الإثنين , 9 ديسمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » جغرافية حضارات الكتاب في القرن الخامس عشر الميلادي

جغرافية حضارات الكتاب في القرن الخامس عشر الميلادي

باتريك بوشرون (إشراف)، تاريخ العالم في القرن الخامس عشر، تنسيق الترجمة العربية ومراجعتها وتقديمها لطفي بوشنتوف، الدار البيضاء-مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، سلسلة ترجمات، بيروت-المركز الثقافي للكتاب، 2022، في 1130 صفحة.

 

تقديم

في سنة 2006، أصدر الأنثروبولوجي البريطاني جاك غودي كتابا يحمل عنوان سرقة التاريخ، افتتحه كالآتي: “”سرقة التاريخالواردة في عنوان هذا الكتاب تشير إلى قيام الغرب بتولي المسؤولية عن التاريخ. وذلك يعني أن يتم تصور الماضي وعرضه وفقا لما حدث في مقياس أوروبا الإقليمي الضيق الأفق، وهي في الغالب أوروبا الغربية، ثم يُفرض التصور بعد ذلك على بقية العالم”[i].هذا الأمر دعا العديد من المؤرخين الذين خيبت آمالهم مآلات جهود مدرسة الحوليات، مثل باتريك بوشرون، أن يبحثوا عن سبل تحرير نظرة المؤرخ من سحر المركزية الأوروبية (décentrement du regard)، الذي يعتبره بوشرون واحدا من أهم التحديات التي تواجه اليوم مهنة المؤرخ[ii]. وبعد تجريب محدودية التاريخ المقارن وإمكانيات تجاوز التاريخ الوطني ومزالقه الإيديولوجية من خلال التاريخ الأوروبي، بدا للكثيرين أن التاريخ العالمي (histoire mondiale) أو التاريخ المترابط (histoire connectée) يشكل اختياراً منهجيا وفكريا واعدًا ومغامرة بَحْثٍ جديرة بأن يُقْدِمَ عليها المؤرخ الذي ضاقت به حدود “السردية الوطنية” وشروط كتابة تاريخية ظلت سجينة متطلبات الاستجابة للحاجة الاجتماعية (demande sociale).

كتاب تاريخ العالم في القرن الخامس عشر،كما أوضح ذلك باتريك بوشرون، بمعماره التحريري المعقد ومستويات كتابته المتعددة والبوليفونية، هو ثمرة محاولة جماعة من المؤرخين -الفرنسيين في أغلبهم- لرفع التحدي وتوسيع النظرة فيما وراء المركزية الأوروبية. إذ يتناول الكتاب مختلف الدينامية الحاملة لحركة تغريب (occidentalisation) العالم، وفي الوقت ذاته يَحْرصُ على إبراز حركات العولمة الأخرى المغايرة (الإسلامية المغولية أو العثمانية مثلا)، وإن ظلت وعودًا لم تكتمل. هذا المؤلَّف كما يكتب بوشرون، يسلط الضوء على الزمانيات المتعارضة، والتواريخ المترابطة والمجتمعات الهجينة (métissées). كما يعرض أيضا لمختلف أشكال “الانطواء على الذات، والتصدعات، والانعزال، ومقاومات العولمة، وإعادة إنتاج التقليد والاختلافات بين المجتمعات المتباعدة”[iii].

الكتاب يقوم على فرضية رئيسية هي أن القرن 15م الممتد والمتسع والمركب والمتنوع، يشكل مرحلة حاسمة من مسار العولمة الذي تعرفه الأرض وسكانها. بعد التعرف على الجزء الأمريكي الجديد للأرض، أصبح بالإمكان ولأول مرة في تاريخ البشرية، الحديث عن تاريخ عالمي، تُسْتَحضر مختلف مكوناته الجغرافية، كما يتضح ذلك من خلال الخرائط المنجزة في القرن 15م. ولأن هذا القرن لم يصر بَعْدُ موضوعا للغربنة (occidentalisation) التي انطلقت من أوروبا، فإن مجراه كان مفتوحا على آفاق وممكنات متنوعة.

لرسم صورة تنقل إلينا اليوم أقصى ما يمكن من الديناميات التي كان يحبل بها القرن 15م، اختار محررو الكتاب صياغته وفق معمار معقد يستند إلى أربعة أبواب:

  • أقاليم العالم: الأطلس السياسي للقرن 15م
  • أزمنة العالم: كرونولوجيا القرن 15م
  • مصائر العالم: أوراش القرن 15م

والباب الذي لم يكن منتظرًا في مثل هذه الكتابات التاريخية هو الباب الثالث الخاص بــــــ”كتابات العالم: مكتبة القرن 15م”

خارطة الكتاب والكتابة في القرن 15م

اخترت أن أخصص مداخلتي لهذا الباب (وهو الباب الثالث) لأسباب لا تخفى عليكم، لعل أبسطها هو ميل مهني بديهي يدفعنى كمكتبي للاهتمام بمجال الكتاب والكتابة في الماضي البعيد والقريب. ثم إن تاريخ الكتاب والكتابة كما نعلم، بفضل أعمال مؤرخين، مثل الفرنسيين لوسيانفاڤر وهنري-جون مارتان[iv]وروجي شارتيي[v]أو الأمريكي روبير دارنتون[vi]، هو جزء أساسي من التاريخ الثقافي وتاريخ العقليات والتقنيات. هذا بالإضافة إلى كون تاريخ الكتابة والكتب، وآليات ومسارات إنتاجها وانتشارها كفيل بأن يمنحنا معطيات تسمح بفهم التحولات التي تشهدها المجتمعات في فترات معينة من تاريخها.

كيف تبدو خارطة الكتاب والكتابة في عالم القرن 15م؟ وعن ماذا تطلعنا ديناميات الكتاب والكتابة والتقنيات والرهانات والاستعمالات المرتبطة بهما؟

يتكون الباب الثالث الذي يحمل عنوان “كتابات العالم: مكتبة (Librairie) القرن 15م” من 21 نصا عن عينة من الكتابات المخطوطة والمطبوعة التي تنتمي لأحواض الكتابة التاريخية التقليدية التي تمتد من آسيا (الصين، كوريا، اليابان) إلى العالم العربي الإسلامي، إفريقيا، أوروبا، وأمريكا الجنوبية (المكسيك)[vii].

سوف نضع جانبا المقالين اللذين يخصان الكودكس المكسيكية المخطوطة أو الأجزاء التي نجت من المحارق التي قام بها دييغو دي لاندا في القرن السادس، والتي تثبت قدم تقاليد الكتابة الممتزجة بالرسوم والنقوش في أمريكا. وكذلك الكتابات التي تمثل الثقافة المكتوبة في إثيوبيا في عهد النجاشي زرع يعقوب الذي امتد ما بين سنتي 1434 و1468، والتي تبرز نظام كتابة أصيل، اقتبسته إثيوبيا من أبجدية جنوب الجزيرة العربية واستخدمته منذ القرن الرابع الميلادي، أي منذ اعتناق ملوك أكسوم للمسيحية.

إذا وضعنا جانبا موضوع الكتابة والتقاليد الكتابية في إفريقيا جنوب الصحراء وفي أمريكا الجنوبية، حيث يحتاج الموضوع للمزيد من الأبحاث والتنقيب عن الوثائق بما في ذلك البحث الأثري، فإننا سنتوقف عند الأحواض الحضارية الثلاث التي كانت تقدم في القرن 15م تقاليد كتابية عريقة أنشأت مدونات متطورة وُجدت في سياق جديد، لعل أبرز ما يميزها هو اختراع وتطوير تقنية الطباعة بالأحرف المتحركة في أوروبا في أواسط القرن الخامس عشر. يتعلق الأمر بشرق آسيا وخصوصا المجال الصيني حيث طورت تقاليد كتابية عريقة، ثم المجال العربي الإسلامي (من المحيط الأطلسي إلى شبه القارة الهندية)، وأوروبا التي تعود فيها تقاليد التأليف والكتابة وشبكات إنتاج وتسويق النصوص إلى العهد الروماني، والتي ستعرف نقلة حاسمة ابتداء من القرن 15م مع انتشار تقنية الطباعة.

يشير بوشرون إلى ما جاء في كتاب بيير شوني التوسع الأوروبي[viii]حيث يبين المؤرخ الفرنسي أن القرن 15م عرف تنافسا بين الإمبراطورية العثمانية التي كانت لها إرادة الهيمنة على العالم لكن خانتها القدرة؛ بينما امتلك الصينيون القدرة على ذلك لكنهم افتقدوا الإرادة، فبقي الطريق سالكا للتوسع الأوروبي الذي اجتمعت لديه تدريجيا الإرادة والقدرة معززة بالمعرفة. هي خطاطة تنطبق إلى حد كبير على مسارات تطور صناعة الكتاب وترويج المعرفة في الفضاءات الحضارية الثلاث.

لنبدأ بـالمجال الحضاري الصيني: تبين المقالة حول موسوعة عصر الإمبراطور يونغل الكبرى الذي اعتلى العرش عقب الحرب الأهلية التي امتدت ما بين 1399 و1402، أن نصوص الموسوعة التي سعى الإمبراطور لتجميعها وفهرستها تقارب 8000 كتابا، وأن بعضها (نصوص في الجغرافيا) تعود للقرنين الرابع والسادس، بينما أغلبها يرجع لعصري سونغ ويوان (الثالث عشر والرابع عشر)، وتشمل مجالات معرفية متنوعة مثل التاريخ الرسمي للسلالات الخمس الحاكمة في القرن العاشر، وتواريخ مماليك القرون 11 و13م، والأحكام والمدونات الحكومية والنصوص الطبية والقانونية، بالإضافة إلى فهارس وكتالوجات المكتبة الإمبراطورية.

ويتضح أيضا أن مشروع تجميع موسوعة الكتابات الصينية الكبرى (نوع من المكتبة المرْكزية للإمبراطورية الصينية) كان مطروحا منذ بداية حكم أسرة المينغ في أواسط القرن الرابع عشر، وسيظل يطرح باستمرار حتى أواخر القرن 18م. وفي ذات الوقت، لم تفتأ مكونات هذه الموسوعة تتعرض للضياع ثم للتخريب في كل فترات تاريخ الصين الحديث. وعلى الرغم من إتقان الصينيين لتقنية الطباعة بالقوالب الخشبية (منذ القرنين 12-13م وربما قبل هذا التاريخ)، فإنهم لم يشرعوا في نشر النصوص الشائعة بالطرق الميكانيكية إلا في نهاية القرن التاسع عشر (تماما كما هو حال المغرب).

وعلى الرغم من توفر كنز من النصوص المخطوطة في مختلف العلوم في المكتبة الإمبراطورية، فإنها ظلت حبيسة القصر الإمبراطوري (“المدينة المحرمة”) منذ أواسط القرن 15م، ولم تقرأ في القرون اللاحقة إلا من قبل عدد محدود من المتعلمين الذين حظوا بإمكانية الولوج إلى تلك المكتبة. كما تبدو مطامح حكام الصين بإنشاء مكتبة الإمبراطورية مشغولة بأغراض سياسية أكثر منها معرفية وعلمية أو تربوية.

يبدو إذن أن الصينيين تمكنوا قبل غيرهم من تطوير العديد من التقنيات الحاسمة (الآلات الحربية النارية، السفن والملاحة البحرية، الطباعة) وكذلك الكتابة، ومع ذلك تجاهل الصينيون الطباعة التي انتشرت في العالم انطلاقا من القرن 16م، وواصلوا استخدام المخطوطات لاعتبارات ثقافية ودينية وتعليمية محافظة.

أما المجال الحضاري العربي الإسلامي فيبدو من خلال المقالة المخصصة مثلا لجلال الدين السيوطي وكتابه التحدث بنعمة الله، أنه حقق درجة عالية من الاندماج الثقافي الذي كان يسمح بانتشار النصوص من المحيط الأطلسي إلى شبه الجزيرة الهندية، كما تؤكد ذلك حركة انتقال نصوص السيوطي عبر حواضر العالم الإسلامي في القرن 15م. كما تشهد كتاباته في مختلف علوم عصره (اللغة العربية،والمنطق،والشريعة، والتاريخ، والتفسير، والصناعة المعجمية، والحديث النبوي، والتصوف، والنثر، والشعر، والطب، والفلك) على تبلور ثقافة موسوعية محررة باللغة العربية، كانت عاصمتها القاهرة في العصر المملوكي.

وعلى النقيض مما كان سائدا في الصين حيث ظل الولوج إلى التراث المعرفي المكتوب حكرًا على شريحة ضيقة من المتعلمين المرتبطين بالبلاط الإمبراطوري، فإن الكتب كانت متداولة بكثرة في المدارس المتواجدة في القاهرة، وفي كبريات الحواضر في المجال العربي الإسلامي. كما بلغت مهنة إنتاج المخطوطات وتسويقها درجة عالية من التنظيم الذي يتجلى من خلال الرواج الكبير الذي عرفته مخطوطات نصوص السيوطي وتداولها بين الطلاب والعلماء، خصوصا أولئك الذين كانوا يرتادون سوق الكتب بالقاهرة في طريقهم إلى الحج. كانت نصوص السيوطي تنتقل من سوق القاهرة إلى أسواق الكتب في دمشق ومكة وتونس وفاس، وتصل حتى تخوم الهند والنيجر في إفريقيا جنوب الصحراء. وقد خصص السيوطي الفصل السادس عشر من كتابه للحديث عن الانتشار الجغرافي الواسع لمؤلفاته المخطوطة التي بلغت 245 عملا (كتب وكراسات مخطوطة)، طبع منها لحد الآن قرابة 175 عنوانا وفق ما أورده مؤلف المقالة.لم يكن السيوطي حالة فريدة في العالم الإسلامي، بل مؤشرا عنبداية تحول ثقافي يتمثل في “إحلال سلطة الكتاب، بشكل نهائي، محل سلطة الشيخ”، وإنهاء تقليد الرحلة في طلب العلم من أفواه الشيوخ.

ومع ذلك فإن مسار الكتابة والكتاب في المجال العربي الإسلامي توقف هو الآخر عند مشارف إعادة إنتاج العلوم الكلاسيكية التي طورتها الثقافة العربية في القرون السابقة، ولم تجد تقنية الطباعة طريقها إلى سوق الكتاب إلا في مراحل متأخرة من العصر الحديث في سياق إصلاحات الدولة الحديثة تحت ضغط وتأثير الأقليات المسيحية والجاليات الأوروبية.

في الحالتين السابقتين، أي المجال الحضاري الصيني والأسيوي بصفة عامة (لأن تقنية الحروف المتحركة يبدو أنها ظهرت في القرنين 12 و13م في الصين وفي كوريا أيضا) والمجال الحضاري العربي الإسلامي، شكل القرن 15م في مجال تقاليد الكتاب والكتابة، استمرارية للزمن السابق سواء في تقنيات إنتاج الكتاب (المخطوط) أو مضامينه أو طرق انتشاره واستخدامه.

ما سيحدث في المجال الحضاري الأوروبي انطلاقا من أواخر النصف الثاني من القرن 15م هو تحول عميق نظرا لكون اختراع غوتنبرغ انتشر بسرعة في أوروبا (الشمالية خصوصا)، فارتفع عدد النصوص المتاحة للقراءة. وكان ذلك نوعا من الاستجابة لانتظارات الأوساط الدينية والثقافية، خصوصا وأنه بدأت منذ القرن 13م تنشأ في إيطاليا وفي ألمانيا بعد ذلك العديد من المكتبات، سواء في الأوساط الكنسية أو الجامعية. وظهر التيبوغرافيون المتجولون وهم تقنيون ألمان كانوا ينتقلون من مدينة أوروبية إلى أخرى لإرساء التقنية الجديدة ونشر استخداماتها. وقد أسهم في سرعة انتشار استخدام تقنية الطباعة، تمكن الأوروبيين منذ زمن طويل من إتقان صناعة الورق التي انتقلت إليهم من الصين، عبر العرب في الأندلس.

معنى ذلك أن ظهور الكتاب المطبوع في أوروبا القرن 15م لم يكن مجرد حدث تقني وشكل مستحدث لمواصلة التقليد الثقافي، كما هو الحال في جهات أخرى. بل إنه كان، كما كتب لوسيان فاڤر في مقدمة مؤلفه ظهور الكتاب: “أقوى أداة وضعت تحت تصرف الحضارة الغربية لتركيز أفكار ممثليها المبعثرة وإعطاء التأمل الفردي للباحثين كل فعاليته وأقصى مداه”[ix].

ثم إن هذا الحدث جاء في سياق تحولات فكرية واقتصادية واجتماعية عميقة انطلقت مع ما سمي بـ”النهضة”، وتواصلت مع مسلسل اتساع العالم الموروث عن بطليموس والرحلات البحرية الكبرى واستيلاء الأوروبيين على مساحات شاسعة من قارات العالم.

وهكذا فسرعان ما بدأت آثار انتشار الكتاب في أوروبا الغربية تظهر في العقود الأخيرة من القرن 15م؛ إذ شرعت الجامعات في اقتناء واستخدام تقنية الطباعة انطلاقا من سنة 1475، وإصدار كتب موجهة للتدريس، وظهر ما سماه روجي شارتيينوعا من “الارتباط بين الإنتاج التيبوغرافي والجامعة”. وبانتشار الطباعة صارت كتب العلماء الإنسيين المعاصرين تنتشر وتنافس المؤلفات الدينية التقليدية، سواء في مُمارسات القراءة لدى الأفراد المتعلمين أو أرصدة المكتبات الخاصة. وقد وصف المؤرخون الأوروبيون بشكل دقيق جدا مدى حضور الأفكار الجديدة في أوائل القرن 15م من خلال فهارس المكتبات في أوروبا الشمالية وشمال فرنسا وإيطاليا، حيث اتضح أنه بالموازاة مع استمرار حضور التقاليد الثقافية السكولاستيكية ضمن مجموعات الكتب الموروثة عن القرن 15م، ظهر ضمن الكتب المطبوعة التيار الإنسانوي الذي أفرز بدوره عينة جديدة من القراء المتنورين الذين لم يتواجدوا في الوظائف الإدارية العليا فقط، بل أيضا في أوساط البورجوازية التجارية في أهم المدن الأوروبية (ألمانيا، هولاندا، حوض الراين Rhin).

وفي مجال ممارسات القراءة حدثت ما سماه بيير شوني “القطيعة عن طريق تسريع وتيرة التغيير” (rupturepar accélération) أي أن التغيير لم يكن مفاجئا في شكل قطيعة مكثفة في زمن ضيق، بل قطيعة ثقافية حدثت بفعل ارتفاع وتيرة التغيير.ويتجلى ذلك في ارتفاع حجم الكتب والنصوص المتوفرة في السوق، مما أدى إلى تعوُّد الناس على استخدام المكتوب، ليس فقط في الأوساط المثقفة. كما تسارعت وتيرة انتشار عادة القراءة الموسعة (lecture extensive) بدل القراءة المكثفة (lecture intensive)، وانتشر الإقبال على القراءة الصامتة بدل القراءة الجهرية التي كانت سائدة في القرون السابقة. كما تنوعت النصوص الجديدة التي وإن لم تقض على سيادة النصوص الدينية إلا أنها،(أي النصوص الأدبية والتاريخية المكتوبة باللغات المتداولة langues vulgaires) صارت تشد انتباه أعداد كبيرة من القراء.

وعموما يمكن القول إن المجتمعات الأوروبية شهدت في النصف الثاني من القرن 15م ظهور ثقافة مكتوبة جديدة لا يتوقف مجالها على المعارف والعلوم الدينية والمعلمنة، بل يمتد أيضا إلى الفضاء العام وفي الحياة اليومية للناس مثل الإعلانات والملصقات والتذاكر والشواهد والوثائق الرسمية، مقتحمة بذلك الجدران والممارسات الإدارية والتجارية.

———————————-

[i]جاك غودي، سرقة التاريخ، ترجمة محمد محمود التوبة، الرياض، العبيكان للنشر، 2010، ص. 15.

Jack Goody, The Theft of History, Cambridge University Press, 2006.

[ii]انظر:

Patrick Boucheron, Faire profession d’historien, Paris, Publications de la Sorbonne, 2016, p. 180.

[iii]انظر:

Patrick Boucheron, ibid, p. 181-182.

[iv]انظر كتابهما: ظهور الكتاب (L’apparition du livre)، ترجمة محمد سميح السيد، دمشق، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1977.

[v]انظر:

Roger Chartier, L’Ordre des livres. Lecteurs, auteurs, bibliothèques en Europe entre le xive et le xviiie siècle, Alinea, coll. « De la pensée / Domaine historique », Aix-en-Provence, 1992.

[vi]انظر:

Robert Darnton, Apologie du livre. Demain, aujourd’hui, hier. Paris : Gallimard, 2010.

[vii]يمكن قراءة هذا الباب في علاقة مع المقالة التي خصصها المؤرخ روجي شارتيي في الباب الرابع (الفصل 10) من كتاب نظام الكتب.

[viii]انظر:

Pierre Chaunu, L’expansion européenne du XIIIe au XVe siècle, Paris, PUF, 1969.

[ix]المرجع السابق، ص. 11.

- محمد الصغير جنجار

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (نائب المدير العام لمؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء)

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.