استهوتني هذه الأيام لعبة كرة القدم (رغم أنني لست من عشاقها!) وتتبعت أشواط المونديال بحماس المغاربة وانفعالاتهم، وكدت أن أقتحم الملعب وأدخل إلى المباراة – عدة مرات – كطرف فاعل، من باب الشاشة وليس من باب الملعب طبعا. هكذا وجدتني أنخرط في مناقشات لا حدود لها مع أفراد أسرتي وبعض الأقارب والزملاء، لمنازعة المدرب في خطته، أو الاحتجاج على هذا اللاعب أو ذاك.. حتى زوجتي (التي لا تميز لون قميص الفريق الوطني عن قميص فريق الخصم سوى بالكاد) أصبحت تسدي النصح للاعب الممسك بالكرة وتقترح عليه تمريرها إلى أحد زملائه الذي يتواجد في وضعية تؤهله للتسديد من زاوية مناسبة! مع ما يرافق كل ذلك من ضرب على الطاولة، ووضع الرأس بين اليدين، وتوجيه لكمة من اليد اليمنى على راحة اليد اليسرى (أثناء حالات ضياع الكرة أو هدر فرص تسجيل الأهداف..)؛ أو الصياح، والوقوف مع رفع اليدين وتجميع أصابعهما في اندفاع تجاه الشاشة (أثناء حالات التسديدات الموفقة، وتلك التي كادت أن تكون موفقة، أو المراوغات التي تقلب موازين اللعب..).
تبلغ ذروة الانفعال أشدها عندما تصل الكرة إلى مشارف شباك الخصم، حيث نكون – جميعنا – قاب قوسين أو أدنى من التسديد ومن ثم التسجيل. في هذه اللحظات العصيبة تتشنج عضلاتنا، وتنفلت منا أفعال لاإرادية تتجاوز حدود التحكم في ردة الفعل. ألاحظ بطرفة العين كيف يمسك ابني الأكبر وجهه بكلتا يديه، في لحظة انخطاف مفاجئ متأهبا للقفز. وإذا ما فشلت المحاولة، يتلوها ما يشبه الانهيار من خلال ترك اليدين تقعان على الطاولة أو فوق الركبتين، مع ما يرافق ذلك من آهات اليأس والإحباط.
قد يكون المرور من هذه الحالات أمرا مألوفا لدى الغاوين (أي العشاق المُتيَّمين بكرة القدم)، وهي الحالات التي تتكرر لديهم مع كل مقابلة. بيد أن ما هو غير مألوف هو حدوث مثل هذه الحالات لدى عموم المغاربة، ولدى زمرة غير العاشقين للكرة مثلي. وما ليس مألوفا أكثر هو ما شهدته الملاعب مؤخرا من حضور لأمهات اللاعبين المغاربة بين جمهور المشجعين، بل وتعدى هذا الحضور مجرد التشجيع. فما دلالة هذا الحضور؟ وما الذي جعله غير مألوف؟ وما الإضافة التي قدمها إلى حماسة التشجيع؟
حضور الأم لا يشبه حضور الأب، لأنه حضور لا يحمل نفس الشحنة العاطفية. كما أنه لا يشبه حضور الزوجة أو حضور العشيقة، لأن اللعب جِدّ وليس هزلا. وللتأكد من ذلك يكفي أن نلاحظ الطفل وهو يلعب، لكي نتبين مدى جِدّيته. فما يقوم به الطفل لا يعتبر لعبا سوى في نظر الكبار فقط، أما هو فلا يلعب بل يقوم بعمل هو جِدٌّ في جِدٍّ من أوله إلى آخره. لكي نتبين ذلك يكفي أن نلاحظ ردة فعل البكاء لديه، في حالة انكسار اللعبة التي يركبها أو أتى على تركيبها، أو في حالة اصطدام الموجة بالقصر الذي تعب في تشييده على رمال الشاطئ. فمن يبكي لا يلعب! لأن البكاء دليل على خسارة كبرى، أو فشل ذريع، أو إحباط ناتج عن صدمة قوية. حينما يفاجأ الطفل بوقوع مثل هذه الخيبات، فلن يجد لنفسه ملاذا سوى الارتماء في حضن الأم صارخا باكيا، يشكو حاله التعيس ويندب حظه العاثر. أما إذا حصل على هدية، أو استرداد حق ضاع منه، أو تم إنصافه من ظلم أخيه الأكبر؛ فملجؤه هو الحضن وعناق الأم لبرهة من الزمان إلى أن يتقين من ضمان الغنيمة وثبات المكسب، ثم ينصرف منتشيا بالنصر. في كلتا الحالتين نلاحظ لجوء الطفل لحضن الأم باكيا: إما بكاء الفرح (في حالة الانتصار)، وإما بكاء الحزن (في حالة الانهزام).
هل ما لاحظناه في الملاعب من حضور لأمهات اللاعبين يشبه، من بعيد أو من قريب، علاقات الأطفال بأمهاتهم؟ ما معنى أن يصطحب اللاعب أمه إلى الملعب لتكون شاهدة على أدائه؟ وما دلالة الهرع إلى عناق الأم والارتماء في حضنها في حالة بكاء بُعيْدَ كل انتصار؟
إحضار الأم إلى الملعب ليس لمجرد التشجيع فقط، ففي الجمهور كفاية وزيادة، بل إن هذا الإحضار يؤدي وظيفة رمزية لا تُرى بالعين المجردة كشأن التصفيقات والهتافات. الأم ليست مشجِّعة بل هي شاهدة: تشهد على أداء الابن لكي تمنحه شهادة. وهي شهادة غير مكتوبة (غير مرئية)، إنها شهادة الرضا (رضا الوالدين). بيد أن هذه الشهادة ليست بَعدية، أي أنها تُمنح بعد تحقيق الانتصار، بل هي قبلية: هي موجودة هنا والآن متمثلة في شخص الأم. أما مسألة الحصول عليها فهي مسألة وقت فقط، أي الوقت الذي تستغرقه المباراة، والمباراة هي امتحان بالتعريف.
لماذا يحتاج اللاعب إلى حضن الأم وإلى عناقها (وأحيانا الرقص معها)؟ ألا يكفيه حماس الجماهير الحاضرة بالمئات بل بالآلاف؟ عمّ يبحث هذا اللاعب؟ ألا تكفيه الرقصات التي يقوم بها بمعية زملائه أمام أمواج الجماهير الهادرة/الحاضرة؟ ألا يكفيه السجود على أرضية الملعب؟ كيف يختلط الرقص بالسجود على نفس الأرضية؟
ليس الجواب عن مثل هذه الأسئلة بالأمر الهين كما قد نعتقد لأول وهلة، بل هو في غاية العواصة. ومنشأ العواصة يعود إلى الطابع القدسي الذي تختزنه بعض السلوكيات، بل الطابع العقائدي الذي تتخذه بعض المظاهر. ولولا الطابع القدسي والعقائدي الذي يلف المشهد الكروي، لما كان للأم في هذا المشهد أي حضور يذكر.
من بين مظاهر الطابع العقائدي، نلاحظ التركيز على “الروح القتالية” مثلا، وهي العامل الحاسم في خوض المعركة، وهي تقابل “الروح الجهادية” في المعارك الدينية، و”العقيدة العسكرية” في الجيوش النظامية. إنه “الصراع حتى الموت”، لأن الأمر يتعلق برفع راية الوطن التي يجب ألا تسقط. فبداية المباراة تكون بترديد “النشيد الوطني”، والنهاية تكون – في حالة الانتصار- بحمل “العلم الوطني”.
من بين مظاهر الطابع القدسي حضور “الأمّ” وما تمثله من رمزية لدى الابن، وكذا حضور “رئيس الدولة” وما يمثله من رمزية لدى “الأمة”. تحدثنا كتب التاريخ أن الجيوش النظامية أو جماعات المجاهدين كانت تذهب إلى المعارك بقيادة الملوك أو شيوخ الزوايا والقبائل والإمارات، كما يتم اصطحاب النساء من أجل إذكاء الحماس في المقاتلين والرفع من منسوب الروح القتالية لديهم بالزغاريد أو الأهازيج، وهو ما يقابل اليوم الهتافات والشعارات التي تصدح بها حناجر المشجعين في المدرجات.
بيد أن حضور الأمّ يتجاوز كل هذه الوظائف الرمزية إلى ما هو ضارب بجذوره في أعماق النفس البشرية، إنه حضور بقدر ما يرفع الرمزية إلى حدود القدسي والعقائدي بقدر ما يعود القهقرى إلى مراحل الطفولة المبكرة بل إلى مرحلة ما قبل الولادة. فبماذا نفسر مثلا الارتماء في حضن الأم وعناقها الحار مع بكاء الفرح المرافق لذلك؟ ألا تذكرنا هذه الوضعية بوضعية الرضيع الذي يبكي في حضن أمه؟ لكنها وضعية الراشد الذي فصله الفطام عن ثدي الأم، لتصبح العلاقة بعد ذلك بريئة إلى حد القداسة. الفطام لم يضع فقط حدا للعلاقة الحميمية بين جسدين، بل شكل حاجزا نهائيا بين فم وثدي. ولذلك احتفظ الراشد بعلاقة بُعدية أو فوقية عند اقترابه من أمه، مثل تقبيل اليدين أو تقبيل الرأس في انحناءة “تكفير عن الذنب”. غير أن هذه العلاقة البعدية/الفوقية تنكسر فجأة في حمّى الانتصار، ونشوة الفرح العارم، عقب تحقيق الفوز في المباراة. هكذا يجهش اللاعب بالبكاء أو يذرف دموع الفرح في عناق حار، تزيده حرارة الحضن توقدا والتهابا.
لكن هذا المشهد يختفي تماما في حالة الهزيمة، فدموع الحزن هذه المرة يذرفها اللاعب إما وحيدا على أرضية الملعب أو مغادرا إلى مستودع الملابس، أو على شكل مواساة بين لاعبَين أو أكثر. بيد أن الغائب الأكبر في هذا المشهد التراجيدي هو الأم، فما سبب اختفائها؟
الاختفاء هنا من طبيعة رمزية أيضا، وإلا فالأم ما تزال حاضرة بين المشجعين أو تهمّ بالمغادرة أو متجهة نحو باب الخروج. وهذا يعني أن المختفي هو الابن/اللاعب، فهو الذي لم يسارع تجاه أمه لاحتضانها. بعبارة أخرى يمكن القول إن الابن لم يفلح في بلوغ مرحلة الرضاعة كي يظفر بحضن الأم، إنه عاد إلى مرحلة ما قبل الرضاعة أي إلى المرحلة الجنينية. ففي حالة الهزيمة غالبا ما ينهار اللاعب ويتكوّم على نفسه أو يسند وجهه على يديه، وهي الحالة التي تذكرنا بوضعية الجنين في بطن أمه. وكأني به يرغب في الاختفاء عن الأنظار، بغية إلغاء وجوده من هذا العالم. إنها الرغبة اللاشعورية في العودة إلى الرحم مرة ثانية، لكي يتم الإطباق عليه للحيلولة بينه وبين العالم. فهو يرغب في محو الهزيمة من خلال محو ذاته، وذلك بالعودة إلى الحالة الهلامية التي بوسعها أن تخفي آثار تلك الهزيمة.
تحدثنا كتب التاريخ أيضا عن المحاربين الذين يفضلون الموت على الهزيمة، ويرفضون مغادرة ساحات المعركة؛ وبذلك يضعون حيواتهم بين خيارين: إما النصر والعودة كأبطال وإما الموت حيث ينتهون جثثا أو أشلاء ممزقة في مقابر جماعية. وتتخذ الحروب المقدسة شكل اختيار بين نوعين من المصير: إما النصر وإما الشهادة.
تتجه “العقيدة الكروية” اليوم إلى أن تصبح نوعا من الحرب المقدسة: حرب لها أبطال (جنود النصر الذين يخصص لهم استقبال شعبي واحتفاء رسمي)، ولها ضحايا (شهداء الهزيمة الذين يموتون رمزيا ويُترك كل واحد لمصيره الفردي). كما تترك هذه الحرب مخلفات على الهامش وآثار على الطريق (فوضى الاصطدامات في الشوارع، حالات الهستيريا الجماعية، الإصابة بأزمات قلبية، الدخول في نوبات اكتئاب.. وغدًا قد نسمع بحالات انتحار جماعي!). لِمَ يحدث كل هذا؟ ما الأسباب وما العلل؟
بما أن اللعب ليس “لعبا” بالمعنى الذي يضفيه الكبار على أفعال الصغار، فكذلك الأمر بالنسبة للعبة كرة القدم. إذا كان البكاء عند الأطفال دليلا على خسارة كبرى لحقتهم جراء الإطاحة بمشاريعهم الهامة، فإن نفس الخسارة قد لحقت لاعبي فريق الكرة بأجمعهم. فما هذه الخسارة؟ وما طبيعتها؟
يمكن إجمال هذه الخسارة فيما يمكن أن ندعوه “ضياع المثَل الأعلى”. والمثل الأعلى هو مجموع القيم والمبادئ العليا التي تعتبر بمثابة غايات قصوى للوجود البشري، والتي تأتي قيمة العدالة على رأسها كتتويج لطموحات الإنسان وآماله. فأين تتجلى هذه القيمة بوصفها مثلا أعلى؟
لعبة كرة القدم هي المجال الوحيد الذي يتم فيه القصاص من مرتكب الخطأ فورا، إذ يكفي سماع صافرة الحَكَم لكي يبدأ التنفيذ فورا. ولعل المجال الأقرب إلى المجال الكروي لهو المجال العسكري، بيد أنه مجال لا تظهر فيه العدالة بقدر ما يظهر فيه التنفيذ الفوري للأوامر دون التحقق من مدى كونها منصفة أم لا؛ ففي العقيدة العسكرية لا مجال للمناقشة والاحتجاج والمرافعة. أما في مجال العقيدة الدينية فمرتكب الخطأ (الإثم، المعصية، الكبيرة..)، لا يكون عقابه فوريا بل يتم إرجاؤه إلى اليوم الآخر، ليسلم أمره إلى العدالة الإلهية؛ ولا نعلم ما إذا كان القصاص سوف ينفذ بصرامة أم لا نظرا لدخول عوامل أخرى على الخط مثل العفو والشفاعة والرحمة..إلخ.
إن المبدأ العام الذي تقوم عليه “العدالة الكروية” هو التخلص من الكرة بأسرع وقت ممكن، ومن خالف القاعدة يصبح عرضة للهجوم من طرف الخصم. فالاحتفاظ بالكرة لمدة أطول أمر غير مقبول، ومن يخاطر بامتلاكها وحيازتها يتعرض للحصار والمعاكسة وتضييق المساحة قصد شلّ حركته. ونجوم اللعبة الكبار هم الذين يتخلصون من الكرة بسرعة فائقة، والهدّاف هو من يسدّد في اجاه المرمى ويصيب في أقل مدة زمنية أي بأسرع ما يمكن. والنجم الكروي هو من لا يمسك الكرة، بل يلامسها فقط حينما يتواجد أمام الحارس. وكل فريق يبذل قصارى جهده للوصول بالكرة إلى شباك الخصم: من أجل ماذا؟ من أجل التخلص منها! ومتى تم التخلص منها – سواء بقذفها داخل الشباك أو خارج العارضة – فإن الهجوم يتوقف توّا، لأن الملكية تم إبطال مفعولها. فمن لا يملك الكرة لا يعرض نفسه للهجوم، لكن عدم الملكية لا يعني منحها للخصم أو إهمالها، وإنما يعني حرمان الغير منها بانتزاعها منه، وحرمان الذات منها أيضا بتسديدها في شباك الخصم. والهدف ما هو؟ هو إدخال الكرة في الشباك لتظل عالقة فيها بدون حراك، وذلك من أجل قتلها؛ ورمزيا يعني ذلك استئصال الملكية التي هي مدار النزاع.
يدور النزاع داخل مجال محدد بحدود إطار الملعب، أما خارج الإطار فلا قول هنالك. داخل هذا الإطار تجري فصول النزاع المحكومة بقوانين صارمة، قوانين الصراع بين اليد والرجل. اليد وسيلة للامتلاك بينما الرجل وسيلة للتخلص من الملكية، ولهذا السبب لا تُقبل لمسة الكرة باليد فهي تُعرِّض صاحبها للعقاب. عندما استوت قامات أجدادنا البدائيين ظهرت الأيادي، أي أن القوائم الأمامية تحولت إلى أيادي. وبواسطة اليد تمت عمليات السطو والنهب والجريمة.. أي الحيازة؛ ومن ثم ظهور نزعة التملك. هكذا نفهم لماذا تعتبر لمسة اليد جريمة داخل “أسطورة الإطار” بتعبير كارل بوبر، وهي جريمة تستحق العقاب. فاليد التي تمتد للكرة داخل الإطار يجب قطعها، فلا عدالة حقيقية مع وجود اليد الغاصبة. والرِّجل التي تنتحل وظيفة اليد بإعطاب اللاعب-الخصم تعاقَب كذلك، فالتملك باليد أو بانتحال صفة اليد خطأ (جريمة).
أما السماح لليد بممارسة وظيفة التملك فهي تكون في إطار أسطوري آخر، إنه المربع الذي يتواجد فيه الحارس أمام الشباك. نلاحظ هنا أن الملكية مسموح بها، ولكن بشرط العودة من جديد إلى الإطار/الأسطورة لكي تصبح الكرة مشاعة للجميع: إنه الحق البدائي للعشيرة الأولى. فالعشيرة لا تملك بل تشتغل فقط على الصيد أو على الالتقاط، والاشغال يكون بروح جماعية (نحن عائلة واحدة بلغة المدرب الوطني). وفي كلتا الحالتين (الصيد أو الالتقاط) يتحدد مصير أفراد العشيرة باقتناص الفرص، ومصيرها مرهون بما تتيحه الفرص التي لا يلزم أن تضيع لأن تكراراها نادر الوقوع. وما هو مصير المباراة غير استغلال الفرص أو ضياعها؟!
أرادت الشيوعية أن تعود إلى تطبيق مبدأ المشاعية البدائية، وذلك باستئصال الملكية الفردية ومن ثم القضاء على المجتمع الطبقي. لأن العدالة الاجتماعية لا يمكن تحقيقها سوى على قاعدة اقتصادية تكون فيها وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج مشتركة بين الناس. إذ لا يمكن الوصول إلى تحقيق المساواة بين الناس في ظل مجتمع تراتبي مكون من طبقات مالكة وأخرى غير مالكة لوسائل الإنتاج، والعدالة التي لا تنبني على مثل هذه المساواة ليست بعدالة حقيقية. وهذه العدالة القائمة على استئصال الملكية الفردية هي ما نلاحظه في ملاعب كرة القدم: العقيدة الكروية هي الوريثة الشرعية للعقيدة الشيوعية!
العقيدة الكروية هي حنين الإنسانية إلى ماضيها السحيق، كما أنها تعبير عن رغباتها الدفينة في بنيانها النفسي العميق. فداخل أسطورة الإطار يكون المجال عبارة عن غليان فوّار يعجّ بمناورات ومراوغات وتمويهات (الليبيدو).. الهدف منها هو الوصول إلى مربع الخصم. بيد أن الاقتراب من هذا المربع يصطدم ب”ميكانيزمات الدفاع” التي تحمي الأنا (الأنا الجماعية المختزلة في الحارس) من التدمير في حالة اختراق الكرة للشباك. أما إذا تمكن الخصم من اجتياز خطوط الدفاع وحقق الهدف، فإن حالات الارتياح والرضا والرقص.. هي التي تعمّ لدى أفراد الفريق. حالات الرضا عن النفس دليل على إشباع الغريزة، الرقص دليل على نجاح فرص القنص والصيد.. الرقص المقدس يخصص لتبجيل “الطوطم” شكرا واعترافا بالنعمة، أو وفاء لذكرى الأب المغدور. لذا فاللاعب لا يجد أمامه سوى الأم في رقصته المقدسة، مادام الأب قد مات منذ زمن غابر. فالأب ليس لديه رحم ولا ثدي، أي لا يتوفر على العلاقة الوجودية الأولى مع اللاعب الذي كان جنينا ثم رضيعا. لذا فإن استحضار مثل هذه العلاقة تكون بمعية الأم وليس بمعية الأب: حضن الأب بارد (مجرد خراب ويباب) ورقصته غير مقدسة (رقصة الأب مع الابن أقرب إلى الفحش). ماتزال الجماعات الدينية المصغرة، من طرقية ودروشة، تمارس الحضرة (الرقصة المقدسة) إلى اليوم، سواء في المحافل والمواسم، أو في الأعياد والمناسبات الدينية.
أما فشل “ميكانيزمات الدفاع” لدى فريق الخصم، فمعناه أن الآليات قد فشلت في “كبت” الرغبة العارمة بعد أن نجحت في الطفو على السطح، ولم يتمكن منها الرقيب (الحارس). إن تسجيل الهدف على الخصم يعني أن وجه الرغبة قد انكشف أخيرا، وانفلت من إسار الرقابة، ولم تفلح يد الحارس بالبطش بالكرة المسدَّدة بقوة. لم يفلح الرقيب ولم تفلح آليات الدفاع في كبح جماح رغبة الاختراق، اختراق الأسوار التي شيدت لتحصين الأنا الجماعية لدى فريق الإطار/الأسطورة. وبما أن الأمر يتعلق في آخر المطاف بهتك عِرض الشباك، فإن الشعور بالألم لا يخبره سوى من ينتمي إلى الفريق المهزوم في تلك اللحظة (لاحظنا حدة الشعور بالألم الشديد في وجه رونالدو جرّاء هدف النصيري). هل هو الشعور بالذنب الناتج عن التهاون أمام طاقة الغريزة الجبارة؟
يمكن اختزال جدل الهزيمة والانتصار بوصفه “جدل العبد والسيد” بتعبير هيجل، وهو الجدل الذي يتميز ب”الصراع حتى الموت”. هذه التعابير الهيجلية هي من طبيعة رمزية خالصة، لا تحيل على العبودية والسيادة كما نعرفهما تاريخيا، ولا تحيل على الموت الفعلي بل على الموت الرمزي. إن جدل العبد والسيد يعكس الطبيعة البشرية التي تقوم على المغامرة والمخاطرة بالحياة من أجل الانتصار في المعركة التي يخوضها الأنا مع الغير، وذلك بغية انتزاع الاعتراف بقيمة التفوق. فمن يخوض المعركة بقتالية أكثر شراسة، ومن يُظهر فعالية في خلق الفرص أو اقتناصها، ومن يستغل كل إمكانياته للوصول إلى شباك الخصم ويفلح في اختراقها؛ سيكون هو السيد أما الآخر فسيتحول إلى عبد. العبد هو الخاضع، أي المهزوم الذي يعترف بانتصار الغريم. هكذا يحتفي المنتصر بسيادته أمام الجمهور بالرقصة المقدسة الفردية أو الجماعية. بيد أن أقدس الرقصات هي تلك التي شهدناها بمعية الأم، وقبلها وبعدها حرارة القبلة والحضن والعناق.
وماذا بعد؟
ماذا لو تطورت العقيدة الكروية لتصبح بصيغة أنثوية تقودها الأمّ؟ ماذا لو تطورت شهادة الأم وأصبحت هي التي تضفي الشرعية على المباريات؟ ما الذي سيحدث لو أدت مثل هذه الشهادة المقدسة إلى سقوط “شهداء”؟ ماذا لو تم تخصيص مقابر لهؤلاء الشهداء بجانب الملاعب وتحولت إلى مزارات؟
لو تحقق مثل هذا الحلم – في الزمن القريب أو البعيد – سوف نكون أمام عقيدة كونية ليس لها لون ولا جنس سوى لون الشهادة والاستشهاد، وسوف يكون ذلك بمثابة انتصار للنزعة الأمومية على النزعة الذكورية في مجال العقائد. وسوف تتحول الملاعب إلى أضرحة لأداء رقصات مقدسة، تبجيلا للأم التي أزاحها التاريخ الذكوري عن عرشها لزمن طويل نسيت خلاله أنها كانت في يوم ما سيدة الأكوان.
وأخيرا هل العقيدة الكروية هي رسالة الإنسانية إلى الأجيال الراهنة واللاحقة لتذكريهم بطبيعتهم الأولى التي سقطت في هوة اللاشعور السحيقة؟