روس إ. دان، مغامرات ابن بطوطة، الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي، ترجمة أحمد بوحسن، الدار البيضاء-دار توبقال، 2020، 430 ص.
حظي الرحالة المسلم ابن بطوطة (1304-1368م) بشهرة واسعة في العالم أجمع، وذلك نظرًا لقدرته على السفر إلى أماكن بعيدة بمختلف أقطار العالم، بالرغم من عدم توفر وسائل النقل الحديثة آنذاك، فاستطاع زيارة أكثر من 44 دولة خلال حوالي 29 سنة ما بين 1325 و1354م، وأرخ لرحلاته في كتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” التي تندرج اليوم ضمن التراث الإنساني، ولكن بالرغم من أهميتها وشموليتها فقد عرفت قرونا من الصمت والسكون، ولم تتحرك إلا بفعل الترجمة منذ بداية منتصف القرن 19م، وبفعل دخولها مجال الحوار النقدي بلغات مختلفة في مجالات وحقول متعدّدة.
استنادًا إلى رحلات ابن بطوطة، التي اطلع خلالها على ثقافات وعادات وتقاليد البلدان التي زارها واحتفى بتراثها الثقافي، ألف الباحث والمؤرخ الأمريكي روس دان كتابه “مغامرات ابن بطوطة: الرحالة المسلم في القرن 14م”[1]، ونظرًا لأهمية هذا الكتاب فقد صدرت منه ثلاث طبعات على التوالي سنوات 1986 و2005 و2012 وحظي بمناقشات علمية كثيرة في الجامعات الأمريكية ممّا تطلب من المؤلف أن يوسع مجالات بحثه حول تاريخ العالم ومقارنة الحضارات.
ويرجع اهتمام أحمد بوحسن بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية، إلى الصلات الأكاديمية التي تجمع بينه وبين المؤلف حيث سبق لأحمد بوحسن أن ترجم أطروحة روس دان لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة ويسكونسن[2]، كما أنه على اطلاع تام بالخلفية الفكرية للمشروع العلمي للباحث الأمريكي المختص بتدريس العالم الإسلامي وحضارته في الجامعة الأمريكية سان دييغو.
ركز روس دان في هذا الكتاب على أهمية البعد العالمي للحضارة الإسلامية وعلى تصحيح الفهم العام لتاريخ الإسلام والمسلمين في أمريكا الذي كان محدودا جدا إلى ما قبل السبعينات من القرن العشرين، كما وضح الدور الذي لعبه الرحالة والجغرافيون المسلمون، وعلى رأسهم ابن بطوطة، في شق الطرق التجارية نحو آسيا بعدما ظل الاعتقاد سائدا لفترة طويلة بأن رواد الاكتشافات الجغرافية من قبيل ماركو بولو وغيره ينتمون إلى الغرب فقط.
ولعل انكباب روس دان لمدة عشر سنوات على دراسة مغامرات ابن بطوطة دليل على المكانة التي يحظى بها هذا الرحالة في أوساط البحث التاريخي الغربي عموما، ولدى روس دان بالتحديد حيث وجد المؤلف في رحلة ابن بطوطة “مادة تاريخية وجغرافية وحضارية وفكرية وثقافية ودينية تساعده” (ص8) على استكمال مشروعه البحثي المتعلق بتعميق دراساته الحضارية المقارنة التي كان مهتما بها.
وهنا سيتم استنباط كيف استطاع روس دان كأنموذج للأستاذ الجامعي والباحث المقارن المطلع على خبايا الحضارة الإسلامية، أن يبرز التوجهات العالمية داخل هذه الحضارة خلال القرن 14م الذي تفاعلت أحداثه في جغرافيا تاريخية تشابكت فيها القوى الحضارية وأصبحت منطقة مترابطة بناء على تجربة ابن بطوطة الرحلية التي استطاع خلالها أن يوفق بين عوالم مختلفة إسلامية وغير إسلامية عبر انتمائه المطلق إلى الأمة الإسلامية وتشبعه بمبادئها وقيمها في مقابل قدرته الفائقة على الاندماج التام مع الآخر المختلف واستكشاف عوالمه الجديدة.
هكذا تتبع روس دان خطى ابن بطوطة من طنجة إلى جنوب شرق آسيا والصين مرورا بالمغرب الكبير والشرق الأوسط وفارس والعراق وشرق إفريقيا وآسيا الصغرى ووسط آسيا والهند وسيلان ومالابار وجزر المالديف، ثم الرجوع إلى المغرب فالأندلس وغرب إفريقيا” (ص9)، ولعل هذه الخريطة الحافلة بالمواقع الجغرافية التي تتوزع على ثلاث قارات، إفريقيا وأوروبا وآسيا، خير دليل على روح المغامرة التي كان يتميز بها ابن بطوطة وعلى حسه الإنساني المبني على استعماله لوسائل التواصل والحوار السائد في المناطق التي كان يستكشفها أو يحط الرحال بها.
في هذا الإطار عرف المؤلف من جهة بالأقطار التي سلكها ابن بطوطة مستحضرا فيها صورة المغرب زمن الرحلة في علاقته بالأمة الإسلامية من ناحية وبالعالم الأوروبي المسيحي من ناحية أخرى متكئا في ذلك على آلية مقارنة العناصر الحضارية، حيث أسفرت عملية المقارنة التفصيلية الدقيقة بين الإمبراطورية المغربية، ممثلة بالمغرب الأقصى بصفته النموذج، وبين إمبراطورية المماليك ممثلة بمصر والشام، في مجالات المال والاقتصاد ومستوى معيشة السكان، عن أهلية المغرب لقيادة الأمة وتوحيدها بالرغم من أن مصر آنذاك كانت تعرف رخاء اقتصاديا بفضل التجارة مع الهند تخصيصا، كما انتصر ابن بطوطة لبلده المغرب في مجالي الثقافة والعمران.
أما صورة المغرب في علاقته بأوروبا المسيحية فقد شيدها ابن بطوطة على أساس احترام سياسة التسامح الديني في ظل رخاء العيش واستقرار الحكم وامتداده، حيث كان المغرب يحتضن المسيحيين الأوروبيين ويوفر لهم السبل لممارسة شعائرهم الدينية بحرية كاملة. مما يؤكد انفتاح المغرب آنذاك على عوالم أوروبية مختلفة، لكن التاريخ يسجل أن الوجود الأوروبي المسيحي في المغرب آنذاك سبب اضطرابات اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية أغفل ابن بطوطة ذكرها في تحفته نظرا لحساسية المرحلة واحتراما “لسلطة المتلقي الضمني المتمثل في الفقهاء والعامة على السواء، والذين كان لهم موقف سلبي من المسيحيين الذين كانوا يعيشون في المغرب آنذاك”[3].
وبحسب روس دان فإن علاقة ابن بطوطة بأوروبا الإسلامية تختلف كليا عن علاقته بأوروبا المسيحية فمقامه في الأندلس المغربية المسلمة لا يختلف عن مقامه في طنجة بين عشيرته وأهله، في حين يبين المؤلف أنه التزم بحدود الضيافة في القسطنطينية الأوروبية المسيحية، وعرف القلق والخوف أثناء زيارته لكالياري بجزيرة سردينيا بإيطاليا ولمدينة غرناطة الاسبانية زمن اشتداد حروب الاسترداد، حيث استشعر خطورة النصارى الأوروبيين الذين كانوا يتربصون بالمسلمين، فلم تستغرق رحلته إلى الأندلس سوى فترة وجيزة ما بين (1350-1351م) إلا أنه تمكن من لقاء علمائها وفقهائها وشيوخها وكتابها وشعرائها ومتصوفيها لأنه كان حريصا على حد قول المترجم على التنقل في “أوساط التفكير العلمي، ووسط الذين كانوا يمثلون في نظره القيم الكونية والمؤسسات العالمية الإسلامية؛ من القصور والمساجد والمدارس. ولهذا هيمنت النخب السياسية والثقافية في الرحلة على حساب الجماهير والفئات الشعبية”(ص12)، في الوقت الذي يستحق فيه التاريخ الاجتماعي للفئات الهشة المسلمة اهتماما بالغا من طرف المؤرخين. وفي خضم رواية ابن بطوطة لأسفاره لمثقفي غرناطة تعرف عليه ابن جزي واستمتع بأخبار رحلته قبل أن يكلفه أبو عنان المريني بصياغتها صياغة أدبية ما تزال خالدة إلى اليوم.
بهذا، يمكن الاستنتاج أن المؤلف وضع ابن بطوطة في علاقة مع الزمان والمكان وما يرتبط بهما من ملابسات اجتماعية وسياسية وثقافية، وسعى إلى تحديد مدى تفاعله مع كل ذلك من خلال تصوير شخصيته ونمط أحاسيسه وفكره وتصرفاته، ووضع ذلك في السياق العام للحضارة الإسلامية السائدة وقتئذ، بالارتكاز على تقنية تحليل مضمون الرحلة وما تحتويه من مضمرات تعكس الميول النفسية والفقهية والصوفية لصاحبها وتبين سوسيولوجية قيمه وأخلاقه، فاستطاع روس دان أن يكشف عن “مختلف جوانب تربية ابن بطوطة وطبيعته الاجتماعية وهمته العالية التي تتميز بالذكاء الاجتماعي الذي يخول له السرعة على التأقلم مع الآخر والقدرة على نسج علاقات اجتماعية بسهولة مما مهد له الطريق للاقتراب من السلاطين والملوك والأمراء وكبار القوم، كما كشف عن طموحات هذه الشخصية العالمة التي أخذت تتضح أكثر فأكثر مع تواصل الرحلة” (ص9) لدرجة أنه طمع في السلطة لما كان في جزر المالديف مما تسبب له في مشاكل كادت أن تعصف بحياته على غرار ما تعرض له أثناء الرحلة مرات كثيرة، لكنه لم يستسلم وأصر على مواصلة استكشافاته متجاهلا كل المتاعب والمخاطر، وهذا دليل على حبه للمغامرة وجرأته الكبيرة وطموحه الذي لا يتوقف، وقد ساعدته نشأته في أسرة غنية بها الكثير من القضاة والعلماء في الشريعة الإسلامية، وتلقيه تعليما في الشريعة أن يتأقلم مع مختلف سكان البلدان الإسلامية التي زارها خصوصا مع إتقانه للغة العربية التي كانت سائدة في العالم الإسلامي آنذاك، والتي مكنته من ممارسة القضاء خصوصا في الهند إذ أصبح مبعوثا رسميا من ملك الهند محمد تغلق إلى ملك الصين.
ومن تم سعى روس دان إلى البحث في الرحلة عن الدلالات والمعاني التي تربط بين كفاءات ابن بطوطة المشهودة في التواصل والحوار والرغبة الجامحة في الاستكشاف وبين قدرة المسلمين على التأقلم مع الآخر المختلف والمتنوع بعيدا عن الخلافات العرقية والدينية والثقافية، كما انكب على إبراز الانتظامات والترابطات العميقة والاتجاهات الكبرى التي تعكس الملامح الكونية في الحضارة الإسلامية خلال القرن 14م والمتمثلة في منظومة القيم الإسلامية التي تدعو إلى احترام الحريات والمساواة والعدالة الاجتماعية، والتي استمد منها ابن بطوطة قدرته على الانفتاح والتسامح مع الديانات والثقافات الأخرى المختلفة.
هكذا قدم روس دان ابن بطوطة بصفته الإنسان المتمدن والمتحضر والمسافر الجيد المتحرر من الرؤية الضيقة للأشياء ومن كل أنواع التعصب الديني والعرقي، وأبرز من خلال ذلك ” مفهوم الإنسان الكوني الذي طوره من قبل مارشال هودجسن ووليام ماكنيل، ويرى روس دان أن كونية ابن بطوطة تسعفه على تجاوز النظرة التقليدية لدراسة التاريخ كدراسة أساسية لتفرد الدول أو الثقافات بشكل منفصل بعضها عن بعض، فركز على دور العلاقات التجارية والعلمية والدينية والفكرية في التعبير عن البعد الكوني الذي جسده ابن بطوطة في تعامله وتكيفه وانسجامه مع مختلف تلك الثقافات والأوضاع السياسية المختلفة” (ص10)، وهذا يوضح أهمية الوعي الكوني والحس الحضاري اللذين كان يتمتع بهما ابن بطوطة واللذين ساهما في نفاذه إلى خبايا المجتمعات التي عايشها والتي كان فيها ندا للإنسانية قبل أن يكون أخا في الدين، فحظي بالمكانة التي يستحقها وكانت تحفته كاشفة لغرائب الأمصار وعجائب الأسفار، وموضحة لقيمة وأهمية الترابطات التاريخية والإنسانية في بناء الحضارات الكونية.
بهذا استطاع روس دان أن يربط جزئيات السفر وخصوصياته بالكليات الحضارية للقرن 14م وأعطى حياة جديدة لكتاب “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”من خلال تسليطه الضوء على مضامين الرحلة وسياقها وطرحه لمجموعة من القضايا والإشكالات التي ترتكز على التفاعل الحضاري بين دار الإسلام والحضارات المجاورة لها في النصف الشرقي للكرة الأرضية خلال القرن 14 باستعمال أسلوب التأويل المقارن للقضايا والظواهر التي تضمنتها مغامرات ابن بطوطة التي أبرزت توسع رقعة العالم الإسلامي التي ضمت مناطق مترابطة ساهم في تشكلها العلماء والمؤسسات العلمية والعلاقات التجارية والثقافية.
ولعل أهم ما خلص إليه روس دان في كتابه مغامرات ابن بطوطة هو الدعوة إلى خلق علاقات إنسانية مترابطة أكثر بين الشعوب والدول والمجموعات البشرية، والحرص على البعد الانسجامي والاندماجي للإنسان بالمجال والفكر على أساس أن الانشغالات الذاتية والهموم والميولات والطموحات والسلوك والعقائد والعوالم الداخلية كلها عناصر تتفاعل فيما بينها لبناء شخصية صاحبها وتثبيت قدرته على مواجهة الحياة والكون والإنسان وتكوين رؤية للعالم خاصة ومختلفة.
ولكن، ألا يمكن أن تكون قد تفاعلت مجموعة من العوامل الثقافية والفكرية والاجتماعية لدى المؤلف الأمريكي روس دان فجعلته يؤلف هذا الكتاب الذي هو في الحقيقة تأويله الخاص لحياة ابن بطوطة وزمانه، وليس صورة للقرن الرابع عشر الميلادي بعيون الرحالة؟
———————————
[1] روإس إ دان، مغامرات ابن بطوطة، الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي، ترجمة أحمد بوحسن، دار توبقال للنشر، ط1، 2020.
[2] Ross E. Dunn, Resistance in the desert Morrocan Responses to French Imperialism (London:Croom Helm;Madison Wis: The university Wisconsin Press, 1977);
[3] فاتحة الطايب، الوطن-الأمة وأوروبا المسيحية في رحلة ابن بطوطة، دار الأمان، الرباط، ط1، 2022، ص، 47.