المولدي الأحمر، الجذور الاجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا : الفرد والمجموعة والبناء الزعامي للظاهرة السياسية، إشراف: عبد الوهاب بوحديبة، جامعة تونس، 2008.
اشتغل الباحث في هذه الأطروحة مستخدما أدوات المقاربة السوسيو-أنثروبولوجية ومعتمدا مدونة تاريخيةعلى تحديد عناصر المسار التحديثي المركب واللايقيني الذي خضعت له الدولة الليبية خلال القرن 19 وفي فترة الاحتلال الإيطالي وأثناء تأسيس دولة الاستقلال. والمشكل الرئيسي الذي خضع للتحليل والمناقشة هو سؤال الحداثة السياسية.
وخلال بنائه للسؤال ولأدوات الإجابة عليه ناقش المؤلف أطروحات مختلف المقاربات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية التي اشتغلت بالظاهرة السياسية في البلاد المغاربية. وخرج من ذلك بنتيجة رئيسية مفادها أن الانقسامية والماركسية والفيبرية (كما طبقت على الحالة المغاربية) والزبونية وإلى حد ما الانثروبولوجيا التأويلية إما مارست ما يسمى بالتفسير بالغياب، أو أهملت الفرد بصفته فاعلا نشطا يلعب دورا حاسما في بناء الظاهرة السياسية، أو أنها لم تشتغل إلا قليلا بالكيفية التي تبنى بها الظاهرة السياسية. فلم تهتم بشكل مباشر بالأفراد والمجموعات وهم يشكلون ذهنيا وتنظيميا آليات الفعل السياسي، ولم تسع إلى الكشف عن جملة المبادئ التي دأب هؤلاء الفاعلون على الاشتغال بها وعليها لممارسة نشاطهم الذي يشيد العلاقات السياسية ويعطي للدولة مواصفاتها. ومن ثم فإن هذه المقاربات قد أنتجت شبه معادلات متضادة تبدو أحيانا غير قابلة للفهم.
من هذه المعادلات القول بقدرة المجتمع في هذه المنطقة على خلق بؤر التمركز السياسي المتمثل تاريخيا في دولة السلطان، والزعم في نفس الوقت بأن الفعل السياسي القاعدي مبني على مبدأ تشتيت قوى التمركز ومقاومة الهرمية السياسية الشاملة، أو القول بحداثة دولة الاستقلال وفي ذات الوقت نزع الحداثة السياسية عنها فكرا وممارسة. وهكذا فلا مقولة الانقسامية تفسر لنا آليات استبداد دولة السلطان، ولا مقولة الباترمونيالية تفسر لنا عدم استقرار هذه الدولة وفشلها في إرساء تقليد سياسي صلب يسهل عملية انتقال السلطة دون عنف مادي. وفي الحين ذاته تفادت المقاربات التي اعتمدت مقولة البيروقراطية تفسير عدم تحقق الحداثة السياسية في ظل تضخم الجهاز البيروقراطي للدولة، بينما واجهت مقولة النظام البطركي صعوبات في تفسر عدم تماثل المصير الحالي لمجتمعاتنا مع المصير التاريخي لمجتمعات أخرى انتمت مثلنا إلى هذا الجذع المشرك.
أما بنية العلاقة بين الشيخ والمريد فإنه يصعب تعميمها –رغم قوة النموذج- على جملة العلاقات السياسية التي تنشأ في إطار تقدم مطرد للتقسيم الاجتماعي للعمل يساعد الأفراد على التحرر من مثل هذا النوع من العلاقات الاجتماعية السياسية.
و الحل الذي توخاه الباحث هو محاولة البرهنة على أنه بالإمكان دراسة الظاهرة السياسية في هذه المجتمعات وفق مقاربة تعطى نفس الأهميّة للأفراد والمجموعات على مستوى المشاهدة السوسيولوجية-الإنثروبولوجية، وتهتم بصفة أساسية بالفعل السياسي، في مستوييه الفردي والجماعي، وبكيفية تشكله باعتباره أساسا سوسيولوجيا للدولة.. والفرضية الرئيسية للباحث هي أنّ الظاهرة السيّاسية تمثل قبل كل شيء بناء زعاميا للمجموعة السياسية، ويعني هذا الأخير أن تشكّل مثل هذه المجموعة يجري غالبا وفق مبادئ تقوم على بروز الزعيم الذي يعمل بدوره على تمتين علاقة زعامية بمجموعة الأتباع والأحلاف والزبائن والمغلوبين التي يقودها، ما يعطيه سلطة قوية ومشخصنة على هؤلاء لا تتلاءم مع مقتضيات العمل ضمن نظام عرفي أو بيرقراطي وضعي ينظم بشكل أو بآخر المنافسة السياسية على السلطة. وفي المثال الليبي، وينسحب هذا بتفاوت على الحالة المغاربية، تنافست تاريخيا على بناء الظاهرة السياسية ثلاثة أصناف من الزعامات، لكل منها خصائصه وديناميته وآليات اشتغاله، رغم اتحاد الجميع في مبدأ البناء الزعامي للظاهرة السياسية. وهذه الأصناف الثلاثة هي: الزعامة البدوية المحاربة والزعامة الدينية الطرقية في الريف، والزعامة العسكرية البيروقراطية في المدينة.
ومن ثم ينتهي الباحث إلى خلاصة مفادها أن عملية تحديث الدولة في ليبيا كانت عبارة عن حرب ضد هذا التنوع الزعامي ومقتضيات اشتغاله الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وبما أن هذه المعركة كانت معركة مصالح أكثر منها معركة مبادئ، فإن عنوانها الأساسي كان التكيّف المتبادل بين النماذج التحديثية الوافدة -الإصلاحات العثمانية في القرن 19، والراديكالية الاستعمارية في القرن العشرين- والنماذج الزعامية المحلّية.
وقد ظهرت النتيجة الحاسمة لهذه التجربة في منتصف القرن الماضي عندما أفضت حركة التحرير الليبية سنة1951، بمساعدة خارجية نشطة، إلى ولادة دولة زعامية جديدة، أساس حداثتها قيامها على محاولة مكثفة لإعادة ترتيب شروط بناء المجموعة السياسية وفق مبادئ تعتمد في المقام الأول على مركزة واحتكار إنتاج الزعامة، وهو ما شكل عائقا أمام انجاز أي مشروع سياسي ديمقراطي.