محمد استيتو، الكوارث الطبيعية في تاريخ مغرب القرن 16،مركز ابن خلدون للدراسات والأبحاث والترجمة والتحقيق، الرباط،2020،حوالي 407 صفحة
ركزت أغلب الدراسات التاريخية بالجامعة المغربية على التأريخ للدول التي تعاقبت على حكم البلاد، وبذلك اهتمت بجوانب ذات طابع سياسي وعسكري، ومنها ما اهتم بالبحث المنوغرافي (المبحثة) أو بالعلاقات الدولية. هذا في الوقت الذي فتح فيه بعض الدارسين حقل التاريخ الاجتماعي، فأسهموا بذلك في بناء اسطوغرافية تاريخية مغربية متنوعة. وضمن هذا الحقل يمكن إدراج الدراسة التي أنجزها الأستاذ محمد ستيتو والموسومة بــ “الكوارث الطبيعية في تاريخ مغرب القرن 16”[1]، حيث أرخ من خلالها لحالة أولئك الذين رمى بهم التاريخ في زواياه المظلمة، فظلوا بدون تاريخ، كما بنى اللبنات الأولى لفهم معوقات دخول المغرب بوابة الحقبة الحديثة حسب ما جاء في تقديم محمد لغرايب. فالدراسة التي بين أيدينا حاولت إذن تقديم قراءة مختلفة لتاريخ المغرب اعتمادا على منطلق جديد في تفسير وتأويل الأحداث التاريخية.
الكتاب في الأصل رسالة تقدم بها صاحبها لنيل دبلوم الدراسات العليا، خلال الموسم الجامعي 1987-1988 برحاب كلية الآداب ظهر مهراز فاس.وقد صدر محتفظا بعنوانه الأصلي، ويتكون من مدخل وقف فيه الباحث على طبيعة الموضوع والأسباب التي قادته إلى البحث فيه، مع الإشارة إلى المصادر والمراجع المعتمدة والإشكالية وخطة العمل، إلى جانب خمسة أبواب قسم كل منها إلى فصلين، ثم خاتمة وجداول جرد لمختلف الكوارث الطبيعية التي عرفتها المرحلة المدروسة.
والغاية من اختيار الموضوع وتأطيره الزمني، حددها الباحث قائلا: “إن الغاية من دراسة الكوارث الطبيعية ليس البحث عن تفسير لتاريخ المغرب من هذه الزاوية، وإنما استغلال وسائل التفسير الممكنة للتاريخ وتجريب كل المناهج لمحاولة فهم تاريخ المغرب خاصة وأن فترات التحولات السياسية الكبرى تتميز بحضور مكثف للكوارث الطبيعية من كل نوع وصنف”[2].كما عزا سبب اتخاذ القرن 16 إطارا زمنيا للدراسة بانتشار كوارث متعددة خلال هذه المرحلة التي تزامنت ودخول البلاد منعطفا حاسما نحو عصر جديد.
هذا ويرى المؤلف أن موضوع الكوارث الطبيعية في تاريخ المغرب لم يحظ بعد باهتمام كبير سواء من قبل المؤرخين والدارسين المغاربة أو الأجانب[3]، علما بأن السيوف والسهام والمدافع نفسها لم يكن لها من الأثر في مصائر الشعوب ما لقملة التيفوس أو برغوث الطاعون أو بعوضة الحمى الصفراء من مخلفات. فالكوارث الطبيعية إذن لم تكن حدثا بسيطا في تاريخ المغرب، كما لم تكن نتائجها ظرفية، بل على العكس من ذلك، تولدت عنها نتائج ديمغرافية واجتماعية وسياسية في غاية الخطورة، حيث أحدثت هزات وشروخا عميقة في المجتمع، وواجهها الإنسان بردود فعل متطرفة في الغالب الأمر الذي رسخ لديه ذهنية وطريقة تفكير لاتزال بعض آثارها بادية إلى اليوم.
تمحور إشكال هذه الدراسة حول البحث عن أسباب تراجع وتدهور أحوال المغرب على مستويات عدة مع بداية العصور الحديثة. ففي الوقت الذي فسر بعض الدارسين هذا التراجع بضعف سلطة المخزن واستقلال الأطراف عنها، أو بالاضطرابات السياسية أو بالغزو الأجنبي للسهول الأطلسية وما نتج عن ذلك من تراجع إنتاجية المغرب إلى جانب تراجع مساهمته في التجارة الدولية.تم إغفال أو استبعاد الكوارث الطبيعية التي تزامنت في وقت محدد وجاءت على درجة كبيرة من الخطورة، وبذلك حاولت الدراسة الإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن اعتماد هذه الظواهر الطبيعية “السلبية” عوامل أساسية في تراجع أوضاع البلاد؟خاصة وأن المرحلة قيد الدراسة تميزت بأزمات حادة. فهل يعزى ذلك للكوارث الطبيعية المختلفة التي تعاقبت على البلاد خلال سنوات عدة من القرن 16؟ أم أن تلك الكوارث لم تفعل في الواقع ما شاء لها أن تفعل إلا لأنها وجدت أمامها مجتمعا مهلهلا ومستسلما؟
استهل المؤلف هذه الدراسة بالوقوف على دلالة لفظ الكارثة، حيث ميز فيه بين مستويين: الأول له صلة بالحالة النفسية المتأزمة من جراء ضيق أو مكروه، والثاني اقترن بظواهر ووقائع وأحداث قد تتسبب في فواجع وأزمات ديمغرافية أو سياسية. وفي هذا السياق أكد على أنه يصعب تحديد الأسباب الفعلية لبعض هذه الكوارث (فعل طبيعي أم عمل بشري أم هما معا)، فالإنسان ساهم في تهيء الظروف الملائمة لانتشارها واستفحالها ولو أراد لاجتازها بأقل خسارة ممكنة.
ومن الناحية الموضوعاتية فإن الدراسة ناقشت مواضيع فريدة وقاربتها من زوايا متعددة، حيث عالجت، في الباب الأول، قضايا بنيوية ارتبطت بالظروف الطبيعية وأنماط العيش (الموقع، التضاريس، الغطاء النباتي، الترحال، الاستقرار…)، الأمر الذي مكن الباحث من الوقوف على إمكانيات البلاد ومواردها الاقتصادية ومعرفة ما إذا كانت قادرة على ضمان إمكانية الصمود في وجه الكوارث الطبيعية.ورصد الباحث مدى ملائمة أنماط العيش لمحيطها حسب تعبير الباحث. وفي اعتقادنا أن ما جاء في هذا الباب، رغم أهميته وتوطيئه لموضوع البحث، كان بالإمكان اختصاره أثناء مرحلة الطبع، وذلك لأن معلوماته كانت ذات أهمية إبان مناقشة الرسالة لكنها أصبحت متجاوزة في وقتنا الراهن.
أما الباب الثاني، فقد تطرق لأخبار الكوارث الطبيعية خلال المرحلة قيد الدراسة.كما عالج موضوع الأمراض الفصلية أو المستوطنة في الوسط المغربي. ويمكن اعتبار هذا الفصل جوهر الدراسة، حيث تجاوز فيه الباحث السرد الكرونولوجي للأحداث وناقش أشكال تفاعل الإنسان مع المجال كما رصد أوجه تدخله السلبي، ذلك أنه هيأ أحيانا الظروف الملائمة لحدوث الوباء وانتشاره بين الناس.
وعلى المنوال نفسه عالج الباحث موضوعات الباب الثالث، حيث خصصه لمناقشة الانعكاسات والنتائج المترتبة عن تلك الكوارث على السكان والمجال وما نجم عنها من خلخلة للبنيات الاجتماعية ومن هزات أخلاقية وما تبعها من اضطراب الأحوال النفسية للأفراد.
وتطرق الباب الرابع إلى تأثير الكوارث الطبيعية على الاقتصاد المغربي وعلى غيره من الامكانات القابلة للاستغلال والاستعمال. ورصد دور العوامل البشرية والكوارث الطبيعية في زعزعة تلك المقومات والامكانات الاقتصادية.
أما الباب الخامس والذي أخذ حيزا هاما من الكتاب، فقد سلط الضوء على العلاقة بين الكوارث والأوضاع السياسية من جهة والفكرية الروحية من جهة أخرى. حيث ناقش الدور الذي لعبته مخلفات الكوارث الطبيعية في تمكين السعديين من القضاء على خصومهم من القوى المحلية أو الخارجية. وإن كنا نسجل في هذا السياق أن التاريخ السياسي جذب الباحث إليه حيث أورد معطيات مفصلة حول نشأة الدولة السعدية، علما أن الخزانة التاريخية المغربية حافلة بدراسات قيمة حول الموضوع.
وقارب الباحث في هذا الباب موضوعا فريدا من نوعه، حيث وقف على نظرة المغاربة للمصائب والمحن التي أصابتهم والتبريرات التي أعطوها لذلك، وما ترتب عن هذا الوضع من تعزيز مكانة الأولياء في المجتمع ومن انتشار لفكرة المهداوية وعودة المسيح وما إلى ذلك مما له علاقة بالظلم والعسف “وعقاب الله” و”آخر الساعة”. الأمر الذي يجعل من هذه الدراسة في نظرنا رائدة على مستوى التاريخ الاجتماعي عموما والمقاربة النفسية على الخصوص.
وفي نهاية الدراسة، استخلص الباحث معطيات مركزة حول أنواع الكوارث التي ضربت مغرب القرن 16، والعوامل التي ساهمت في انتشارها، كما أثار وقعها على الأوضاع السياسية لاسيما مساهمتها في تغيير الأسر الحاكمة، وعلى الأدوار التي لعبتها القوى الفاعلة خلال هذه المرحلة كالزوايا وإيبيريا نظرا لما كان لتدخلهم من أثر سلبي حال دون حدوث تراكم معرفي وتقني سواء في ميدان الإنتاج أو على مستوى التجارة والمبادلات.
نحن إذن أمام دراسة ساهمت في بناء أسس البحث حول الكوارث الطبيعية في تاريخ المغرب خصوصا والتاريخ الاجتماعي على العموم، ولعلها الدافع بصاحبها إلى البحث في موضوع الفقر والفقراء في مغرب القرن 16و17. بل والمحفز لباحثين آخرين إلى البحث في مواضيع ذات صلة كالديمغرافيا والزلازل وغيرهما.
ولا يفوتنا في هذا السياق أن نسجل بعض الملاحظات التي من شأنها أن تفيد في حالة طبع نسخة ثانية من هذا الكتاب، كالاحتفاظ بمقدمة الأبواب والفصول كما في النسخة الأصل، عوض دمجها في المتن نظرا لأهميتها في تأطير القارئ، إلى جانب تلخيص بعض المعطيات ذات الطابع البنيوي في تاريخ المغرب (المناخ، والتضاريس…) اعتبارا للمدة الفاصلة بين تاريخ المناقشة وتاريخ الطبع وما تخللها من تراكم في الدراسات التاريخية على مستوى الجامعات المغربية.
[1] يعطي عبد الأحد السبتي تصنيفا مختلفا للحقول التاريخية، حيث يفصل تاريخ الكوارث عن التاريخ الاجتماعي، ويفرد له حقلا منفردا أطلق عليه اسم تاريخ الحياة اليومية. أنظر “البنيات والاتجاهات”، التاريخ والذاكرة: أوراش في تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء الطبعة الأولى 2012.
[2]استيتو (محمد)، الكوارث الطبيعية، ص، 14.
[3] ينطبق هذا القول على المرحلة التي أنجز فيها هذا العمل (1988)، حيث كانت الدراسات حول الموضوع معدودة على رؤوس الأصابع، أما الآن فقد توفر رصيد لا بأس به من الأبحاث حول الموضوع وامتداداته.