً محباً للدراسة والعلم ومندفعا ( ص51)، وهذا ما لعب دوراً أساسياً في سيرته الفكرية والمصادفات استغلها أيما استغلال.

ثعلب أم قنفذ ؟

هناك لحظة، بل لحظات توقفت عندها كان بنـﮕراد يعرض فيها “كيف أنه لم يكن معنياً بلائحة القواعد التي تقترحها على الناقد من أجل فهم النص. كنت أتأمل تفاصيلها، أحاول العودة إلى مناطق في وجداني استعصى علي فهمها اعتماداً على تجاربي الخاصة، أو اعتماداً على ما أملك من مفاهيم” (ص 148)، فهو “ليس تقنياً يعلم الناس كيف  يفككون المحركات ويعيدون تركيبها” وهو يقول مع المعري:

“أمّا اليقين فلا يقين وإنما …  أقصى اجتهادي أن أظنَّ وأحدسا”.

ومع نيتشه: “ما يمكن أن يقود إلى الجنون ليس الشك، بل هو اليقين ذاته”. لقد كانت رغبته هي:         “الإسهام في سميائيات تتنكر للخطاطات المسبقة وتستهجن الأحكام الجاهزة لكي تمنح العين الناقدة فرصة البحث في الوقائع عن معاني يُبنى جزء منها في هذه العين ذاتها”(ص 267). لقد كان يتنقل، كما فعل بارث ذلك قبله، من موضوع إلى آخر مجدداً في كل منها.

وجدتني وأنا أرفع رأسي بارتباط مع هذه اللحظات أستحضر إزايا برلين “الثعلب والقنفذ: مقالة حول نظرة تولستوي إلى التاريخ. لقد كانت هذه المقالة لعبة فكرية اقترحها إزايا على الجمهور العريض، لكن اللعبة اتخذت وجهة جدية بالغة التعقيد وخضعت لتأويلات كثيرة.  الجزء الأول في العنوان مستمد من بيت الشاعر الإغريقي لأركيلسكوس 645- 680 ق م. يقول: ” عرف الثعلب أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئاً واحداً وهاماً”. وفي الفقرة الأولى من مقالته يميز برلين بين أولئك الذين “يربطون كل شيء برؤية واحدة مركزية بنظام واحد منسجم قليلاً أو كثيراً، ويعتمدون على مصطلحات هي وسيلتهم للفهم والإدراك، ومن خلالها يسعون وراء مبدأ كوني متفرد ومنظم”، وبين أولئك الذين يجرون وراء غايات كثيرة، تكون في العادة غير مترابطة، أو قد تكون متناقضة.  تنتمي الفئة الأولى من الشخصيات الفكرية والفنية، حسب برلين، إلى القنافذ، ومن هؤلاء: دانتي، أفلاطون، باسكال، هيجل، دوستوفسكي، إبسن، بروست. أما الفئة الثانية فتنتمي إلى الثعالب، ويصنف ضمنها شكسبير، وأرسطو، وموليير، وغوته، وبوشكين، وبلزاك، وجيمس جويس”.  وفي ختام المقال يقول إزايا إن تولستوي كان ثعلباً بالطبيعة وقنفذاً بالاقتناع، وأن هذا الانشطار أسهم في إغناء أدبه، ولكنه تسبب في شقاء حياته في أواخر عمره.

قد يصبح هذا التقسيم إذا ما بولغ فيه، مدرسياً وسخيفاً في المحصلة.  ولكنه حتى وإن لم يكن أداة للنقد الجاد، فإنه لا يمكن أن يرفض بدعوى كونه سطحياً أو تافهاً. فهو شأنه شأن أي تمييز يتضمن قدراً من الحقيقة.  إنه يقدم وجهة نظر تستخدم للاطلاع والمقارنة، أي نقطة انطلاق للتقصي الجاد.

ويمكن انطلاقاً من هذا التصور وضع كريماص في خانة القنافذ، فهو كان ميالاً إلى التجريد، وكان يعتقد أنه يمتلك “السر النقدي الذي يجب أن يقود الناقد/القارئ إلى وضع اليد على حقيقة النصوص، وحقيقة المعنى”.  وهو كذلك صاحب “الموقف الصارم من النصوص والمغالاة في المحايثة وفصل النص عن محيطه”. ويمكن اعتبار إيكو صاحب السميائيات التأويلية في خانة “الثعالب”. لم تكن غايات السميائيات التأويلية هي التصنيف والصنافة، ولم تكن معنية بالخطاطات والوصفات الجاهزة، ولم ترهن القارئ إلى هذا الوسيط “الأداتي” الذي يختصر التحليل في خطة محددة يجب اتباعها للكشف عن أسرار النص السردي، كما فعلت ذلك سميائيات كريماص ( ص 227).  فهذه السميائيات تدمر الفكرة القائلة بوجود “مدلول نهائي” هو الغاية التي يسير نحوها القارئ وينتشي بها، فهي تفترض تطوراً لولبياً يسير دائماً بالتحليل في اتجاه متصاعد. وهي أيضاً لا تعترف بوجود مركز قار يخفي فيه النص أسراره. وأقترح اعتبار بنـﮕراد ثعلباً.

السرد والهوية السردية

يوظف بنكراد جنس السرد في عرض سيرته الفكرية. ويدل الأصل اللاتيني للفظة السرد narratio إلى نشاطين مختلفين: الحكي من الكلمة اللاتينية narro و gna  المعرفة. أما بنـﮕراد فلم يكتف بتأكيد البعد المعرفي للسرد بقوله: “إن السرد طريقة أخرى لتشخيص المعرفة”، بل إن السرد يحول المعرفة إلى فرجة (ص 9)، كما أنه يتحدث عن “الوظيفة الاستشفائية” للسرد (ص 10). ولمدة طويلة عرفت العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية السرد كشكل من أشكال التواصل، وكمصدر من مصادر المعطيات الكيفية حول الأفراد وسيرهم.  وفي المدة الأخيرة تم الاهتمام أكثر بالعلاقة بين السرد والمعرفة وأصبح الانتباه أكثر إلى سيرورة السرد باعتباره إحدى سبل معرفة حيوات الناس.

يظهر هذا جلياً في ثلاثة حقول معرفية هي السيكولوجيا والتاريخ والفلسفة. يكفي هنا أن نذكر هايدن وايت وغادامير اللذين شددا على أهمية الشكل السردي من أجل فهم الأحداث الإنسانية. وانطلاقاً من هذا التصور، يعتقد وايت أن النص التاريخي يشبه إلى حد بعيد النص الأدبي، ويؤكد وايت أن هذا الطرح ليس موجهاً فقط إلى المؤرخين الذي يعتقدون أن كتاباتهم تطابق أحداث الماضي، بل هو موجه كذلك وبشكل رئيس إلى النقاد والأدباء الذين يعتقدون أن التاريخ مجال يخلو من الصراعات التي تنخر ميدانهم.  يسلم هؤلاء النقاد الأدبيون بحقيقة المرجعية التاريخية. على أن وايت يرى عكس ذلك: فهو يذهب إلى أن الكتابة التاريخية تشكل بنية لغوية يمكن مقاربتها من خلال البحث عن الثغرات والمفارقات والمسكوت عنه، وغير ذلك من العناصر التي نجدها في النص الأدبي.

وتعيد الكتابة التاريخية منذ وايت صياغة تجربتنا للزمن من خلال نسج روايات تشبه الروايات الأدبية إلى حد بعيد. ينطلق وايت من فكرة أساسية، مفادها أنه من المستحيل تقديم الأحداث كما وقعت في الماضي، لأن المؤرخ هو الذي يشكل الحدث من خلال صياغته في إطار النص التاريخي، إذ لا وجود لحدث خام قبل إخضاعه لعملية التأويل.  وهو يرى كذلك أنه من المستحيل على المؤرخ أن يصل إلى الحدث التاريخي مباشرة، إذ إن الماضي لا يصبح في متناولنا إلا عندما يتحول إلى نص أدبي.  وعوض أن يشكل هذا الموقف عائقاً في وجه المؤرخ، فإنه يمنحه إمكانية التدخل في صياغة الماضي. ومن سخرية الأقدار أن مفهوم الهوية السردية أصبح مهيمنا في الثمانينيات والتسعينيات في زمن كانت خلاله كل من كلمتي “السرد” و”الهوية” قد خضعتا لهجوم من طرف مقاربات مستلهمة من تيار ما بعد الحداثة.

لقد تبنى ريكور مفهوم الهوية السردية واستعمله في سياق كان ينظر فيه إلى هذا المفهوم إما باعتباره مفهوماً فارغاً لا يمكن الدفاع عنه نظرياً، أو باعتباره لفظاً مشكوكاً فيه إيديولوجيا، حيث إنها تختزل التعدد. لقد أغنى ريكور المقاربة التحليلية للهوية من خلال استعمال السرد كنعت، واقترح في الوقت نفسه فهم الهوية الفردية ليس باعتبارها نقيض هوية متعددة، بل كشكل مؤقت لتجلي الهوية.

لقد أسهم بول ريكور من خلال مفهوم الهوية السردية في الإبدال السردي في العلوم الإنسانية الذي ساهم في بلورة أشكال معرفية مغايرة للأشكال العلمية المنطقية.  وقد كانت المفارقة أن العلاقة الوطيدة بين الهوية الفردية وجدت في السرد سنداً لها في الأزمة التي كان يتخبط فيها لفظتي الهوية والسرد.   وقد اعتبر ريكور الهوية السردية أسلوباً يستخدمه الأفراد كما الجماعات من أجل جعل حيواتهم أكثر وضوحاً، بمعنى أن معرفة الذات تشكل عملية تأويل. ومن هذا المنظور يشكل السرد أحسن وأصدق وسيلة لتحقيق ذلكم التأويل كما يقول بنـﮕراد (ص 123).

على أن التأويل الذي يقدمه لنا بنـﮕراد في سيرته الفكرية لا يهم حياته الحميمية، فهو كما يؤكد أهمل كثيراً من تفاصيل نضاله السري، فجاءت هذه السيرة رصداً ممتعاً لتحولاته الفردية في الفكر والمنهج، وفي الوقت نفسه كانت تؤرخ لجيله أو لقطاع منه على الأقل.

وهو التوجه ذاته الذي نجده في سير فكرية أبدعها مفكرون آخرون، مثل عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمور، سير غير ذاتية موضوعية. فهو يقول إن السيرة هي قصة حياته أو رحلته الفكرية كمثقف عربي مصري، وليست قصة حياته الخاصة زوجاً وأباً وصديقاً وعدواً”. يقول: “من هذا المنظور تصبح أحداث حياتي بلا أهمية في حد ذاتها، وإنما أهميتها في مدى ما تلقيه من ضوء على تطوري الفكري. ويمكنني القول إنني فهمت كثيراً من أحداث حياتي الخاصة ( الذاتية) من خلال نفس الموضوعات الأساسية الكاملة والمقولات التحليلية التي استخدمتها في دراساتي وأبحاثي     (الموضوعية)، وليس العكس. ولعل هذا ما دعاني إلى استبعاد بعض تفاصيل قد تكون مهمة من منظور شخصي، وقد تهم أعضاء أسرتي وأصدقائي، ولكنها لا تهم قارئ هذه الصفحات.  ولعل هذه الواقعة توضح تماماً ما أود قوله، فقد حضرت احتفالاً رسمياً بمناسبة افتتاح مديرية البحيرة وانهالت الخطب الواحدة تلو الأخرى، ثم قام أحد خبراء النفاق وأخذ يعدد مناقب سعادة الوزير الذي جاء للافتتاح، فسعادته طيب جداً وعلى خلق متين للغاية ويقيم الصلاة في مواقيتها إلخ، فقام أحد المستمعين محتجاً، إن هذه الصفات إيجابية حقاً إن كان الحديث عن زوج ابنتي، ولكن إن كان الحديث عن  وزير      (أي شخصية عامة) فالأمر مختلف”.

الكتب والصور

من اللحظات المحورية في سيرة بنـﮕراد تلك التي يتحدث فيها عن الكتاب. فهو يذكر أنه نشأ في منزل لا يتوفر على جناح للكتب ( ص 31)، وكان النص الوحيد المتداول بيننا هو النص القرآني والحكايات المرتبطة بالدعوة الإسلامية وبحياتنا بعد الموت في الجنة.  وكان أحد أعمامي يزورنا من حين لآخر حاملاً تحت إبطه كتاباً كانت كل القصص فيه تصف لنا الآخرة وحدها, وكان ذلك أول كتاب في حياتي.

هناك فرق شاسع بين العالم الذي ترعرع فيه بنـﮕراد، والذي كان خالياً من الكتب، وبين العالم الذي عاش فيه كل من Sartre  وPopper الذي يجعل ولوج هذين الأخيرين  لعالم الكتابة والتأليف مسألة تحصيل حاصل.  ففي سيرته الفكرية “الأشياء”، يقول سارتر: “لقد بدأت حياتي كما سأنهيها دون شك وسط الكتب”.  وقد قضى سارتر طفولته في منزل جده الذي كان يتوفر على مكتبة هائلة. أما كارل بوبر فيخبرنا في سيرته الفكرية “البحث الذي لم ينته” أنه ترعرع في منزل كله كتب؛ فهو عند كتابة سيرته كان يحتفظ بنسخ أبيه لمؤلفات أفلاطون وبيكون وديكارت وسبينوزا ولوك وكانط وشوبنهاور وجون ستيوارت ميل ونيتشه وداروين والأعمال الرئيسية للأدباء الألمان والفرنسيين والإنجليز. كانت مكتبة أبيه تتوفر على ما يسميه الأعمال التي تهتم بالقضايا الاجتماعية، وهي لماركس وإنجلز ولاسال وكاوتسكي إلخ.

بينما لم يتعرف بنكراد على سحر الكتاب إلا بفضل معلم لن ينساه أبدا، فقد مده في إحدى زياراته للمنطقة بكتاب وطلب منه قراءته. لقد كان لبوبر اتصال وثيق بعالم الكتب من خلال أبيه الذي كان يوصيه مرة بقراءة السيرة الذاتية لـ Strinberg ويوصيه أحياناً بقراءة سبينوزا ، وكان هو يتنقل بين قراءة رسائل سبينوزا ونقد العقل الخالص لكانط دون عناء ، فكل الكتب كانت موجودة في المنزل وكان لـ Sartre علاقة وطيدة بالكتب من خلال مكتبة جده.

وكما كان منزل  خالياً من الكتب ، فقد كان خالياً من الصور أيضاً، كما خلت سيرته الفكرية منها، عكس رولان بارث الذي اعتمد الصور في كتابة سيرته: “رولان بارث بقلم رولان بارث”، حيث التفكير في هوية الصورة يصاحب الحداد على أمه، كما أنه قام في كتابه “شظاياً من خطاب عاشق” بدمج مشاهد حياتية فعلية بأخرى من طبيعة نظرية.

بالطبع يوجد بنـﮕراد وبارث على طرفي نقيض من بودلير وأبولينير وزولا وموباسان الذين انتقدوا التصوير واعتبروه إعادة إنتاج ميكانيكية للحياة حيث ينعدم فيها الخيال الخلاق. لكن السؤال المطروح: هو لماذا خلت سيرة بنـﮕراد من الصور وهو الذي له إسهامات كثيرة في دراساتها وتفكيكها؟

تذكرت في سياق التفكير في هذا الأمر حادثة يرويها عبد الوهاب المسيري في سيرته: “حين طلبت من الرسام كمال بلاطة أن يرسم لي صورة ( بورتريه) بمناسبة بلوغي سن الأربعين، قال لي من الأفضل أن أرسم لك أعمالك، فأخذ بعضاً منها ورسمها، فكان البورتريه الذي رسمه صورة غير ذاتية وغير موضوعية”.

التأويل والأخلاق

ويبدو أن التأويل هو الخيط الرابط في كل أعمال بنـﮕراد والمهمة المحورية بالنسبة للعلوم الإنسانية. فالتأويل كما أكد ذلك في كتابه: “سيرورات التأويل: من الهرموسية إلى السمميائيات”، ” ليس ترفاً فكرياً يمارسه نقاد محترفون، بل هو حاجة أو ضرورة أملاها تعدد الأبعاد في الذات الإنسانية، وأملتها طبيعة اللغة ذاتها” (ص 237). فهو ينطلق من كون النص        “احتمال دلالي فقط، ولن يتحقق هذا الاحتمال في صيغة واحدة، إنه يتجدد مع تجدد القراءات وتنوعها” (ص 228). ولأن ذاكرة النص أوسع من حالات التلقي المعزولة، ولأن هناك دائماً بناء ثقافياً شاملاً هو الحاضن لكل طاقاته، فإن التأويل بالنسبة لبنـﮕراد يشكل قلب العلوم الإنسانية.  فالعلوم الإنسانية تتعاطى مع النصوص الإنسانية نثراً وشعراً، ومع الفن واللغات والتاريخ إلخ، من زاوية تأويلية.  ذلك أن التأويل ليس نشاطاً مبنياً على المعرفة فقط، وليس مهمة فيلولوجية فقط، إنه نشاط ذو صبغة أخلاقية.

ومن جهة أخرى، وكما يقول بنـﮕراد، فإن “القبول بفكرة التأويل هو قبول بفكرة التعدد في الوجود الإنساني. إنه تعدد في السياسة والاجتماع والعقائد، وفي شكل حضور الناس في الفضاء العمومي”(ص 261). وهو كذلك استعاب للأهمية التي يكتسيها الموقع الذي يحتله المرء عندما يؤول: “كنت وأنا أعرض بعضاً من هذه التصورات أمام الطلبة أحاول أن أبرهن أمامهم على نسبية الحقيقة.  كنت أقول لهم: إني أراكم أمامي جميعاً استناداً إلى لقطة أفقية تحدد وجودكم كما أنتم أمامي في مستواي وعلى مستوى الفضاء الذي أقف عليه.  ولكنني إذا وقفت فوق الطاولة، سأراكم أيضاً، ولكنني سأرى منكم أبعاداً لم أرها من قبل في اللقطة السابقة” (ص 242). وأنا أقرأ هذه الفقرة تذكرت حديث Calvino   في    “المدن غير المرئية”:

“يمكن الوصول إلى ديسبنا بطريقتين: عبر سفينة أو على جمل. إن المدينة تقدم وجهاً واحداً للمسافر الذي يصلها براً، وتقدم وجهاً مختلفاً للذي يصل إليها عن طريق البحر.  حين تلوح لراكب الجمل في أفق الأرض، قممم البنايات الشامخات وهوائي الرادار ومؤشرات الريح الأبيض والأحمر تخفق والمداخن تقذف الدخان يفكر صاحب السفينة، يعلم أن ما يراه مدينة، ولكنه يفكر فيها كمركبة متنقلة بعيداً في الصحراء، السفينة تكاد تبتعد وقد ملأ النسيم الأشرعة، وإن لم تنشر بعد، وأن مرجلها البخاري يرتج في قمرته الحديد ويفكر في كل الموانئ والتجارة الأجنبية والرافعات تنزل البضائع على الأرصفة، وينزل حيث يحل البحارة القادمون تحت أعلام مختلفة مخمورين يتدافعون، ويرى نوافذ الطوابق الأرضية المضاءة، وفي كل نافذة تمشط امرأة شعرها.

وفي سديم الساحل يميز البحار هيئة راكب الجمل وهو يتلاشى، سرج مطرز بحافات لماعة بين سنامين، بقصتين، يتقدم ويتموج ويعرف أنها مدينة، ولكنه يفكر فيها كجمل حمولته العالية، زقاق خمر وخرج فاكهة مجففة، خمر التمر وأوراق التبغ، وها هو يرى نفسه في مقدمة قافلة طويلة تستقي الماء في ظلال الماء، النخيل المخطط بالشمس، يرى قصور ذات جدران سميكة بيضاء، وصالات أرضها من قرميد حيث الغيد يرقصن حافيات الأقدام، يحركن أذرعهن نصف محجبات بأقنعتهم ونصف سافرات.

كل مدينة تأخذ شكلها من الصحراء التي تقابلها، وهكذا يرى راكب الجمل والبحار دسيبنيا مدينة حدودية بين صحراءين”.

يشير الوصفان معاً إلى العلاقة الوطيدة بين النظر والمعرفة، يعرف كلا الزائرين أن الأمر يتعلق بمدينة واحدة، لكن لا يرى أياً منهما أبعد مما يفرضه عليه الموقع الذي ينظر منه. ترتبط الكيفية التي نرى بواسطتها، بل وحتى ما نراه بالمعرفة التي نتوفر عليها لحظة النظر.   فالملاحظ محكوم بما يراه بوقع الإكراهات والإمكانات التي يتيحها الموقع الذي يحتله.

لقد استمتعت كثيراً بسيرة بنـﮕراد التي أكدت لي ما كنت أعتقده فيه دائماً، وهو أن المعرفة عنده هي كذلك لذة، وبالرغم من ذلك مازلت أبحث عن تفسير لتخليه عن حسه النقدي عند الحديث عن فرنسا، “ففرنسا كانت مضايفة كعادتها”(ص 99). وفرنسا عظيمة لأنها تعرف كيف تضم إلى تراثها كل ما يكتب بلغتها وتحتفي بكل من يشرب من نهر سينها العظيم (ص 107). ” والناس هناك يحيون بعضهم البعض بالعفوية الإنسانية المطلوبة، ولا ينظرون بحذر إلى كل من لا يعرفونه، ولا يهتمون بخصوصية الآخرين” (ص 122).  وقد ذهب حب بنـﮕراد لفرنسا وولعه بها إلى درجة أنه كان يشارك بقوة وعفوية وحماسة في العيد الوطني الفرنسي (ص 153). كما أني ما زلت أبحث عن تفسير لغياب فوكو عن السيرة وهو الذي قام بترجمة كتاب من أهم كتبه: “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” ؟

- الطيب بلغازي

أستاذ الأدب الإنكليزي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.