باتريك بوشرون (إشراف)، تاريخ العالم في القرن الخامس عشر، تنسيق الترجمة العربية ومراجعتها وتقديمها لطفي بوشنتوف، الدار البيضاء-مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، سلسلة ترجمات، بيروت-المركز الثقافي للكتاب، 2022، في 1130 صفحة.
ليس من الهيّن الدخول في مغامرة ترجمة من الفرنسية إلى العربية لكتاب تاريخ العالم في القرن الخامس عشر، وهو مؤلف ضخم صدر في غضون سنة 2009 عن دار فايارFayard الفرنسية في 896 صفحة،وتولّى الأشراف على إنجازه المؤرخ الفرنسي باتريك بوشرون Patrick Boucheron،في حين عادت مهمة تنسيق أعماله إلى كل من بيير مونيPierre Mony ، وجوليان لوازو Julien L’oiseau ، ويان بوتانYann Potin [1]. وقد ساهم في تحرير عروض هذا الكتاب وأقسامه الأربعة، ونقصد “أقاليم العالم”، و”أزمنة العالم”، و”كتابات العالم”، و”مصائر العالم”، ومواده التي جاوزت التسعين (94)، 68 باحثا مختصّا في التاريخ الوسيط. في حين عكف على نقل مادته التاريخية الضخمة إلى اللغة العربية 10 مترجمين انتسب معظمهم إلى جامعات مغربية. وتولى المؤرخ المغربي لطفي بوشنتوف تنسيق الترجمة ومراجعتها وتقديمها، لتصدر في غضون شهر مارس من سنة 2022 عن مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية والمركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء وبيروت، في 1130 صفحة.
تضمّنت أقسام الكتاب الأربعة في ترجمتها العربية 279، و258، و193 و237 صفحة، بينما غطت مقدمة منسق الترجمة، وكذا مقدمة الـمُشرف على تأليف الكتاب وكذا خاتمة الكتاب، وقائمة الوقائع الزمنية، والكشّافات، والفهارس، وتراجم المؤلفين، والمترجمين 138 صفحة[2].
احتوت عروض القسم الأول على 12 فصلا، وذلك بالتوازي مع القسم الأخير للكتاب، بينما انطوى القسم المخصّص لـ “أزمنة العالم” على 42 مفصلة زمنية فارقة تقع بين سنوات 1378و1520. وشمل التعريف بمختارات من “كتابات العالم” طوال القرن الخامس عشر ما لا يقل عن 26 أثرا.
يـحسُن من البداية التشديد على ثلاث ملاحظات أساسية:
- انخراط كتابة هذا الأثر التاريخي ضمن تصوّر معرفي يحيل على ما وُسم منذ أربع عشريات بـ “التاريخ العالمي”، وهو تصوّر ارتكز على متانة الصلات التي ربطت ماضيا بين مختلف نواحي العالم، وإلغاء الحواجز والتقريب عبر المقارنة بين مختلف مجالاته، تجاوزا للسرديات الوطنية التي تبيّن خضوعها للترميق وثبت تنافذ المعرفي ضمنها مع السياسي.
- الإعراض عن تناول هذا الكتاب باعتباره بحثا تركيبيا يتوفّر على خطّ سردي يخضع لنقطة بداية ونقطة نهاية، ومتابعة مختلف عروضه بالتعويل على تجوال حرّ بين مركباته يشاكل ذلك الذي نتبعه حال التجوال بين أروقة المعارض أو المتاحف، يحدونا في ذلك الفضول ولذّة القراءة ورسم صورة تعكس بدقة شكل إدراكنا للعلاقة التي تربط بين ماضي عالمنا وحاضره.
- استجابة العودة إلى هذا النوع من التواريخ إلى حصول إجماع بخصوص دور الذاكرة الجمعية في تعرية السرديات التاريخية الموسومة بالوطنية، والكشف عن اتسامها بالترميق الأدبي. كما تُشكل تلك العودة أيضا محاولة لتأويل ما لم ينقطع عن زعزعة خريطة العالم منذ نهاية الحرب الباردة وانقضاء “القرن العشرين الوجيز”، وفق العبارة إريك هوبزباوم Eric Hobsbawm الرائقة. على أن الإقدام على ترجمة هذا الأثر ينطوي أيضا عن وعي بحدّة الصدمة التي يعيشها المجال العربي حاضرا نتيجة للتحوّلات الجيوسياسية التي تعصف بمختلف بلدانه. وهي صدمة نتجت عن سرعة النقلات التي يعرفها العالم والتي انتهت إلى حصول تهجين غير مسبوق للهويات اللغوية، والقومية أو الوطنية، والدينية أيضا، الشيء الذي آذن بأزوف عالم قديم والدخول في زمن افتراضي أو سيبيراني أعاد صياغة مشهد المعارف الإنسانية والاجتماعية على وجه العموم، ومهنة المؤرخ فيما يهمّنا. فقد بات الحرص على العثور عن الأزمنة المفقودة وفقا لعبارة مرسيل بروست Marcel Proustشاغلا محوريا، تماما مثل مناهضة التسلطيّة وانفتاح السرديات التاريخية على “غيريات غريبة” كنّا ذاهلين لزمن غير بعيد عن إدراك أهميتها الجغرافية والحضارية. وذلك عيّن ما دعا إليه الفيلسوف الإيطالي جيرجيو أغامبين ضمن محاضرته الموسومة بـ “حقيقة أن نكون معاصرين؟”[3] لمـــّا شدّد على ضرورة عرض وقائع التاريخ وبصماته المبهمة على الحاضر، دون الوقوع في الخلط بين مدركات من عاصروا تلك البصمات وما شكّل معنى للحقيقة بالنسبة إليهم، وبين ما نحن بصدد عيشه حاضرا. الأمر الذي يكشف عن وقوعنا “بين زمنيتين”، وارتباط زماننا بزمنيات غريبة عنّا، والتمكّن تبعا لذلك من قراءة التاريخ بشكل مفارق غير مسبوق. فالبيّنأن المنعطفات الكبرى هي التي تدفع الشعوب أو الحضارات إلى إنشاء نوع من التلازم الظاهري بين الحاضر والماضي، وذلك قصد صياغة مدلول واقعي للعيش بين زمنيتين، الأمر الذي يمنح أنوار الماضي فرصة لإضاءة عتمة الحاضر وإكساء ما لم يعدّ معاصرا سمت المعاصرة، وتوضيح جانب غير قليل من الحاضر، مع الإمساك بما يتعيّن المصادقة عليه في الآن والساعة.
لكن ما الذي يعنيه تحديدا الاشتغال حاضرا وفق مناهج تستند في قراءتها إلى كتابة التاريخ من منظور عالمي؟
تقريظ التاريخ العالمي:
يبدو وإذا ما تعقّلنا جيدا العروض المنهجية التي وضعت في التعريف بأهمية هذا التوجّه في كتابة التاريخ ومن أبرزها مؤلفات وليام هاردي ماكنيلWilliam Hardy McNeill صعود الغرب، وبيتر فركوبين، طريق الحرير: تاريخ جديد للعالم، وسيرج غروزنسكي، الأجزاء الأربعة للعالم تاريخ للعولمة، ورومان برتراند، التاريخ المتساوي. سردية اللقاء بين الشرق والغرب حلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وأليساندرو ستانزياني، عالم مترابط. فكر كوني لتاريخ عالمي بين القرنين السادس عشر والواحد والعشرين[4]، أن الطموح الذي قاد المحسوبين على هذا التوجه المنهجي في كتابة التاريخ يكمن في الانخراط في الانعطافات المعرفية الجديدة، والقدرة على مزج تلك النماذج العابرة لبعضها البعض والقابلة بالتهجين.
فقد ساهمت مراكمة الأبحاث المرتبطة بالتاريخ العالمي في تجاوز التصوّرات التي ثبت انزلاقها في منزع مركزي أوروبي غير خاف، بتوسيع الآفاق الجغرافية وتخطي الأطر الوطنية الضيّقة، والتفكير في العالم وفق تصوّرات مترابطة، تُنبئ بفهم أفضل لطبيعة العلاقات التي ربطت ولا تزال بين الكيانات السياسية والاقتصادية المتباينة، وإدراك الحاجة لتنقل الأشخاص، والبضائع، والأفكار، والمعارف، والرموز، والعمل سويّة من أجل تحقيق التعافي من أخطار التحولات المناخية، والسيطرة على الثورات التكنولوجية، وتطوير مدركات الشعوب والأجناس المتباينة.
ساهمت هذه التوجهات الجديدة في صناعة التاريخ، وفقا لما حاول عرضه كتاب ألسندرو ستانزياني Alessandro Stanziani في العودة منهجيا إلى المدى الطويل والوقوف على نقاط التماس بين عوالم أو حضارات متعدّدة، مع انفتاح الدرس التاريخي مجدّدا على المناهج المعتمدة في اللغويات، والمعارف الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، والتمكّن من رسم آفاق غير مبذولة للمقاربات التاريخية، وفهم التنامي المتزايد للنزعات القومية المغالية في الانغلاق، مع الدعوة للانفتاح على وقائع تاريخية وثقافية ودينية، ما فتئ رجع الصدى بينها يؤكد حقيقة التفاعل بين مختلف المجالات الجغرافية والحضارية، وتناظر الأحداث أو الوقائع التي جدّت بأصقاع باعدت بينها المسافات. الأمر الذي وسّع زوايا النظر، وحدّ من سيطرة التصوّرات المنغلقة على نفسها، تلك التي لا ترى في وقائع التاريخ سوى إثبات لنظرية صدام الحضارات.
تلك هي المرامي التي سارع منسق الترجمة العربية لكاتب تاريخ العالم في القرن الخامس عشر والمشرف على إنجازها لتوضيحها ضمن عرض تمهيدي أو تصديري حمل عنوان: “تاريخ العالم: تاريخ منصف وراهن في المقام الأول” (يُطلب ضمن الصفحات 11 -25 من الترجمة). فقد اختار المؤرخ لطفي بوشنتوف، الذي لم يخل منجزه المعرفيمن نشر مساهمة طريفة صدرت في غضون سنة 2020 ضمن المجلد 55 من مجلة هسبيريس تموداHespéris-Tamuda، وهو مجلد تم تخصيصه للاهتمام بالتاريخ العالمي مغربا،وحمل عنوان”نحن والتاريخ العالمي”، قام بتنسيق عروضه عبده الفيلالي الأنصاري وعبد الأحد السبتي، متضمّنا بحوثا باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية أمّنها كل من: دنيال ريفي، وروس دان، وعبد السلام الشدادي، ولطفي بوشنتوف، وإدموند بورك، وبرنار روزنبرجي، وعبده الفيلالي الأنصاري، ودنيال نوردمان)،وقدّم لها منسقَا العدد بعرض تمهيدي أكدا من خلاله أن الهدف من تلك المساهمات هو تحسيس المؤرخين المغاربة بأهمية التاريخ العالمي،بوصفه حقلا في البحث قطع أشواطا مهمّة ضمن العديد من المراكز الأكاديمية، والتشجيع على الانفتاح على الممارسات المستجدّة في مجال البحث التاريخي والإنساني في الجامعات العالمية.
وهو ذات الأمر الذي حاول لطفي بوشنتوف تطبيقه ضمن مساهمته التركيبية القيّمة التي تعرّضت لجوانب مخصوصة من تاريخ القرن الخامس عشر المغربي، اتصلت بالاكتشافات المفاجئة لمزارات الأشراف مغربا وذلك بالتناظر مع اكتشاف مزارات للصحابة وآل البيت مشرقا، غرضها “كتابة تاريخ عالمي للمغرب الأقصى” Une histoire-monde pour le Maroc. وهي ذات التصوّرات التي أطرت أبحاثا سبق لنا شخصيا نشرها مع نهاية العشرية الماضية وبداية عشرينات القرن الحالي. فقد تم الاشتغال ضمن كتاب أخبار التونسيين الصادر سنة 2019 مثلا، على تنويع الزمنيات (الزمن الأسطوري، والزمن المجالي، وزمن الرزنامة، والزمن الجواني) في مراجعة مؤلفات مختارة تحيل على ما وسمناه بــ “التواريخ الموازية”، وكذا الأمر حال مقاربتنا لعينات من تواريخ المغارب الجامعة ضمن مؤلف مشترك أشرفنا على نشره سنة 2021 حمل عنوان: مساءلة الانتماء في ضوء المباحث التاريخية التونسية“[5].
طبّق لطفي بوشنتوف منهج التاريخ العالمي حال التصدير لترجمة كتاب تاريخ العالم في القرن الخامس عشر، منطلقا من قراءة نقدية لمفصلة زمنية اعتبارية مثّلتها سنة 1492، تلك التي عُقد للاحتفال بانقضاء خمسة قرون على مرورها معرضا ضخما احتضنته مدينة إشبيلية الاسبانية سنة 1992. واتسم تنظيم ذلك المعرض الدولي بالتنافس الشديد بين قراءات غير مُنصفة، شابها توجه أوروبي مركزي غير خاف، وجابهها في الحين تيار أمريكي-لاتيني مُناهض للكولمبية. لينتقل صاحب نفس تلك العروض بعد ذلك إلى تقديم بسطة عن بدايات تاريخ العالم ضمن أعمال مدرسة شيكاغو الأمريكية من خلال دراسات وليام ماك-نيلصعود الغرب The Rise of West ومارشال هودجسون Marshall Hudgson مغامرة الإسلامThe Venture of Islam[6]، وتأسيس مجلة تاريخ العالمWorld History Review في بداية تسعينات القرن الماضي، وظهور مجموعة من المقاربات بعد حلول الألفية الجديدة، اختلطت ضمنها “دراسات ما بعد الاستعمار”، و”دراسات التابع”، والعروض التي تحيل على “التاريخ الشامل”، و”الدراسات العابرة للتخصصات”، وجميعها مناويل منهجية لم يتم الفصل بشكل واضح بين حقولها ضمن المعارف الإنسانية والاجتماعية الفرنسية إلا بشكل جدّ متأخر، وصدرت بخصوصها مجموعة من الأبحاث والدراسات التاريخية الفارقة يمكن أن نشير من بينها إلى كتابي:تاريخ العالم في القرن الخامس عشر (2009) وتاريخ فرنسا العالميHistoire mondiale de la France (2017).
وليس بعيدا أن يُعزى ذلك إلى قدرة تلك العروض على توسيع أفق المقاربة تجاوزا لضيق التاريخ المحلّي. كما يمكن ردّ ذلك أيضا إلى رواج تلك التصوّرات بين القراء، بعد أن عثروا ضمن طيّتها، وبالإضافة إلى أنصاف الحضارات غير الغربية والإعلاء من قيمة منجزها والاعتراف بهجانة الهويات وتعدّد الانتماءات والأصول والثقافات، على تفسير لما عاينته الثلاث عشريات الأخيرة من تحوّلات، لذلك سارعوا إلى عرض مسار العولمة حاضرا على ما عاينته مرحلة البدايات عند منعطف القرن الخامس عشر.
هل ينبغي علينا الإقرار بحضور تاريخ مترابط أو متشابك، أم الحديث عن مجرد رجع صدى؟
تضمن القسم الأول الموسوم بـ “أقاليم العالم أو الأطلس السياسي للقرن الخامس عشر”، ما لا يقل عن 12 دراسة تركيبية مطوّلة توقفت عند ثوابت ومتغيرات الواقع بمختلف أقاليم العالم المعروف (آسيا الوسطى، والمتوسط، وإفريقيا، وإيبيريا، وفرنسا، وإنجلترا، والأراضي المنخفضة، وإمبراطوريات وسط أوروبا وشمالها، كما الواقع التاريخي للفضاء الروسي، والمجالات الصينية على أيام سلالة المينغ، واليابان، وكوريا وأوكيناوا، والهند، وأمريكا السكان الأصليين من الأزتيك والميكسيك، إلى إمبراطورية الأحياء الأربعة لشعوب الأنكا، تلك التي انتشرت على طول سلسلة جبال الأنديز).
وتطرح مثل هذه الجولة بين أقاليم العالم المعروف في القرن الخامس عشر، إشكالا منهجيا أشار إليه من أقاموا على تنسيق وإدارة هذه العروض، وكذا منسق ترجمتها إلى العربية ضمن تصديره أيضا. ويتمثل الأمر في حضور نوع من التناظر بين سياق كوني راهن يتسم بإعادة صياغة المشاهد الجغرافية وفقا لما اقتضته الثورة الاتصالية في توسيعها لدائرة التنقل وتهجينها للهويات القومية، ومدى واقعية الحديث عن تشكّل تاريخ عالمي خلال القرن الخامس عشر، توصّل فعليّا إلى تمتين العلاقات بين الأفراد والمجموعات أو تقريب الصلات والروابط بين مختلف مركبات ما أَطَلَق عليه واضعو هذا التأليف عنوان: “أقاليم العالم: الأطلس السياسي للقرن الخامس عشر”؟
تحتاج المصادقة على هذه الحقيقة إلى إثبات حضور علاقة تفاعل أو تأثير وتأثر مباشر بين مختلف تلك الأقاليم، وهو ما حاولت عروض هذا القسم إقناعنا بمثوله بوصفه حقيقة ثابتة، حتى وإن بدا إغضاؤها قصدا عن عدم خلو ما تم سرده من وقائع من دواعي التركيز على واقع العولمة حاضرا، وتأثير ذلك على ماضي البشرية خلال القرن المقصودة بالمعايرة. لذلك يبدو ادعاء حضور تاريخ عالمي منذ القرن الخامس عشر، أقرب إلى رجع الصدى بين مكونات متباينة حضاريا وثقافيا، منه إلى تشكّل حقيقي لمختلف الشروط التي تحتاجها مثل تلك النقلة الفارقة في التاريخ العالمي أو صياغة تاريخ مترابط للعالم. فقد توسّل القائمون على هذا الأثر التاريخي بعملية إثمار لنماذج منهجية بدت لنا مستلهمة مما تم تطويره بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من قبل الباحثين في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، ممن انخرطت مراكمتهم المعرفية التاريخية ضمن مقاربات ما بعد الماركسية أو “شظايا الفكر الماركسي”، واندرجت ضمن تيار مدرسة الحوليات الفرنسية وكذا المحسوبين على نظرية المركز والأطراف أو اقتصاد-العالم الأوروبيEconomie-monde européenne.
فقد انتهى تحليل سياقات الانتقال من عصر المماليك إلى عصر العثمانيين إلى الإقرار بقدرة هؤلاء: “على مراكمة المزايا المتباينة لكل واحد من منافسيهم واستخلاص أقصى الفوائد منها، في انتظار استيعاب ذلك الإرث بالقوة وحدّ السيف”. (ص. 78) بينما تمكّن “منتجو الخدمات الرمزية” من شعراء وموسيقيين، ورسّامين وفنانين، من التعبير عن الاختلاف وخطّ طريق سالكة لإرساء قواعد جديدة للعمل السياسي، ارتكزت على تعدّد الأقطاب. وتناغم ذلك مع الدور الذي لعبه “خبراء التواصل السياسي” (ص. 90) في تكريس النهضة الإيطالية، وابتكار ما سـُمي لاحقا بـ “أوروبا إيطاليا مكبّرة” أو “إيطاليات صغيرة … امتدت من ساوث هامبتون إلى بجاية، تم في أكنافها تبادل الحوليات المصرفية والمعلومات والفنون والأفكار الجديدة والتقنيات، بحيث لعبت إيطاليا دور الـمُختبر السياسي للحداثة (ص. 102)، قبل أن يفرض ذلك الوضع نفسه على المستوى العالمي” (ص. 85). بينما بدا المتوسط خلال نفس القرن بمثابة مختبر لتجريب أشكال متنوعة من الحكم، وذلك ضمن سياق اتسم بالمنافسة السياسية والدينية مع العثمانيين باعتبارهم قوة إسلامية غازية جديدة” (ص. 108). واعتُبرت القارة الإفريقية مجرّد طريق نحو آسيا، تجاهلت الاكتشافات دواخلها حتى حلول القرن التاسع عشر. في حين تباين واقع تردّي الشعوب الأصلية الأمريكية، مع التحولات السياسية والاقتصادية التي عاينتها مماليك وامبراطوريات غرب أوروبا بعد سيطرة الدولة الترابية الحديثة، وظلت آسيا متأرجحة بين الحفاظ على ميراثها الامبراطوري القديم (الصين) وإنشاء كيانات سياسية جديدة اعترضتها صعوبات جمّة في التعبير عن ذاتها (ص. 20)، وهو ما حاول هذا القسم الافتتاحي البت بشأنه من خلال العودة إلى الحركية الثقافية الفارقة لبعض أقاليم الشرق الأقصى، على شاكلة التجارب اليابانية في ثقافة “هيغاشي ياما”، تلك التي غيّرت مع نهاية القرن الخامس عشر أسس الفعل الجمالي، من مسرح نو،إلى فن الحدائق اليابسة، ومن هندسة العمارة، الى فن الشاي والزهور والرسم الأحادي الألوان المتأثر بتعاليم فلسفة “زان”. وكذا ضمن أنشطة “دوبوتشو” في “ثقافة الموروماتشي”، تلك التي مزجت بعناية فائقة بين الفنّ الراقي وفن الصنّاع التقليديين المهرة، مُطوّرة من خلال ذلك جماليات تختلف عمّا ساد من قبلها، لتعيد إثمار قيم التواضع، والبساطة، والاعتدال، والاغراء الخجول، ومتعة الحزن المهيب، والبساطة، والسكينة، والطمأنينة، الشيء الذي ساهم في حركية الفئات الاجتماعية الأكثر تنويرا، تلك التي أعلت من قيم الانفتاح ودافعت عن ضرورة تطوير المبادلات التجارية (ص.284-285).
وهكذا يتبين لنا أن مختلف العروض المستجلبة ضمن هذا القسم قد جدّفت باتجاه التنويه بفكرة ثابتة دفعت نحو المصادقة على تشكيل القرن الخامس عشر منعطفا فارقا بشّر بالإرهاصات الأولى لما يعيشه العالم حاضرا. وهو ذات ما عاينته مختلف الأقاليم المعروفة، القديم منها والحديث، الواقعة في قلب أوروبا أو البعيد عنها مسافة وحضارة وفكرا.
ليس في واردنا مجادلة مثل هذه الفرضيات، إلا أن قراءتها من زاوية الانتصار لفكرة ترابط تاريخ العالم بالاستناد على ما عاشته ممالك أوروبا الغربية من تسريع لفعل الزمن وتوسيع لمجال هيمنتها على بقية مجالات العالم خلال القرن المقصود بالمعايرة، يقتضي تأسيس تلك الدينامية الماثلة كونيا على المراوحة بين حضور دينامية للتهجين الثقافي من انعدامها، الشيء الذي يجعل من حالات النشازdissonances رديفا موضوعيا لتعدّد حالات رجع الصدى، وهي التي تمّ الاكتفاء بالتركيز عليها دون سواها.
مفاصل زمنية فارقة ومراجعات نقدية لمحصلة المعارف الكونية
خُصصت عروض القسم الثاني من كتاب تاريخ العالم في القرن الخامس عشر لـ “أزمنة العالم أو كرونولوجيا القرن الخامس عشر” وتضمنت نصوص موجزة تحيل على أحداث مفصلية امتدّت خلال الفترة المتراوحة بين 1378 موعد انقسام البابوية بين مجالي مدينتي روما وأفينيون (ص. 339)، و1520 تاريخ تتويج شارل الخامس أو شارلكان إمبراطورا للعالم وحاميا للجماعة المسيحية (ص. 591). ويشير منسق الترجمة ضمن تصديره دائما، -وهو على تمام الصواب- إلى أن القيمة المنهجية لطريقة تناول تلك المفاصل الاعتبارية تكمن في “إعادة بناء الوقائع، ثم تحليل الروايات المتناقلة بخصوصها، قبل الخلوص إلى جملة من الاستنتاجات كشفت عن أهمية الحدث، مهما كان معروفا وقريبا من مركز أوروبا، أو مغمورا وبعيدا عن هذه القارة” (ص. 21). الشيء الذي ينهض حجة على أن ما طرحته تلك المعالجات التاريخية الموسومة بـ “الموضِعيّة”، قد انزلق بدوره في إعادة إنتاج لمركزة كتلة الأخبار المستجلبة حول ممالك القارة الأوروبية.
فعلى جملة 46 مفصلة تم اقتراحها لتغطية أحداث القرن الخامس عشر، خصّص المساهمون 27 أو تزيد لوقائع تاريخية مفصليّة شهدتها أوروبا خلال القرن الخامس عشر. في حين لم نعثر إلا على 8 مفاصل زمنية خُصصت لوقائع عاينتها مجالات واقعة في القارة الآسيوية. أما بقية الوقائع المستجلبة فقد استهدفت مجالات تقع على تماس أوروبا مع بقية أجزاء العالم المعروف، آسيويا كان وإفريقيا. ولم تشغل قارة أمريكا سوى مفصلة زمنية يتيمة تعرّضت لسياقات ميلاد إمبراطوريتي “الأنكا” و”الأزتاك” المخصوصة في حدود سنة 1430 (ص. 433).
وفي المقابل استجلب القسم الثالث المخصّص لـ “كتابات العالم: مكتبة القرن الخامس عشر” عروضا أو مراجعات قدّمت لنا كُتب منتقاة ببالغ التدبير والعناية. فقد توفّرت تلك المكتبة التي عرّفت بما لا يقل عن 26 عنوانا، على (14) تصانيفا أو أثرا أوروبيا، بينما توزّعت بقية العروض النقدية المستجلبة (12)، على جملة من الآثار المكتوبة بأقلام آسيوية وإفريقية، من بينها 4 مصنّفات وضعت في اللغة العربية وعادت لعبد الرحمان بن خلدون (كتاب العبر) (ص. 681) وجلال الدين السيوطي (التحدّث بنعمة الله) (ص. 645) والحسن الوزان (وصف إفريقيا) (ص. 763)، فضلا عن كتاب ألف ليلة وليلة (ص. 719)، وهو أوسع تلك الآثار شهرة خارج المجال العربي الإسلامي وعلى الصعيد الكوني.
فمن أرشيف التقويمات الشمسية وأنشطة الآلهة ومرويات الأنساب وتوصيف الغزوات وأسماء الشعوب ضمن مؤلّفي الكوديكس المكسيكية، وتقويم الرعاة الذي تضمن معطيات مفيدة حول الأبراج والنجوم والكواكب ومنازل القمر والأعياد وتقويم الطبائع تشوّفا للتيسير والسعادة والصحة الجيّدة (ص. 599 وص. 737)، وحتى كتاب “بابر نامه” أو مذكرات بابر، المعروف بـ “ظاهر الدين محمد”، المكنى بـ “النمر” و”الفهد”، سليل “تيمورلنك” من الأب و”جنكيز خان” من الأم، الذي توصّل إلى تزعّم السلالة التيمورية بداية من سنة 1494م (ص. 785)، تعرضت بقية المراجعات نقديا إلى محتويات مؤلفات تحيل على ترجمات للأناجيل (ص. 605)، وكتاب زرع يعقوب (ص. 613) الذي تم ردّ تحريريه إلى نجاشي الحبشة، وتراتيل في الاقتداء بالمسيح (ص. 621). كما اشتملت على عروض تحيل على الموسوعة أو المكتبة الصينية الكبرى، التي احتوت على ما بين 7000 و8000 عنوانا، أمر الإمبراطور يونغل بتجميعها في بداية القرن الخامس عشر (1403-1408م) (ص. 637). كما توقّفت عند مؤلفات عرّفت بعلوم الرياضيات والجبر، والصوتيات في اللغة الكورية (ص. 661) وبكتاب فن الرسم لـ ليون باتيستا ألبيرتي (1435م)، الذي تمكن من الارتقاء بالتشكيل الفني إلى مرتبة الفن الحرّ (ص. 667). وكذا الأمر بالنسبة لتأليف انتقال الزهرة لـ “زي آمي” الذي آذان بميلاد مسرح “نو” الياباني (ص. 673)، وكتابي الأمير لـ مكيافلي (1513م) (ص. 689) واليوتوبيا (1516م) لـ توماس مور (ص. 711)، اللذان دشّنا مرحلة جديدة في تدبير الشأن العام أو الحياة السياسية. في حين دقّقت بقية العروض في محتوى رحلة أثناسيوس نيكيتين إلى ما وراء البحار الثلاثة خلال سنة 1475م بين بلاد الفرس وسواحل الهند (ص. 753)، وقلّبت كوسموغرافية إفريقيا ليوحنا الأسد الغرناطي الإفريقي 1526م في محصّلة المعارف القديمة حول جغرافية القارة الافريقية (ص. 763)، وعرّف سجل السفينة لـ كريستوف كولمب (1493م) (ص. 771)، وكذلك كتاب العالم الجديد لـ أميريكو فيسبوتشي (1504م)، بجغرافية القارة الأمريكية (ص. 777).
وهكذا فقد أثبت تنوّع المفاصل الزمنية الفارقة كما المراجعات التي أُلفت في تقييم المحصلة المعرفية المتداولة كتابيا طوال القرن الخامس عشر، أن تلك القراءة، على وفائها لثوابت الثقافة التاريخية الغربية في تعويلها على الرصيد الحضاري الأوروبي المسيحي لتفسير تاريخ العالم وتوجيه كتلة أخباره، قد شكّلت أيضا فرصة لمعاودة زيارة الماضي التاريخي لتلك الحضارة وصياغة محصّلة ثقافاتها وفق مقاييس منهجية ومعرفيّة جديدة، أشّرعت الباب أمام ما وسم “بالتاريخ المتساوي une histoire à parts égales”قصد العثور على إجابات مبتكرة لأسئلة الحاضر، والتدقيق تبعا لذلك في قدرة الماضي على إنارة الحاضر والمصادقة عليه، تفاديا لكل انغلاق من شأنه أن يدفع نحو إعادة إنتاج القديم أو التصديق عليه.
منعطفات ومصادفات
احتذى القسم الرابع والأخير الموسوم بـ”مصائر العالم: أوراش القرن الخامس عشر” وفقا لما عرضته مقدمة الترجمة العربية دائما: “منهج المقارنة ودراسة التحوّلات في بعدها العالمي”، من خلال صياغة تصوّرات تركيبية تحيل على تلازم تطوّر التقنيات البحرية أوروبيا مع تزايد حاجة الفاعلين السياسيين والاقتصاديين إلى اكتشاف مناطق جديدة وبعيدة، والتوسّع حيث مصادر الثروة، والسيطرة على الطرقات البحرية المؤدية إلى تلك المصادر، واستعراض أشكال تنقل السلع والأفكار والمجموعات البشرية، وكيفية تشكّل شبكات المصالح المتنفّذة أو الضاغطة، وتطوّر عالم البلاط ونشأة الديبلوماسية واستحداث السفارات التي فرضت قبول مختلف حضارات الشرق بتوطين عيون الغرب والداعمين لتفوّقه على أراضيها (ص. 21).
كما بتّ نفس القسم وفي مستوى متمم في الأسباب التاريخية لتخلي إمبراطورية الوسط الصينية على سياسة الانفتاح والتوسع وتفضيل الانغلاق ضمن حدودها التقليدية، وتعرّض لامتداد حضارات العالم الإسلامي بشبه القارة الهندية وشرقي أوروبا ووسطها، ليرُدّ تذبذب كلتا الحضارتين وعدم اكتمال تطوّرهما وانهيارهما السريع أمام القوة العسكرية للممالك الأوروبية الصاعدة إلى السلبيات الناجمة عن تعاظم منسوب العنف وتعدّد انتشار الجوائح الصحية والأوبئة. وهو ما مكّن في الأخير من صياغة جملة من الفصول، تمّ إفرادها لمزيد فهم تشكُّل ثقافة الفرد أوروبيا بعد انحسار التصوّرات الغيبية، واكتمال المعرفة بالعالم والسيطرة بفضل تمثيل المجال جغرافيا على مجهول الفضاءات (ص. 793-1030).
لم يكتف مؤلف هذا الأثر الذي نقف على محصلة ترجمته إلى اللغة العربية عند استعراض هذا التصوّر التركيبي وتقديم صورة عن التحولات الفارقة التي عاشها العالم منذ منعطف القرن الخامس عشر. فقد عرضت علينا مؤلفات باتريك بوشرون اللاحقة ومن بنينها كتاب: بين زمانيتين. نقاش حول التاريخ[7] الصادر سنة 2012، توضيحات طريفة بخصوص أهمية الهجانة في فهم أشكال المثاقفة بين مختلف شعوب العالم وحضاراته المتعدّدة. وهو ما توسّع بشأنه الفصل الثاني من هذا المؤلَّف الذي حمل عنوان: “تاريخ مخطط الألوان على شاكلة جلد حمار وحشيّ une histoire zébrée de part en part” (ص. 33-62). فقد حاول المؤلف انطلاقا من قراءة مخصوصة للوّحة “الفلاسفة الثلاثة” التي رسمها الفنان التشكيلي الإيطالي جورجيانو Giorgio Barbarilli (ت 1510م) أن يثبت تهافت مدلول ما وُسم غربا بـ “عصر النهضة”، معتبرا أن الوساطة العربية في نقل معارف الحضارات القديمة لم تشكّل عاملا ثانويا، بل إطارا جامعا تم داخل حياضه تبادل المعارف، لم تتصادم ضمنه الحضارات فحسب، بقدر ما خضعت لقوانين التبادل والقرصنة والتهجين الثقافي.
فمن المنمنمات الفارسية إلى الواجهات اليابانية، مرورا بالبعثات المشهورة لأميرال البحر الصيني زنغ هي Zeng He بين 1405و1433، يبدو من السهل إضافة جملة من الأمثلة المعبِّرة التي تقوّض ما روج له الأوروبيون لزمن طويل من دعوَى بخصوص انقطاعهم بمفردهم لحب المعرفة أو احتكارهم لفضول استكشاف العالم. ففي الوقت الذي أضحت فيه أرشيفات العالم متاحة افتراضيا من أجل التثبت من حقيقة غزارة المعطيات التي تحيل على تواريخ شعوب العالم، ينبغي أن يكون المرء على قدر غير قليل من الانغلاق الإيديولوجي حتى يرفض اختبار ذلك، ويعمل على الكشف عن جليّته. لذلك اعتبر بوشرون دائما أن اندفاع الأنثروبولوجي جاك غودي Jack Goody للوقوف على خط ولادة جديد للنهضة خارج المجال الأوروبي[8]، فاقدا لكل وجاهة، بل ودافع نحو تأبيد مدركات الأوروبيين القديمة بخصوص اختزال التقدّم والازدهار في حضارتهم دون بقية حضارات العالم الأخرى. وهو تصوّر يتعارض مع التوجه الذي قاد المؤرخ رومان برتران Romain Bertrandالذي حاول التعريف وضمن مؤلفه الموسوم بـ التاريخ المتساوي: سردية لقاء بين الشرق والغرب (خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر) L’histoire à parts égales: Récits d’une rencontre Orient-Occident (XVIe-XVIIe siècle) بكيفيّة اشتغال السرد ضمن حوليات جزيرة جاوا الملكية،تلك التي شكّلت في الأصل مدونة شعرية شفوية طالها التدوين منذ القرن الرابع عشر. فقد أشار في استعارة بليغة إلى أن التعامل مع تلك المرويات التأسيسية يماثِل عملية استصلاح غابة كثيفة تمكّن حسن تدبير الأمير من تشذيبها ليحوّلها في الأخير إلى جنّة غنّاء، شغلت السلطة ضمنها نفس الدور الذي يلعبه عطر رائحة أشجار الصندل الغابية. وهو ما يحسن الإعراض بالكامل على اعتباره مجرد تتبيل مقصده إكساب تواريخ الغرب مذاقا شرقيا، بقدر ما يتعيّن الاعتبار بالمسافة التي ينبغي على المؤرخ احترامها إزاءه تفاديا للوقوع في أُلفة مكذوبة تجاه تاريخ موطنه،معتقدا في بداهيتها السطحية التي تحول دون تجدّد طابعها المثير والمدهش. فليس هناك تفصل واحد مما عرفه العالم من وقائع وأحداث لا يمكن أن يسترعي انتباهنا بشرط تدبّر ذلك بمنتهى الفضول والعناية.
ويتقاطع هذا التصوّر مع ما أشار إليه ميشال فوكو بخصوص مهنة المؤرخ[9]،لما اعتبر أنه لا ينبغي أن نماثل بين عمل المؤرخ وعمل البستاني الذي يعيد بيدين ماهرتين ترتيب حديقة الأحداث بعد جمعها، فدور المؤرخ الحقيقي هو الكشف عن مخاتلة جميع البديهيات لتخليص حديقته من عودة النباتات الضارة إلى النموّ من جديد. لذلك ينبغي القطع مع جميع دواعي الاستكانة أو التصديق على مايبدو أليفا. فالمعرفة الحقيقية لا تعني بالضرورة العثور على ما نبتغيه، لأن التاريخ لا ينتج موفور الدلالة إلا حال إدراج ما هو متقطّع أو مصادف من أحداثه ضمن تصوّر يعيد على الدوام تشكيل سرديتنا الجمعية.لذلك فإن تزامن العيش في نفس الفترة لا يكسبنا بالضرورة صفة المعاصرة، لأن تلك الصفة لا تفيد النزوع إلى التأثير على مجرى الأحداث وتحديد كيفية صنع القرار، بل تحيل بالأساس على تقاسم ذات التصوّرات بخصوص “جودة الزمن La qualité du temps”. لذلك ينبغي ردّ دلالتها العميقة إلى نوع من السير المتعرّج الذي يتضمن بالضرورة اختلال التوازن وكثرة التعثّر، تماما مثل استعراض ما يشكّل مسارات الأفراد على الحقيقية أو يكاد.
الهوامش:
[1]Sous la direction de Patrick Boucheron, L’histoire du monde au XV e siècle. Paris, Fayard 2009
[2] باتريك بوشرون وآخرون، تاريخ العالم في القرن الخامس عشر، أشرف على ترجمته إلى العربية لطفي بوشنتوف، منشورات مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية والإنسانية، الدار البيضاء 2022.
[3] Gorgio Agamben, Qu’est ce que le contemporain ?trad. Française Maxime Rovere, Paris, Payot et Rivages 2008.
[4]William McNeill, The Rise of the West: A History of the Human Community, publiés par University of Chicago Press 1963. Peter Frankopan, The silk roads : A new history of the world, Vintage Reprint, 2017, Serge Gruzinski, Les quatre parties du monde histoire d’une mondialisation, Paris, Points 2006, Romain Bertrand, L’histoire à parts égales Récits d’une rencontre, Orient-Occident (XVIe-XVIIe siècle), Paris, Seuil 2011 et Alessandro Stanziani, Les entrelacements du monde. Histoire globale pensée globale XVI e XXI e siècles. Paris CNRS 2018.
[5] لطفي عيسى، أخبار التونسيين. مراجعات في سرديات الانتماء والأصول، منشورات مسكلياني، تونس 2019. لطفي عيسى (إشراف)، مساءلة الانتماء من منظور المباحث التاريخية التونسية، ضمن سلسلة البصمة والمنوال، كلمة للنشر، تونس 2021.
[6]L’aventure de l’islam : Conscience et histoire dans une civilisation mondiale, vol. 1-3. Chicago, The University of Chicago Press 1974.
يطلب في نفس الغرض كتاب نفس المؤلف:
Repenser l’histoire du monde : Essais sur l’Europe, l’islam et l’histoire du monde. Cambridge : Cambridge University Press, 1993.
[7]Partick Boucheron, L’entretemps. Conversation sur l’histoire, Paris, Verdier 2012.
[8] Jack Goody, Renaissances. Au singulier ou au pluriel ? Paris, Armand Colin coll. « Mnémosya », 2020.
[9]Michel Foucault, L’archéologie du savoir, Paris, Gallimard 1969.