الوثيقة والصورة والذاكرة: دراسات في تاريخ المتوسط الإسلامي، أعمال مهداة إلى روح الفقيد عبد الرحمن المودن، تنسيق عبد الحي الخيلي ومحمد الخداري، تطوان-منشورات دار الحكمة، 2022، 457 ص.
“الوثيقة والصورة والذاكرة” هو عنوان كتاب جماعي من إنجاز مجموعة من الباحثين ليكون عبارة عن متنوعات مهداة إلى الفقيد عبد الرحمن المودن. يقع الكتاب في 457 صفحة، تشمل 19 دراسة لباحثين ينتمون كلهم إلى ما يمكن أن نسميه بالجيل الرابع من الباحثين في حقل الدراسات التاريخية في المغرب، معظمهم ناقش أطروحته خلال العقدين الأخيرين.
ولابد من الإشارة إلى بعض القضايا الأساسية قبل أن نشرع في تحليل بعض مضامين هذا الكتاب:
المسألة الأولى، وهي أن القاسم المشترك بين هؤلاء الباحثين هو أنهم كلهم تتلمذوا على يد عبد الرحمن المودن سواء في الرباط أو في الدوحة في مستويات مختلفة.
المسألة الثانية، وهي نبرة الاعتراف التي نجدها تتصدر الكتاب وتحضر بشكل مبطن في كل الدراسات لتعترف بأفضال الرجل ودوره في تكوين هذه النخبة من الباحثين.
المسألة الثالثة، وهي أن الأبحاث المقدمة عكست اهتمامات الراحل، فعندما نتأمل الآثار التي تركها من أعمال سنجد تطابقا بين الدراسات المقدمة واهتماماته: من العلاقات المغربية العثمانية التي كرس لها عددا كبيرا من أبحاثه إلى الرحلة التي عالجها غير ما مرة في دراسات نشرت في منصات مختلفة داخل المغرب وخارجه وكرس لها ندوة جمعت متخصصين في الدراسات الرحلية مغاربيا ودوليا، إلى الاهتمام بعبدالكريم الخطابي وقضايا الزمن الراهن، والذاكرة والتاريخ عندما أنجز الراحل بحثا انطلاقا من أرشيفات نانط عن تلك العلاقات الخفية بين بن عبد الكريم ومصطفى كمال أتاتورك، وعندما أشرف على كتاب جماعي بعنوان “الكتابة التاريخية في المغارب: الهوية والذاكرة والاستوغرافيا”، وعندما نسق أعمال تاريخ الزمن الراهن في إطار برامج المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب. كما حضرت إيران التي تولاها بالتدريس سواء في الإجازة عندما أدرجت هذه المادة في المقررات الدراسية في التاريخ أو في إطار المواد المقررة في وحدة التكوين والبحث المتوسط والعالم الإسلامي 1500-2000.
عنونت هذا البحث بهوس الأرشيف والمقاربة المجددة، والسبب هو أن هذا الهوس يخترق جميع الأبحاث المقدمة في هذا الكتاب، بل يعتبر خيطا ناظما لها.
أولا- هوس الأرشيف
كان الراحل مهووسا بالأرشيف وكان من الأوائل الذين ارتحلوا إلى فرنسا وإسبانيا من أجل الكشف عن الوثائق والتقارير التي تناولت منطقة حوض إيناون باعتبار مكانتها في المخططات الاستراتيجية الاستعمارية لا سيما الفرنسية منها. كل هذا كان بعد إلمامه بالوثيقة المخزنية حيث فند وبدد أسطورة “غياب الوثيقة المحلية”، فاستغلها بشكل جيد “فكان يأخذ مسافة منها ويستنطقها قبل أن يستشهد بمنطوقها”. تتبدى في كتاب “البوادي المغربية قبل الاستعمار” طريقة متميزة في التعامل مع الأرشيف استطاع عبدالرحمن المودن، وكان من فئران الوثائق المخزنية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أن يحول القوائم الحسابية لكنانيش الأمناء إلى نصوص ناطقة تسمح بتتبع التطورات الحاصلة في المجال الضريبي والإنتاج الفلاحي والنشاط التجاري وما إلى ذلك من أوجه الحياة المادية في مجتمع البادية المغربية.
وتنقل فيما بعد بين دور الأرشيف الأوربية سواء في لندن أو في مدريد من أجل العمل على مواضيع بعضها تمكن من نشره، فيما يزال البعض الآخر غير منشور. كما أنه كان من بين الأوائل الذين استكشفوا الإمكانات الأرشيفية في الدولة العثمانية فقضى زمنا طويلا في ردهات الأرشيف العثمانيب إستانبول. وكان دائم البحث عما يسميه “بيضة الديك”. وتمكن من الاستعمال المكثف له واستنطاقه بشكل غير مسبوق، كما أنه نشر بعضا منه في مجلات مغربية وأخرى دولية، ولإعطاء مثال واحد عن جهد الراحل في مجال الأرشيف العثماني نشره لتلك الوثيقة المرمزة وغير المنقوطة في الأرشيف العثماني، والمتعلقة بمعركة وادي المخازن.
هوس الأرشيف “معد”، لعله ينتقل عبر التدريس، إذ سرعان ما نقله إلى طلابه. وبدت هذه العدوى واضحة في هذا المجموع. لقد اخترق هذا الهوس جميع المداخلات، واتخذ هذا الاختراق شكلين:
الشكل الأول مباشر، عندما نشر زميلان وثائق عثمانية تتعلق بالفترة السليمانية من تاريخ المغرب. في هذا الصدد لا بد من التأكيد على مسألة بالغة الأهمية، وهي أن نشر الوثائق لا يكون بهدف النشر لذاته، على الأقل حسب المنطق الذي اشتغل به عبدالرحمن المودن، ولكنه ينبغي أن يكون مؤطرا بأسئلة، لأن الوثيقة لا تتكلم إلا بقدر ما نطرحه عليها من أسئلة. كذلك فعل عبد الرحمن عندما نشر الوثيقة المشفرة. لقد كان السؤال الذي طرحه مهما جدا ويتمثل في: “من الذي قاد معركة وادي المخازن؟”. وكان هذا السؤال مرتبطا بالنقاش الذي دار بين بعض الباحثين الأتراك حول مسألة المساهمة العثمانية في معركة وادي المخازن وأيضا التعريف الذي أعطي للمعركة من خلال تسمية غير معروفة عند من اشتغل على المعركة من المغاربة أو الأجانب. هذا من حيث الموضوع أما من حيث الشكل فقد أثاره شكل الوثيقة لماذا رمزت؟ لماذا تختلف عن نظيراتها في “الدفاتر المهمة”؟
ما الذي يدفعنا إلى نشر وثائق تتعلق بالفترة السليمانية، هل يستحق فعلا أن ننشر وثيقة تتعلق بالجزر السبع أو براكوزة إذا نحن لم نستحضر هذا الصراع الخفي بين الدولة العثمانية والمغرب أو إذا لم نطرح سؤال تنازع السيادة بين سلاطين المغرب وسلاطين إستانبول؟
وأما الشكل الثاني من هذا الهوس فغير مباشر، حيث يحضر من خلال دراسات استعملت الأرشيف واستحضرته الأبحاث المنشورة في هذا المجموع، فموضوع الأسيرات الأوربيات مبني بالأساس على دراسات استعملت بالأساس الأرشيفات الأوربية كما أن موضوع إلغاء الرق استند أيضا إلى النصوص الوثائقية التي اعتمد عليها محمد الناجي والتي جرت الإحالة إلى بعضها.
أردت أن أستغل هذه الفرصة لإثارة موضوع المؤرخ والأرشيف. والغرض مرة أخرى ليس رصد تطور استعمال المؤرخين للأرشيف ولكن لإثارة ما سبق أن نبه عليه العديد من الباحثين من أن الاستعمال الجيد للأرشيف لا يتحقق إلا عن طريق الوعي بمسألتين أساسيتين، تتعلق الأولى بكون الأرشيف لم يوضع من أجل استغلاله لإعادة بناء الماضي، بل كان وضعه من أجل ترتيب إداري محض، والثانية تتعلق بضرورة الوعي أيضا باشتغال المؤسسات التي تنتج وثائقه، فليس كل ما نعثر عليه قابلا للاستعمال أو ينبغي أن يحظى بثقتنا إلى درجة التقديس. والأرشيف لا يساعدنا فحسب في الإجابة على أسئلتنا ولكنه أيضا يوجهنا نحو تجديد الأسئلة التي قد نأتي بها إليه.
ثانيا- المقاربة المقارنة:
لا مندوحة من التذكير بأن التاريخ بالمقارنة كان من بين المقاربات التي تستهوي عبد الرحمن المودن وظل يلح في دروسه على أهمية المقاربة المقارنة، إيمانا منه أنها السبيل الوحيد لاستكناه عمق التاريخ، فالظواهر التاريخية لايمكن فهمها فهما جيدا سوى بمقاربتها في سياقات أخرى.
لقد اعتمد التاريخ دائما على المقارنة، وتؤكد Chloe Maurel، وهي باحثة متخصصة في التاريخ المقارن والتاريخ العالمي، أن المقارنة كانت أساس الكتابة التاريخية عند الإغريق والرومان1 وترى أن المؤرخين، في ذلك الزمن، استعملوا المقارنة بشكل حدسي، وتعطي أمثلة بهيرودوت الذي ملأ كتابه بالمقارنات، فهو مثلا يتحدث عن الطقوس الجنائزية، يقارن بين هذه الطقوس في أسبرطة مع تلك الموجودة في بلاد فارس، ونفس الشيء عندما يستعرض الممارسات الدينية والأنظمة السياسية، بل لا يستبعد المقارنة حتى أثناء التوصيف الإثنوغرافي. وعلى نهج هيرودوت سار بقية المؤرخين من أمثال بوليبيوسPolybius الذي تستوقفنا عنده مقارنات المعارك العسكرية. وهذه الطريقة يمكن أن نلاحظها عند المؤرخين الرومان والعرب على حد سواء. بيد أن هذه المقارنات جرت كلها بشكل حدسي. ولعل ما جعل هذه المقارنات تجري بشكل حدسي هو تناول أصحابها لمجالات متنوعة ولتواريخ مختلفة، مثلما هو الأمر عند بوليبيوس الذي كان كتابه “التواريخ” عبارة عن تاريخ عالمي يوثق صعود روما في البحر الأبيض المتوسط في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد. وقد غطى فترة زمنية واسعة ما بين 264 إلى 146 قبل الميلاد، وسجل بالتفصيل الأحداث في إيطاليا وأيبيريا واليونان ومقدونيا وسوريا ومصر وأفريقيا، كما وثق لجملة من الحروب كالحروب البونيقية والحروب المقدونية وغيرها كثير. وبنفس درجة الحدس والتلقائية حضرت المقارنة عند العرب والمسلمين، ولعل ذلك ناجم عن توسع الإسلام بفعل حركة الفتوح التي شملت مجالات جغرافية متنوعة الثقافات. فكانت المقارنة حدسية مثلها مثلما نجد عند الإغريق والرومان، ولكنها سرعان ما ترسخت وأصبحت حاضرة بشكل مفكر فيه لا سيما عند الجغرافيين. ولنا في حالة البيروني ما يبرز ذلك، فعندما هم بالحديث عن المعتقدات الهندوسية، في مؤلف خاص عن الهند2، وجد نفسه مضطرا لمقارنتها بالإسلام، ولكنه لم يكن سطحيا بل سعى إلى فهم الاختلافات عن طريق الرجوع إلى نصوص هندوسية. ولم يكن المستشرق الروسي فلاديمير بارتولد مجانبا للصواب عندما قيم عمل البيروني قائلا: “وألَّف كتابًا قيمًا عن الهند، يدل على نظر واسع وحياد علمي تام، وفي كتابه عن الهند معلومات واسعة عن الأديان والعلوم التي فيها، وقد استقاها البيروني من منابعها الهندية المباشرة”.
ولم يجر الانتباه إلى المقارنة بشكل واع إلا مع فلاسفة الأنوار، لاسيما مونتيسكيو وفولتير، وهما من تأملا في قضايا تاريخية كسقوط الإمبراطورية الرومانية مثلا. وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأت المقاربات المقارنة تتعزز بشكل كبير مع المدرسة الوضعانية، ويحضرنا هنا مثال المؤرخ الألماني رانكهLeopold Ranke الذي كرس واحدا من مؤلفاته لعقد مقارنة بين الملكية العثمانية والملكية الإسبانية في القرن السادس عشر3. وبعيدا عن الدواعي الذاتية لتأليف هذا الكتاب، فقد كان رانكه يرى أن الملكية هي أفضل نظام يمكن أن تتبناه بروسيا، إلا أنه استطاع أن يكرس المقاربة المقارنة.
يعتبر كتابه هذا تكملة لكتابه العام حول “أمراء وشعوب جنوب أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر” والتي كان تاريخ البابوية، الوحيد المعروف في فرنسا، جزءًا منها فقط. ولم يكن هدف الكتاب استعراض الروابط الخارجية بين مجالين ينتميان إلى جنوب المتوسط وكتابة تاريخ النزاعات العسكرية بينهما، كما أنه لم يكن بهدف الوقوف عند تميزهما عن بقية المجالات الأوربية فحسب، ولكن لدراسة تنظيمهم الداخلي، ومؤسساتهم السياسية والمدنية، وأخيراً علاقات السلطة المركزية في الإمبراطوريتين مع المجتمع بمختلف تشكلاته.
ومن بين الخلاصات التي انتهى إليها رانكه في كتابه هذا وهي أن “العلاقات الخارجية للبلد تحدد بشكل كبير الحياة السياسية المحلية”، ومن ثمة يقارن بين المؤسسة الملكية الإسبانية والعثمانية وتبادل التأثيرات بحكم العلاقات المكثفة بين الإمبراطوريتين.
كان هدف المؤلف هو البحث في هذه المؤسسات غير المعروفة عن أسباب الانهيار المتزامن تقريبًا لملكيتين، والتي بدأت في التدهور في نهاية هذا القرن السادس عشر. لقد استمد رانكه معلوماته الأكثر قيمة من التقارير العديدة للسفراء المحفوظة في الأرشيف الدبلوماسي لإيطاليا4، ولا سيما في البندقية وروما، وهما مصدران غنيّان للغاية وغير مسبوق استغلالهما بشكل مكثف في ذلك الوقت.
في القسم الأول من الكتاب بعنوان des Osmanlisيسعى المؤلف بعد أن حدد بوضوح خصائص الملكية العثمانية، مثل أوائل السلاطين الذين أسهموا في تأسيس الدولة، للتوقف بالأساس عند الظروف التي اهتزت فيها هذه الملكية، منذ عهد سليم الثاني(1566-1574)، ابن سليمان، وأخذت في التدهور تدريجياً زمن مراد الرابع (1623-1640) حيث أصبح هذا التدهور ملفتا للأنظار سواء في الداخل من خلال الكتابات التاريخية العثمانية أو من خلال تقارير السفراء الأجانب المقيمين في القسطنطينية. أما القسم الثاني، فقد خصصه لإسبانيا، وهو موزع بين خمسة فصول. في الأول، يصف المؤلف الإدارة الشخصية للملوك الثلاثة الذين ظهروا وحدهم في تاريخه، شارل الخامس(1516-1556) وفيليب الثاني (1556-1598) وفيليب الثالث(1598-1621). الفصل الثاني وهو بعنوان: الديوان والوزراء. أما الثالث فخصص لرصد علاقات الملكية الإسبانية برجال الدين والنبلاء ونخب المدن. ويحتوي الفصل الرابع، وهو الأغنى بالحقائق والأكثر إفادة على الإطلاق، على عرض للنظام المالي للنظام الملكي الإسباني. هناك يقف القارئ على كيف كان موقف ملوك إسبانيا، جذابا في الظاهر، بائسا في العمق، وكيف أن حروب شارل الخامس وفيليب الثاني استنفدت موارد الملكية الإسبانية بشكل مذهل.
ظلت أعمال رانكه في التاريخ المقارن تمارس إغراءها كما بقية المقاربات الألمانية الأخرى على البحث التاريخي في فرنسا، لا سيما وأن رانكه كان هو من طور نظام السيمنار أي بتدريس مادة من عمله قيد الإنجاز لمجموعة محدودة من الطلاب. وهي الطريقة التي لقيت صدى في واسعا في فرنسا وجرى تبنيها من قبل المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، فكان من الطبيعي أن تنتقل مقاربة المقارنة إلى هذه المدرسة. وكانت المقارنة واحدة من المقاربات المشجع على تبنيها من قبل مدرسة الحوليات. وبدا هذا الأمر جليا في دراسات بروديل ولوسيان فيفر ومارك بلوخ، حيث سعى هؤلاء إلى تكريس ما يسمى بالتاريخ الشامل Histoire totale، والذي يميل إلى إجراء مقاربة تاريخ المجالات بالبحث عن الترابط والتشابك، وعدم التمييز بين ما هو أوروبي وغير أوروبي، فهي مجالات مرتبطة ارتباطا وثيقا وتتفاعل فيما بينها وتؤثر في بعضها البعض على مستويات متعددة.
وتزايد الاهتمام بالمقاربة المقارنة في النصف الثاني من القرن العشرين، في السياق الأوروبي للتعاون الفرنسي الألماني بين الباحثين، وهذا في عالم يزداد عولمة، لا سيما عندما بدأ الاهتمام بالتاريخ العالمي Global History والتاريخ المترابطConnected History الذي يفضل معالجة التاريخ عبر-الوطني في تاريخ متعدد وجهات النظر (ظهر التاريخ العالمي في ثمانينيات القرن الماضي) يتم تجديد التاريخ المقارن تحت زخم نزعاته التاريخية.
كان عبد الرحمن المودن يشتغل بهاجس المقارنة، فعندما كان يشتغل في أطروحته عن وادي إيناون لم يسجن نفسه في هذا الحوض، ظلت عيناه مسمّرتين على جهات أخرى من المغرب وعلى ما يعتمل على المستوى الوطني، كما ظلت عيناه مسمّرتين على العالم الخارجي يستحضر تاريخ العالم المتوسطي، ولا أدل على هذا الاهتمام هو اعتماده لمقاربات حديثة تناولت مجتمعات أخرى. وحضر المقاربة المقارنة أيضا عندما هم بدراسة العلاقات المغربية العثمانية والتي عالجها من زاوية الثقافة الديبلوماسية واختلافها بين المجالين الجغرافيين. وكما هوس الأرشيف معد، كانت المقاربة المقارنة معدية أيضا. فقد وجه عبدالرحمن طلبته إلى اعتماد هذه المقاربة وتكريس انفتاحهم من خلالها على تاريخ الغير وبالتالي على تاريخ العالم.
في هذا الكتاب يمكن القول إن هناك وجهان للمقارنة:
الأول، يتمثل في المقارنات الصريحة التي ظهرت في عناوين مقالات أربعة، وشمل تطبيق هذه المقاربة المغرب والدولة العثمانية في المجال العسكري في نهاية القرن السابع عشر، والمغرب ومصر في الجانب المتعلق بالإصلاحات المالية والتعليمية، والمغرب وتونس في مجال إلغاء الرق، والمغرب وإيران فيما يتعلق بمسألة انتقال الحكم في مجالين إسلاميين متباعدين جغرافيا، لكنهما ينتميان إلى نفس المنظومة الدينية وتحكمهما ضوابط مشتركة. ولم تقف المساهمات عند المقارنة انطلاقا من المغرب بل تجاوزتها إلى المقارنة بين تركيا وإيران في مستوى بناء الدولة الحديثة.
قد يبدو من الصعوبة الذهاب بالمقارنة بعيدا في بعض المواضيع مثلما هو حال تجربة الإنكشارية في الدولة العثمانية وجيش العبيد البخاري، على اعتبار طول التجربة الأولى وقصر الثانية، إلا أن الباحث عالج التجربتين انطلاقا من شاردة التقطها عند عبد الله العروي عندما اعتبر أن المولى إسماعيل استلهم التجربة العسكرية العثمانية في إنشاء جيش العبيد البخارى، وانطلاقا أيضا من زاوية مشروعية المؤسسة السلطانية وتكريس هيمنة السلطان، كما تناول التجربتين من زاوية وحدة المآل وإن اختلفت الظروف من قوة حامية للسلطان إلى أداة للتدمير. مثلما هو الأمر أيضا بالنسبة لمسألة الصراع حول ولاية العهد باعتبارها واحدة من القضايا التي لم توفق الدول الإسلامية المتعاقبة مشرقا ومغربا في تجاوزها. لقد حاولت الباحثة استعراض المحاولات التي تبنتها الدولة الصفوية والسعدية من أجل حل مشكل التولية وتوقفت عند بعض مظاهر التشابه والاختلاف، ولكن دون الانتباه إلى تلك العلاقات المعقدة بين شبكات العلماء والصوفية التي كان لها دورها في معالجة هذه القضية بالنسبة للمغرب ودينامية العلاقة بين القزلباش والدولة الصفوية عبر تاريخها الممتد على مدى قرنين من الزمان.
وعلى جانب آخر استطاعت المقارنة بين تركيا وإيران بخصوص الدين والقومية وبناء الدولة الوطنية الحديثة، أن تبرز مكانة الدين كعائق وكأداة لبناء الدولة وهو مكون لا يقل أهمية عن القومية التي تعتبر أحد الأعمدة الأساسية في هذا البناء. وعوض أن تحصر الباحثة نفسها في المقارنات المباشرة فيما يتعلق بهاذين العنصرين استحضرت السياقات التاريخية، التي بدونها لا يمكن أن تؤدي المقارنة دورها في فهم ظاهرة بناء الدولة الوطنية الحديثة. لقد انتبهت الباحثة إلى بعض التفاصيل المهمة المتعلقة بالدين والقومية، ومن بينها التغيير الذي مس تسمية المجال الجغرافي (إيران عوض بلاد فارس)، بيد أن أهم ما استرعى انتباهها هو مسألة التحديث باعتباره أداة سخرت بطريقة واعية لمحاصرة قنوات إنتاج أشكال التدين التقليدية المعيقة لبناء الدولة الوطنية الحديثة.
الثاني، ويتمثل في حضور المنهج المقارن بشكل مبطن عندما تثير أبحاث تاريخ المجالات الجغرافية التركية والإيرانية، فإثارة موضوع كموضوع نظام الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية للوقوف عند النتائج والتداعيات كان بأسئلة مغربية، حتى لا نقول قوالب مغربية، ومن ثمة كانت إثارة هذا الموضوع بوعي أو بدون وعي محاولة من الباحث لفهم الامتيازات بالمغرب.
تنقلني هذه الملاحظة الأخيرة إلى إثارة موضوع ثالث، أي ما بات يسمى في الأدبيات التاريخية المغربية بتاريخ الآخر. لقد عرف عن الكتابة التاريخية المغربية تقوقعها، حيث انصب اهتمام كل الباحثين المغاربة على تاريخ المغرب، ولعلها الخلاصة التي يخرج بها كل ناظر إلى قائمة الأطروحات الجامعية التي تناقش في جامعاتنا، بل نلاحظ في السنوات الأخيرة تقوقعا أكبر عندما تزايد عدد المونوغرافيات الموجهة للتاريخ المحلي دون الأخذ بعين الاعتبار التطور الوطني فأحرى الربط بالتاريخ العالمي. وأعتقد أن الكتاب الذي بين أيدينا يعبر عن مجهود جبار للخروج من القوقعة عبر الانفتاح على عوالم أخرى يساهم رصد تاريخها في فهم أعمق لتاريخنا.
————————————
الهوامش:
[1] Chloé Maurel, Manuel d’histoire global, Collection U – Armand Colin, 2014, p.10-11
[2] قضي أبو الريحان البيروني ما ينيف على أربعين سنة مقيما في الهند متأملا في شرائعهم وعاداتهم في أنكحتهم وأطعمتهم وأعيادهم، ونظم حياتهم، وخصائص لغتهم. وانجز كتابا بعنوان تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، وهو الكتاب الذي رأى فيه بروكلمان “أهم ما أنتجه علماء الإسلام في ميدان معرفة الأمم”.[3] Leopold Ranke, L’Espagne sous Charles Quint, Philippe II et Philippe III ou l’histoire des Osmanlis et la monarchie espagnole pendant les XVI et XVII siècles, Traduit de l’Allemand par G.BHaiber , Paris 1845.
[4] وضع قائمة بهذه النصوص في الملحق الفريد في نهاية الكتاب وتتكون من 12 نصا تتعلق بالدولة العثمانية و33 تقريرا تتعلق بالملكية الاسبانية. ينظر:Ranke, L’Espagne…pp.473- 478