الوثيقة والصورة والذاكرة: دراسات في تاريخ المتوسط الإسلامي، أعمال مهداة إلى روح الفقيد عبد الرحمان المودن، تقديم مصطفى الغاشي، تنسيق عبد الحي الخيلي ومحمد الخداري، تطوان-منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2022
هذا الكتاب يتضمن مقالات لبعض طلبة أستاذنا عبد الرحمان المودن من باب الاعتراف بما قدمه من أعمال جليلة خدمة لطلبته وللبحث العلمي الأكاديمي الرصين. وقد شرع في إنجاز هذا العمل بضع سنوات قبل وفاته.
يتصدر الكتاب نبذة مختصرة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الرحمان المودن، عن ولادته ونشأته ومساره الدراسي والمهني وإنجازاته العلمية الأكاديمية بمجال التاريخ، والتي منها إصداراته العلمية وتأطيره لجملة من الأطاريح، وإشرافه على تظاهرات علمية والمشاركة فيها والمساهمة في تسيير جمعيات علمية تعنى بالدراسات التاريخية والاجتماعية. واختتم الكتاب بصور تذكارية التقطت لأستاذنا بمعية عدد من زملائه وطلبته أثناء مساره المهني.
يتألف الكتاب الجماعي من 254 صفحة تضم 19 مقالا اهتمت بالتاريخ المتقاطع بين ثلاث كتل حضارية رئيسية: وهي إيران والمغرب وتركيا في علاقاتها مع بلدان أوروبا، وهي المداخل الثلاثة التي خصصنا لها هذه القراءة.
ويرتبط اختيارنا لهذه المقاربة بالاهتمام الكبير الذي أولاه أستاذنا الجليل عبد الرحمان المودن للدراسات العثمانية من خلال أطروحته المنجزة بالولايات المتحدة الأمريكية حول علاقات الشرفاء المغاربة والسلاطين العثمانيين بين القرنين 16و18: مساهمة في دراسة الثقافة الدبلوماسية، ومن خلال أعماله وأبحاثه العلمية الأكاديمية، وكذا إشرافه على إحداث وحدة التكوين والبحث: المغرب والعالم الإسلامي إلى جانب ثلة من الأساتذة الأجلاء. وانتقل ذاتُ الاهتمام إلى طلبته من خلال أبحاثهم لنيل شهادة التعليم العالي أو شهادة الدكتوراه.
وفي السياق نفسه دعا المحتفى به إلى الانفتاح على مختلف حوامل المعرفة التي تخدم الكتابة التاريخية من وثائق الأرشيفات والذاكرة الفردية أو الجمعية، وكذا الانفتاح على الفروع العلمية الأخرى، وتعلم اللغات الأجنبية وعلى رأسها الإنجليزية والتركية والعثمانية، بغرض الاطلاع على مدخرات الأرشيف العثماني ونفائسه والأرشيفات الأوروبية، وتعلم مختلف الخطوط العربية بما فيها الخط المغربي لتيسير الاستفادة من الأرشيف المغربي والعثماني.
ويبدو هذا التوجه جليا من خلال المواضيع المنجزة من قبل الباحثين المساهمين في هذا الكتاب، التي تناولت بالدراسة الكتل الحضارية الإسلامية: المغرب وتركيا وإيران في تفاعلاتها المتبادلة داخل المجال المتوسطي وخارجه، خلال حقبة زمنية انطلقت من العصر الحديث وامتدت لتشمل جوانب من قضايا التاريخ المعاصر والراهن. وقد اتخذنا لقراءتنا ثلاثة مداخل:
- العلاقات السياسية بين الكتل الحضارية الكبرى في المجال المتوسطي وتغير الأحلاف.
تأثرت العلاقات المغربية العثمانية بالأحداث العامة التي عرفها المجال المتوسطي، وتأرجحت خلال الفترة الحديثة بين التوتر والمهادنة لتنتقل إلى حالة من التعاون والمؤازرة نتيجة الضغوط التي مارستها القوى الأوروبية على العالم الإسلامي وفي مقدمتها إسبانيا وإنجلترا وفرنسا وروسيا، فمنذ تحول الطرق التجارية من حوض البحر المتوسط إلى المحيط الأطلنتي، فقدت خزائن بيت المال في العالم الإسلامي مواردها الأساسية، مما ساهم في إضعاف الكيانات الإسلامية، ودفعها إلى إيجاد حلول بديلة لاستعادة السيطرة مثل ما قام السلطان أحمد المنصور السعدي عندما اتخذ جيش العبيد على غرار الانكشارية في الدولة العثمانية وغزا بلاد السودان لإحياء تجارة القوافل وإنعاش الحياة الاقتصادية داخل المغرب. وتوالت الضغوط الأوروبية الاقتصادية والسياسية والعسكرية على العالم الإسلامي عن طريق عقد اتفاقيات دبلوماسية منحت امتيازات واسعة للأوروبيين وشنهم الحروب لاحتلال الثغور المغربية أو السيطرة على أجزاء من الممتلكات العثمانية. مما دفع كلا من الدولة العثمانية والمغرب إلى التقارب فيما بينهما رغبة في الحفاظ على التوازن داخل المجال المتوسطي. وقد نتج عن ذلك نشاط الحركة الدبلوماسية بين الدولتين، ويتجلى في السفارات والرسائل المتبادلة بين السلاطين العثمانيين ونظرائهم المغاربة، ومعظم هذه الرسائل محفوظ في الأرشيف العثماني، وقد اعتمدها عدد من الباحثين كمدونة أساسية في إنجاز بعض هذه الدراسات، منها: الرسالة التي أوردها كمال النفاع في مقاله، وهي رسالة وجهها السلطان سليم الثالث (1789-1807) إلى السلطان المولى سليمان (1792-1822)، يطلب منه توفير الحماية لتجار الجزر الأيونية بالمجالات الخاضعة للمخزن المغربي. ثم الرسالتان اللتان اعتمدهما عبد الحي خيلي، وهما رسالتان بعث بهما السلطان مصطفى الرابع(1807-1808) إلى المولى سليمان (1792-1822) لخصتا طبيعة العلاقات العثمانية المغربية منذ عهد السلطانين سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790) وعبد الحميد الأول (1774-1789) في “الوداد والموانسة والمواساة والمهادنة والمهاداة”والدعم المادي المتمثل في طلب السلطان مصطفى الرابع سنة 1807 من المولى سليمان قرضا ماليا بلغت قيمته 20 ألف كيس من خزانة المغرب. وتعهد السلطان العثماني بردها بعد انتهاء الحرب من واردات الممتلكات العثمانية.
وهكذا، سلطت هذه الرسائل الضوء على تفاوت موازين القوة بين ضفتي المجال المتوسطي لصالح القوى الأوروبية وتأثر العلاقات المغربية مع القوى الأوروبية بالصراع العثماني الأوروبي في المجال المتوسطي، حين اضطر السلطان مولاي سليمان إلى مهادنة الإنجليز ومعاداة الفرنسيين ردا على الحملة الفرنسية على مصر، واستجابة لمطالب الباب العالي.
ومن جهة أخرى، تحولت العلاقات العثمانية الصفوية–حسب عبد الصمد لشهب- من حسن الجوار إلى صراع تجسد في حرب اقتصادية ودعائية وسجال كلامي في عهد السلطان سليم الأول (1512-1520) توجت بمعركة جالدران، التي انتصر فيها على خصمه الشاه إسماعيل الأول (1501-1524)، وتشير الدراسة إلى اعتماد الخلاف المذهبي عاملا أساسيا في الصراع بين الدولتين، وتوظيف السلطان العثماني لعدة وسائل من أجل كسب مشروعية غزو إيران وإبادة الأسرى الصفويين، منها: تنظيم حملة دعائية إديولوجية تتهم الصفويين بالرافضية والقزلباش بالهرطقة، واستصدار فتاوى تجيز قتل أسرى الحرب بسبب كفرهم. واستمر الصراع بين الكيانين حتى الربع الأول من القرن 18 –كما أشارت ليلى مبارك- حين اندلعت الحرب بين الدولة العثمانية ودولة الأفغان في بلاد فارس، واستصدر العثمانيون فتوى من شيخ الإسلام أجازت الحرب ضدهم تحت طائلة ادعائهم الإمامة إلى جانب الصفويين، ونصت الفتوى على عدم أهليتهم لتوظيف الاجتهاد والقياس. وهنا يمكن التوقف للتساؤل عن أسباب رفض السلطان العثماني التحالف مع الأفغان السنة ضد الصفويين الشيعة. بل فضل التحالف مع روسيا والصفويين ضد الأفغان. وهل نجد تفسيرا تاريخيا للتوتر القائم في الشرق الأوسط بين الدول العربية وإيران من جهة وبين تركيا وإيران من جهة أخرى مع الحضور القوي لروسيا بالمنطقة.
- محاولات الإصلاح والتصدي للاستعمار: نموذج المغرب ومصر.
ظهرت فكرة تحديث الدولة بمختلف هياكلها كضرورة ملحة خلال القرن 19، بعد الانهزام العسكري والاقتصادي أمام القوى الأوروبية. وظلت فكرة الإصلاح تراود الأنظمة العربية والإسلامية حتى بعد الاستقلال وبناء الدولة القومية. ومن هذا المنطلق، حاول كل من المغرب ومصر في القرن 19 تحديث أجهزة الدولة وإصلاح هياكلها خصوصا على المستوى العسكري والتعليمي والمالي بهدف مقاومة الضغوط الاستعمارية الأوروبية بعد الحملة الفرنسية على مصر وهزيمة الجيش المغربي المتكررة في معركة إسلي (1844) ثم حرب تطوان (1860)، مما دفع كلا من مصر والمغرب إلى البحث عن الأساليب والآليات الضرورية لصد الهجمات الأوروبية، فكان الجواب هو إحداث جيش نظامي حديث على النمط الأوروبي. ومن أجل ذلك بعث السلاطين المغاربة جملة من السفراء إلى أوروبا لرصد مظاهر قوة الجيش الأوروبي والعوامل المفسرة لها، واستصدار فتاوى تجيز الإصلاح والاقتباس من الدول الأوروبية بل والاعتماد عليها في تطوير الآلة العسكرية المغربية كاقتناء الأسلحة الحديثة وإرسال البعثات الطلابية واستقدام مؤطرين للجيش المغربي. فألفت في هذا الصدد كتبا ورسائل تحث على الاستعداد للمواجهة الحضارية بإعادة تنظيم الجيش وتحديث المؤسسة العسكرية المغربية واتخاذ جيش النظام المعتمد على الآليات الحديثة والأساليب والتقنيات الجديدة، أُسوة بالسلف الصالح. واهتم السلاطين المغاربة كذلك بإصلاح التعليم والمالية “بيت المال”، على غرار الإصلاحات المحدثة في مصر، ويستدل على ذلك برحلة صاحب الابتسام إلى مصر وتدوينه ما استحدثه محمد علي بها. غير أن الإصلاحات بالمغرب لم تتجاوز الرفع من عناصر المجندين واقتناء الأسلحة وإرسال بعثات طلابية لتعلم فنون الحرب، وإحداث بعض المدارس العصرية المحدودة مع الاحتفاظ بالنمط التقليدي للتعليم مما انعكس على شخصية معظم الأطر المخزنية وبقي فكرها مقيدا، بينما لم يتجاوز الإصلاح المالي حدود تعيين أمناء جدد وتكليف من يراقبهم وإعادة سك العملات وإحداث ضريبة الترتيب التي فشلت بعد رفض الأعيان أداءها.
بينما اهتم محمد علي–يقول محمد أيت صالح- في البداية بإرسال بعثات طلابية إلى أوروبا قصد التكوين في تخصصات متنوعة مع توظيف عناصرها في مسار التحديث، وأنشأ مدارس عصرية متخصصة لتكوين فئة مثقفة تعمل على تنفيذ خطط إصلاح هياكل الدولة ومؤسساتها، مثل مدرسة الهندسة لإعداد أطر المدفعية والهندسة الحربية والمناجم ومدرسة للطب وأخرى للهندسة والمحاسبة والإدارة، واهتم بتعليم اللغات والترجمة وإدخال المطبعة وإصدار الصحف وتعميمها على الطلاب. وإحداث قاعدة صناعية للرفع من مداخيل الدولة، وأحدث جهازا صارما لتحصيل الجبايات الشرعية وغيرها.
فكانت النتيجة محدودية الإصلاح في المغرب وذلك لعدةأسباب منها عدم إحداث مدارسَ عسكريةٍ، أو قوانينَ ضابطةٍ للجيش المغربي. وفشلت محاولة المخزن في إنشاء دار لصناعة الأسلحة، واعتراض بعض المغاربة من الخاصة والعامة على إحداث “جيش النظام” وهي رؤية منشؤها ديني، لاعتبار “تقليد الكافر كُفْر”. بينما لم يتمكن محمد علي وخلفاؤه من مواصلة مشروعه الإصلاحي المتمثل في إحداث قاعدة صناعية في مصر وتطوير الزراعة والتعليم، وتحقيق رواج تجاري. لكنه في المقابل ساهم في خلق النواة الأولى لفئة مثقفة منفتحة على الحضارة الغربية.
- تأثير الدين في تشكل الهوية
أَمدَّت الحياة الثقافية في العالم الإسلامي، المرتكزة على النصوص الدينية المقدسة، فِكْرَ النخبة العالمة بزاوية النظر إلى الذات والعالَم، وأمدته بمفاهيمه الأساسية التي أنتج بها تصوراته وحدد قيمه وسلوكه، فعملت على إنتاج مجتمع محافظ؛ يؤطره الفقيه المدرس أو المفتي أو القاضي أو العدل أو المحتسب أو الحاكم. واستمر ذلك حتى مطلع القرن 20.
ففي المغرب: تأثرت الهوية المغربية وعلى مدى ليس بالقصير بالتحولات القسرية التي أدخلها الاستعمار، المرتبطة بإعادة تنظيم المجتمع وحصر أفراده مجاليا وإدخال تعليم عصري يقوم على أسس ومبادئ دنيوية. رغم تشبث مكونات المجتمع بثوابت هويتها الدينية وأعرافها التقليدية.
بينما توجهت كل من تركيا وإيران –تقول سعاد بنعلي- إلى إحداث نظام لائكي شبيه بالأنظمة الأوروبية التي تخضع لقوانين وضعية، حين تمكن مصطفى كمال من التنصيص على ذلك في دستور الدولة، بينما عجز رضا شاه عن إدراج هذا المبدأ في دستور 1906، واعتبر أن دين الدولة هو الإسلام الشيعي الاثنا عشري خوفا من إثارة حساسية العلماء الذين كانوا على رأس من استهدفهم مشروع الشاه الإصلاحي.
تكمن أهمية هذا المؤلف في:
– تجسيد ثقافة الاعتراف بالفضل التي دأب أساتذتنا الأفاضل على القيام بها، والتشجيع على التزامها، اعترافا منهم بما قدمه زملاؤهم وأساتذتهم من جليل الأعمال، وترسيخا لهذا المبدأ السامي لدى طلبتهم.
– تنوع مواضيع واهتمامات الباحثين الذين ساهموا في هذا المؤلف ليس من حيث القضايا التاريخية فحسب وإنما من حيث الزمن (من الفترة الحديثة حتى الزمن الراهن) والمجال الجغرافي المدروس (المجال المتوسطي والعالم الإسلامي)، والمدونة المعتمدة (وثائق الأرشيفات، الذاكرة، كتب الرحلات، المصنفات الدينية…).
– يعبر زخم المواضيع في هذا المؤلف وتنوعها وجديتها واهتمامها بعوالم أخرى من العالم الإسلامي في علاقتها بعوالم من خارجه عن نجاح المشروع الذي أسس له الأستاذ عبد الرحمن المودن، ولعل أولى اللبنات التي وضعها لهذا المشروع هي إحداث وحدة التكوين والبحت المغرب والعالم الإسلامي ابتداء من سنة 1998، وظل هذا المشروع قائما بفضل جهود زملائه الأساتذة وطلبته.