ازداد خلال العقدين الأخيرين، على المستوى العالمي، الاهتمام بقضايا التربية والبيداغوجيا بفعل الأزمة التي تعيشها مختلف الأنظمة التربوية. وتجسّد هذا الاهتمام في الإصدارات المتنوعة من مؤلفات ودراسات علمية، وكذا في الرسائل والأطروحات الجامعية المحسوبة على حقل علوم التربية بصفة عامة، والمنجزة بمختلف المؤسسات الجامعية ومراكز التكوين والبحث، والتي يبدو أنها في ازدياد كمي، وذلك بتزامن مع مجموعة من الإصلاحات التي قامت بها الأجهزة الوصية على قطاع التربية والتكوين. وجدير بالذكر أن ثمة باحثين في علوم التربية أنجزوا بيبلوغرافيات للمنجز في هذه العلوم، ونشير في هذا الصدد إلى بيبليوغرافيا نقدية أنجزها باحثون في ديداكتيك التاريخ، والتي ينبغي أن تُحَيَّن وتَتَوسع على المستوى المجالي، ونستنتج منها أن الإنتاج في هذا الحقل المعرفي يزداد كميا ومفاهيميا وموضوعاتيا، وبالتالي نوعيا.
لاشك أن عمق الأزمة التي تعرفها المنظومات التربوية العالمية تشكل حافزا على طلب الخبرة والدراسة، لا من أجل حل إشكاليات هذه المنظومات التربوية، ولكن على الأقل، وقبل البحث عن حلول، فهم مختلف أبعادها وتجلياتها وآليات تطورها. إن العلم، بصفة عامة، ليس منذورا لحل المشكلات الآنية، خاصة حينما يتعلق الأمر بالإشكاليات المجتمعية ذات الأبعاد المعقدة والعميقة، التي يحتاج حلها إلى معالجتها في سياقها النسقي والمعقد. يقول “دانييل لاكومب” Daniel Lacombe في هذا السياق: «منذ أزيد من قرنين، كلما اكتشفت مجتمعاتنا الغربية تعاسة ما؛ تعاسة البروليتاري، تعاسة العالم الثالث، تعاسة الطفل أو المراهق غير المؤهل، إلا وقررت القضاء عليها ونادت على العلم والنيات الحسنة Philanthropes، ومن هنا توالي الشعارات ذات الصبغة التقنية-الإنسانية من مثل: القضاء على الإملاق والعوز، والانتصار على التخلف، ومحاربة الفشل الدراسي. على أن ما لم يستطع الدعاة ذوو النيات الحسنة القيام به لصالح العمال الفلاحيين والصناعيين، وكذا خبراء الاقتصاد والفلاحة تحقيقه للفلاحين المفلسين في دول الجنوب، لا يستطيع الباحثون الديداكتيكيون والمدرسون المؤهلون القيام به لصالح التلاميذ الذين يوجدون في وضعية تربوية صعبة. لأننا نعرف اليوم-ولو أن ذلك يقع إخفاؤه- أن كل هذه المشاكل هي أولا مشاكل سياسية (…) وفي انتظار ذلك يبقى دور العلم، (خاصة الديداكتيك)، هو ملاحظـة الظـواهر وبناء المفاهيم الـذي يمكننا مـن هذا الوصف[1].
لا يدعي العلم إذن، مهما كانت درجة دقته أو هيكلته المفاهيمية حل مشاكل المجتمع، على الأقل حسب بعض التيارات في إبستيمولوجيا العلوم الاجتماعية،كل ما يستطيعه هو الفهم وتفسير القضايا المجتمعية من أجل الانطلاق منها لمعالجة هذه القضايا والإشكالات.
من هذا المنطلق فإن تزايد الطلب على علوم التربية وازدياد إنتاجها كنوع من الاستجابة لهذا الطلب يندرج في هذا السياق الذي يتوخى بالدرجة الأولى تعميق فهمنا لهذه الإشكالات وتناولها في قوالب نظرية ومفاهيمية للتمكن من إدراكها في أبعادها المتعددة.
ودون الخوض في علوم التربية بشكل عام؛ ذلك أنها حقل معرفي يستدمج تخصصات وحقولا معرفية متنوعة، فإننا سنقتصر، بحكم تخصصنا، على أحد فروعها وهو ديداكتيك المواد الدراسية، أو ما يسمى la didactique des disciplines, والذي يندرج ديداكتيك التاريخ ضمنه، والذي أدرجه”غاستون ميالاريه”Gaston Mialaret ضمن تصنيفه لعلوم التربية[2].
يتعلق الامر إذن بديداكتيك التاريخ،كما بلوره بعض رواده، مثل”هنري مونيو”Henri Moniot في كتابه المعروف[3]. وقد شكل هذا الحقل المعرفي جاذبية عليه، على الرغم من أن تخصصه الأكاديمي هو تاريخ إفريقيا.
نستخلص من تاريخ العلوم الاجتماعية والإنسانية درسا أساسا، وهو أن كل حقل معرفي في طور التبلور يواجه مشكلات منهجية ومفاهيمية، ولربما مشاكل تتعلق بهوية هذا الحقل المعرفي. فديداكتيك المواد الدراسية، ومنها ديداكتيك التاريخ، وإن ارتبط، من حيث المشروعية، بالمعرفة التاريخية إلا أنه حقل ذو خصوصية؛ إذ تلتقي فيه المعرفة العلمية بمتغيرات منهجية وإبستيمولوجية وسيكولوجية وسوسيولوجية وثقافية تتداخل في عملية التعلم والنمو عند المتعلم. فهو حقل له إشكالاته التي تستدعي استحضار المعرفة التاريخية في كل أبعادها الإسطوغرافية والمنهجية والإبستيمولوجية بل والسيكولوجية والسوسيولوجية والثقافية، ومن هنا إشكال الهوية الذي يرافق كل حقل معرفي في طور التبلور.
لا يمكن الحديث عن ديداكتيك التاريخ بصيغة المفرد بل بصيغة التعدد؛ فمن اللافت للنظر، أن ديداكتيك المواد الدراسية، بما في ذلك ديداكتيك التاريخ، تتمفصل فيه ثلاثة أبعاد تتحول إلى مقاربات، وهي أولا البعد المعياريDimension normative ، ثانيا بعد الممارسةDimension praticienne ،ثالثا بعد البحث الأكاديميDimension de la recherche .
أولا إن تدريس مادة معينة يرتبط بداية بـــمعيار، وهو الذي تقدمه عادة المناهج الدراسية والوثائق الرسمية والكتب المدرسية ومختلف الوثائق التي تتوجه نحو أجرأة تدريس المادة، وهي بمثابة معيار للممارسة، أو لنقل بلغة “ماكس فيبر”Max Weber النموذج المثالي Type Idéal، وهذا هو البعد الأول لديداكتيك أي مادة دراسية.
وإذا كان مدرس التاريخ ينطلق من هذا المعيار فإنه يَنْشَدُّ إلى وقع الممارسة الذي يفرض عليه إكراهات ويواجه صعوبات مختلفة تدعوه إلى البحث عن ممارسات أمثل، بحيث قد تشكل له الأطر النظرية مُوَجِّها فحسب وليس حلا نهائيا، نظرا لتعقد مكونات الواقع الديداكتيكي وتَمَنُّعه على كل إدراك شامل مانع، لبلوغ الغايات والأهداف التي يرسمها المعيار. هكذا يرتبط البعد الثاني بالممارسة التي لها منطقها وخصوصيتها، والتي تفرض على المدرس التدخل الآني من أجل تدبير وضعيات ديداكتيكية، قد يستغيث فيها بالأطر النظرية والمفاهيمية، وقد يستدعي التجربة الميدانية، وقد يستعين بحدسه المرتبط بمعايشة الوضعيات الواقعية. هذا البعد الثاني هو، في الواقع، بُعد معقد أطلق عليه بعض الباحثين في علوم التربية بـ”الترقيع الديداكتيكي”[4]Bricolage didactique ، لا بمعنى قدحي ولكن بالمعنى الذي يحيل على احتكام الفاعل التربوي لتجربته الخصبة في حل المعضلات التربوية حين تعجز الأطر المفاهيمية والقوالب النظرية عن استيعاب الواقع وإدراكه بشكل عقلاني.
على أن بعد المعيار وبعد الممارسة هما اللذان يكونان موضوعا للبحث الأكاديمي الذي يحتكم إلى مناهج وأدوات موضوعية لدراسة الواقع الديداكتيكي دراسة علمية. وهذه النظرة الموضوعية والعلمية للظواهر التربوية عموما هي ما يشكل البعد الثالث. وينطلق فيه الباحث من إشكاليات ويدرس الظواهر دراسة علمية تستند إلى منهج محدد وأدوات لاستطلاع الميدان، كما ينطلق هذا البعد الثالث من قوالب نظرية من أجل تجريبها والبحث عن مدى ملاءمتها مع الواقع الميداني.
تندرج المؤلفات، موضوع هذا الملف، ضمن البعد الأكاديمي ذي النزعة التنظيرية، ذلك أنها تنطلق من أطر نظرية ومفاهيمية وتقترح مقاربات تعلمية من أجل ممارسة عقلانية لفعل التدريس (تدريس التاريخ)، فهي بقدر ما تحسب على البعد الأكاديمي بقدر ما هي منفتحة على بعد الممارسة، سواء في مستوى التجريب أو مستوى التشخيص، فضلا عن تقديمها لقوالب معيارية بديلة مسنودة منهجيا وإبستيمولوجيا لتطوير تدريس التاريخ في المرحلة الثانوية ما قبل الجامعية.
هذه المؤلفات هي، في الأصل، أطروحات جامعية نوقشت في كلية علوم التربية بالرباط، بين 2005 و2011، وذات بعد تنظيري ومفاهيمي وإبستيمولوجي.
من الملاحظ اليوم، وخلال هذين العقدين الأخيرين، أن دراسات وأبحاثا أضحت محسوبة على هذا الحقل المعرفي سواء في مجال التاريخ أو الجغرافيا، وتبنتها بنيات بحثية بمؤسسات جامعية بالمغرب، إلى جانب كلية علوم التربية، وهي أطروحات جامعية، تلامس إشكاليات هذا الحقل المعرفي، بعضها نشر وبعضها لم يكتب له النشر. وقد انتقينا منها ثلاث أطروحات؛ أولاها تعتبر مُؤَسِّسة باعتبار احتضانها للفكر التاريخي منهجيا وإبستيمولوجيا وسابقة كرونولوجيا، وهي للأستاذ مصطفى حسني إدريسي. أما الثانية والثالثة فيمكن اعتبارهما امتدادا للأطروحة الأولى، بحيث ركزت كل منهما على جانب من جوانب الفكر التاريخي؛ هكذا ركزت الأطروحة الثانية على التفسير التاريخي للأستاذ شكير عكي، والثالثة على التحقيب التاريخي للأستاذ محمد صهود.
يضم هذا الملف إذن قراءات حول كل من الأطروحات الثلاث المشار إليها، والتي صدرت على شكل مؤلفات، وسترد في هذا الملف كالآتي:
- مساهمة في قراءة كتاب “الفكر التاريخي وتعلم التاريخ”، لمؤلفه الأستاذ مصطفى حسني إدريسي، من إنجاز شكير عكي،أستاذ ديداكتيك التاريخ بالمركز الوطني لتكوين مفتشي التعليم، ومحمد صهود،أستاذ ديداكتيك التاريخ بكلية علوم التربية بالرباط.
- التفسير التاريخي من إبستيمولوجيا المعرفة التاريخية إلى ديداكتيك التاريخ المدرسي: استبصارات في كتاب التفسير التاريخي، للأستاذ شكير عكي، من إنجاز مراد جدي، مفتش تربوي وباحث في سوسيولوجيا الثقافة والتنمية.
- نحو تصور ديداكتيكي للتحقيب باعتباره عملية منهجية مؤسَّسة على خلفية ابستيمولوجية، من خلال كتاب: التحقيب التاريخي-إسهام في التأصيل الإبستيمولوجي والمنهجي، للأستاذ محمد صهود، من إنجاز عبد الفتاح هشمي، أستاذ ديداكتيك التاريخ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة بني ملال خنيفرة.
تقديم وتنسيق:محمد صهود
————————
[1]Lacombe Daniel. « Didactique », In : Encyclopoedia Universalis, France, S. A., 2002, Corpus 7, p. 300.
[2]Gaston Mialaret, Les sciences de l’éducation, Que sais-je ? Presses Universitaires de France, 2017
[3]Henri. Moniot, Didactique de l’histoire, Paris, Ed. Nathan, 1993.
[4]Charles. Hadji Penser et agir l’éducation. Paris, E. S. F., 1992.