Driss Ksikes, Textures du chaos, Le Fennec, Casablanca, 2022.
نظمت مجلة “رباط الكتب” بشراكة مع “مركز تواصل الثقافات” حواراً مفتوحا مع الروائي ادريس كسيكس حول روايته أنسجة العماء، وذلك يوم الجمعة 22 دجنبر 2023 بـ”مركز تواصل الثقافات” بالرباط.
أدارت اللقاء فاضمة أيت موس، وشارك فيه كل من: عبد الحي مودن وأحمد بوحسن وعبد الأحد السبتي.
بدأ اللقاء بتقديم لفاضمة أيت موس أشارت فيه إلى أهمية الرواية في مسار تجربة الكتابة عند ادريس كسيكس، وموقعها في التحولات الاقتصادية العالمية. هي رواية تحكي عن الفوضى والخراب في مدينة الدار البيضاء وكيف تشكل هذا الخراب، لكنها ليست محاكاة للواقع، بل يملأها كثير من الخيال الذي يحكي قصة أستاذ متقاعد يأخذ مكاناً في المنتزه الكبير كل يوم ويأتيه الناس ليحكي لهم عالم هذه الفوضى ومظاهرها. وأشارت أيت موس إلى أن صورة المدينة في الرواية تمثل مختبرا من منظور علم الاجتماع.
أخذ الكلمة بعد ذلك المشاركون في الحوار في جولتين متواليتين.
1/ عبد الحي مودن
استهل مودن الجولة الأولى بإشارته إلى أن هذه الرواية تركز على شكل من الفوضى، أو الاضطراب الذي يأتي من الأسفل، وأن فوضى الرواية كما يقدمها الراوي مصطنعة، وظف فيها مصطلحا هو Entropie، أي تلك الطاقة الفيزيائية التي تخلق اضطرابات متحكماً فيها.
يطرح مودن سؤالا عن سبب هذه الفوضى، ليكون الجواب متصلا بثلاث شخصيات غير مرئية تقدمهم الرواية على أنهم سادة المدينة les seigneurs de la ville. يخلقون الفوضى فيتحكمون في المدينة، ولهذا السبب يمكن اعتبارها فوضى متحكما فيها.
ما الذي تصفه الرواية لفهم هذه الفوضى؟
يجيب مودن عن هذا السؤال في الجولة الثانية من تدخله. ذلك أن الحوار الذي يدور بين الراوي والأستاذ هو الذي يشكل مصدر المعرفة والحكمة، لكنه يحس أن حكمته متجاوزة، ولذلك يساعد الراوي أستاذه على تجاوز هذه الأزمة بكتابة ما يعرفه. لكن، كيف نظم الراوي المعاني التي سيعطيها لهذا الواقع المتشظي؟ يقول لنا هذا الأخير إن التحكم موجود إلى درجة كبيرة من طرف الأسياد الثلاثة بشكل شامل. يتحكمون في كل شيء ويُفشلون كل محاولات المقاومة. ومن يسعى إلى كشف الحقيقة يواجه الباب المسدود، أي السجن (l’impasse).
ما هو الحل؟ ليس هناك من مخرج لهذا الواقع المتحكم فيه إلا بتخيل واقع والكتابة عن هذا الواقع المظلم. إنه تجاوز الواقع الأمبريقي بتخيل عالم آخر. أن نتخيل هو الوسيلة التي تبقى أمام هذا التحكم.
2/ أحمد بوحسن
بدأ بوحسن الجولة الأولى بسؤال حول كيفية ترجمة كلمة Chaos الواردة في العنوان.
Chaos نظرية أمريكية في مجال العلوم، انتقلت إلى العلوم الإنسانية ثم إلى النقد الأدبي مع مدرسة النقد الثقافي. تترجم في العربية بكلمة العماء، أي الفوضى العارمة، وهي المستعملة الآن في النقد الأدبي العربي.
وبخصوص الرواية، فهي تصنف من الوجهة الأجناسية في باب رواية المدينة. ولكنها تدخل في الفرع الذي تفرع منها منذ الثمانينيات.، وهو سرد المدينة، الذي يبحث عن المنسي والمهمش في المدينة، وما ينتج عنه من عماء.
يرى بوحسن أنه داخل سرد المدينة تأتي الحارة la cité التي ستظهر فيها الجائحة: مأساة كشف خيوط العماء. في الفصول الستة التي تتألف منها الرواية، كل فصل يتحدث عن زمن معين، إلى أن نصل إلى زمن العماء. في هذا السياق التي تتراكب فيها عناصر السرد في الرواية، يتحدث بوحسن عن صنعة الرواية وبنائها، وعن دلالات أسماء شخوصها.
قسم شخوص الرواية إلى ثلاث جماعات: جماعة تحاول كشف خيوط العماء: الرسام زياد، وعايدة، ود. رامي، وليليا. وجماعة هي عبارة عن شخوص ثلاثة، سادة المدينة، وهم: ألف، ولام، ونون، لا يراهم أحد، ويتواصلون فيما بينهم، ويراقبون المدينة ويتحكمون فيها من خلال محطة بيطا. وترتبط بهذه الجماعة جماعة متحالفة معها وتسعى إلى تحقيق مصالحها المادية. وهناك فئة القراصنة Hackers، وهم: هو، وهال، وبوش، وشاب، وعلوات، منشغلون دائما بالإنترنت ليكسبوا قوتهم، ثم يصابون بمرض في عيونهم هو الورم الرقمي المتصلب la tumeur numérique incompressible، من كثرة النظر إلى الشاشة الزرقاء.
يصل بوحسن من خلال هذه الجولة في عوالم الرواية إلى أن أسماء الأعلام غير بريئة في اختيارها بما في ذلك اسم الإعدادية: إعدادية العالم، جرح الدار البيضاء المفتوح. وقد خلص بوحسن في هذه الجولة الأولى إلى أن الرواية تستعمل الواقع، والعالم الافتراضي، والتخييل التاريخي، والأسطوري أحياناً.
تدخل هذه الرواية في السرد المعاصر الذي يقوم على التفكيك والانشطار. وهي الملاحظة التي استهل بها الجولة الثانية من الحديث، مبينا أن أهمية الرواية تكمن في الصياغة الجديدة التي تقوم عليها الرواية المعاصرة، وبالتالي يمكن اعتبارها رواية عن سرد المدينة، الذي يختلف عن رواية المدينة التقليدية.
في السياق نفسه، طرح بوحسن سؤالا حول كيف يمكن للمسارات المتعددة للشخوص أن تقدم المدينة المعاصرة في تعقداتها وتشكلاتها؟ مداخل الإجابة يقدمها بوحسن من خلال عنصرين: دور وأهمية الصياغة الجديدة في قول المشاكل الجديدة، ثم توظيف الافتراضي le virtuel في معالجة الواقع.
3/ عبد الأحد السبتي
استهل السبتي مداخلته بالإشارة إلى ثلاث صفات تميز نص كسيكس: نص جميل وكابوسي وعميق. وهي الملاحظة التي تسمح لنا بأن نطلق على الرواية اسم الرواية الفلسفية. كما أشار إلى أهمية العتبات في بناء الرواية، وهو مفهوم يعتبره أساسيا في الرواية متمثلا في: عتبة العنوان، عتبة الصفحة الرابعة، ثم عتبة الأقوال المأثورة، عن توماس بينشون وجورج بيريك وماريو فارغاس يوسا.
انتقل السبتي بعد ذلك إلى مقاربة مجموعة من المفاهيم أو الكلمات المفاتيح التي تؤطر الرواية ويمكن من خلالها تحقيق فهم أفضل للرواية:
مفهوم الديستوبيا Dystopie أو المكان الأسوأ، وهو الجنس الذي يهيمن على الرواية المعاصرة في العالم والذي دشنه جورج أورويل، عكس اليوتوبيا أو اللامكان حيث الأفضل، بسبب ما يعرفه العالم من تحولات في المناخ، في السلطويات والأنظمة الشمولية. وفي الآن نفسه هناك الحاجة إلى اليوتوبيا حتى لا ننغلق في الديستوبيا.
النقد الاجتماعي: اليوتوبيا والديستوبيا وراءهما نقد اجتماعي: نقد الأوضاع والإصلاح الديني كما حدث في عصر النهضة.
التخييل: ويرى السبتي أن مسألة التخييل مسألة مهمة جدا، وفيها يمكن أن ننظر إلى الديستوبيا كتخييل والديستوبيا كواقع أحيانا.
الحديث عن الديستوبيا في نظر السبتي يبرره أنها صارت تؤثث المشهد القاتم في السياسة والحروب والصراعات (حرب غزة وتوظيف الذكاء الاصطناعي في الرصد والتصويب وإطلاق النار وإصابة الهدف)، وحتى الأوبئة (التنبؤ بكوفيد مثلا كما قدمته الرواية الإفريقية، عام الأسد).
النسيج أو الأنسجة: وهنا يرى السبتي أن من عوامل قوة الرواية وجاذبيتها أن المؤلف بذل مجهودا كبيرا في مستوى الحبكة والنسج. يستحضر في هذا السياق العلاقة بين النص والنسيج، الكتابة والحياكة كما يطرحها رولان بارت، مع الإشارة إلى أن الراوي في الرواية كثيرا ما يستعمل عبارة “خيوط” tissage و”تجميع” assemblage و”فك خيوط الرواية”.
في الجولة الثانية من تدخله، ركز السبتي على ما أسماه: هندسة الرواية. وهي هندسة يمكن النظر إليها من جانبين: هندسة الشخصيات، وهي التي قاربها أحمد بوحسن في حديثه، وهندسة الأمكنة.
يمكن رؤية هذه الهندسة من خلال:
المكان الملموس، الدار البيضاء وبداخله المكان المركزي، الإعدادية، إعدادية العالم التي يمكن من خلالها توثيق انتهاكات الماضي، والصفقة العقارية، والاستيلاء القانوني على العقار وهدم الإعدادية واستغلالها في المضاربات العقارية.
المكان الافتراضي، فيسبوك، ومحطة Beta، وهو كذلك فضاء للصراع الاجتماعي، مثال ذلك عملية التحقيق الذي أنجزته الصحفية، وعملية الهاكر الذي مكن من اختراق البيانات من أجل فضح الصفقة العقارية.
4/ تعقيب ادريس كسيكس
بدأ الكاتب بالإشارة إلى أن هذه القراءة أضافت إليه عناصر لم ينتبه إليها من قبل بوصفه كاتب النص.
وقد وقف كسيكس في تعقيبه عند النقط الآتية:
المسألة الأولى: فكرة المدينة كمختبر، فكرة مهمة جدا لاسيما أن العنوان المؤقت الذي صاغه المؤلف هو: le laboratoire du chaos، قبل أن يستقر العنوان على صيغته الحالية. وقد استشهد بحوار يقول فيه أحد سادة المدينة لزياد: بما أن هذه المدينة كانت دائما مختبرا، فإننا نريد الآن أن نجعل منها مختبرا للعماء. هذه الفكرة، يقول كسيكس، ساعدته على إعادة كتابة النص وعلى إتمامه.
المسألة الثانية هي: l’entropie، وهي مسألة يقول كسيكس إنها تسكنه منذ 33 سنة، وهي استعارة وظفها الروائي توماس بينشون Thomas Pynchon للتعامل مع الواقع الأمريكي العنيف. كما أنها مسألة تتصل أيضا بالعماء الناتج عن السرعة الهائلة للتقدم التكنولوجي والذي من الصعب بل من المستحيل التحكم فيه.
المسألة الثالثة: دور الفلسفة في الكتابة، وهنا يؤكد الكاتب أن الفلسفة تساعدنا كثيرا وتمنحنا إمكانيات لتكثيف وتشبيك الأشياء. وهذه أشياء تمثل أساسا مطبخ الكتابة.
المسألة الرابعة: الورم الرقمي المتصلب la tumeur numérique incompressible، فكرة تعود إلى 2016، وقد جاءت من تتبع فكرة أن المدينة غير مبنية على المعرفة بل على السوق، le coding . الترميز الذي صار الشكل الجديد للبروليتاريا.
المسألة الخامسة: الحارة. وهي ترتبط باستكشاف التحول. وضعية ترتبط بعوامل بيوغرافية من الماضي ظهرت في سرد المدينة. وهي مسألة تشكل جزءا من حياتي، يقول كسيكس: نقل أُسَر قسرا من فضاءاتهم المعيشية المألوفة إلى فضاءات سكنية معزولة، وقضية هدم المدرسة التي تعلمتُ فيها والتي كانت تشكل جزءا من ذاكرة المدينة.
المسألة السادسة: الباب المسدود l’impasse، مسألة مهمة جدا، لكن ما الذي يمكن فعله؟ هل الخيال يساعد على الفهم؟
وقد أكد كسيكس في سياق هذه المسألة أن الأدب نوع من أنواع المعرفة.
المسألة السابعة: الإعلام. وهو قضية موزعة بين سؤالين أو موقفين: ما الذي نفعل بالإعلام les technophiles؟ وما الذي يفعله بنا الإعلام les technophobes؟ في نظر كسيكس، الأمر أعقد من ذلك ولا يمكن أن نتعامل معه بطريقة انشطارية إلى شطرين dichotomique.
في ختام تدخله، أشار كسيكس إلى أن ما يهمه ليس المحاكاة بل الكتابة بوصفها بناء سواء كانت سردا للمدينة كما يرها هو، أو رواية كما اختار الناشر أن يضعه على غلافها.
بعد هذا الحوار المفتوح، تم طرح مجموعة من الأسئلة من قبل الحاضرين في اللقاء:
- لماذا تكتب؟ وما الذي تضيفه الرواية؟
- لماذا شخصيات بحروف وليس بأسماء؟
- لماذا الرمز في الرواية؟
- هل المدينة محدد كبير في الرواية؟
- ستة أيام في الرواية. ومسألة خلق العالم في ستة أيام. علما أن الفوضى في الرواية هي التي تمت في ستة فصول.
وقد تفاعل الكاتب مع مختلف الأسئلة المطروحة من خلال ما يلي:
- احتراما للكتابة، لا يمكن أن نقوم بإسقاط الكتابة الصحفية على الكتابة الأدبية. للأدب هالته الخاصة، وعدم توظيف الكتابة الصحفية لا علاقة له بالجرأة. فلكل كتابة طبيعتها. هناك نص صحفي في الرواية لكنه جاء على لسان الصحفية.
- استعمال الحروف: يرى الكاتب في ذلك أن الرواية نوع من المحاكاة الرمزية/ الأمثولة l’art est une forme d’allégorie
وقد أشار الكاتب إلى أن الرواية كتبت انطلاقا من الدار البيضاء وليس عن الدار البيضاء.
- ستة أيام هي مسألة تأويل حر.
وقد أوضح الكاتب أن الأمر في الرواية هو إعطاء نظام لما هو فوضوي وإيجاد شكل يعطي نوعا من النسق من خلاله يتم ترتيب عناصر العمل.
وأشير في الأخير إلى أنه قد تخللت هذا اللقاء قراءة نص مقتطف من الرواية بالفرنسية من طرف المؤلف، وترجمته إلى اللغة العربية من طرف بوحسن.