الأربعاء , 19 فبراير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » إخبــــارات » رحيل بحجم الفجيعة: وداعا عبد الحفيظ الطبايلي

رحيل بحجم الفجيعة: وداعا عبد الحفيظ الطبايلي

عبد الحفيظ الطبايلي

1/ منذ أن تعرفت عليه قبل ثلاثة عقود وهو ينجز كل شيء، بسرعة وبإتقان. لم يكن رحيله الفاجع استثناء. حديث شجي بمكتب الأستاذ الصديق أحمد بريسول أياما قليلة قبل الوعكة ثم يغادر بسرعة فائقة وكأنه كان حديث وداع هادئ لن يكون له ما بعده.

هكذا أصابنا الذهول، نحن أصدقاؤه في مجلة رباط الكتب، وزملاؤه في معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، وزملاؤه سابقا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. كيف لهذا الصديق الوفي الخدوم المحب للحياة وللمعرفة، الزاخرة جعبتُه بالأفكار وبالمشاريع أن يرحل في صمت وألا تمهله الحياة زمنا إضافيا لعيش بهي مشترك.!؟

يرحل سي عبد الحفيظ في غفلة منا جميعا بعد كنا نأمل في شفاء قريب. ما زلت أراه مبتسما يمر بين ردهات المكان ويسأل عنا واحدا واحدا كلما سنحت له الفرصة. حين هاتفني الصديق عبد الأحد السبتي قبل بضعة أيام، لم أصدق أن وعكة صحية -كنت أتمناها عابرة – ستلزمه الصمت الأبدي المتقن. وكنت أنتظر أن يستفيق لنجدد لقاءات صباحية باكرة، باردة ودافئة معا.

لكنك أصررت أن يكون التسلل هذه المرة إلى غير رجعة، وذهبت إلى الأعالي عشية أمس السبت 25 فبراير 2023 بكل شموخ وبإيقاعك السريع في كل شيء. على روحك الرحمة يا صديقي.

2/ عرفت سي عبد الحفيظ أواسط تسعينيات القرن الماضي بفضل صديق عزيز مشترك هو ذ. محمد الوهابي. ومنذ ذلك الزمن لم يتوقف التواصل بيننا، بل تعزز حين جمعتنا أولا مجلة رباط الكتب الالكترونية سنة 2006، وكان الفقيد إلى جانب باقي الأصدقاء مساهما وفاعلا نشطا في تشييد نواتها الأولى. ثم جمعتنا الزمالة ثانيا بمعهد الدراسات والأبحاث للتعريب. وإنني لأعترف أنني تعلمت منه الكثير، روح المبادرة وهندسة المشاريع والسبق إلى الأفكار الثاقبة والكرم المتدفق. أقلها إشرافه على تنظيم أول معرض للكتاب العربي سنة 2015 برحاب المعهد إلى جانب ذ. محمد الفران وكان وقتها مديرا للمعهد نفسه. وبشهادة كل الزملاء لم يكن سي عبد الحفيظ يتأخر في تقديم الرأي والمشورة حين يتعلق الأمر بالهندسة الرقمية لكل المشاريع التي احتضنها المعهد أثناء وجوده داخله.

كان سي عبد الحفيظ بارعا في هندسة مشاريع النشر كذلك، وقد كانت له في ذلك تجارب عديدة في معهد التعريب، وقبل ذلك في كلية الآداب، وبين هذه وذاك تجربته الرائدة في الإشراف على نشر سلسلة مسارات في البحث التي كانت تصدرها دار أبي رقراق للنشر بالرباط.

صعب أن أوفي ذ. الطبايلي حقه في كلمة تأبين قصيرة، أكتبها ولم يجف الماء بعدُ على تراب قبره.

مع ذلك أود ان أشير إلى بعض من كل. كان السي عبد الحفيظ أستاذا باحثا رصينا في التاريخ والدراسات العثمانية وله في ذلك أبحاث ومنشورات عديدة، بل وتخرج على يده نخبة من الباحثين الواعدين في الجامعة المغربية اليوم. كان في علاقته بطلبته وزملائه ناكرا للذات لا يتوانى عن تقديم الخدمة، بل إنه في كثير من الأحيان يكون سباقا إلى المبادرة وتوجيه أحدنا إلى مسار في البحث لم ينتبه إليه، حتى وإن لم يكن المجال في صلب تخصصه. وأنا من هؤلاء. كانت له عليَّ أياد بيضاء أنارت لي الكثير ونبهتني إلى ما غفلت عنه. كانت الغيرية جزءا من سعادته. كرم قل نظيره.

3/ حين بدأت مجلة رباط الكتب في نشر أولى أعدادها سنة 2006، كان سي عبد الحفيظ قد تقلد مهام محافظ مكتبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في الوقت الذي أسندت للأستاذ عبد الرحيم بنحادة، صديقه ورفيق دربه، مهمة عمادة الكلية نفسها. أقف عند هذه المحطة في المسار العلمي والمهني للأستاذ الطبايلي لأشير إلى أمرين:

أولهما نشاطه الدؤوب في تفعيل مجموعة من المشاريع المشتركة بين كلية الآداب بالرباط ومجلة رباط الكتب، وأخص بالذكر اللقاء الدراسي حول رواية القوس والفراشة لمحمد الأشعري يوم 5 مارس 2011 والذي صدرت أشغاله في كتاب عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وقبله دوره وبدعم من ذ. عبد الرحيم بنحادة في نشر أعمال الندوة التي نظمتها رباط الكتب بتعاون مع مركز تواصل الثقافات حول كتاب السنة والإصلاح لعبد الله العروي في 3 دجنبر 2008. ولا أود أن أنسى مساهمته في إعداد وتقديم ملف اللقاء الدراسي الذي نظمته رباط الكتب في 24 أبربل 2010 حول تقرير المعرفة العربي 2009: نحو تواصل معرفي منتج.

ثانيهما أن زمن اضطلاعه بمهمة محافظ مكتبة كلية الآداب بالرباط كانت ثرية بكل المقاييس، فقد أخذ على عاتقه إنجاز مهام مضنية من أهمها فهرسة ورقمنة كل مخطوطات كلية الآداب والعلوم الإنسانية وهو عمل كان همه الأول الحفاظ على مخزون ثري من الوثائق والمخطوطات داخل واحدة من أعرق الجامعات المغربية وحمايته من الضياع. ولتبقى ذاكرتنا في الاعتراف حية فقد عمل سي عبد الحفيظ في هذه السنوات القصيرة إلى حدود سنة 2013 على تسفير وتجليد 56000 وثيقة وكتاب مما تزخر به مكتبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية.

ومن علامات السرعة والإتقان في أخلاق سي عبد الحفيظ – وهو أمر يدعو إلى الحبور والاعتزاز رغم كل الحزن وألم الفراق – أنه أنهى أسابيع قليلة قبل الرحيل كتابا بعنوان: الوثيقة والمؤسسة. سيصدر هذا الكتاب قريبا عن إحدى دور النشر المغربية بإشراف وتقديم الأستاذ عبد الرحيم بنحادة.

هكذا كان يعمل عبد الحفيظ الطبايلي في صمت وهدوء وتواضع وسرعة وإتقان.

وهكذا رحل في صمت وهدوء وتواضع وسرعة أكبر من سرعة برق خاطف. وليس في ما أقوله ذرة مبالغة من أجل التعبير عن حجم الفاجعة. فاجعة فقدان الجامعة المغربية والبحث التاريخي لباحث رصين ومتواضع، وفاجعتي أنا في صديق عزيز لن يكتب لي بعد اليوم أن أحتسي معه فنجان قهوة في أحد الأماكن الهادئة التي يحبها قرب بيتي أو قرب بيته. لن يكون للقهوة طعم في هذين المكانين بعد رحيلك الأبدي.

يحق لك بعد اليوم أن تستريح أيها الصديق العزيز.

على روحك الرحمة والسكينة.

الرباط: 26 فبراير 2023

- سعيد الحنصالي

معهد الدراسات والأبحاث للتعريب / جامعة محمد الخامس - الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.