مقدمة:
نظمت مجلة رباط الكتب بشراكة مع المقهى الأدبي لكرسي فاطمة المرنيسي والمعهد الثقافي الفرنسي مؤخرا بمقر معهد HEM بالرباط ندوة بحضور الكاتب والمؤرخ الفرنسي إيفان جابلونكا حول موضوع: “التاريخ، العلوم الاجتماعية والبحث الميداني: الكتابات الجديدة حول الواقع”. وقد قام بتأطيرها كل من المؤرخ عبد الأحد السبتي (مجلة رباط الكتب) والكاتب والروائي إدريس كسيكس (مدير إيكونوميا، معهد HEM.
نص المقال:
إيفان جابلونكا هو أستاذ للتاريخ المعاصر ورئيس تحرير المجلة الثقافية الفرنسية laviedesidées.fr (حياة الأفكار) التي تصدر عن معهد كوليج دو فرانس العريق. اشتهرت كتبه، الفائزة بعدة جوائز مثل “ميديسيس” و”لوموند”، باشتغالها على أدوات الميكرو تاريخ، والتاريخ الذاتي، وباشتغالها بشكل خاص على أساليب الأدب وتقنياته لكتابة التاريخ. خلال هذه الندوة أوضح جابلونكا متحدثا عن منهجيته: ” في العمق، أنا أتبنى المنهجية العلمية، لكنني متشبث أيضا بالعلاقة مع الآداب وكذا باستخلاص الخلاصات الأدبية لهذه المنهجية”. وهي منهجية تقوم على تقريب البحث التاريخي من الأدب ومن أساليبه، لكن جابلونكا يؤكد أنه رغم تبنيه لهذه المنهجية فإنه لا يخلط بين الأساليب الأدبية وبين التخييل fiction الذي يظل، بالنسبة إليه، “خطا أحمر”. أي أنه لا يذهب إلى درجة اختلاق أو ابتداع الأحداث لأن ما يكتبه ليس “روايات تاريخية” حسب قوله.
يتطلب تبني المنهج العلمي في البحث التاريخي، حسب جابلونكا، ضرورة الاشتغال بناء على طريقة ثلاثية الأبعاد هي: طرح المشكلة أو الإشكالية، والبحث عن المصادر والاعتماد عليها للإجابة على الإشكالية، ثم القيام بمقارنات وبرهنة أو إثبات démonstration لأن الكتابة التاريخية برأيه هي ” عملية برهنة فكرية “. وحسب جابلونكا، فإن ” التاريخ ليس هو الماضي، ولكنه تحقيق حول ما قام به الإنسان في ذلك الماضي”. ويطرح جابلونكا مقارنة بين التحقيق الصحفي والتحقيق التاريخي، ويرى أنه ليس هناك فرق بين العملين على مستوى منهجية العمل. ويعتبر أن الصحفي والمؤرخ هما مثل ” أخوين أو أبناء عمومة”. والفرق بينهما، حسب رأيه، يوجد فقط على مستوى الوقت الذي يضغط دائما على الصحفي، كما أن المؤرخ ليس لديه رئيس تحرير يضغط عليه ويطالبه بأن ينجز عمله بسرعة.
في ما يخص هذه المنهجية التي يستلهمها الكاتب من الأدب أو مما يسميه: ” المؤثرات أو العناصر الأدبية” les opérateurs de la littéralité ، يقول جابلونكا إنه يعتمد على عدة أساليب منها” استحضار المؤرخ عند الكتابة لذاتيته أي “الأنا”، أو للجماعة التي ينتمي إليها من أجل أن يكتب عنها. وهكذا يمكن أن يتحدث الباحث – المؤرخ مثلا عن مشاعره وأحاسيسه عندما يكون في قلب عملية البحث (أحاسيس الحماس مثلا، أو التوتر النفسي، أو الفرح…إلخ). كما يمكنه أن يتحدث عن مجريات ومراحل “التحقيق” التاريخي الذي يقوم به وبتفاصيل سير هذه العملية. من بين هذه الأساليب والمؤثرات أيضا، يذكر الكاتب ما يسميه ” الالتباس الزمني المتحكم فيه ” anachronisme contrôlé أو ابتداع سيناريوهات تاريخية..إلخ وهذه كلها أساليب تستعمل الخيال، حسب قوله، ولكنها ليست قصة مختلقة أو رواية بالمعنى الكلاسيكي المعروف للرواية.
من بين الكتب التي اعتمد فيها إيفان جابلونكا على هذه المنهجية يذكر: ” ليتيسيا أو نهاية الرجال ” Laeticia ou la fin des hommes (2016) أو “قصة أجدادي الذين لم أعرفهم. تحقيق” Histoire des grands-parents que je n’ai pas eus » (2013). هذا الكتاب الأخير، الذي اشتهر به المؤلف وحصل على عدة جوائز في فرنسا، جاءت فكرته من أجل تلبية رغبة ذاتية لدى جابلونكا هدفها البحث في تاريخ عائلته ذات الأصول اليهودية، وفي جنيالوجيا جديه اللذان كانا ضحية للمحرقة النازية في “أوشفيتس” خلال الحرب العالمية الثانية. ويحكي جابلونكا كيف أن أستاذه حذره من دخول مثل هذه التجربة الكتابية التي تدور حول سيرته الشخصية لأنه من الصعب على المؤرخ أن يكتب عن “الأنا”. لكن في نهاية الأمر وافق أستاذه واشترط عليه، إن أراد تأليف هذا الكتاب، أن يقوم لاحقا بكتابة مؤلف ثان يوضح ويشرح فيه لماذا أقدم على تأليف كتابه هذا عن أجداده. وفعلا، سيقوم جابلونكا بتأليف كتاب يشرح ذلك ويحمل عنوان: ” التاريخ أدب معاصر. بيان من أجل العلوم الاجتماعية ” (2017) L’histoire est une littérature contemporaine .
يقدم المؤرخ جابلونكا عدة توضيحات وتبريرات لتفسير اعتماده على هذه الطريقة الجديدة في الكتابة المعتمدة على أساليب الأدب أو على ما يسميه “المؤثرات الأدبية”. ومن بين هذه المبررات الأزمة التي تعيشها العلوم الإنسانية نتيجة تراجع عدد القراء لكتب التاريخ والعلوم الاجتماعية، وتناقص اهتمام دور النشر بطباعتها، وكذا تراجع اهتمام الطلبة الذين صاروا يتجهون أكثر، حسب رأيه، إلى دراسات العلوم والقانون.
لمواجهة هذه الأزمة، يقترح جابلونكا إذن أن يتم تناول de nouveaux objets intellectuels أي “مواضيع فكرية جديدة” عبر اعتماد منهجية الأسطوغرافية أو تاريخ التاريخ. وقد عبر، في هذا الصدد، عن تأثره بعدد من المفكرين والمؤرخين مثل ميشيل دي سيطو، وأرليت فارج، وميشيل فوكو، وبول فاين Paul Veineصاحب كتاب “كيف نكتب التاريخ”. ويقول بول فاين إن “التاريخ لا ينبني على العلوم ولكنه ينبني على الكتابة لأنه ليست هناك منهجيات “. وهو رأي يبدي جابلونكا اختلافه معه إذ يرى أنه لا بد من وجود منهجيات في البحث كما هو الحال في جميع فروع العلوم الاجتماعية.
النقاش المفتوح مع الحضور خلال هذا اللقاء طرح قضايا متعددة تتعلق عموما بإشكالية العلاقة بين الكتابة والتاريخ، وكيف أن كتب التاريخ المتميزة والخالدة هي تلك التي يتم كتابتها بأسلوب جيد. وقد تم استحضار عدة تجارب مغربية مثل كتابات المؤرخ عبد الله العروي. وقد اعتمدت هذه الكتابات، التي لقي بعضها نجاحا ملحوظا، على مقاربات متعددة التخصصات مثل التاريخ والاقتصاد والأنثروبلوجيا والأدب. كما استعملت فيها تقنيات خاصة في الكتابة مثل الحكي والأرشيف والكولاج وغيرها.
خلال النقاش تم أيضا استحضار تجارب وأسماء مؤرخين بارزين في هذا المجال مثل الأمريكي هايدن وايت في كتابه الشهير “ما وراء التاريخ، الخيال التاريخي في أوربا ما بعد القرن 19” الذي تناول بالتنظير لمسألة التاريخ والتخييل. كما تم التأكيد على خصوصية تجربة إيفان جابلونكا وأهمية كتابه الذي يحمل عنوان “التاريخ، أدب معاصر”. وهو كتاب يقوم بوضع منظومةsystématiser للعلاقة بين التاريخ والأدب، و”يضفي طابع النسبية” على العلاقة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية.