باتريك بوشرون (إشراف)، تاريخ العالم في القرن الخامس عشر، تنسيق الترجمة العربية ومراجعتها وتقديمها لطفي بوشنتوف، الدار البيضاء-مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، سلسلة ترجمات، بيروت-المركز الثقافي للكتاب، 2022، في 1130 صفحة.
بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب Histoire du monde au XVe siècle الذي أشرف عليه المؤرخ الفرنسي باتريك بوشرون، نظمت مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية يوم 20 أكتوبر 2022 ندوة بعنوان “تحولات العالم في القرن الخامس عشر” وذلك بالاشتراك مع جمعية رباط الكتب.
والكتاب المترجم صدر باللغة الفرنسية عن منشورات فايار الفرنسية سنة 2009 تحت إشراف أستاذ كرسي التاريخ بكوليج دو فرانس باتريك بوشرون، وتنسيق جوليان لوازو، بيير موني ويان بوتان، في حين صدرت ترجمته إلى العربية سنة 2022 عن مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء، الترجمة التي نسقها وراجعها وقدم لها أستاذ التاريخ بجامعة محمد الخامس لطفي بوشنتوف، والذي ساهم أيضا في ترجمة مجموعة من مقالات الكتاب.
شارك في إنتاج هذا الكتاب “68 مؤرخا من الجيل الجديد المتخصص في التاريخ الوسيط، واشتمل على 94 مادة مستقلة منها مقدمة وخاتمة مطولتين، و24 فصلا مطولا، و26 مادة متوسطة الحجم، و42 مادة موجزة، بالإضافة إلى كرونولوجيتين ومجموعة كبيرة من الخرائط والصور والجداول والفهارس” (ص. 19).
ويشير مقدم الترجمة إلى أن الكتاب صدر في سياق سياسي واقتصادي خاص، مطبوع بتنافس محموم بين أمريكا والصين وأوروبا، وهو ما يفسر تضمنه لفهرس جيو-سياسي، في الوقت الذي لم ينكر فيه منسقو الكتاب والمشرف عليه أبعاده السياسية، والذي يبدو جليا في المقالات التي تعالج موضوعات متعلقة سواء بالصين أو تركيا.
وقد انتظم الكتاب في أربعة أبواب عدَّها مقدم الترجمة ذات تصور مبتكر ومحكم، ومنهجي غائي، والذي يبدو، عند المطالعة، أنه ليس بالضرورة قراءة الكتاب بطريقة خطية وفق خيط ناظم، بحيث يمكن التنقل بين الأبواب، بل حتى بين المقالات دون أن يفسد ذلك شيئا. تضمن البابان الأول والرابع دراسات تركيبية مطولة وكثيفة بالمعلومات المتداخلة. يتعلق الأمر بباب “أقاليم العالم: الأطلس السياسي للقرن الخامس عشر” وباب “مصائر العالم: أوراش القرن الخامس عشر”. في حين اشتمل الباب الثاني على نصوص موضوعاتية مركزة وموجزة ذات مداخل كرونولوجية تتعلق بأحداث فارقة ذات تواريخ محددة طبعت صيرورة وسيرورة القرن موضوع الكتاب، وهو باب “أزمنة العالم: كرونولوجيا القرن الخامس عشر”. في حين تضمن ثالث الأبواب “كتابات العالم: مكتبة القرن الخامس عشر” دراسات متوسطة الحجم، تعرض فيها المساهمون لمجموعة من الكتب التي اختيرت بعناية فائقة شكلت منعطفات حقيقية في هذا القرن.
انطلاقا من هذه المعطيات، قدم عبد الأحد السبتي، مسير اللقاء، للنسخة العربية لهذا الكتاب، تقديما ركز فيه على خمسة محاور رئيسة، أولاها التنويه بالعمل المشترك بين المؤسسة والجمعية الذي يهدف إلى الرفع من جودة القراءة، كما ألمع إلى دور الهام والاستراتيجي للمؤسسة في اضطلاعها بعملية الترجمة مؤكدا على أن أهمية الترجمة تتجلى في التأسيس لمعرفة جديدة، ولا تنحصر في مجرد النقل من لغة أصل إلى لغة هدف. ثانيها الإشارة إلى إرهاصات الاهتمام بالتاريخ العالمي بالجامعة المغربية انطلاقا من مجموعة من الإصدارات المغربية التي ألفت بهذا الصدد. في حين تركز الجانب الثالث من مقدمته على عرض مفاصل الكتاب من حيث تشكيلها هندسة فسيفسائية ومن حيث تعدد زوايا الوصف والتحليل. ويرى السبتي أن الخيط الرابط بين أبواب الكتاب هو إنصاف الأطراف الهامشية ونقد المركزية الغربية. وفي جانب رابع لازم للذي قبله، يؤكد السبتي على أن مفهوم الإنصاف هنا يرجع إلى ما يسمى نقد الغائية في التاريخ أو نقد فكرة التاريخ الموجه(التِّيليُولوجْيا) والذي مفاده أن التاريخ مليء بالممكنات التي لم تنجز أو لم تتحقق، ومليء بالانفلاتات ولحظات التردد والمفاجآت، وهو ما أشار إليه مقدم الترجمة بأن الكتاب يقترح “سردية مغايرة عن العالم في القرن الخامس عشر، ويدعي الحفاظ على مسافة نقدية مع (المحكيات الكلاسيكية)” (ص. 22)، ليخلص في خامس الجوانب إلى أن الوحدة الناظمة للكتاب هو ذلك الارتباط بين الرغبة في نقد المركزية الغربية وإعادة النظر في الغائية، وأن التاريخ العالمي في الأخير إنما هو تاريخ للممكنات.
وقد شكلت هذه الرؤية التاريخية المتخصصة للكتاب أرضية انطلق منها لطفي عيسى، أستاذ التاريخ الثقافي بالجامعة التونسية، لمناقشة الكتاب، ليطرح إشكال الرغبة في نقد المركزية الغربية، وأنه على العكس تماما، فإن الكتاب يرسخ تلك المركزية على اعتبار أن مؤلفي الكتاب لا تتوفر فيهم شروط “الفضاء المعرفي الكوني” كون غالبيتهم ينتمون إلى “فضاء معرفي فرنسي قُطري”[1]، ونتيجة لذلك فإنه عبر عن تخوفه من استعمال “التاريخ العالمي” مفضلا استعاضته بلفظ الأصداء أو الرنينrésonance[2].هذا في حين أبدى ثلاث ملاحظات بخصوص منطق تقسيم الكتاب، وهي انخراط الكتاب في تيار كتابة تاريخية مندرجة ضمن التاريخ العالمي، والذي يميزه جانبان: تجاوز السرديات الوطنية، وتنافذ المعرفي مع السياسي. علاوة على ذلك، فإن هذا العمل قد خرج عن النمط التركيبي، كامنة أهميته في الربط بين الحاضر والماضي. ليختم ملاحظاته بأن ترجمة هذا الكتاب مغامرة مهمة تخرجنا من ضيق إطار التواريخ الخاصة والمحلية.
وفي إجابة عن التساؤلات التي قد يطرحها سلوك هذا النوع من الكتابة التاريخية، مهد محمد الصغير جنجار لمداخلته بمقدمة تعلل هذا الطرح التاريخي الذي تعرض لعدة انتقادات في الدوائر المعرفية الفرنسية (ص. 20)، والذي يتمثل -أي التعليل- في تقديم “مراجعة نقدية لما انتهى إليه الجيل المتأخر من مدرسة الحوليات”(ص. 22)،خاصة بعد وقوعها في خطاب السرديات الوطنية بعد صدور كتاب هوية فرنسا لرائد هذه المدرسة المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل بداية ثمانينيات القرن الماضي؛ فيأتي سياق تأليف هذا الكتاب، بغض النظر عن حيثياته السياسية، في إطار “مغامرة بحث جديرة بأن يقدم عليها المؤرخ التي ضاقت به حدود السردية الوطنية وشروط كتابتها التي هي في الغالب استجابة لمطلب اجتماعي”، وذلك كمحاولة لتجاوز هذا “الفخ” التاريخي من خلال مقاربات ومنظورات جديدة تتيحها طريقة التاريخ العالمي. ولهذا فإن كتاب تاريخ العالم في القرن الخامس عشر هو ثمرة محاولة مؤرخين فرنسيين لرفع تحدي تجاوز المركزية الأوروبية، باعتبار أنه ينطلق من فرضية أن القرن الخامس عشر لحظة تكون محاولات للعولمة. وبغض النظر عن مصائرها، فإن هذا الكتاب يتيح من بين ما يتيحه، ملاحظة كيفية تبلور هذه المحاولات، وهو يسلط الضوء على “الزمانيات المتعارضة” بتعبير بوشرون، وتواريخ مترابطة، ومجتمعات هجينة تتداخل فيما بينها، كما يعرض أيضا لمختلف أشكال “مقاومة” العولمة (انطواء على الذات، تصدعات، انعزال، إعادة إنتاج التقليد، اختلافات بين مجتمعات متباعدة). فالكتاب، إذن، ينبني على فرضية أساس، وهي أن القرن موضوع الدرس قرن ممتد ومتسع ومركب متنور، مشكلا مرحلة حاسمة في مسار العولمة الذي سيدخل فيه العالم ابتداء من هذه الفترة.
نحن إذن أمام “عولمات داخل عولمة” بتعبير محمد الصغير جنجار، والتي، عند إعمال النظر، يظهر أن لها ثلاثة تمظهرات تتمحور على الرغبة والاستطاعة والتحقيق: عولمة أريدت ولم تستطع كما هو الشأن بالنسبة للعثمانيين، وأخرى أريدت ولكن لم يكن مرغوبا فيها رغم أنها مستطاعة، ونموذج ذلك الصينيون، في حين أن الأوروبيين أرادوا العولمة ورغبوا فيها واستطاعوها وحققوها وإن لم تتوفر لهم كل الشروط التي توفرت لغيرهم، باستثناء شرط وحيدا كان السبب في الانعتاق الأوروبي، وهو ذلك الترابط الذي أوجدته بين التقنيات التيبوغرافية المستحدثة أخيرا والجامعة والفكر الإنسي، والذي كان محور ورقة محمد الصغير جنجار، التي ركزت النظر على الباب الثالث من الكتاب المتعلق بمكتبات العالم، والتي تناولت موضوع ولادة أشكال جديدة من الإنتاج الفكري الفردي في هذه اللحظة التاريخية، لينطلق منها في مناقشة وتحليل جغرافية الإنتاج الفكري في مختلف أنحاء العالم في القرن الخامس عشر، على اعتبار أن هذه الأنحاء شكلت “أحواضا bassins لإنتاج الكتابة”، وذلك لتحديد العناصر التي أسهمت في نجاح النموذج الأوروبي للعولمة، بدءا من تاريخ فاصل في هذه المرحلة وهو تاريخ اختراع المطبعة،الذي أسهم بشكل خاص في الانتقال النوعي من القراءة التي تتسم بالجماعية والترديدية والمكررة والمكثفة والمحددة النصوص أو ما يسمى بـla lecture intensive، إلى القراءة ذات الطابع الفردي المنفتحة على نصوص متعددة ومختلفة la lecture extensive.
ثم قدمت وفاء المصمودي قراءة تركيبية لمجموعة من المقالات التي تعالج قضايا الأطراف بالنظر إلى المركز، وبخاصة وضعية العالم الإسلامي في هذه الفترة، بين ازدهار شرقي وانكماش غربي، وباعتبارها متخصصة في التاريخين العثماني والفارسي، فقد غلب على قراءتها الاهتمام بالمشرق أكثر من الغرب الإسلامي. وعلى العموم، فإن قراءتها تود الوصول إلى فكرة مفادها أن الجنوب المتوسطي كان له تأثيره أيضا في التاريخ العالمي من خلال خلقه لنوع من التوازن بين العوالم الإسلامية والمسيحية (سقوط غرناطة وسقوط القسطنطينية أنموذجين)، وكذلك في النماذج التأليفية الفريدة (التحدث بنعمة الله للسيوطي نموذجا).
وتمحور تدخل مصطفى نشاط على مدى علاقة الفكر التاريخي لابن خلدون، الفقيه المالكي الأشعري الذي لم تتعد حدود تنقلاته بين المغرب والأندلس ومصر والمشرق عموما، وبين تلك التحولات العميقة التي احتضنها الغرب الأوروبي ضمن ما يعرف بـ”عـصر النهضة”. وللإجابة على هذا الإشكال فقد نظر إليه من زاويتين، الأولى من جهة نوعية مصادر ابن خلدون عن المسيحية عموما وعصر النهضة بشكل أخص، والثانية من جهة المجالات التي كانت ترهص، في نظر ابن خلدون، لتلك التحولات الحضارية العميقة. ودافعه إلى اختياره هذا الموضوع ثلاثة دوافع:
– وفاة ابن خلدون في 1406م فهو من أبناء القرن الخامس عشر.
– إدخاله المستمر للتنقيحات والتصويبات على كتابه العبر إلى حين وفاته. هذه المراجعات التي كان سببها التساؤل الدائم عن أسباب أفول الحضارة الإسلامية، والتي دفعته بطريقة غير مباشرة إلى ملاحظة بعض أسباب الإقلاع الحضاري في الضفة الشمالية.
– تضمن الكتاب موضوع الندوة لمقالة عن كتاب العبر لابن خلدون باعتباره أحد الكتب التي طبعت تاريخ القرن الخامس عشر.
وفي الختام، وتعقيبا على مجموع المشاركات والأسئلة والتدخلات، فإن لطفي بوشنتوف، منسق الترجمة ومراجعها، ما فتئ يذكر بأهمية مقدمتي الكتاب، مقدمة الطبعة الأصلية وبخاصة مقدمة الترجمة، التي تتضمن مداخل ومفاتيح لولوج عالم الكتاب، معرجا على ملابسات وحيثيات ترجمة الكتاب بدءا من طبيعة الترجمة التفاوضية التي تقتضي الخروج من المزاجية إلى الموضوعية، ومذكرا بتاريخ الاهتمام بالتاريخ العالمي في السياقين الأمريكي والأوروبي (وبشكل خاص في فرنسا)، معرفا هذا النوع من التاريخ بأنه “جبهة اتصال عنيفة: connexion violente” وأن تاريخ العالم الذي يعطي الحق للحضارات المهزومة أن تعبر عن نفسها، إنما هو تاريخ للأوراش غير المكتملة Histoire des inachevés.
الهوامش:
[1] هذا في ظل الشروط المعرفية والمنهجية التي مكنت مؤلفي الكتاب من أن ينخرط عملهم في “التاريخ العالمي”، وهي شروط غير متوفرة في المؤسسات الجامعية في الفضاء العربي الإسلامي.
[2] تعبر فكرة الرنين فيزيائيا عن ظاهرة صوتية ارتدادية واهتزازية معروفة، وفي مجال الإنسانيات إلى تردد صدى فكرة أو الأثر الذي تخلفه أو نجده في مجموعة من المعارف أو المجالات أو لدى مجموعة من المفكرين.