– Adrian Marino,Comparatisme et théorie de la litterature, puf écriture, 1988.
لقد أتى على الأدب المقارن حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً ذا بال، إذ استمر أول الأمر في وهدة ركود لفترة طويلة. وبيان ذلك باختصار أن الدرس المقارني التقليدي ظل رهين مقاربة تاريخية صرفة حصرت موضوعه في دراسة العلاقات الأدبية المتبادلة بين مختلف الآداب دراسة آلية. وذلك بالتركيز على رصد المصادر والتأثيرات، والتدخلات، والاتصالات المباشرة بين الكتاب، ومحاولة قياس مدى انتشار عمل ما أو أعمال كاتب ما وبالتالي مدى تأثيرها على غيرها، وتتبُّع علاقات الأبُوة الروحية بين آداب العالم، ونحو ذلك. وبعد ذلك رزح طويلاً تحت الإرث الثقافي الوضعي التاريخي الثقيل الذي يعزف على وتر “العلاقات” المباشرة، علاقات الأسباب بالمسببات، ويطبعه الولع بتفسير الظواهر الأدبية على أساس حقائق الواقع، والانغماسُ في التفاصيل والدراسة المستفيضة للوثائق والصلاتِ الواقعة بين الأعمال الأدبية البارزة دون أي اهتمام بالتنظير والتعميم الأدبي.
لقد اختزلت المقارنية نفسها في مجرد فرع من فروع التاريخ الأدبي، بل تكاد تكون أغلب دراسات التأثيرات عقيمة عديمة الدلالة ما دامت تخضع لاعتبارات وطنية وقومية في أعمال المقارنين الفرنسيين الأعلام. وهذا يزج بالأدب المقارن في دوامة بحث الأحداث الجامدة والمفاهيم العلمية الفاسدة للتاريخ الأدبي، واعتبارات العمل الفني في “علاقاته الخارجية”. ويستتبع هذا تغييب الأدب نفسه، وهو موضوع الدراسة بدءا وانتهاء. من هنا ظهرت الحاجة إلى مقارنة نقدية جمالية تستقصي العمل الأدبي “في كل علاقاته” سعياً إلى اكتناه مفهوم “الأدب” أو “الأدبية” من خلال الاهتمام “بعلاقات القيم” بدل “العلاقات التاريخية الواقعة”، و”دراسة العلاقات الخارجية أكثر من العلاقات الداخلية”.
غير أن التجديد المنشود في رحاب المقارنية وتخليصها من حبائل “الأزمة” المزمنة القائمة (أي التبعية لتخصصات أخرى، وغياب منهج مستقل) يتطلب تحولاً جذرياً من الناحية النظرية و”الشعرية”. فلا يمكنها البتة أن تستغني عن بناء نظرية أدبية مستقلة كلياً ذات إطار مرجعي خاص بها. الأمر الذي يستلزم حتماً انتشال المقارنية من مخالب العصبية العرقية والمركزية الأوربية المستحوذة على النظريات الأدبية والنقدية منذ زمن طويل. وهذا مؤشر ثاقب على ضرورة تخطي الإرث الثقافي الغربي الممجِّد للتراث اليوناني الروماني. ومن ثم الانفتاح على ثقافات وآداب أخرى من شتى بقاع المعمور. والاعتراف بفاعليتها وقدرتها على كشف جوهر الفن الأدبي، بله فهم “الماهية الأدبية”. وفي هذا الصدد ذهب الناقد المقارن المناضل روني اتيامبل وأمثاله من المقارنين الأعلام إلى أنه لا يمكن وضع أوروبا في مركز الكون والزعم أنها مهد الحضارة الإنسانية، بل “هي مجرد إقليم من أقاليم العالم” لا يحق له البتة أن يفرض قانونه على الدنيا، ولا أن يحصر بقية بلدان العالم في سلم قيمه، وفي أحكامه المسبقة، وفي زاوية نظره، الخ”. ومن ثم فلا مسوغَ لاختزال الأدب العالمي في جغرافية الأداب الأوروبية”1. وإلا سيترتب عن ذلك تكريس العقلية الثقافية المحلية أو العقلية الديارية التي ترشح بالتعصب الأعمى وتغذي كل ألوان الاعتزال وصور الشعوبية الإقليمية والنزاعات الوطنية والقومية الفجة. فلا غرابة إذاً أن يكون “قسم كبير من [البحث الأدبي] ما يزال خاضعاً منقاداً لبعض «القوى الكبرى»، التي ترى أن الدراسات المُقَارَنِيَّة تتلخص في جرد «التأثيرات» الفرنسية، أو الإنجليزية، أو الألمانية، وغيرها، التي تعمل في كل الآداب الأخرى. فهذا النوع من المُقَارَنِيَّة يأبى دراسة دَوْرِ الثقافات الأجنبية في تكوين ثقافته الخاصة»2، إذ إنها، دونما تبرير موضوعي، لا تعترف بالآداب التي توجد خارج مجالها الجغرافي، بل تُقصيها لأنها لا ترقى، في نظرها، إلى مقام الذوق الأدبي الرفيع، ولاتستحق أن يُلتفت إليها. ذلك أن “رؤية الأدب العالمي كانت رؤية اختزالية قائمة على التأويل الانتقائي الذي يتجاهل أدب الثقافات الأخرى، ولا يحفل به إلا في حدود اندماجه في الإرث الثقافي الأوربي المهيمن، أي في حدود اشتراكه في التقليد الأوربي“3 إضافة إلى العوائق اللغوية والاعتقادات الإيديولوجية المجحفة المقصية للآخر. أضف إلى ذلك عنادَ البُنى الفكرية القديمة، ومقاومة التقاليد المتوارثة في أوربا الغربية. وهذا ما يفسر ببساطة سبب تعالي بعض الآداب الكبرى وتنطعها وتماديها في فرض قيم وأفكار أو معايير موحَّدة تخدم مصالح مركزين ثقافيَيْن أو ثلاثة ذات نفوذ جيوسياسي. ولعل مما يكشف بعضا من مظاهر هذه النزعة الأوربيانية المغالية قول الباحث المجري الناطق بالألمانية هوگو ميلتسل دي لومنيتس (Hugó Meltzl) بنظرية العشرة ألسن «décaglottisme» التي “تقضي بأن يكون كل دارس مقارني عارفاً بعشر لغات أوروبية، مقصياً منها اللغة اليونانية والعربية وجميع اللغات الشرقية والإفريقية”4، زيادة على هيمنة مصطلحات النقد الاستعماري في النصوص الأدبية الغربية، بدلاً من اعتماد مصطلحات النقد الأدبي والمقارني. وقد تولد عن ذلك خلق صور نمطية بالية مشوهة عن الإنسان “الشرقي” فرضتها الحركات الإمبريالية على الثقافة الأجنبية، كوصف الشرقيين بأنهم بدائيون متخلفون عن ركب الحضارة والتقدم العلمي والثقافي، ومن أبرز معالم المركزية الأوربية في الفكر الأدبي التقليدي انغماس معظم الفرنسيين في قراءة أدبهم الوطني لأنه بنظرهم أهم آداب العالم، زاهدين في إنتاجات الغير، إذ نظروا إليها نظرة ازدراء بسبب عقليتهم الإقليمية الضيقة. هذا فضلاً عن تهديد وجود الدراسات المقارنية في زمن تلوح فيه نُذُر استبداد جديد تحت ذريعة وغطاء العولمة والتوحيد. والمراد الأكيد التنميط ثم التنميط تنميط كل شيء عبر العالم على النمط الغربي لضرب الخصوصيات، خصوصيات الشعوب والأمم. وهذا عين التبديد!. (وهذا ما يكشفه اليوم تغوّل الرأسمالية الأمريكية لا على الصعيد الاقتصادي الصناعي والمالي فحسب، بل أيضاً وبشكل خفي ومُعلن على الصعيد الثقافي والفكري بما يشمله هذا الجانب من آداب وفنون).
لقد تمخض عن هذا الوضع المختل المضطرب نتائجُ مخيبة جدا لتطلعات الدراسات الأدبية والمقارنية عامة؛ ذلك أن مفهوم الأدب صار مفهوماً منحصراً في تجربة لغوية ضيقة جدا، ناتجاً عن “مركزية أوروبية صرفة وظاهرة متقوقعة ومحدودة [في أوروبا] من الناحية التاريخية، ولا يشمل سائر الثقافات البشرية”5. الأمر الذي يبرر هشاشة نظرية الأدب العامة ومحدودية محتواها وضيق أفقها لافتقارها إلى رؤية شمولية منفتحة على كافة الأعمال الأدبية كالصينية والإفريقية وشتى فنون البلاغة العربية منها والهندية والفارسية وغيرها… بل إن الدراسات المقارنية المنجزة في هذا الحيز الضيق تظل جزئية ناقصة، متناثرة هامشية، بل محلية وثائقية صرفة مسكونة بالمواضيع الوطنية الإقليمية المحدودة. كما أن الأدب المقارن سيظل بذلك خاملاً منفعلاً غير متجاوب مع قضايا العصر ونوازله الشائكة البائكة. والحال أنه لا يمكن فهم الأدب وتفسيره إلا من حيث هو حقيقة شاملة منسجمة تحتاج إلى تعريف شامل مستلهم من آداب العالم جمعاء دون استثناء. فلا طائل إذاً من الاقتصار على أدب وطني واحد وذلك من أجل قصوره التام ضرورةً ولُزوما عن تفسير كافة الظواهر الأدبية المعقدة والمتشعبة، أو تمييز ما هو أدبي عن غيره. وهذا يستبطن بوضوح دعوة هادئة صريحة متلهفة إلى الإنصات بِرَوِيَّة إلى ما يُنتج من تآليف إبداعية وفكرية خارج المدار الأوربي للخروج من هذه الدوامة القاتمة.
لا غرو إذاً أن تُجابَه هذه الأحكام الأوروبيانية العنيدة المتعنتة برفض شديد واستهجان شرس في بلدان عديدة كالعالم الأنجلوسكسوني، لا سيما من قبل المقارنين الأمريكين الذين نفوا نفياً قاطعاً أن يعترف الأدب المقارن بوجود جهة مفضلة، غربية كانت أو شرقية، أو بانحصار موضوع المقارنية في التأثيرات الفرنسية والإنجليزية على بقية الآداب الأخرى، بناء على اعتقاد الفرنسيين أو الانجليز بأن أدبهم هو “الأدب المركزي” الوحيد الممكن. وبالمثل تعاظمت وتيرة الرفض لهذه النزعة الإقصائية الغربية المتبجحة في العديد من بلدان أوربا الشرقية كرومانية، وهنغاريا، وبولونيا، وتشيكوسلوفاكيا حيث أدانوا بشدة تجاهل آدابهم العريقة إزاء جموح الموقف الأوربياني المغالي القاضي بتبعية معظم الآداب القومية لبعض الآداب الكبرى المزعومة. ولذلك استحسن هؤلاء الأوربيون المشارقة جهود اتيامبل المكثفة وساندوه ضد فكرة المراكز الأدبية الجهوية المتعسِّفَة وضد كل ألوان الشوفينية الأدبية والثقافية الضيقة والنعرات القومية الملتهبة قصد التنويه بكل ثقافات العالم وإسماع صوتها عالياً والإشادة بمزاياها وفوائدها المكتَنَزَة.
هكذا إذن بدا لاتيامبل، المقارن الفذ، ضرورة توسيع المنظورات المقارنية جغرافياً وزمنياً، “كماً وكيفاً وتجاوز العقبات المنهاجية والإيديولوجية المجحفة وقرْن المقارنة التاريخية الموسعة بالمقارنة الجغرافية الموسعة ورفض فكرة التخوم الجيوسياسية”6 من خلال تبني رؤية تتجاوز القوميات قمينةٍ بإخراج الأدب المقارن من دهاليز هذا النفق المظلم. من هنا تحديدا انبثقت مشروعية الانفتاح الكلي على الآداب غير الأوربية أو الشرقية في كل البلدان والقارات وعلى مجموع العلاقات الأدبية الدولية بغية إنشاء نظرية أدبية كونية مقارنة تستلهم مقوماتها البنائية والجمالية من آداب العالم أجمع دون تخصيص لغوي أو سياسي أو ديني، واعتبار كل أداب الأمم كالأدب الصيني والياباني والهندي والعربي والفارسي أعضاء متساوية العضوية في التراث الأدبي العالمي بعيداً عن الأهواء القومية وعن خبال “التأثيرات” و”العلاقات الواقعة” بين الكتاب والمدارس، إذ لا يحقق البحث في هذه الأمور مطلقاً مطالبَ الدرس الأدبي المقارن الحق.
وفي هذا الصدد، اعتبر مارينو نفسه ظهيراً ونصيراً للأدب العالمي الذي يتكوَّن من مجموع أو من حاصل الآداب دون استثناء، مقتفياً أثر الناقدين الفذين روني ويليك وروني اتيامبل في المطالبة بالمساواة الثقافية بين الآداب قاطبة لما تحفل به جميعها من قيم أدبية وإنسانية عالمية. ذلك أن هذا المفهوم الرائد، أي مفهوم الأدب العالمي بصفته أساساً موضوعياً في تعريف الأدب والشعرية المقارنة، قد أصبح حقيقة نظرية واقعية جداً على المستوى الظاهراتي، لأنه بمثابة “الإرث المشترك الذي يمثل الإنسانية ويقدم نماذجها”. ومن ثم لَزِم رَدم هوى التباعد الوهمي بين الآداب الصغرى وبين الآداب التي تُدعى الكبرى (أي الآداب الأوربية والأمريكية) ومحو الاختلافات النظرية المزعومة بينها. وعليه، فقد أقبل رواد المدرسة السلاڤية بِنَهم وشجاعة على دارسة آداب العالم أجمع، آدابِ الغرب وآدابِ الشـرق، بما في ذلك الآداب الإسـلامية -العربيـة منها والفارسـية- إضافة إلى الآداب الهندية والصينية واليابانية دون إهمال آداب بلدان العالم الثالث، فضلاً عن اهتمامهم بالفولكلور، والآداب الشعبية، والآداب المكتوبة والشفوية، المشهورة والمغمورة، مجنِّدين لذلك حشداً هائلاً من المعارف الكونية الشاملة المتداخلة، اعتماداً على مقاربة كلية تستثمر لبابَ المستفادِ من العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس وفلسفة التاريخ وتاريخ العقليات وانتشار الأفكار والنقد الأدبي والأسلوبية، وهلم جرا، لأجل الوقوف على مدى ائتلاف الإنتاجات الإنسانية الكبرى واختلافها ولتفسير أسرار الظواهر الفنية والفكرية. ومن ثم، حسموا فيما يسمى، زعماً وافتراء، “أدب الأسياد” و”أدب العبيد”. وأدرجوا ذلك كله في دائرة «الأدب العالمي» بطريقة ملموسة، نسقية، ممنهجة متكاملة. وبهذا “تتلاشى ثنائية المركز والهامش لصالح الآداب المهمشة بتصحيح النظرة تجاهها تصحيحاً عادلاً منصفاً. وذلك بتناولها بنفس القيمة الاعتبارية الفكرية، دون أحكام مسبقة، أو تمييز، ودون الإحساس بعقدة التفوق؛ أي، باختصار، الاعتراف بقيمتها الفنية وبأنها جزء لايتجزأ من «الأدبية الكونية» ذاتها. وبهذا يتم تمهيد السبيل لإنشاء شعرية مقارنية أصيلة، أي الدراسة الكلية للأدب العالمي”7. فضلاً عن تعزير صورة “الإنسان الكوني” المنفتح على كل أساليب العيش والتفكير، وعلى كل نتاجات الحضارات الكبرى “لغة” “وأدبا” لأنها كفيلة بتنمية الخصال الكونية المشتركة المتساوقة مع شعوب العالم أجمع.
إن الانفتاح على كونية الأدب، والعكوف على تحري الأعمال الأدبية والنقدية في كل بلد وفي كل الأزمنة وفي كل المذاهب والتقاليد يفضي لامحالة إلى اكتشاف عدد هائل من التطابقات والتوافقات والتقاطعات والتوازيات الأدبية “وأواصر القرابة” بين الشرق والغرب. وأمثلة ذلك كثيرة تند عن الحصر، منها إقرارُ آداب الأمم قاطبة بقيمةَ “الصنعة” في التأليف الأدبي، وصلاحيتها في ذاتها بصفتها حليةً للنص الأدبي وإقرارها بقيمة مبدإ التقليد الخلاق”. كما أن عملية تنقيح اللغة الأدبية من ناحية النحو والمنطق ومن ناحية الذوق وقواعد الأخلاق [الدينية والثقافية] متطابقة عموماً عند العرب والأوربيين في تصورها وفي صياغتها”8، بل إن الكثير من “القضايا” النقدية والفكرية المتشعبة المعالجة في أعمال بعض «أخصائيي الشعرية» الغربيين المحدثين قد تناولها أيضاً غيرهم في بلدان أخرى [وفي فترات تاريخية أخرى]. ومن ذلك تشابه آلية اشتغال المجاز في الشعر المسيحي القروسطوي والشعر الهندي والشعر العربي. وقس على ذلك أموراً أخرى كثيرة عند عدد من المبدعين الصينيين واليابانيين وغيرهم.
إن هذه النماذج المعدودة المذكورة هنا -وهي غَيْض من فيض- تكشف بجلاء تام وجود وقائع و”عناصر مشتركة” عديدة، متقاربة ومتباعدة في تضاعيف الأعمال الفنية والفكرية على مر العصور. إنها روح الثوابث النظرية الأدبية الأصيلة المبثوثة في ثنايا الإبداع البشري والتي تشكل نسيج الوحدة البنيوية الكبرى في الأدب. وذلك من خلال «اعتماد تصور شامل للأدب الكوني (القحّ)، أي تصور يُبنَى بواسطة ثوابت كونية ويتطلب اعتماد مقاربة مُقَارَنِيَّة مفصلة بدورها على مقاس كوني»9. وهذا يعني إعادة تحديد موضوع الأدب المقارن من جديد وإعطاء أبعاد جديدة لمفهوم الأدب العالمي بعيداً عن الطرق المقارنية التقليدية التي تخوض عبثاً في مستنقع التأثيرات والمصادر والعلاقات السببية العقيمة لأنها لا تفضي إلى أي استنتاج نظري عام.
كل ما تقدم يكشف بجلاء ملامح التغيير الفعلي الذي حدث في مجال الأدب المقارن بفضل جهود رواد هذه المدرسة السلاڤية الرائدة، وفي طليعتهم أدريان مارينو الذي حقق طفرة نوعية في هذا المضمار، حيث عمل على توسيع آفاق نظريته اعتماداً على أسس ومنطلقات جديدة تنسجم ومستلزمات كونية الأدب والرؤى النظرية التي تحكم هذه الكونية من جهة، كما تتناسب مع استقلالية المُقَارَنِيَّة المنشودة من جهة أخرى. لأجل ذلك، وضع حزمة متراصة من الإجراءات الإصلاحية العملية الصارمة القمينة بإحداث تغيير جذري في كلية الفكر المقارني عامة وذلك باعتماد “طرق هيرمينوطيقية نظرية مجردة، وقياسات تعميمية وتقابلات مقارنية موسعة تشمل كافة الآثار الفنية والفكرية والنقدية، وخاصة بالعمل بمقولات الثوابت النظرية-الأدبية الكفيلة بالوقوف على وحدة الأدب والتصورات المشتركة بين آداب الشعوب والأمم كافة. كما عمل جاهداً على إحلال العلاقات النظرية الصرفة محل «العلاقات التاريخية الحاصلة»، وإحلال العناصر المشتركة الممثلة في الثوابت محل تفاصيل الحقائق الأدبية العصية على الاختزال. وقد أصر بأنه ينبغي أن تقوم الكليات الوصفية والتدريجية مقام الكليات الدغمائية والمعيارية، وأن يقوم البحث المنهجي والانتقائي عن الإرهاصات مقام الحلول الشخصية والانطباعية المزعومة. فضلاً عن ضرورة إنابة نموذج الأحادية المنهاجية محل تعددية المناهج. أضف إلى ذلك ضرورة العدول عن استعمال المصطلحات ذات الحمولة التاريخية إلى اعتماد المصطلحات التجريدية والتصنيفية التعميمية، أي مصطلحات أدبية مشتركة عامة “كلية” موَحَّدة متناظرة، قابلة لاستبدال بعضها بالبعض في الحديث عن آداب عدة في مختلف البلدان فقد لاحظ مثلاً أن الأدبين الصيني والياباني يتناغمان في العديد من حقبهما ومذاهبهما مع مصطلحات الأدب الأوربي من قبيل الحركة الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والباروك … وما شابه ذلك”10. وهذا يعني باختصار ضرورة اعتماد «بارديغم» منهاجي جديد مستلهم من داخل الموروث المقارني ذاته، أي “باراديغم” متماسك يخدم توجهات المقارنية النظرية التعميمة الهادفة إلى بلورة “شعرية مقارنية” كونية حقة. بيد أن تحقيق هذه الأخيرة مرهون بالجمع بين منهجي الاستقصاء التاريخي والتأمل النقدي أو الجمالي مما يسهم في حل النزاع المحتدم بين تاريخية المدرسة الفرنسية ونقدية المدرسة الأمريكية. ولا سبيل إلى ذلك إلا برصد الثوابث باعتبارها الطريقة الجوهرية التي يلج بها الأدبُ فضاءَ الكونية ويتمَكَّن بها الباحث المقارن من فهم ماهية الأدب في هويته، وفي آليات اشتغاله العامة.
لأجل ذلك عمد مارينو إلى تقليص دور المقارنة الأدبية التي لم تعد بحق مركزَ الأدب المقارن/العالمي حيث حل محلها مفهوم الثابتِ الأدبي باعتباره أهم إسهام قدمه إِتْيامْبل لنظرية الأدب المقارن، لأنه «عنصر كلي في الأدب وفي الفكر الأدبي، بل «صفة» «مشتركة» في الخطاب الأدبي أو في الفكر الأدبي»11. فهذا المفهوم يسعى إلى غربلة الأدب المقارن برمته بمنأى عن المعطيات التاريخية والثقافية والاجتماعية، فضلا عن تفسير مختلف الروابط القائمة بين الأعمال الأدبية أو الآداب التي تتجاوز علاقة السببية أو مطب التداخلات الأدبية. كما يتم “التخلي عن تطبيق العلاقات الحتمية، علاقات التبعية العادية أو علاقات التقليد المقصود، واستبدال العلاقات الملموسة بعلاقات القيمة بالفعل”. علاوة على أن نظرية الثوابت الأدبية أسهمت بقوة في وضع نظرية عامة تستطيع أن تشمل مكونات النظام المقارني العديدة وأن تفسره وتصنفه”12. وعلى هذا الأساس تصبح الشعرية المقارنة المأمولة منهجاً مقارنياً يقوم بمقارنة الأنساق اللغوية في إطار عملية نقل لظاهرة لغوية ما خاصةٍ بنسقٍ تعبيري معين إلى نسقٍ آخر.
وتماشيا مع ذلك، وازى مساعيَ المقارنية الجديدة توجهٌ نضالي حيوي حثيث من خلال الانخراط المباشر الجسور في مدلهم الأحداث والمستجدات الثقافية الايديولوجية السائدة في عصرنا الحاضر بمناهضة العنصرية، والتعصب العرقي الأعمى وما شابه ذلك. وذلك بالعمل الجاد على«إنعاش العلاقات بين الأفراد وبين بلدان الشرق والغرب، ومحاربة النعرات القومية، واتخاذ موقف ضد المركزية الأوربية، وضد الحركات الاستعمارية التوسعية، والدفاع عن الحركة الأممية، الكوسموبوليتية، وعن حركةِ العلاقات والتبادلات والتعاون، والدفاع عن عمليات التواصل الحر بين الآداب..”13. وبالمثل حض مارينو على اعتماد رؤية إنسانية جديدة كونية سمحة مستقلة متحررة فكريا وعادلة اقتصادياً، فضلاً عن تشجيع الحوار الثقافي من خلال تمتين أواصر التقارب واللقاء بالغير وصيانة كرامته وغيريته من الابتذال و الإهدار بشكل يراعي جدلية التلاقح والاختلاف.
وعلى صعيد آخر، راهن مارينو على بلورة تعريف مقارني للأدب مختلفٍ عن التعريفات التقليدية والحديثة. وذلك بالانفتاح على كافة آداب الدينا دون تخصيص جغرافي أو زمني انسجاما وأهدافَ المقارنية النظرية الطموحة. ومن ثم يتأتى رصد الثوابت الأدبية التي تُيسر سبيل المصادقة على العناصر “المشتركة” العامة في الشعريات الغربية والشرقية من خلال استثمار معطيات الفلسفة الظاهراتية الأدبية والاختزال الاستكناهيla réduction) eidétique) للوقوف على كنه الأدب والأدبية بعيداً عن التعاريف الأوربيانية القاصرة المتحيزة، وما تولد عنها من معاييرَ جهويةٍ دغمائية جوفاء. بيد أن مارينو، وغيرَه من النقاد النحارير، توصل إلى استحالة وضع تعريف نهائي قار لمفهوم الأدب، لأنه حقيقة مستمرة التطور و”متن دائم الانفتاح” على تجارب أدبية جديدة من أشكال تعبيرية وطرق نقدية ومناهج وتصورات نظرية جديدة، ومن ذلك استثمار معطيات كثيرة ومثيرة كالسيميائيات التي تقوم بنقل هوامش الثقافة إلى المركز. ومن ثم استفادة الأدب من إمكانية إقحام الكتاب الهامشيين أو المغمورين في المركز أو تغيير في الصور النمطية المبتذلة المتداولة. كما أن السيرة الذاتية الخيالية (l’autofiction)- التي هي منزلة حدودية بين السيرة الذاتية والقصص الخيالي – تدعو إلى تأمل نظري حول مكانة مفهوم الخيال في تعريف الأدب، والوقوف على ملامح المبدع الراوي من خلال اختبار ملكة الخيال. إلى جانب “قصة وكأن” (histoire as if) التي تربطها بالسيرة الذاتية الخيالية نفس الإشكالية المرجعية الواقعية، وتفضي إلى التساؤل حول هوية جمعية. وفي ثناياها يتم تغيير حدث معين أثناء إعادة تناول واقعة تاريخية معينة، مما يطرح إشكال الحدود بين التاريخ والخيال. كما أن دراسات لجنوسة/ الجندر ((Gender انصبت على تمثلات الأنوثة والفحولة في الأعمال الأدبية والنقدية مما سمح باكتشاف جوانب مجهولة من ذي قبل في الدراسات الأدبية.
وانسجاماً مع ذلك يقوم النقد المعاصر على هدم التنظيم الفضائي لتمثل المجتمع وعلى رفض وجود المركز في هذا الفضاء. ومن الآداب المهملة التي أصر مارينو على إدخالها في حضيرة الأدب الكلي أدب الأطفال باعتباره “مشروع إغراء متبادل” متضمن في “علاقة الراوي بجمهوره”، لأن الطفولة صارت تصوراً جوهرياً للتفكير في مفهومَيْ الأدب والخيال من منظور متداخل الاختصاصات، تعاقبي ومقارني. الأمر الذي مهد الطريق لإنجاز أعمال مقارنية عديدة ومفيدة للغاية. ومن ذلك إلهامات الباحث جان بيرو الذي استهدفت أعماله المتنوعة والمتشعبة دراسة العلاقة بين الأدب والايقونوغرافيا، فن الرسم، ألبوم الصور، الرسوم المتحركة، إلى جانب الرواية الشعبية التي برعت في تقديم ابتكارات راسخة في خيال كتاب القرن العشرين مستثمِرة طرق أدب النخبة. فضلاً عن الإسهامات البارزة للقصة العجائبية، ورواية الخيال العلمي في اختراق حدود الأدب.
هكذا يتبين بجلاء اغتناء مفهوم الأدب المقارن وتحرره من سجن الأوربيانية المفرطة العمياء ومن آثار الفكر الوضعي التاريخي الذي استبد به طويلاً. ومن ثم انبعاثه القوي من جديد، إذ يستقي دوماً من روافدَ نظريةٍ متعددة ومتنوعة، مستفيداً من نتائج الدراسات المقارنية الميدانية المكثفة الجسورة، ومن تطور المناهج الجديدة التي تخطت خندق الاختلافات والاختلالات العميقة بين النظرية والتاريخ. فكل المقاربات المذكورة سمحت بإعادة دمج الواقع في دراسة النص، فصار الأدب مجلى الواقع بفضل انفتاحه على اختصاصات متعددة متداخلة مثمرة.
وهكذا نجد أن الأسباب الوجيهة التي حَدَت بأدريان مارينو إلى تأليف هذا العمل النقدي الرائدتتمثل أولا، في بديد أسطورة التفوق الغربي المزعوم الذي تغذيه خلفيات ايديولوجية مجحفة مقيتة مُقصية للآخر وتصحيح الصورة الضبابية المتدنية المشوهة الرائجة عن الشرق وأهله. وثانياً، في إعادة الاعتبار بقوة إلى الآداب والثقافات والحضارات الأخرى المنسية عمداً، وبخاصة الأسيوية والافريقية والأمريكية اللاتينية وآداب الدنيا كلها، نظراً لغناها وتميزها ووفرة محصولها في كل المجالات المعرفية المتنوعة. وهذا يستلزم الاعتراف بوحدة آداب العالم أجمع التي يجب أن تكون المبتدأَ والخبر في أي عملية تنظير أدبي تجريدي منشود، أي الانطلاق من أَيِّ نقطة في الجغرافية الأدبية على أساس التلاقح الفكري المثمر شرقاً وغرباً. وهذا يعني حتمية إعادة النظر في المنظومة المرجعية الثقافية القابعة تحت سلطة الآداب الغربية الاحتكارية. ومن ثم تمهيد السبيل لإشراك هذه الآداب قاطبة في مشروع إنشاء الشعرية المقارنية الكونية المأمولة. وثالثاً، إبراز حدود، بل قصور النظرية الوضعية-التاريخية في الإحاطة بحقيقة الأدب، إذ لا تواكب روح العصر، بل تصد كل مسعى للتعلم والتنظير الأدبي المستوحى من حصيلة كل الإنتاجات الإبداعية. في مقابل إثبات فاعلية الفلسفة الظاهرية الأدبية والاختزال الاستكناهي في كشف جوهر الظواهر الفنية.
هوامش
1- Adrian Marino, Etiemble ou le comparatisme militant, Editions Gallimard,1982, p. 57.
2- Histoire des genres et littérature comparée, in Acta Litteraria,V (1962), p.204.
3- Ibid., p.. 42.
4- “تقديم الأدب المقارن”، اتجاهات وتطبيقات جديدة. تأليف: سيزر دومينغير، هاون سوي، داريو فيلانويفا، تر: فؤاد عبد المطلب، عالم المعرفة، أغسطس2017.
5- Bernard Franco, La littérature comparée, Histoire, domaines, méthodes, 2016, p.112.
6- أدريان مارينو، الأدب العالمي الكلمة والشيء، ترجمة وتقديم: د عبد النبي ذاك، ص 4-5.
7- A. Marino «Etiemble ou…»,.« Contre l’impérialisme et le colonialisme», p: 75.
8- Adrian Marino, Comparatisme et théorie de la littérature,1 édition, PUF écriture,1988, p:128.
9- A.Marino, «Etiemble et les invariants», universitat byreuth, pp:16-17.
10- Adrian Marino, Comparatisme et théorie de la littérature, 1988, p:143.
11- B. Franco, «La littérature comparée...» ,p:72.
12- Cristina-Elena Ciuntuc, «Une nouvelle perspective…», pp: 32.
13- A.Marino, «Comparatisme et théorie…», p:169.