الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » تجربتي في ترجمة كتاب “مغامرات ابن بطوطة: الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي”، تأليف روس إدموند دانس

تجربتي في ترجمة كتاب “مغامرات ابن بطوطة: الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي”، تأليف روس إدموند دانس

دوافع ترجمة كتاب مغامرات ابن بطوطة

لم أتردد في ترجمة كتاب مغامرات ابن بطوطة، الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي، للمؤرخ الأمريكي روس إدموند دان لما طلب مني ذلك، بحكم علاقتي العلمية والإنسانية بالمؤلف، فقد جمعتنا تجربة سابقة لما ترجمت كتابه التاريخي بعنوان: المجتمع والمقاومة في الجنوب الشرقي المغربي: المواجهة المغربية للإمبريالية الفرنسية 1881-1912، في سنة 2006.  ثم إن هذا الكتاب غَيَّرَ اتجاه أبحاث المؤلف التاريخية من تاريخ المغرب المعاصر إلى التاريخ العالمي، واستغرق منه وقتاً طويلاً في تأليفه. فقد تأثر فيه باتجاه التاريخ العالمي ووقف فيه على أهميته بالنسبة إليه وبالنسبة للجامعة الأمريكية؛ إذ حاول فيه توسيع آفاق البحث التاريخي إلى عوالم وحضارات أخرى غير الأمريكية والأوروبية التي كانت الجامعة الأمريكية منحصرة فيها، وبخاصة الانفتاح على الحضارة الإسلامية.

لقد تعرض كتاب مغامرات ابن بطوطة إلى دراسات أنجلو- أمريكية كثيرة منذ صدوره سنة 1986، وأمدني المؤلف ببعض أهم تلك الدراسات. وتُرجم إلى عدة لغات، منها الإيطالية، والتركية، ولغة الملايو، والإندونيسية. ورغم أهمية تلك الدراسات والقراءات التحليلية لكتابه، فإن المؤلف كان يشعر دائماً بأن تلك القراءات غير كافية، ما لم يتناول كتابه بالدراسة والتحليل باحثون وقراء باللغة العربية في العالم العربي والعالم الإسلامي وخارجهما، أي إنه كان ينتظر رد فعلهم مما كتَبَ عن ابن بطوطة الذي ينتمي إليهم وإلى ثقافتهم، وكذا معرفتهم بما كتب عنه من أبحاث ودراسات باللغة العربية وغيرها. ولعل هذا التقدير من طرف المؤلف لترجمة كتابه إلى اللغة العربية هو الذي حفزني أولاً على القيام بترجمته.

أما الحافز الثاني على ترجمته، فهو تميزه عن الدراسات العربية والأجنبية الكثيرة التي كتبت عن رحلة ابن بطوطة، لأنه من الدراسات القليلة التي ركزت على تتبع مسار ابن بطوطة من خلال رحلته؛ يتقصى سلوك الرحالة المغربي المسلم المالكي في القرن الرابع عشر الميلادي، ويتتبع تكوينه العلمي وثقافته ومعتقداته الدينية والاجتماعية، ومصالحه الشخصية ومطامحه الخاصة، وممارساته الدينية والسياسية والاجتماعية في العوالم التي زارها أو أقام فيها لمدد متفاوتة.  ثم إن هذا الكتاب ابرز ما في رحلة ابن بطوطة من عرض ووصف وتأمل للأماكن والأجناس والأوضاع الاجتماعية والإنسانية، وما عانها صاحبها من متاعب ومشاق، وما قام به من مغامرات مثيرة.  بالإضافة إلى ما كشفت عنه من توسع رقعة العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الميلادي، وأثر العلماء والمؤسسات العلمية والعلاقات التجارية والثقافية في خلق مناطق مترابطة في العالم الإسلامي، وكيف تشكلت تلك الترابطات في حدود دار الإسلام، وأحياناً خارج تلك الحدود، وإن كانت قليلة، حتى أصبح ابن بطوطة مواطناً كونيا-مسلما أينما حل وارتحل.

 

منهجية الترجمة

ولما تفرغت إلى ترجمته، كان علي أن أقرأ النص الأصلي لكتاب روس دان بالإنجليزية أكثر من مرة، وأن أعيد قراءة نص رحلة ابن بطوطة في طبعات عربية عديدة ومختلفة حتى أقف على طبعة محققة تحقيقاً علمياً موثقاً؛ فوجدت أن أحسن طبعة لرحلة ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، لحد الآن، هي الطبعة التي حققها الأستاذ عبد الهادي التازي، ونشرتها أكاديمية المملكة المغربية سنة 1997 في خمسة أجزاء، خصص الجزء الخامس منها للفهارس والمصادر والمراجع. كما أن اطلاعي على بعض الترجمات الإنجليزية لرحلة ابن بطوطة ساعدني على تبين مدى ملاءمتها للنص العربي الأصلي، وبخاصة ترجمة هاملتون جيب التي اعتمد عليها المؤلف روس دان كثيراً. واطلعت كذلك على طبعة المستشرقين الفرنسيين اللذين اكتشفا المخطوطة الكاملة لرحلة ابن بطوطة في الجزائر، ونشراها بنصها العربي وترجمتها إلى اللغة الفرنسية سنة 1859.  ثم كان علي كذلك أن أطلع على بعض الرحلات العربية قبل رحلة ابن بطوطة، وبخاصة رحلة ابن جبير، ورحلة العبدري، ورحلة ابن فضلان، ثم بعض الرحلات التي كتبت بعد رحلة ابن بطوطة. وكذلك كان لا بد من الاطلاع على رحلة ماركو بولو، الذي سبق ابن بطوطة إلى الشرق الأقصى، لأن المؤلف روس دان يشير إليه في كتابه ويقارن بينه وبين ابن بطوطة. بالإضافة إلى الاطلاع على بعض الدراسات العربية حول رحلة ابن بطوطة، وما أكثرها.

أما المنهجية التي اتبعتها في ترجمة كتاب رحلة ابن بطوطة لروس دان، فقد حددتها في تصورين أساسيين، هما: نوع الترجمة التي أتبناها وأسعى إليها،  ونوع النص الذي أترجمه.

أولاً، ففيما يخص نوع الترجمة التي أسعى إليها، والتي حاولت تبنيها، داخل أنواع كثيرة من الترجمات,  فتتمثل في تلك الترجمة التي تسعى إلى الوصول، ما أمكن، إلى نقل المقصود المعبر عنه في اللغة الأصل، الإنجليزية، بتبين طريقة التعبير عن ذلك المقصود في النص الأصل، من تعابير لغوية، وأساليب مختلفة، وما بين السطور أحياناً، إلى اللغة الهدف، العربية، بصياغة نص عربي آخر، يعبر عن المقابل الموضوعي العربي، اللغوي والثقافي والجمالي، الذي يستقل عن الأصل، من حيث صياغته لهويته داخل اللغة العربية وثقافتها وفضاءاتها المعرفية والجمالية، ولكن في نفس الوقت مرتبط بالأصل، بما هو آخرُ النص الأصل، الذي يستمده من قوة النص الأصل الذي يحمل، إلى حد ما، ترجمته المحتملة التي تظهر عندما تجد من يكشف عنها. وقد يصل مثل هذا النوع من الترجمة إلى أن يصبح بدوره أصلاً جديداً، لأنه يكاد لا يحيل إلا على نفسه، ويكاد يتوارى النص الأصل، بحكم المسافة الترجمية الفنية التي خلقها النص الهدف. ويتجلى ذلك في القارئ الذي قد يعتقد أنه أمام نص أصلي بالعربية، وليس أمام نص مترجم.

ثانياً، محاولة تحديد نوع النص الذي سأترجمه، لأن نوع النص وجنسه وموضوعه ولغته ومصادره تساعد كثيراً على ترجمته. وغالباً ما نميز هنا في الترجمة بين نوعين كبيرين من النصوص: نص كُتب على نصِّ لغته، أي نص إنجليزي كتب على نص إنجليزي، واعتمد على مصادر ثقافة اللغة الإنجليزية، أو ما ترجم إليها من اللغات الأوروبية وغيرها. ونص كُتب على نصِّ غير لغته، أي نص إنجليزي كُتب على نص غير إنجليزي، اعتمد فيه كثيراً على مصادر ومراجع وثقافة النص غير الإنجليزي.  وقد سبق لي أن ترجمت مثل هذه النصوص، مثل كتاب تكوين الخطاب السردي العربي، لصبري حافظ (2002)، وكتاب مسارات القصيدة العربية المعاصرة، لمحسن جاسم الموسوي (2017). فنص مغامرات ابن بطوطة، هو نص إنجليزي كُتب على نص عربي تُرجم بدوره إلى اللغة الإنجليزية.  فهو نص اعتمد في تأليفه على نص رحلة ابن بطوطة المنقول من العربية إلى الإنجليزية؛ لأن روس دان لما كَتب كتابه، لم يكن متمكنا من اللغة العربية، تمكناً يسمح له بالاعتماد على ترجمته الخاصة من العربية إلى الإنجليزية، بل اعتمد على ترجمة هاملتون ألكسندر روسكين جيبGibb H. A. R.  أساساً، والتي كانت تعتمد في الدراسات الأنجلو -أمريكية أثناء تأليفه لكتابه.

ولهذا فأنا أمام نص إنجليزي اعتمد على نص عربي مترجم إلى اللغة الإنجليزية، وبخاصة نص رحلة ابن بطوطة. فمثل هذه النصوص الإنجليزية تتطلب عند ترجمتها الرجوع إلى النص الأصلي العربي في كل الاستشهادات التي استشهد بها المؤلف في كتابه، وهي كثيرة؛ لأن الترجمة هنا موجهة إلى القارئ باللغة العربية، ولا يمكن الاكتفاء بترجمة الاستشهاد كما جاء في اللغة الإنجليزية، تفادياً لأي تغيير أو تحريف للصيغة العربية الأصلية للنص المستشهد به، وحفاظاً على الأمانة العلمية في نسبة النصوص إلى أصلها في أصولها.  بالإضافة إلى اعتماد المؤلف على بعض النصوص العربية الأخرى المترجمة إلى اللغة الإنجليزية المنقولة من المظان العربية التاريخية والدينية والأدبية وغيرها.  وتلك هي أهم صعوبة في مثل هذا النوع من الترجمة التي تبحث عن إرجاع النص المترجم إلى أصله، وبخاصة الاستشهادات. وهذا يتطلب البحث في نص الرحلة وفي الكتب العربية الأخرى عن النص الأصلي المستشهد به في النص الإنجليزي واعتماده في الترجمة إلى العربية.

ومما اعترضني كذلك في ترجمة هذا الكتاب، ترجمة أسماء الأعلام وأسماء الأماكن والمواقع الجغرافية، سواء في النص أو في الخرائط الاثني عشرة التي عزز بها المؤلف كتابه. وكان هنا لا بد من الرجوع إلى المصادر العربية التاريخية والجغرافية للتأكد من كتابة تلك الأسماء والمواقع الجغرافية، بل والاستعانة بالمختصين في التاريخ الوسيط وفي الخرائط، حتى أترجم تلك الأسماء ترجمة عربية سليمة ومتداولة في المجال التاريخي والجغرافي. ولا بد من التذكير هنا بالمساعدة الكبيرة والقيمة التي قدمها لي الصديق الأستاذ المؤرخ عبد الأحد السبتي في هذا المجال، وفي مراجعة الترجمة، وكذلك المساعدة التقنية القيمة للصديق المهندس المعلوماتي محمد مسعودي المتعلقة بضبط الأسماء في الخرائط المترجمة. كما أنني قد أخضعت نص ترجمتي بعد الانتهاء منه لعدة مراجعات من طرف بعض الزملاء والزميلات، والاستفادة من ملاحظاتهم وإرشاداتهم المختلفة.

أذكر في الأخير أنه كانت لي مناقشات مع المؤلف روس دان خلال ترجمتي لكتابه، نتبادل الرأي في بعض القضايا الخاصة بالكتاب؛ فأستوضحه أحياناً في بعض الأمور، ويطلب مني بدوره رأيي في بعض القضايا التي عالجها. ومن الأمور الطريفة التي أذكرها في هذه المناقشات التي دارت بيني وبينه، أنني سألته مرة عن عنوان كتابه،  الذي جاء بالصيغة التالية: “مغامرات ابن بطوطة، الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي”، فقلت له: لماذا لم تضع في العنوان الفرعي “الرحالة المغربي المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي”، واكتفيت بالرحالة المسلم فقط، دون ذكر اصله وبلده المغرب؟ فأجابني بما يلي:

“ليس من السهل عادة تحديد الدافع لعدم القيام بشيء، لذلك، لا أستطيع، حقاً، تفسير لماذا لم أضع العنوان الفرعي للكتاب هكذا: “الرحالة المغربي المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي“.  هل كان علي أن أفعل؟ ربما. ولكنني لم أفكر في ذلك آنئذ. وأنت الشخص الأول الذي طرح علي هذا السؤال في العقود الثلاثة الماضية!  وأذكر هنا بأنني أقول للقارئ في أعلى الصفحة الأولى من مقدمات الطبعات الثلاث لكتابي: إن ابن بطوطة كان مغربياً.”

- أحمد بوحسن

أستاذ باحث في الدراسات الأدبية، الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.