محمد صهود، التحقيب التاريخي إسهام في التأصيل الإبستيمولوجي والمنهجي، الرباط-نت سنة 2016.
مقدمة
الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه معنون بــ”التحقيب التاريخي: إسهام في التأصيل الإبستيمولوجي والمنهجي” وهو صادر عن مطابع الرباط نت سنة 2016، وكان في الأصل أطروحة جامعية لنيل الدكتوراه في علوم التربية، نوقشت يوم الجمعة 20 ماي 2011بكلية علوم التربية التابعة لجامعة محمد الخامس السويسي بالرباط.
يندرج هذا الكتاب ضمن الدراسات الديداكتيكية ذات المرجعية الإبستيمولوجية؛ إذ تبرز من خلاله العلاقة النسقية بين المرجعية الإبستيمولوجية والمنهجية من جهة، والديداكتيكية والبيداغوجية من جهة أخرى في مجال ديداكتيك التاريخ.
لقد تحقق نوع من التراكم النسبي في الدراسات الديداكتيكية بفضل دراسات كل من مصطفى حسني ادريسي والبشير تامر وشكير عكي ومحمد صهود، مؤلف الكتاب موضوع التقديم. ومن هذا المنطلق تكمن أهمية هذا الكتاب القيم في إسهامه في التراكم في الإنتاج الديداكتيكي التاريخي بالمكتبة المغربية، كما تكمن أهميته في كونه منفتحا على الممارسين في الفصول الدراسية والمكونين بمؤسسات تكوين الأطر العليا لمدرسي التاريخ.
يبرز، من خلال فصول هذا الكتاب، التمفصل والتفاعل بين التصورات البيداغوجية والإبستيمولوجية والتطبيقية. فقد ارتكز التصور البيداغوجي على المقاربة بالكفايات، أما التصور الإبستيمولوجي فقد ارتبط بالمرجعية المنهجية والإبستيمولوجية لمنهج المؤرخ في بناء المعرفة التاريخية، وبالضبط في منهجية التحقيب، وتمثل التصور العملي التطبيقي في استثمار النظريات البنائية والسوسيوبنائية في بناء المجزوءة.
من كل ذلك تتضح الأهمية البيداغوجية للكتاب والتي تستوحي البيداغوجيات الحديثة المستندة إلى التدريس المتمركز حول المتعلم، والأهمية الإبستيمولوجية المستوحية لمنهج المؤرخ، والأهمية التطبيقية التي تشكل مصدر قوة الكتاب، والتي ارتكزت على التجريب الميداني واستقراء الممارسة الديداكتيكية بكل أبعادها.
يبدو أن هذا العمل يدخل ضمن جزء من مشروع أوسع للمؤلف والمنشغل بقضايا تدريس التاريخ لمدة تتجاوز تلاثة عقود من الزمن؛ حيث اشتغل على موضوع عملية الفهم للنص التاريخي منذ سنة 1993 لنيل دبلوم مفتش التعليم الثانوي، ثم اهتم بموضوع التحقيب التاريخي منذ سنة 2002 لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقةD.E.S.A. . ليستمر في تعميق سبر أغوار التحقيب التاريخي من أجل بناء نموذج ديداكتيكي وتجريبه في الميدان حول تعلم التحقيب التاريخي.
استمر المؤلف في الاهتمام بالموضوع عبر تأطير طلبة الإجازة المهنية في تدريس التاريخ والجغرافيا والتربية على المواطنة، والإجازة في التربية، وطلبة الماستر، وطلبة الدكتوراه بكلية علوم التربية، في نفس المشروع الديداكتيكي بكلية علوم التربية بالرباط حاليا. علاوة على ذلك قام بإصدار كتاب تطبيقي مشترك بعنوان “تعلم التحقيب التاريخي: استيعاب نموذج ديداكتيكي وأجرأته“، وهو عبارة عن مجزوءات تطبيقية لتعلم التحقيب التاريخي بالسلك الثانوي التأهيلي. كما قام بإصدار “البعد المنهجي والإبيستمولوجي في المعرفة التاريخية”، الصادر سنة 2018 عن الرباط نت، وكان ضمن اللجنة الديداكتكية لكتاب “موجز تاريخ المغرب” الصادر عن المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب سنة 2015.
واضح أن التحقيب التاريخي ممارسة تاريخية أساس، بحيث قد يتلخص عمل المؤرخ كله في إنتاج حقبة، أو إعادة النظر في تحقيب موضوع تاريخي معين، أو بلورة تحقيبات جديدة بناء على مستجدات التوثيق أو المنهج. لقد سبق للمؤرخ عبد الله العروي أن أشار إلى أهمية التحقيب معتبرا أن تجربة الكتابة التاريخية في حد ذاتها نشأت على شكل حقب[1]، وبذلك فإن التجديد في التحقيب التاريخي يمثل تجديدا للبحث التاريخي والكتابة التاريخية عامة.
لا يقتصر الأمر على البحث التاريخي، أي ما يهم المؤرخ المحترف، بل يطال حتى وضعيات تدريس التاريخ، إذ تبرز أهمية التحقيب في كونه يساعد على تدريس التاريخ من منظور نقدي في إطار سيرورة الوعي والتأليف التاريخيين. وهذا يحيل بشكل مباشر على غايات تدريس التاريخ ووظيفيته بالمدرسة المغربية، والتي تتجلى في التنشئة الاجتماعية وتعزيز التربية التاريخية القائمة على الفكر النقدي. لذا يمكن القول إن المؤلف اقتحم، في نوع من الجرأة، موضوعا يكتسي صبغة خاصة بالنظر لصعوبات خلفيته العلمية الإبستيمولوجية والمعرفية والمنهجية، وبالنظر لاختراقه لمكونات الفكر التاريخي برمته.
تتمثل المنهجية المعتمدة في قراءة هذا الكتاب في ثلاث مراحل أساسية:
أولها مرحلة توصيف بنية الكتاب والتي ستتم في خطوتين اثنتين؛ الأولى تنكب على التوصيف الشكلي، والثانية ترتبط بتوصيف البناء الداخلي للكتاب بمختلف مكوناته؛
ثانيها عرض لمضامين الكتاب في خطوطه العريضة؛
وثالثها مناقشة بعض قضايا الكتاب في ثلاث مستويات؛ مستوى المضامين، ومستوى اللغة، ومستوى المنهج، قبل أن نصل إلى استعراض بعض النتائج المتوصل إليها.
- بنية الكتاب: اقتراح ديداكتيكي مبني على حفر منهجي وإبستيمولوجي
لننطلق من عنوان الكتاب الذي يحيل على تقديم مساهمة ابستيمولوجية ومنهجية تؤسس لنظرة متجددة تعتبر التحقيب التاريخي عملية منهجية يستعمل فيها المؤرخ أدوات عبر مسار يحرك فيه مجموعة من العمليات الفكرية التي تسهم في بناء الحقب وإنتاج المفاهيم التاريخية.
يتكون البناء الداخلي للكتاب من تقديم للأستاذ مصطفى حسني إدريسي يبرز أهمية الكتاب في حقل ديداكتيك التاريخ، ووظيفيته في تدريس التاريخ، ومقدمة عامة يشير فيها المؤلف إلى اعتبار التحقيب التاريخي مفهمة تخترق مختلف مراحل المنهج التاريخي. وهو كتاب مُؤَسَّس على تشخيصات قبلية تم إنجازها، تفيد أن واقع الممارسة الديداكتيكية بالمرحلة الثانوية التأهيلية لا يساعد على التعلم المنهجي التحقيبي، وهو ما يدفع في اتجاه البحث عن تقديم اقتراحات عملية انطلاقا من التأصيل الإبستيمولوجي والمنهجي للتحقيب، ثم العمل على النقل الديداكتيكي لمختلف عمليات وخطوات تعلم التحقيب التاريخي، ثم العمل على تجريب ذلك على عينة من التلاميذ بالثانوي التأهيلي.
تتكامل مختلف فصول الكتاب ومباحثه لكي تعكس نظرة للموضوع وتحليلا لخلفياته النظرية وامتداداته الديداكتيكية. فبعد الفصل الأول المعنون بتأطير منهجي، والذي تم فيه تحديد السياق العام للبحث ومبرراته، إشكاليته وفرضياته، أهدافه وأهميته، وتحديد المفاهيم الإجرائية، وكذا الدراسات السابقة وحدود البحث وتصميمه، انطلق الفصل الثاني، المعنون بالخلفية النظرية لبناء النموذج الديداكتيكي، من أرضية ركز فيها على التحليل التاريخي لتطور ممارسة التحقيب؛ بحيث اختار المقياس العالمي كمثال، ثم انتقل إلى التأصيل المنهجي، والامتداد الديداكتيكي، وهو ما عكسته مختلف مباحث الفصل، التي تكامل فيها التحليل التاريخي لتطور الممارسة التحقيبية في الأعمال التاريخية، مع التأصيل المنهجي والإبستيمولوجي، وصولا إلى الامتداد الديداكتيكي.
أما بالنسبة للفصل الثالث المعنون بالمصوغة/المجزوءة التعليمية للتحقيب التاريخي ونتائج تجريبها، فقد اقترح المؤلف دليلا للمدرس من أجل تنزيل المصوغة التعلمية، وخصص مبحثا لكراسة المتعلم في تطبيق المصوغة/ المجزوءة التعلمية، في حين قام في مبحث آخر بعرض حيثيات تجريب النموذج وتقديم نتائجه. وختم بصياغة خلاصات ومقترحات مع الإشارة إلى حدود هذا العمل. وفي نهاية الكتاب قدم ببليوغرافيا تضمنت المصادر والمراجع باللغتين العربية والفرنسية إلى جانب الوثائق الرسمية، كما قدم لائحة الجداول والمبيانات والخطاطات والأشكال وفهرس الموضوعات.
- الخطوط العريضة لمضامين الكتاب
انطلق المؤلف في بناء إشكالية الكتاب من سياق عام ومن تجربته الميدانية في التدريس والتأطير، وهو سياق يتمثل في تطور عام اتسم بالانفجار المعرفي والثورة التكنولوجية، مما جعل الأساس في التعلم اليوم ليس المعلومة فحسب، بل كيفية استثمارها، وهو سياق يستدعي ضرورة تسلح المتعلم بالفكر النقدي من أجل التفاعل الإيجابي مع المجتمع. كما اتسم هذا السياق بتنامي خطاب تربوي ركز على التعلم الذاتي واستقلالية المتعلم.
ويعتبر موضوع التحقيب التاريخي مناسبة منهجية تحتضن مكونات التفكير التاريخي ذات الوظيفة الفكرية في تدريس التاريخ، والتي تتجلى في تنمية التفكير النقدي للمتعلم، من خلال التركيز على الجوانب المنهجية الإبستيمولوجية في تعلم التاريخ عموما، وتعلم منهجية التحقيب التاريخي خصوصا.
انطلاقا من هذا السياق العام والتجربة الميدانية للمؤلف في التدريس والتأطير توصل إلى صياغة السؤال المركزي الآتي: كيف يمكن ردم الهوة المنهجية في التحقيب بين الخطاب الإبستيمولوجي والإسطوغرافي من جهة، والواقع الديداكتيكي من جهة أخرى بشكل يسهم في تنمية الجانب الفكري والمنهجي للمتعلم في الممارسة الديداكتيكية؟
وقد تم تقسيم هذا السؤال إلى أسئلة فرعية كالآتي:
- ماهي الأسس المنهجية والإبستيمولوجية للتحقيب والكفيلة ببناء مصوغة/مجزوءة تعلمية قابلة للأجرأة؟
- ما مدى مساهمة المصوغة/المجزوءة في التحصيل العام المنهجي للمتعلمين على مستوى التحقيب التاريخي؟
- ما مدى تأثير المصوغة/المجزوءة في تعلم القدرات المنهجية التحقيبية عند المتعلم؟(ص. 17)
وانطلاقا من هذه الإشكالية، اتضحت الأهداف التي يرمي إليها الكتاب وهي أهداف ثلاثية الأبعاد؛ بعد تأسيسي بنائي يتجلى في بناء نموذج ديداكتيكي نظري في موضوع التحقيب التاريخي، وبعد اقتراحي يتجلى في إنجاز مصوغة/مجزوءة تعلمية في موضوع التحقيب التاريخي، وبعد تجريبي بهدف التثبت من قابلية النموذج المقترح للأجرأة على مستوى الفصول الدراسية.
صاغ المؤلف لإشكاليته فرضية مركزية تتمثل في “أن تأسيس تعلم التحقيب التاريخي على أسس منهجية وابستيمولوجية، من شأنه أن يسهم في تنمية الممارسة المنهجية التحقيبية عند المتعلم في المرحلة الثانوية التأهيلية.”
مما لا شك فيه أن الدراسات التي تتجه بشكل صريح إلى إنتاج تحقيب تاريخي لقضية أو قضايا تاريخية معينة تكاد تكون قليلة، على الرغم من أنه أصبح يشكل موضوعا خصبا في الدراسات الإبستيمولوجية والمنهجية والديداكتيكية. وقد صنف المؤلف الدراسات التي اعتمدها في الموضوع إلى صنف ذي صلة بالفكر التاريخي والزمن التاريخي عموما منها دراسة مصطفى حسني إدريسي حول الفكر التاريخي سنة 2005، ودراسة البشير تامر حول الزمن التاريخي، وصنف ذي صلة مباشرة وتمثل في دراستين:
– الأولى دراسة لــ”نيكول لوتيي”Nicole Lautier حول واقع تدريس وتعلم التحقيب في فرنسا: “تدريس التاريخ بالثانوي”؛
والثانية رسالة للمؤلف لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، بعنوان التحقيب التاريخي في المرحلة الثانوية التأهيلية: دراسة تشخيصية، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة 2022-2003.
وبما أن المؤلف قام بتشخيص واقع تعلم التحقيب في الممارسة التدريسية في مناسبة سابقة فقد ارتكز على هذا التشخيص من أجل اقتراح نموذج ديداكتيكي لفائدة تلاميذ الثانوي التأهيلي، أُعِد وفق مدخل الكفايات والمقاربة السوسيوبنائية أو المقاربة المعرفية التي يمكن توظيفها في عملية النقل الديداكتيكي. واعتمد في دراسة النتائج المرتبطة بالعمل التجريبي الميداني منهجا إحصائيا وصفيا باستعمال مقاييس النزعة المركزية ومقاييس التشتت وبعض جوانب المنهج الاحصائي الاستدلالي.
إن النموذج الديداكتيكي الذي اقترحه المؤلف يرتكز على خلفية نظرية استندت إلى ثلاث أسس؛ أساس تاريخي وأساس منهجي وأساس ديداكتيكي، وخصص مبحثا لكل أساس.
تمثل الأساس الأول، ذو الطابع الإسطوغرافي، في تقديم تطور تاريخي لعملية التحقيب، وبما أن هذا التطور هو متعدد الأبعاد والمقاييس، محلية ووطنية وجهوية وعالمية، فقد اختار المؤلف المقياس العالمي لتتبع المسار التاريخي للتحقيب، تمكن فيه من استبعاد التحقيب المتداول (قديم، وسيط، حديث، معاصر) وعوضه بتحقيب للتحقيب التاريخي منسجم مع الموضوع من الناحية المنهجية. وهكذا تمكن من التمييز بين ثلاث حقب كبرى في تطور التحقيب على المستوى العالمي وهي: حقبة أولى تمتد من البداية إلى غاية ظهور المسيحية وانتشارها، وحقبة ثانية تمتد من انتشار المسيحية والإسلام إلى غاية القرن 17م، وحقبة ثالثة تمتد من القرن 17م إلى اليوم.
لقد أبرز المؤلف، من خلال الانتقادات التي تعرض لها التحقيب الرباعي الآنف الذكر وخاصة من طرف الاتجاهات الفلسفية والبنيوية والبروديلية، واستنادا إلى نتائج الأبحاث حول مفاهيم التحقيب كالوسيط والنهضة والحداثة، حدود هذا التحقيب الرباعي المتداول بل تأثيره السلبي على تطور البحث التاريخي عموما أي أنه أصبح معرقلا بل عائقا لتطور هذا البحث.
لقد مكن هذا التتبع التاريخي لعملية التحقيب عبر العصور التاريخية المتوالية من أن يجتهد في تقديم تعريف للتحقيب خلص فيه إلى أنه “مفهمة تشتغل على الزمن استنادا إلى الوثائق، وتتجلى هذه المفهمة في نظره، من خلال استقراء معايير التحقيب مثل معيار الأمثولة ومعيار ديني ومعيار فلسفي.ومن بين المحاولات التحقيبية التي همت تحقيب التاريخ العالمي اعتبر أن محاولة “بونو”Robert Bonnaud محاولة جريئة تتوج كل المحاولات التحقيبية السابقة الخاصة بالتاريخ العالمي، وذلك باقتراحها أدوات مفاهيمية جديدة وبالتالي تحقيبا جديدا للتاريخ العالمي(ص. 57).
أما الأساس الثاني فقد تمثل في تقديمه لمنهجية التحقيب باعتباره مفهمة تطال كل عمليات المنهج التاريخي برمته. وتتأسس هذه المفهمة على معطيين؛ أولها هو ما يسمى الزمنية، وتحيل على النظرة التي يكونها الفرد أو المؤرخ عن الزمن والتي تؤطر مفهومه للزمن، وفي هذا السياق فإن الأمر يتعلق بالزمن التاريخي. إن الزمن التاريخي ليس معطى موضوعيا بل هو بناء يتم فيه الانتقال من الزمن بمفهومه العام إلى الزمن التاريخي وأشكال توظيفه، وهذا الانتقال من الزمن المدرك والمعيش إلى الزمن التاريخي هو ما دفع المؤلف إلى اعتبار الاشتغال البيداغوجي والديداكتيكي لتنمية الزمن التاريخي ذا أهمية. أما المعطى الثاني الذي تتأسس عليه المفهمة فهو الوثيقة باعتبار دورها الاستراتيجي في بناء المعرفة التاريخية.
لقد حدد المؤلف الخطوات المنهجية التحقيبية التي تجسد المفهمة، ابتداء بالإشكالية الُمؤطَّرة بالأبعاد الزمنية والمجالية والموضوعاتية، ثم عملية التوقيت والكرونولوجيا لوضع تسلسل للأحداث التاريخية، ومن أجل خلق المعنى يتم الانتقال إلى عملية التأويل التي تمزج بين التفسير والمقارنة لتحديد خصائص الحقب، ورصد المنعطفات ومظاهر التحول والتطور في الزمن التاريخي. وقد أوضح الباحث أن هذه الخطوات المنهجية التحقيبية ليست ذات طابع خطي، بل لولبي. كما أن المنهج التحقيبي يتوج بإنتاج الحقب، باعتبارها قطعا زمنية تنحصر بين تاريخين، والمنعطفات التي تتجاوز مفهوم القطيعة لتدمج الاستمرارية ضمن التغير والتحول الذي يعد أساس الفكر التاريخي (ص. 123).
وبالنسبة للأساس الثالث فهو الأساس الديداكتيكي، ويستند إلى القاعدة المنهجية والإبستيمولوجية للتحقيب التاريخي وتتبعها في بعدها السيكولوجي والبيداغوجي من أجل دمجها في النموذج الديداكتيكي. وبذلك توصل المؤلف إلى صياغة كفاية التحقيب كمنطلق للتعلم المنهجي وهي كالآتي:”التمكن من بناء حقبة أو حقب بمعالمها ومنعطفاتها وتحولاتها عبر سيرورة منهجية تتمحور حول إشكالية تحقيبية واستنادا إلى موارد وثائقية”. وانطلاقا من هذه الكفاية تمكن من إبراز القدرات والأهداف المنبثقة عنها، والتي تبدأ بطرح الإشكالية التحقيبية التي تتم أجرأتها من خلال تأطير الموضوع في أبعاده الزمنية والمجالية والموضوعاتية، ثم صياغة سؤال مركزي وتفريعه ووضع الفرضيات، وبعد ذلك يتم الانتقال إلى تعلم التوقيت والكرونولوجيا، حيث تتم أجرأته عبر أهداف تحديد التوقيت والتحويل من تقويم لآخر، والكرونولوجيا عبر تحديد التعاقب والتزامن والتصنيف ثم التمثيل المبياني. أما التأويل فيتم عبر استنتاج المفهوم الجامع للحقبة باستخلاص المؤشرات الدالة على خصائص الحقبة، ثم التفسير والبرهنة على الاستمرارية والتحول في رصد المنعطفات، للوصول في النهاية إلى القدرة على البناء بتركيب الإجابة عن الإشكالية التحقيبية والانفتاح على إشكاليات أخرى.
لم يقتصر المؤلف على بناء النموذج الديداكتيكي بل حاول بناء مصوغة/مجزوءة تعلمية للتحقيب التاريخي وقام بتجريبها في الميدان عبر استثمار المكونات والعمليات المنهجية المرتبطة بالتحقيب التاريخي ودمجها والتي شكلت قاعدة أساسية للنقل الديداكتيكي من المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسية التي تمثلها المصوغة/المجزوءة التعلمية، وارتبط المثال التطبيقي بحقبة من تاريخ المغرب المعاصر.
اختار الباحث مثالا من تاريخ المغرب خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وأرفق هذه المصوغة/المجزوءة بدليل للأستاذ بهدف ضمان التنزيل الصحيح للنموذج الديداكتيكي التحقيبي، حيث حدد الهدف من المصوغة /المجزوءة في تدريب المتعلم على إكساب مهارات منهجية في التحقيب التاريخي من خلال أنشطة ديداكتيكية تساعده على بناء الحقب ورصد منعطفاتها وتحولاتها بدل تلقيها جاهزة. ولذلك أطر المؤلف المصوغة/المجزوءة بمنطلقات إبستيمولوجية وبيداغوجية وديداكتيكية، وكذا بخلفية إسطوغرافية، وتم اقتراح أجوبة عن الأسئلة المطروحة والإنجازات المطلوبة. كما اقترح المؤلف مجموعة من الطرق التدبيرية كتوجيهات مساعدة للمدرس.
إضافة إلى ذلك قدم كراسة المتعلم لتوضيح المسار الديداكتيكي للأنشطة التعلمية المرتبطة بتحقيب التحولات التي تزامنت مع الضغوط الأجنبية على الاقتصاد والمجتمع المغربيين خلال القرن 19م. وفي هذا الإطار قدم المؤلف توجيهات عملية للمتعلم من خلال الانطلاق من المستويات البسيطة إلى المستويات المركبة للمفهمة، وتيسير الخطوات الإجرائية عبر بطاقات ديداكتيكية للأنشطة التعلمية، تبدأ ببطاقة بمورد منهجي يوضح المضمون الإبستيمولوجي المنهجي العام للقدرة موضوع البطاقة، متبوعة بالأنشطة التعلمية. وبعد ذلك يقدم توجيهات من أجل إنجاز العمليات الفكرية المقترحة باستثمار الوثائق والدعامات المتوفرة بالملف الوثائقي، وتتضمن الأنشطة الديداكتيكية معجما للمفاهيم والمصطلحات والأعلام.
أما التجريب الذي قام به المؤلف في الميدان فقد استند إلى الإشكالية والفرضيات المؤطرة السالفة الذكر، وإلى تصور للتجريب قائم على انتقاء مجموعتين من المتعلمين، إحداهما تسمى تجريبية، خضع المتعلمون فيها لاختبار قبلي ثم تعلم منهجي للتحقيب التاريخي، ثم اختبار بعدي لقياس أثر المصوغة/المجزوءة التعلمية. أما المجموعة الثانية، وتسمى الضابطة، فقد خضع فيها المتعلمون إلى اختبار قبلي وتعلم للموضوع المختار المعد وفق تحقيب جاهز، ثم اختبار بعدي يتيح إمكانية المقارنة مع نتائج المجموعة التجريبية. وأنجز التجريب الميداني بثلاث نيابات خلال الفترة الزمنية ما بين نهاية أبريل ونهاية ماي من الموسم الدراسي 2009-2010. وأداة التجريب التي استعملت هي اختبار يهدف إلى قياس أثر المصوغة/المجزوءة التعلمية في التحصيل المعرفي والمنهجي للتحقيب التاريخي لدى المتعلم بالثانوي التأهيلي.
عرض المؤلف بعد ذلك نتائج التجريب وتمحيص الفرضيات، حيث خلص إلى أن المجموعة التجريبية تفوقت على المجموعة الضابطة سواء بشكل عام أو على مستوى كل نيابة على حدة. كما تأكد هذا التفوق باستعمال اختبار الدلالة. واتضح ذلك حتى على مستوى النتائج التفصيلية، حيث إن المجموعة التجريبية تفوقت على مستوى المراقي المنهجية ومستوى البنود، وذلك باستعمال اختبار الدلالة الذي أكد هذا التفوق، باستثناء التأويل الذي لم يتوصل فيه الباحث إلى البرهنة على دلالة تفوق المجموعة التجريبية، وبذلك أكد الباحث الفرضيات الثلاث المنبثقة عن الفرضية المركزية.
بناء على هذه النتائج قدم الباحث مقترحات عبر مستويات:
مستوى النموذج النظري الذي ارتكز على المقومات الإسطوغرافية والمنهجية الإبستيمولوجية والبيداغوجية؛ والهدف منه إبراز الوظيفية التأطرية والتكوينية للعمليات الفكرية لتعلم التحقيب التاريخي.
أما على المستوى الديداكتيكي فقد قام بإبراز أهمية النموذج النظري الديداكتيكي والتطبيقي في الممارسة الفصلية للتحقيب التاريخي من الإشكالية إلى بناء الحقبة والمنعطفات والتحول. وخلص الباحث المؤلف في هذا المستوى إلى أن التحقيب كسيرورة منهجية، تضمن أربعة مقولات منهجية أو قدرات وهي: الأشكلة، التوقيت والكرونولوجيا، التأويل، البناء. أما التحقيب كمنتج، فقد تضمن مكونات أساس هي: الحقبة، والمنعطف، والتحول.
كما توصل على مستوى تجريب النموذج إلى إمكانية التطبيق الفعلي للنموذج الديداكتيكي التحقيبي الذي برهن على التفاعل الإيجابي للمتعلمين. وهذا أكد فرضيات البحث، كما قدم حدود البحث على المستوى النظري والنقل الديداكتيكي والتجريب (ص. 253).
- مناقشة بعض قضايا الكتاب
ترتكز مناقشتنا للكتاب على معطيين؛ الأول ذو علاقة بتجربتنا المهنية، والثاني بقراءاتنا الموازية للموضوع:
انطلاقا من تجربتنا في تدريس النموذج الديداكتيكي لتعلم التحقيب التاريخي مع تلاميذ الثانوي التأهيلي، وكذا تجربتنا في تأطير وتكوين الطلبة المتدربين بالمدرسة العليا للأساتذة والمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، سنقوم بمناقشة الأفكار المحورية الواردة في هذا الكتاب القيم، والتي يمكن تجميعها في مقولات تحقيبية إبستيمولوجية وأخرى ديداكتيكية.
إن مسألة التحقيب التاريخي من القضايا التي فُتح فيها النقاش مندمجة على المستوى المنهجي والإبستيمولوجي بل وحتى الإسطوغرافي، وسيستمر النقاش فيها بدون شك.
انطلاقا من مستجدات الدراسات الإبستيمولوجية يبدو التأكيد، بل الإلحاح على ضرورة تجاوز التحقيب الأوروبي الرباعي المعتمَد منذ القرن 17م، نظرا لعدم قدرته على مواكبة التحول والتجديد الحاصلين في قضايا وإشكاليات المعرفة التاريخية، بل إن الأمر تجاوز مسألة عدم مواكبة التحقيب لتجديد المعرفة التاريخية إلى اعتباره عائقا إبستيمولوجيا أمام تطور المعرفة التاريخية. وفي هذا الإطار نادى المؤرخون، والمهتمون بعلم التاريخ عامة، وديداكتيك التاريخ خاصة، إلى ضرورة مراجعة الكيفية التي يُعتمد بها التحقيب التاريخي؛ فهو لم يعد سوى مرجعية في بناء مناهج تدريس التاريخ وفي تأطير التقسيمات الزمنية في المباريات، وهو ما يحيل على دوره المؤسسي وليس العلمي والمفاهيمي.
يتجلى من مضمون الكتاب أن التحقيب الرباعي يعكس نزعة مركزية تعكس هيمنة أوروبية على العالم منذ القرن 19، والنصف الأول من القرن 20. وفي هذا السياق نتساءل مع المؤلف: هل نحن أمام تاريخ واحد للإنسانية، أم ثمة تواريخ وحضارات وثقافات متعددة لمختلف شعوب العالم قد تعيق الحديث عن تحقيب واحد للتاريخ الإنساني؟ وارتباطا بهذا السؤال الأخير تناول المؤلف دراسات مُجدِّدة تناولت التاريخ الإسلامي مثل دراسة هودجسونCh. Hodgson ، حيث اعترض على إسقاط التحقيب الرباعي على تاريخ الإسلام، واعتبر، على سبيل المثال، أن المنعطف التاريخي لبداية انحطاط العالم الإسلامي لا يمكن العودة به إلى ما قبل القرن 16، أي إلى ما تعوده الباحثون، وبالضبط معركة بلاط الشهداء سنة 732م.
يعتبر المؤلف المحاولات التي جعلت من التحقيب الأوروبي قالبا جاهزا لتنميط تاريخ الشعوب الأخرى، مثل المحاولة التي قام بها عمر فروخ والتي نعتها التحقيب الأوروبي المعكوس (ص. 69)، لاتقوم سوى بعكس تحقيب تاريخ مجتمعات أوربية ذات خصوصية في مسارها التاريخي. ويتعزز هذا الطرح الذي تبناه المؤلف بالتوجه الذي يمكن استخلاصه من مجموعة من الدراسات الجادة في التاريخ، منها كتاب “مفهوم التاريخ” لعبد الله العروي، وكتاب محمد عابد الجابري الموسوم بـ “تكوين العقل العربي”، ومقالة لأحمد التوفيق بعنوان “تاريخ المغرب في القرن التاسع عشر، أفكار في التحقيب”، ناهيك عن سلسة من الندوات التاريخية.
يرفض عبد الله العروي أية محاولة توفيقية للتحقيب العام مع التواريخ القومية المختلفة وترتبط الحقبة، في نظره، بمدلول معين؛ إنها مدة زمنية فاصلة بين تاريخين منسوبين إلى تقويم محدد وهذا التحديد لا يتطلب اتفاقا مسبقا حول التحقيب العام. إن وضع تاريخ قومي بأكمله ضمن حقبة واحدة (الوسيط الأول مثلا أو الحديث الأول) يغير حتما المدلول الذي كان يحمله ذلك التاريخ عندما كان يوضع في تحقيب آخر، وبالتالي فإن كل محاولة توفيق لا محالة فاشلة، فيتم العدول عن التحقيب العام إلى تحقيبات خصوصية[2].
يذهب المؤلف في تحليله في اتجاه ضرورة تصحيح التمثلات السائدة حول التحقيب، هذه التمثلات التي تعتبره تقطيعا تقنيا انطلاقا من مبدإ كرونولوجي للزمن. إن التحقيب التاريخي، بالنسبة له أكثر من تقطيع للزمن إنه: “مفهمة ترمي إلى إبراز التحولات المجتمعية في الزمن وليس الماضي، هو تحول في الزمن ووثائره ومنعطفاته، حيث تتم هذه المفهمة عبر سيرورة منهجية تتأسس على صياغة إشكالية تحقيبية تستهدف بناء الحقب، وإنتاج مفاهيم تحقيبية، من منطلق كرنولوجي، ثم تأويلها. فالتحقيب ليس عملية بسيطة بل عملية منهجية لبناء وإنتاج المعرفة التاريخية”.
إن ما قام به المؤلف من تحليل لم ينحصر في موضوع التحقيب التاريخي بل امتد إلى العلاقة التي يربطها التحقيب التاريخي بقضايا أخرى ذات علاقة بتطور الكتابة التاريخية ذاتها، خاصة في أوروبا والعالم العربي الإسلامي. يتضح هذا من خلال تناوله تطور التحقيب في صلة بتطور المدارس التاريخية خلال القرنين 19 و20، مثل المدرسة الوضعانية ومدرسة الحوليات والتاريخ الجديد، التي ركزت على مبدإ التاريخ الشمولي بمصادره وبقضاياه ومواضيعه. وهكذا فإن تطور الكتابة التاريخية وتطور مناهج البحث التاريخي أثرت على مسألة التحقيب التاريخي وتأثرت بها. إن الاهتمام بإشكالية التحقيب أسهم في الانتقال من التحليل الوصفي الخارجي للأحداث والوقائع التاريخية إلى التفسير والتأويل وربط الوقائع والأحداث التاريخية بما يجري في الواقع المجتمعي. وبتعبير “لوسيان فيفر” Lucien Febvre فالتاريخ مفيد في الحياة، إنه حاجة أساسية في المجتمع، تساعد على فهم الإشكاليات العميقة المرتبطة بالحياة[3]. وذلك بالبحث عن الجذور التاريخية للمشكلات المعاصرة، وبذلك فهو، أي التحقيب التاريخي، يساعد الفرد على إدراك وفهم الظواهر الإنسانية التي تحيط به، في مختلف أبعادها الوطنية والجهوية والعالمية. ويتضح لنا من خلال ما سبق أهمية وقوف المؤلف على نظرية “بونو” في التحقيب التاريخي، باعتبارها الأكثر طموحا وجرأة من الناحية النظرية، حيث انطلق فيها من مبدإ التعقيد، النموذج النظري المعاصر الذي تستلهمه مختلف العلوم الاجتماعية اليوم، والأكثر فعالية في التجاوب مع مستجدات الخطاب التاريخي الإشكالي ومع مدرسة الحوليات والتاريخ الجديد. ومن المفيد الإشارة إلى أن هذا التوجه العلمي المعاصر المطبوع بالتعقيد يتماشى مع المرجعية البيداغوجية لمدخل الكفايات والتربية على القيم والاختيار.
ومن مشروعية الحديث عن التأصيل الإبستيمولوجي للتحقيب نصل إلى مشروعية مناقشة المسألة الديداكتيكية لتعلم التحقيب التاريخي. إن النموذج الديداكتيكي لتعلم التحقيب التاريخي، والذي نحن بصدده، يشكل وبعمق، إسهاما في تجويد الممارسة الديداكتيكية للدرس التحقيبي خصوصا، ودرس التاريخ عموما، من خلال تشجيع التلاميذ على التفكير النقدي وإعادة إنتاج المعرفة التاريخية وفق خلفية منهجية محكمة ودقيقة تغطي مختلف خطوات التفكير التاريخي. كل ذلك يدفعنا إلى أن نتعامل مع المنهج التحقيبي برؤية شمولية، تستوعب التداخل والتفاعل الإيجابي لهذا المنهج مع مختلف خطوات التفكير التاريخي. إن منطق التحقيب يتحرك في إطار جدلية ثلاثية تبرز العلاقة التفاعلية بين الإنسان والزمن والمجال وهي علاقة محكومة بواقع محدد. ويتبين من خلال التجربة الميدانية أن التحقيب يشمل كل الخطوات انطلاقا من الإشكالية والأبعاد الزمنية والمجالية والموضوعاتية، مرورا بالكشف الوثائقي، ثم التعريف التاريخي والتفسير التاريخي، وفي الأخير التركيب التاريخي، للتوصل في النهاية إلى المفهمة، فلا غرابة أن يعتبر المؤلف التحقيب مفهمة.
وعلى الرغم من أن المؤلف أكد على اقتصار النموذج الديداكتيكي على الجوانب المنهجية والعقلية، إلا أن التجربة الميدانية برهنت على أهمية وفعالية النموذج المقترح في الاشتغال على الجانب الوجداني والمواقفي للمتعلم أيضا، وتأصيل كل ذلك إبستيمولوجيا ينبع من كون درس التاريخ هو أيضا درس لتنمية القيم. واضح أن التاريخ وعاء تطبيقي ومصدر للقيم الإنسانية التي سادت مختلف الحضارات عبر عصور التاريخ، مثل العدل والمساواة وغيرها من القيم الإنسانية النبيلة، حيث يرصد الظلم والعدل ونتائجهما، وهي قيم تمثل في مجموعها علاقة الإنسان بالكون. ثم إن التاريخ يحفظ هوية الشعوب وذاكرتها أو ذاكراتها، ولا جرم أن الذاكرة تعد إحدى القيم الأساسية للزمن؛ إذ تبرز انسجامه واكتماله، وتتفاعل بين ماضٍ يتجدد، وحاضر عابر، ومستقبل مفتوح إلى الأبد[4]. في هذا السياق يرى محمد عابد الجابري أن القيم تتشكل من خلال المجتمع، أي التجربة الاجتماعية للجماعات والأمم وأفراد المجتمع عبر الزمن، خاصة منهم الأنبياء والمفكرون والزعماء الذين يعبرون عن تطلعات الأجيال القادمة إلى قيم المواطنة والحق والعدل والخير والمساواة والحرية،في نفس السياق يؤكد المؤرخ عبد الله العروي أن التاريخ مجال الحرية، لأننا نتعلم من أخطاء ومحاولات من سبقنا، ما ينير لنا سبل الحرية والانعتاق، وبذلك فالمعرفة التاريخية في خدمة حركة الحرية التي توجد في ذهن المؤرخ الموضوعي، فالحرية و الموضوعية وجهان لعملة واحدة[5]. من هذا المنطلق لا نتصور التحقيب التاريخي لموضوع ما دون الاشتغال على القيم والمواقف لتنمية شخصية المتعلم. فالتحقيب هو موضوع تفكير وتصنيف يكشف عن تمثلات وقيم ومواقف الفاعلين في زمن معين. وبذلك يعد التحقيب مدخلا أساسيا لتحليل وتفكيك الواقع الاجتماعي في فترة زمنية محددة. يتضح إذن أن النموذج الديداكتيكي المقترح يجعل من التحقيب عملية شاملة للجوانب التقنية والمنهجية والقيمية المرتبطة بالزمن الحاضر والتفاعل مع الواقع الاجتماعي.
حسبنا أن نشير، أخيرا وليس آخرا، إلى أن الوظيفة التربوية والبيداغوجية للتحقيب التاريخي ترتبط بالغايات الكبرى لتدريس التاريخ، فلا فائدة من تحقيب تاريخي لا يساعد على خلق وعي تاريخي لدى أجيال الحاضر والمستقبل، ولا سيما في تربيتها بالطريقة التي تساعد على التفكير في الحلول الممكنة للخروج من أزمة الواقع. ومن ثم يَبرز تفوق المؤلف ونجاحه، إلى حد كبير، في الانتقال بسلاسة ووضوح من التحقيب التاريخي في سياقه المنهجي الإبستيمولوجي إلى سياقه التربوي و الديداكتيكي، ومن مستوى المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسية والمُدَرَّسة؛ وذلك وفق عمليات تطلبت إعادة هيكلة المعرفة العالمة في ضوء المتغيرات المنهجية والبيداغوجية، وكذا مراعاة الجوانب السيكولوجية للمتعلمين فيما يخص تعلم منهجية التحقيب التاريخي.
ومن باب الاحتياط المنهجي أعلن المؤلف، بصدد تحليل عملية التأويل ضمن نتائج البحث التجريبي، إنه لم تسمح التجربة بملاحظة تفوق للتلاميذ في المجموعة التجريبية في هذه العملية المعقدة، بل أشار إلى تحفظه على نجاح عملية التأويل مع المتعلمين، وهو أمر بقي معلقا، لعل أبحاثا جديدة تنكب على تحليل هذه العملية من مختلف جوانبها المنهجية والإبستيمولوجية والمعرفية، وكذا امتداداتها الديداكتيكية في ميدان الممارسة التعليمية التعلمية، أي في درس التاريخ. وانطلاقا من تجربة ميدانية قمنا بها مع تلاميذ السنة الأولى بكالوريا /علوم رياضية/ خيار فرنسي، في موضوع “تحقيب الحركة الوطنية”، باعتماد هذا النموذج الديداكتيكي، أكدت لنا تفوقهم في عملية التأويل مع تقديم الحجج والبراهين التي تبرز التحول والتطور في الزمن. في هذا السياق نؤكد ما قاله عبد الله العروي بكون التأويل المفتاح المصطنع من أجل الفهم، حيث تستلزم العملية التأويلية مباشرة واستئناسا واستنباطا ثم مقايسة، تتعاون فيها قوتان ذهنيتان: الذوق والعقل. ولا يكون التأويل ممكنا إلا إذا كانت المادة المدروسة وحدة منسقة، تتسم بصفات الكل والشمولية والانتظام بقيمة جوهرية (ص. 314). إن العملية التأويلية تهدف إلى الإقناع، فتكتسب في نهاية التحليل، بواسطة النقاش الذي يساهم في تعزيز صفة الموضوعية (ص. 319).
ولعله من باب الإنصاف التأكيد على أن التجربة الميدانية، التي قمنا بها، باعتماد هذا النموذج الديداكتيكي، بينت فعالية تعلم التحقيب التاريخي في تنمية شخصية المتعلم على المهارات الحياتية خاصة التفكير النقدي والتفاعل الإيجابي مع الواقع المجتمعي لإبراز الوعي التاريخي للفرد في الحياة اليومية لمجموعة من الإشكاليات والقضايا ذات الجذور التاريخية، والإمساك بمسار التحول والتغيير اللذين يعرفهما بتحديد المنعطفات والأحداث الجارية، وهو يتماشى مع التاريخ الإشكالي الذي يربط بين الإشكاليات الراهنة وبين الزمن الماضي. «لا فائدة في تحقيب لا يساعد على خلق وعي تاريخي لدى الأجيال الصاعدة المتعاقبة، ولا يسهم في تربيتها بالشكل الذي يمكنها من إيجاد الحلول المناسبة لمعضلاتها وتوجيه مسيرتها التاريخية نحو الأفضل، فالتحقيب التاريخي يحمل هوية حضارية محددة تبرز أصالته وبيئته الثقافية.»
تكمن قوة المؤَلِّف في التعبير بأسلوب علمي دقيق يزاوج بين السلاسة والوضوح في مخاطبة القارئ العادي والمتخصص معا، على الرغم من صعوبة وتعقد موضوع التحقيب التاريخي، إضافة إلى التحكم في آليات الترجمة المتخصصة وضوابطها في المعرفة التاريخية والديداكتيكية، ويتضح ذلك في توظيفه لأحدث الدراسات والتراكمات الإبستيمولوجية والديداكتيكية المتصلة بالتحقيب التاريخي.
لابد من التأكيد مجددا على أن المؤلِّف اعتمد في هذا المشروع الديداكتيكي على المنهج الوصفي التحليلي، الذي يهتم بوصف الظواهر كما توجد في الواقع، ثم تحليلها وتفسيرها بإبراز العلاقات السببية بين متغيراتها، من أجل الوصول إلى استنتاجات يمكنها أن تساعد على الإمساك بالظاهرة وفهما.كما يبرز هذا المنهج الطريقة العلمية أو الخطة العامة التي اتبعها من أجل الوصول إلى تحقيق أهدافه، انطلاقا من طبيعة الإشكالية المراد دراستها.
على سبيل الختام
صفوة القول، إن الكتاب يعد قيمة مضافة في حقل ديداكتيك التاريخ، باعتباره مُوجَّها إلى المتخصصين في ديداكتيك التاريخ، ولربما قد يكون مفيدا للمشتغلين بحقل التاريخ. إنه مشروع ديداكتيكي بل وفكري قدم اقتراحات عملية لتجديد وتجويد الممارسة البيداغوجية للدرس التاريخي التحقيبي، وقد يكون كذلك حتى بالنسبة للمستويات الجامعية، من خلال بناء نموذج ديداكتيكي متكامل يكتسب قوته من التجريب الميداني.
يساعد هذا النموذج المقترح أيضا على إبراز وظيفية التاريخ في تنمية المهارات الحياتية مثل التفكير النقدي، والتفاعل الإيجابي بين الزمن الماضي والزمن الحاضر في إطار علاقة ارتدادية وجدلية لفهم واستيعاب التحول الذي يعرفه المجتمع انطلاقا من إشكاليات وقضايا راهنة ذات جذور تاريخية. يضاف إلى ذلك انسجام النموذج المقترح مع البيداغوجيات والمقاربات الحديثة عامة ومقاربات تدريس التاريخ بشكل خاص، وذلك بجعل المتعلم محور العملية التعليمية عن طريق تشجيع التعلم الذاتي والاشتغال على بناء المعرفة التاريخية عبر تفاعل شخصية المتعلم في أبعادها الفكرية والوجدانية والمهارية مع الموضوع، وبذلك تجنب التلقين واستهلاك المعرفة التاريخية بشكل سلبي.
وتأسيسا على ذلك فهو يعد أداة عملية ومرجعا أساسيا في بناء المناهج ومؤلفي الكتب المدرسية الجديدة لمادة التاريخ ومدرسي المواد الاجتماعية، من أجل تنزيل التوجهات والغايات الكبرى للإصلاح التربوي الذي جاء به القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي[6].
انطلاقا من إيجابيات وقوة هذا العمل الجاد قد يكون من المفيد تجريبه في الدرس التاريخي بالمستويات الجامعية وفق خطوات وأسس البيداغوجيا الجامعية في المؤسسات الجامعية ومؤسسات التكوين التربوي.
———————————
[1]العروي عبد الله، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان/الدار البيضاء المعرب، 2005، ج. 2، ص.272.
[2]العروي عبد الله، مفهوم التاريخ، مرجع سابق. .ص. 266-278.
[3]Lucien Febvre, Combats pour l’histoire, in: Lucien Febvre, vivre l’histoire, p. 6.
[4]المهدي المنجرة، قيمة القيم، ط.2، مطبعة النجاح، الدار البيضاء،2007، ص.14.
[5]عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ص.44.
[6]وزارة التربية الوطنية والتعليم والبحث العلمي وتكوين الأطر، القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، الجريدة الرسمية، عدد 6805، ص.5632.