مقدمة
في سياق التطور السريع والمذهل لتقنيات الذكاء الاصطناعي التي أصبحت تمس جميع المجالات، بادرت مؤخرا جمعيتان معروفتان في فرنسا لهما تاريخ طويل في مجال الترجمة الأدبية إلى توجيه نداء عاجل من أجل وقف استعمال هذه التقنيات. الجمعيتان هما: “جمعية المترجمين الأدبيين في فرنسا” ATLF و”جمعية تطوير الترجمة الأدبية” ATLAS الفاعلتان في هذا المجال منذ حوالي 50 سنة.
تحت عنوان “المترجمات والمترجمون يطالبون بالشفافية” يشير هذا النداء إلى دراسات وتحقيقات(1) قامت بهما الجمعيتان وجمعيات أخرى حول رأي المهنيين والعاملين في مجال الترجمة ونشر الكتاب في فرنسا بخصوص التحولات الكبرى التي صارت تعيشها الترجمة الأدبية في ظل اجتياح تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
رغم تسجيلهما لبعض الإيجابيات في هذه التكنولوجيا التي اشتهرت مؤخرا مع الروبو الأمريكي المعروف “شاط جي بي طي” Chat GPT، فإن هاتين الجمعيتين تسجلان تحفظات كبرى وتؤكدان على السلبيات الكثيرة التي تنتج عن هذه الاستعمالات.
تمس هذه التكنولوجيا، أولا، بجوهر عملية الترجمة ومعانيها العميقة حسب تعريف المفكرة والمترجمة الفرنسية باربارا كاسان التي ترى أن: “الترجمة هي أن نعرف كيف نحسم، وكيف نتحرر، وكيف نختار، وكيف نلعب، وكيف نكون خفيف الظل”، وهو ما لا تسمح به الآلة. كما تنتقد الجمعيتان عواقب السرعة والجري وراء ربح الوقت والمال الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي الذي هو في الحقيقة ليس “ذكيا”، حسب رأي أحد المترجمين، لأنه يقوم فقط “بتقليد تصرفات الإنسان عبر سرقتها”.
من بين السلبيات أيضا خطر القضاء على مهنة الترجمة نهائيا عبر “استيلاب” المترجمين، لأنهم لا يتحكمون في أدوات الذكاء الاصطناعي وفي ظروف استغلاله مع تراجع كبير لمداخيل المترجمين وتدهور ظروفهم المادية. كما أنها تكنولوجيا تطرح مشكلا أخلاقيا يتعلق بحقوق التأليف، بحيث إنه لا يعرف لمن تنسب النصوص المترجمة آليا، وكيف يمكن تدبير حقوق التأليف بسبب غياب تنظيم قانوني لحقوق الـتأليف في هذا المجال.
وللخروج من هذا الأزمة، تطرح الجمعيتان عددا من المطالب، مثل: مطالبة الناشرين بأن يعلنوا بوضوح في الكتب المترجمة، هل تمت بواسطة الذكاء الاصطناعي أم لا. وتوقف الدولة عن تقديم الدعم المالي لدور النشر ولجميع الفاعلين الذين يستعملون هذه التقنيات.
ارتأينا في مجلة “رباط الكتب”، نشر هذا النداء من أجل مواكبة هذا النقاش العالمي، ومحاولة عرض رأي مختلف الأطراف بخصوص موضوع أساسي صار اليوم يمس الأدب والترجمة ومختلف مجالات التواصل والفكر الإنساني.
نص النداء:
” إننا ندافع عن مهنة الترجمة وعن جميع من يمارسها بحب ومعرفة؛ علينا أن نتحرك الآن، علينا ألا نغض الطرف عن هذه الآلية (automatisation) وعن هذا التقييد للإبداع، ومقاومته ورفضه ومكافحته.
لا، لم يفت الأوان بعد. لا، إننا نرفض أن نفكر من الآن فصاعدا في الكيفية التي تجعلنا “نعيد تدوير وتأهيل أنفسنا”، وكيف “نعيد اكتشاف أنفسنا”، وكيف “نعيد تحويل” أنفسنا من أجل الرضوخ أمام هذا النوع من اللا- فكر المنحرف، والذي يفكر فقط في المردودية بأي ثمن.
قبل عدة عقود، عرفت نظريات التطور الداروينية حول الانتقاء عبر التنافس استكمالا بفضل ملاحظات علماء البيولوجيا حول التعاون باعتباره ميزة انتقائية. لهذا، حان الوقت لنتخلى عن هذا الإيمان الأعمى بالتنافس.
إننا نرفض أن يتم اعتبار هذه التكنولوجيا ترجمة، لأنها على عكس الترجمة، تكنولوجيا تجعل النصوص والأصوات وكذا الأفكار صقيلة وناعمة. إنها تكنولوجيا تفسد الإبداع الضروري لتحقق الذات الإنسانية. إن استعمال هذه البرمجيات لأهداف مهنية يؤدي، بالملموس، إلى المخاطرة بتقوية الشركات متعددة الجنسيات والعمل بالمجان لصالحها ولصالح شركات “ليكورن”(2) ليس لها أي وازع أخلاقي.
إننا نرفض إملاءات التنميط اللغوي: لا، إن إنجاز ترجمة جيدة من قبل مترجم (ة) جيد (ة) لا ينبغي أن تكون خفية وغير مرئية حتى نحكم عليها بأنها جيدة؛ ولكنها ترجمة ينبغي أن تعيش وتتنفس، وتعيد في دواخلها بناء ذلك العالم الذي يشكله النص الأصلي، كما ينبغي عليها أن تخلق علاقة مع ما هو مختلف، وأن تفاخر بالاختلاف.
إننا نطالب بأن تتم الإشارة بوضوح إلى النصوص المترجمة مسبقا بوسيلة أوتوماتيكية، كما نطالب بتطبيق الشفافية التامة فيما يخص هذه الممارسات التي صار معمولا بها حاليا في مجال النشر.
نداء لدعم المترجمات والمترجمين ودعم مهنتهم.
إننا نخاطب الكاتبات والكتاب، والناشرات والناشرين، والقارئات والقراء، ووكيلات ووكلاء الأدب، وهيآت التحرير، وكاتبات وكتاب الأعمدة الصحفية، والمدونات والمدونين، وأمناء المكتبات، وبائعي الكتب، والموزعين، والسلطات العمومية، والبنيات والجمعيات الثقافية. نخاطب جميع الذين يجعلون الأدب الأجنبي في متناولنا ويحبونه، وجميع من يقرؤونه وينتجونه. إلى كل هؤلاء نقول:
دافعوا عن المترجمات والمترجمين، دافعوا عن الكاتبات والكتاب، قوموا بدعم عملهم، وارفضوا استعمال الذكاء الاصطناعي في مهن الإبداع، وطالبوا بالشفافية في هذا المجال.
.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد وسيلة، إنه يبتلع الإبداع الإنساني، ويصقله، وينمطه، ويجودهس
” إن الثقافة لا يمكنها أن تكون متغيرا هدفه التكييف والتسوية”، حسب وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبد الملك. ونحن نعتقد أن المترجمات والمترجمين لن يكونوا كذلك أيضا.
وانسجاما مع العمل الذي تقوم به “نقابة العمال والعاملات والفنانين – المؤلفين” (STAA)، فإننا نوجه نداء إلى المنظمات المهنية للمؤلفات والمؤلفين (في الكتابة والفنون البصرية والموسيقى) من أجل التحالف بهدف تنسيق أعمالهم”.
هوامش:
1- يمكن الاطلاع على تفاصيل هذه الدراسات في موقع مرصد الترجمة الآلية الذي أطلقته الجمعيتان:
https://www.atlas-citl.org/lobservatoire-de-la-traduction-automatique/
2- ليكورن: لقب يطلق على الشركات الصغيرة والسريعة النمو التي تعمل بالخصوص في مجال التكنولوجيا بأمريكا، وهي غير مدرجة في البورصة وغير تابعة لشركات كبرى، وتصل قيمتها إلى أكثر من مليار دولار (ويكيبديا).