فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ترجمة، فاطمة الزهراء ازرويل، نشر الفنك، الدار البيضاء، 1998.
في تقديمها للترجمة العربية لكتابها [1]rêves de femmes، وهو تقديم احتجاجي على سطو بعض الناشرين على الكتاب دون الحصول على حقوق النشر والترجمة، سطو على جهد تطلب 900 ساعة من العمل ما يعادل 5 سنوات من الكتابة، كتبت فاطمة المرنيسي مشيدة بالترجمة التي أنجزتها فاطمة الزهراء ازريويل ما يلي:
” وفي انتظار التوقف عن هذه الأعمال المشينة، أنصحك باقتناء هذه الترجمة الرائعة التي أعدتها الأستاذة فاطمة الزهراء ازريويل، حيث حصلت على موافقتي باعتبارها ترجمة تؤدي المعنى الذي أردته دون تشويه أو مسخ، وحيث على الأقل يتوضح أن الاسم اسم ينطق ويكتب بطريقة سليمة “للا طام” ليست لا لا تم” و”للا مهاني” ليست للاماني” كما هو الشأن في الترجمة التي أصدرتها دار السيد أو السيدة عطية.”
أعتبر هذه الفقرة مدخلا دقيقا بلغة فاطمة المرنيسي للدخول إلى عالم النص وإلى ترجمته. كلمة تعكس عمق التواطؤ الذي تم بين الكاتبة والمترجمة من أجل إخراج نص أساسي في تاريخ الكتابة السيرية في المغرب. كتابة لا تقتصر في مقاصدها على كتابة سيرة ذاتية ثقافية بقدر ما تضع مقاصد عميقة عاكسة للخلفيات السوسيولوجية التي وجهت أعمال فاطمة في مجملها والتي وجهت كذلك أعمال واهتمامات المترجمة. مقاصد تحتويها كتابة تريد تشريح الشرط الاجتماعي الذي عاشت فيه المرأة في المغرب إلى حدود الزمن المعاصر.
هذا النص ليست دراسة في القضايا النظرية للترجمة. إنه تأمل في تجربة للترجمة الأدبية تم في إطار تواطؤي وتوافقي بين كاتبة ومترجمة يجمعهما هم واحد: البحث العلمي ذو الخلفية النضالية من أجل المرأة وكرامتها. نساء على أجنحة الحلم نص استثنائي في الكتابة السيرية في المغرب. نص لم يكتف بالحكي، بل تجاوزه إلى الحفر والتشريح. وهي ترجمة لم تكتف بالنقل البارد إلى لغة أخرى، بل أعطت للنص حياة جديدة داخل اللغة العربية.
هو إذن لقاء تواطئي بين امرأتين من خلال لغتين مختلفتين وثقافة واحدة.
ليست هناك معلومات كثيرة عن كيفية الاشتغال وكيفية التعاون الذي تم بين الفاطمتين، لكن قراءة النصين يمكن أن يقدم العناصر الأساسية التي كانت وراء وسم فاطمة المرنيسي لعمل فاطمة الزهراء ازريويل بالترجمة الرائعة.
أول مؤشر لهذا التواطؤ ولعمق العمل الذي أنجزته المترجمة هو رضا الكاتبة على وعي المترجمة بكيفية نقل أسماء الأعلام إلى العربية أو بالأحرى استعادة العربية لأسماء هي من صلب لغتها: للا طام وللا مهاني.
ومن هذه الملاحظة نستنتج كذلك قوة الترجمة حين نقرأ النص في نسخته العربية ونلاحظ منذ غلاف الكتاب أن المترجمة وضعت عنوانا لا يترجم حرفيا العنوان الأصلي ويجعل من الترجمة سفرا في عبقرية اللغتين: نساء على أجنحة الحلم[2] في مقابل العنوان الفرنسي Rêves de femmes: Une enfance au harem وفي مقابل العنوان الإنجليزي: Dreams of Trespass: Tales Of Harem Girlhood.
ما يثير الانتباه إثر هذه الملاحظة أن كل ترجمة (وترجمات الكتاب كلها نسوية)، غيرت من صيغة العنوان الأصلي بالانجليزية، والذي يمكن ترجمته حرفيا إلى الفرنسية ب: rêves d’intrusion، وإلى العربية ب: أحلام الاقتحام أو أحلام التعدي. غير أن ذكاء المترجمتين، ربما بتوافق مع الكاتبة، انتهى إلى هذا الاختيار الملائم للغة الفرنسية وللغة العربية.
ما يثير انتباهنا كذلك أن الترجمة العربية اكتفت بترجمة العنوان المركزي وأغفلت ترجمة العنوان الفرعي الذي تتضمنه الصفحة الثانية من الكتاب: Une enfance au harem.
وبعيدا عن تقديم حكم قيمة على هذه الخيارات، يمكن القول إن الترجمة في إطار توافقي، تمت في مناخ من الحرية التعبيرية المشروطة باحترام المحتوى الأصلي مع ملاءمته للغة المستضيفة.
المترجمة: فاطمة الزهراء ازريويل
أود الوقوف في هذا العرض عند تجربة المترجمة في هذا العمل (علما أنها مترجمة أغلب أعمال فاطمة المرنيسي) في علاقتها بممارستها المعرفية عامة وبخياراتها العلمية في البحث.
وبتصفح بسيط لسيرة المترجمة في موسوعة ويكيبيديا، نقرأ ما يلي:
فاطمة الزهراء ازريول مناضلة وباحثة في الحركة النسائية المغربية، وهي تمثل الجيل الثاني بعد الباحثة السوسيولوجية فاطمة المرنيسي، وهي عميدة، تطرقت في أبحاثها إلى مواضيع لطالما اعتبرت من الطابوهات، كالبغاء والدعارة، وفصلت في الظروف التي تجبر المرأة على امتهان هذه المهنة التي تبخس من وضعها في المجتمع.
أما مترجماتها فإن “جل مؤلفات فاطمة المرنيسي قد ترجمت بغير إذنها، بينما ترجمة فاطمة الزهراء ازريويل لمؤلفاتها من الفرنسية إلى العربية، فهي الترجمة التي صادقت عليها وهي:
- السلوك الجنسي في مجتمع إسلامي رأسمالي تبعي، بيروتدار الحداثة، 1982.
- نساء الغرب: دراسة ميدانية، الشركة المغربية للناشرين المتحدين 1985 .
- نساء على أجنحة الحلم، المركز الثقافي العربي، بيروت 1998.
- سلطانات منسيات، المركز الثقافي العربي، بيروت 2006.
- ما وراء الحجاب، الجنس كهندسة اجتماعية، المركز الثقافي العربي بيروت، 2005.
- شهرزاد ترحل إلى الغرب، المركز الثقافي العربي بيروت 2005.
وفي أحد أعداد صحيفة الصحراء المغربية بتاريخ 5 مارس 2010، نقرأ في مقال بعنوان: فاطمة الزهراء ازريويل: مطاردة الثقافة الذكورية ما يلي:
“تعتبر ازرويل باحثة نسوية متميزة، من الجيل التالي لفاطمة المرنيسى، وهى التي ترجمت سيرتها الذاتية، التي اعتبرتها المرنيسي رائعة، واستطاعت أن تنقل أفكارها نقلا صحيحا للقارئ.
شكلت أزرويل لسان المرنيسي العربي، لأنها أبت أن تفوت على القراء المعربين فرصة التعرف على «سلطانات منسيات»، و»الحريم السياسي»، و»أحلام نساء»[3] (1996)، «وشهرزاد ترحل إلى الغرب» (1991)، وصولا إلى كتابها الأول «الحريم السياسي: النبي والنساء» (1987)، الذي تتحدث فيه المرنيسي عن الدور الريادي لنساء النبي وتأثيرهن آنذاك. معجبة كثيرا بنساء التاريخ العربي، وأفردت لهن مقالات في مجلات نسائية، تتحدث عن دورهن الرائد في مواجهة المعارك والشدائد والمكائد.
اختارت ازرويل البحث في المسألة النسائية، من مشرق العالم العربي إلى مغربه، في مصر، ولبنان، وسوريا، وتونس، والمغرب، وتناولت الأبعاد السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية لهذه المسألة، دون أن تغفل بعدا له أهميته في المجتمعات العربية والإسلامية، هو النظام الأبوي، بعلاقات السلطة القمعية السائدة فيه، على جميع المستويات، وبينها علاقة الرجال بالنساء، القائمة على الهيمنة الذكورية.“
لا يمكن أن نقرأ عناية فاطمة الزهراء ازريويل بالمسألة النسوية من باب الانخراط المعرفي في قضايا ذات بعد اجتماعي وإنساني فحسب، فالتركيز في ترجمتها للعديد من مؤلفات فاطمة المرنيسي على الشرط النسائي في إطار تواطؤ فكري بين امرأتين من جيلين مختلفين، لا يمكن أن يكون إلا برمجة لمشروع ثقافي فكري دشنته المرنيسي في مختلف مؤلفاتها وحولته ازريويل إلى صوت عربي يصل إلى كل الفئات المهتمة بالمرأة في كافة أبعادها وقضاياها ليس في المغرب وحده بل في مجمل البلاد بما فيها الغرب.
لا ننسى أن للغرب حريمه وتصوره الخاص عن الحريم وممارساته الحريمية الخاصة، مغلفة في نماذج هوليوودية كما قالت فاطمة المرنيسي:[4]
“فيروس الحريم ليس مرضا معيبا، فهو يصيب علية القوم، أبناء الحسب والنسب، في أغنى دول العالم، بل يسعنا القول إن هذا الفيروس الفظيع مؤشر جيد للعصرنة. فامرأة الحريم لا تستطيع كسب عيشها لأن المال موجود في النطاق العام، مجال الصفقات السياسية والتجارية. وفي المدينة التي تعمل فيها النساء، تتلاشى هندسة الفصل بين الأمكنة والوظائف. وفي هذه المدينة تلتبس أدوار الجنسين، ويعتري الرجال القلق لأن المال والرجولة لم يعودا وجهين لعملة واحدة تلقائيا.”
ويمكن اعتبار كتابة فاطمة المرنيسي لـ rêves de femmes، ثم ترجمته بعنوان “نساء على أجنحة الحلم”، لحظة فارقة في تاريخ الكتابة النسائية السيرية والتخييلية والعالمة حول طابوهات المجتمع المغربي ذي الخلفية الذكورية في تصور المرأة باعتبارها حريما، وكأن المرنيسي لم تكتف بالدراسة السوسيولوجية والفلسفية لمفهوم الحريم، وكأن ازريويل لم تكتف بأبحاثها في وضع المرأة المغربية المهمشة القابعة في قبضة الفقر وذكورية الرجل، فقررت الاثنتان كتابة وترجمة أن تحفرا في الذاكرة البعيدة ومن خلال الحكي الجامع بين السرد المرجعي والسرد التخييلي من أجل تفكيك أوضاع لا ينتبه إليها إلا في حدود السطحية والمقاربة العابرة.
المرأة والحدود في “نساء على أجنحة الحلم”
أشرت أعلاه إلى أن العنوان الأصلي لا يحيل مباشرة على أحلام النساء إلا من خلال العنوان الفرعي، ينما يحيل العنوان الأصلي على مسألة الحلم باختراق الحدود، وهي المسالة التي نجد لها حضورا قويا داخل النص منذ الصفحة الأولى. غير أن هدفي ليس قراءة تقنية أو سردية أو معرفية في هذه السيرة الروائية بقدر ما هو استخراج للعناصر السردية المتصلة بالمرأة والتي تشكل محورا أساسيا في تجربة المترجمة وممارستها، ولذلك فإن العبارات والفقرات التي أستشهد بها حول هذه العلاقة، مقتطفة من الترجمة العربية لكتاب: نساء على أجنحة الحلم.
ما أتحدث عنه ليس قراءة أو تقييما للترجمة، بل إنه تلميح لما يكون قد أغرى الباحثة فاطمة الزهراء ازريويل المسكونة بقضايا المرأة، بترجمة هذا النص الذي يدور حول الحريم في مجتمع فاس ووضعية المرأة بداخله، المرأة المستكينة العاشقة المتمردة الحاقدة التواقة إلى اختراق الحدود.
وراء متعة الحكي الأخاذ، يختفي الصوت المفكر لفاطمة المرنيسي التي تغري قارئها بمواصلة الحكي، في الوقت الذي تحقنه بمحلول الوعي من خلال سفر شاق يعبر عالم الحريم التواق إلى الانعتاق، ولذلك نكتشف كقراء لا نسعى وراء التسلية، أن رؤيتنا للعالم قد تغيرت تماما حين نستوعب في العمق دلالة الحدود ودلالة اختراق الحدود.
اختراق الحدود
عنونت فاطمة المرنيسي الفصل الأول من هذه الرواية ب:les frontières de mon harem، وترجمتها فاطمة الزهراء ازريويل ب: حدود الحريم. ومنذ الصفحة الأولى تبدأ رحلة التعرف على المرأة داخل الحريم الفاسي. حديث لا تكتفي بإضاءة مفهوم الحدود بل كيف كانت النسوة داخل الحدود تخترقنها وتسعَيْن إلى اختراقها وهدمها. خط سردي موضوعاتي يعبر النص بأكمله ويفسر في نظري كيف وقعت المترجمة في فخ النص الذي يستجيب محتواه تماما لتطلعاتها في النضال من أجل المرأة التي اخترقت الحدود الأولى، حدود الاعتراف والتعلم، لكنها لم تخترق بعد حدودا أخرى، حدود المساواة والكرامة خصوصا في شقها الاجتماعي والاقتصادي.
نقرأ في الصفحة 9 ما يلي:
“مشاكلنا مع النصارى كما يقول أبي وكما هو الشأن مع النساء تبدأ حين لا تحترم الحدود، وقد ولدت في فترة فوضى عارضة، إذ أن النساء والنصارى كانوا يحتجون على الحدود ويخرقونها باستمرار.”
في الصفحة نفسها نقرأ:
“يقول أبي بأن الله عندما خلق الأرض وما عليها فصل بين النساء والرجال، وشق بحرا بكامله بين النصارى والمسلمين، ذلك أن النظام والانسجام لا يتحققان إلا إذا احترمت كل فئة حدودها، وكل خرق يؤدي بالضرورة إلى الفوضى والشقاء. غير أن النساء كن مشغولات باختراق الحدود، مهووسات بالعالم الموجود خارج الأسوار، يتوهمن أنفسهن طيلة النهار متجولات في طرق خيالية. وخلال تلك الفترة كان النصارى يجتازون البحر تباعا زارعين الموت والفوضى.”
لعبت الكاتبة ببراعة بمفهوم الحدود وبرعت الترجمة في نقل الصورة إلى العربية، ص11:
“إن الحدود لا توجد إلا في أذهان الذين يملكون السلطة. ما كان بإمكاني التأكد من ذلك في عين المكان لأن عمي وأبي كانا يؤكدان بأن النساء لا يسافرن، فالأسفار خطيرة والنساء عاجزات عن الدفاع عن أنفسهن. عمتي حبيبة التي طلقت وطردت من بيتها دون سبب من طرف زوج كانت تكن له كل الود، تزعم بأن الله بعث بجيوش الشمال ليعاقب الرجال على عدم احترامهم للحدود التي تحمي الضعفاء، والإساءة إلى امرأة تعد تخطيا لحدود الله، ذلك أن الإساءة إلى الضعفاء ظلم، وقد بكت عمتي حبيبة طيلة سنوات.”
التربية هي أن تتعلم كيف تميز الحدود (…)
« La frontière n’existe que dans la tête de ceux qui ont le pouvoir. Je ne pouvais pas aller m’en rendre compte sur place moi-même parce que mon oncle et mon père affirmaient que les filles ne voyagent pas. Les voyages sont dangereux et les femmes incapables de se défendre. Tante Habiba, qui a été répudiée et renvoyée sans aucune raison par un mari qu’elle aimait tendrement, prétendait qu’Allah avait envoyé le armées du nord pour punir les hommes d’avoir violé les hudud qui protègent les faibles. Faire du mal à une femme, c’est violé les hudud, les frontières sacrées d’Allah. C’est illégal de faire du mal aux faibles. » p. 9.
L’éducation c’est apprendre à repérer les hudud (…)
وأنت تقرأ نص فاطمة المرنيسي وترجمته إلى العربية، تجد نفسك مسافرا في الحكي وفي مفاهيم انسلت إلى داخل الحكاية لتخلخل الوثوقيات، وعلى رأسها مفهوم الحد، الحد الذي تحاول النسوة اختراقه، الحد الذي تلجأ إليه المرأة لتبرر ظلم الرجل. الحد متعدد. ولأنه متعدد استطاعت المرأة اختراقه في غفلة من الرجل مثلما فعلت حين سرقت مفتاح صندوق الراديو الذي كان حكرا على الرجال، ومثلما فعلت حين خرجت إلى نور العلم عشية استقلال المغرب.
ليس في نية هذه المداخلة أن تدرس العملية الترجمية، فلذلك سياق آخر. هدف هذا النص أن يشير إلى التواطؤ الضمني والصريح الذي جعل كتابات المرنيسي ترى النور في لغات أخرى ومنها هذا الكتاب وبقلم مترجمة واحدة (ما عدا كتاب: هل أنتم محصنون ضد الحريم؟ الذي ترجمته نهلة بيضون)، جمعت في ممارستها العلمية بين البحث في القضية النسائية وبين الترجمة في القضية نفسها ولنفس المؤلفة. اشتغال على اللاوعي الجمعي من خلال الحفر في إشكالات تخص المرأة والمجتمع، المرأة والجنس، المرأة والتقاليد، المرأة والمجتمع الأبيسي الماكر.
المرأة: هشاشة الكائن التي تقهر الجبروت
الترجمة كتابة ثانية للنص الأصلي، وعلى أساس ذلك يكون لصاحبها حق امتلاك هوية النص وكأنه جزء من عقيدته. ذلك ما يظهر حين نرى كيف أن المرأة داخل حريم لم يمنعها من اختراق الحدود والاحتجاج وتغيير ما يمكن تغييره. وكأني بكاتبة النص ثم مترجمته (كاتبته الثانية) تقولان إنه رغم القهر، تستطيع المرأة الانتصار داخل حدودها الضيقة، ولذلك من الضروري أن تستمر في اكتساح المساحات الممكنة.
“كانت أمي، التي تكره الحياة الجماعية في الحريم وتحلم بالعيش منفردة مع أبي، لا تقبل ما تدعوه التلاؤم مع الأزمة إلا على شرط أن لا يكون هناك تمييز بين النساء، وتفرض التوفر على نفس الامتيازات التي تتمتع بها زوجة عمي رغم التباين في العدد والمكانة الاجتماعية”. (ص14)
“ولدت أنا وابن عمي في نفس اليوم، ذات ظهيرة من أيام رمضان الطويلة، رأى النور قبلي في الطابق الثاني وكان سابع إخوته، أما أنا فقد ولدت بعده بساعة في حجرتنا بالطابق السفلي وكنت بكرة والدتي. ورغم العياء الذي كان باديا عليها عقب الوضع، أصرت أمي على أن تطلق النساء الزغاريد ويحتفلن بنفس الطريقة التي استقبلن بها سمير، لقد رفضت دائما تفوق الذكور وعدته عبثا وأمرا متناقضا مع الإسلام الحق، ولذلك كانت لا تفتأ تردد: “لقد خلقنا الله جميعا متساوين”” (ص17).
كانت المرأة عاجزة عن الفعل المباشر، لكنها كانت بالمقابل قادرة على إعادة ترتيب الأشياء والقيم ونقل التجربة إلى الأجيال التي ستحمل المشعل:
“(…) كنت أبكي وأقصد أمي لكي أخفي وجهي في تلافيف قفطانها، وكانت هي تكرر دائما بأن علي أن لا أعول على سمير لكي يثور مكاني “عليك أن تتعلمي الصراخ والاحتجاج كما تعلمت المشي والكلام، إذا كنت تبكين حين تسمعين السباب فكأنك تطالبين بالمزيد”. (ص17)
ولأن للأم مرجعية أقوى للاستشارة والاستنارة، فقد كانت الجدة هي الخبير المحنك في تدبير السلوك والمواقف، وحتى تدبير آليات الاحتجاج ضد الظلم وتعدد الزوجات التي كانت من ضحاياه:
“كانت قلقة من أن أتسم بالجبن عندما أكبر، إلى حد دفعها لاستشارة أمها أي جدتي الياسمين، حين زرناها خلال عطلة الصيف. كانت جدتي الياسمين مشهورة بإتقانها فن الخصام، وقد نصحت أمي بأن تكف عن مقارنتي بسمير وأن تشجعني على حماية من هم أصغر مني “هناك طرق كثيرة لتنمية روح المسؤولية لدى الطفل، إن العدوانية والأخذ بتلابيب الآخرين حل ولكنه بالتأكيد ليس بالحل الأرقى، لو شجعتها على استشعار المسؤولية تجاه الصغار المحيطين بها لمنحتها القدرة على إثبات ذاتها. ليس بالتعويل على سمير لحمايتها عجزا، بما أنها تتعلم كيف تحمي الآخرين، وإذا عرفت ذلك فستعرف حتما كيف تحمي نفسها.” (ص18)
ماذا لو لم يترجم هذا الكتاب من لغته الأصلية إلى الفرنسية ثم إلى العربية؟ هل من كان من حظ القارئ العربي (القارئ الذي لا يقرأ إلا بالعربية) أن يتعرف على محتواه الصادم. المحتوى الذي يُشرِّح بنية المجتمع الذكوري ومن خلالها المفاتيح التي تلجأ إليها المرأة للخروج من عقال الاستكانة.؟
هذا ما دفعني إلى أن أنظر إلى ترجمته، لا من منظور العمل التقني في الاشتغال بين لغتين، بل من منظور اعتبار الترجمة فعل تداخل ثقافي أولا. وفي حالة كتاب فاطمة المرنيسي، هو تداخل ثقافي داخل الثقافة الواحدة تعكسها كل لغة من خلال عبقريتها الخاصة. لذلك فإن قارئ النص المترجم لن يلاحظ على الإطلاق أن الأمر يتعلق بنقل من الإنجليزية ثم من الفرنسية لولا أن التصريح بالترجمة والمترجم تظهر منذ صفحة الغلاف. الشيء نفسه سنلاحظه في كتابات المرنيسي غير الإبداعية. من النادر في هذه الترجمة أن نحتاج إلى النص الأصلي لتدقيق عبارة أو مصطلح. الترجمة داخل هذا التواطؤ فعل اعتمد احتواء النص الأصلي داخل وخارج اللغة ليعيد إنتاجه في لغة جديدة، هي العربية التي تجري بداخل ثقافتها ومرجعيتها الاحداث والأفعال.
خسارة ألا تجد كتب من هذا المستوى المعرفي من ينقلها إلى لغتنا. الحياة بدون ترجمة حقيقية حياة مصغرة.
في معنى الحريم
أفاضت فاطمة المرنيسي في تحليل مفهوم الحريم في كتاباتها النظرية، غير أن الحريم في هذه السيرة الروائية يأخذ بعدا آخر، فقط لأن الحديث عنه هنا وتفكيك عناصره نابع من تجربة الجسد والروح داخل حريم مغربي. وشتان بين أن تحلل المفهوم في مظانه النظرية وبين أن تعيشه بالفعل:
“لم تكن للا طهور قوية فحسب، ولكنها كانت زوجة جدي التازي الوحيدة التي تنتمي إلى عائلة أرستقراطية في فاس، لقد كانت ابنة عمه وتحمل نفس الاسم. جاءت ليلة زفافها بناج مرصع بالزمرد واللآلئ والجواهر السوداء، وقد احتفظ به في صندوق حديدي تودع فيه الأشياء النفيسة، يوجد في الزاوية اليمنى بجناح الرجال. لكن الياسمين التي قدمت من أصل قروي متواضع شأنها في ذلك شأن الزوجات الأخريات ترفض الإذعان للأمر كما يبدو من أقوالها: “لا أعتبر أحداً أفضل مني لمجرد كونه يملك تاجاً”. ثم تضيف وهي تدير رأسها صوب حجرات لَلَّا طهور: “أياً كان غناها، فإنها هي الأخرى محاصرة في حريم، مثلي تماما”. طلبت من الياسمين أن تشرح لي ما تقصد بقولها في حريم فقدمت لي عدة أجوبة لم تشف غليلي.
كانت تقول أحياناً بأن المرأة تكون محاصرة في حريم عندما تفقد حرية التحرك، أو أن الحريم مرادف للشقاء، لأن المرأة تقتسم فيه زوجها مع أخريات، وفعلاً كان على الياسمين أن تنظر ثمانية ليال كاملة قبل أن تداعب زوجها خلال ليلة واحدة: “ومداعبة الزوج شيء رائع. حسب قولها -إنني سعيدة، لأن نساء جيلكن لسن مجبرات على اقتسام أزواجهن”. لقد وعد الوطنيون الذين كانوا يناضلون ضد الفرنسيين ببزوغ مغرب جديد تسود فيه المساواة بين الجميع، للنساء الحق في التعليم كالرجال، وأن تكون كل منهن الزوجة الوحيدة لزوجها. وفعلا كان العديد من الوطنيين بفاس متزوجين من امرأة واحدة، كما كانوا يحتقرون الرجال المتزوجين من عدة نساء، ومن ثم كان لكل من والدي وعمي المتأثرين بالحركة الوطنية زوجة واحدة فحسب.”
من الحريم إلى المغرب الجديد
من حقق للمرأة قدرا من الاستقلالية والكرامة بعد دهر عاشت فيه سجينة حريم توجد صورته في المباني وتوجد روحه في عقول الرجال؟ وهل تحققت الكرامة؟
“حين أطلقت الياسمين اسم للا طهور على إوزتها، كانت تساهم بطريقتها في خلق مغرب مثالي جديد ستقتحمه حفيدتها، ولذلك كانت كثيرا ما تردد على مسامعي: “لقد تغير المغرب بسرعة يا بنيتي، وسيتغير أكثر”. كانت هذه النبوءة تغمرني سعادة، سأكبر في مملكة سعيدة حيث تتوفر النساء على حقوقهن بما في ذلك مداعبة أزواجهن كل ليلة”. (ص43)
حين قررت أن أكتب في هذا الموضوع، لم يكن هدفي أن أسافر بحثا بين النص وترجمته. كان هدفي مزدوجا. أن أضيء فعل الترجمة بين نصين – وبين لغتين – ينتميان إلى ثقافة واحدة. هي ترجمة حققت تداخلا ثقافيا مركبا: نقل نص من لغة غريبة إلى ألفتها الثقافية الني صدرت عنها. ومن هذا المنطلق جاء اختيار باحثتين يجمعهما هم تفكيك الشرط النسائي أينما كانت المرأة، لا ترفا فكريا بل من أجل الفهم أولا ومن أجل التغيير ثانيا. تغيير يأتي من خلال نضال العلم والكتابة.
كم من الناس قرأ نص فاطمة المرنيسي، وكم لدينا من القراء الفرنكوفونيين بالنظر لمن لا يقرأ إلا بالعربية. ولولا هذه الترجمة لفات قراء العربية أن يتعرفوا على جزء عميق من تاريخهم الاجتماعي والثقافي المعاصر. أثرته فاطمة المرنيسي بالتحليل الموازي للحكي: الحكاية العالمة.
إن الترجمة ضرورة حضارية كبرى لم يتوان أسلافنا عن إيلائها المكانة التي تستحقها في عالمهم القديم، عالم الفكر والمعنى.
الترجمة عملية تفاوض[5]بين ثقافات وتفاوض داخل الثقافة الواحدة من أجل المعرفة والتنوير.
—————
هوامش:
1- Fatéma Mernissi, Rêves de femmes, Ed. le Fennec, 1996.
2- فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ترجمة، فاطمة الزهراء ازريويل، نشر الفنك، 1998.
3- مَن كتبَ هذا المقال قدَّم ترجمة حرفية للكتاب من خلال نسخته الفرنسية.
4- فاطمة المرنيسي، هل أنتم محصنون ضد الحريم، ترجمة، نهلة بيضون، المركز الثقافي العربي ونشر الفنك، ص19.
5- Umberto Eco, Dire presque la même chose : expériences de traduction, Ed. Grasset, 2006, P. 164.