السبت , 9 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » بإيـــجاز » أطياف سبيبة تفكك طيف التوحد

أطياف سبيبة تفكك طيف التوحد

 

طيفة لبصير، طيف سبيبة، رواية لليافعين، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، 2024.

لطيفة لبصير، أديبة وأكاديمية مغربية نحتت اسمها بصبر وأناة في مشهد الكتابة السردية في المغرب والعالم العربي. نسجت كتاباتها الجامعة بين السرد بمختلف تنوعاته والبحث الأكاديمي النقدي لاسيما في مجال السرديات السيرية، ألفة خاصة حول قضايا وإشكالات تستوحي التخييل من أجل تفكيك الواقع الإنساني في شتى تجلياته.

في روايتها الأخيرة: طيف سبيبة، يحضر هذا الهاجس الإنساني بقوة وبوعي، أولاً لأنها وجهت هذا النص المثير في لغته الشفافة ورسائله الاجتماعية ودقة ألفاظه إلى فئة اليافعين من القراء، ولأنها ثانياً اختارت موضوعا نادر العناية في الكتابات السردية العربية من منظور تخييلي، هو موضوع التَّوَحُّد.

أول ما يلفت الانتباه أثناء قراءة هذه الرواية، هو الدقة المتناهية في انتقاء أسماء الأعلام، رباعية راجي (الطفل التوحدي)، وهبة (الأخت)، وراضية (الأم)، وآمال (المرافقة)، وكأني بلطيفة البصير، تغرف من شخصيتها العالمة ما يلائم سياق الحدث في النص فلجأت إلى تسميات ذات دلالات عميقة تستجلب الأمل في موضوع مليء بالتحديات والصعوبات واليأس أحيانا حين تبدو الحلول بعيدة المنال.

التوحد أو طيف التوحد اضطراب نمائي عصبي لم يكن إلى زمن موضوع نقاش عمومي وكأنه من الطابوهات التي علينا تجنبها، ولم يكن المعنيون به مرحبا بهم لا في المجتمع الصغير ولا في المدرسة ولا حتى في الشارع. والسبب هو اضطرابات التواصل والتفاعل وبعض الاضطرابات السلوكية المتفاوتة الدرجة، والتي كانت تخلق كثيرا من سوء الفهم والرفض والتهميش لأشخاص من الممكن تحويل عزلتهم الداخلية إلى نجاح منقطع النظير إذا توفرت شروط التدخل النفسي والسلوكي والتربوي.

أقول ذلك لأن الكاتبة نجحت في رسم صورة جامعة بين توصيف الوضع وتشخيص الحالة وتتبع مراحل المواكبة وفتح باب الأمل واسعا أمام كل من يعنيهم هذا الأمر، أولهم الأسرة، وثانيهم المجتمع. كل ذلك من منظور تخييلي يحكي قصة أسرة محورها الطفل راجي ذو اضطراب طيف التوحد وأخته هبة وأمه راضية ومرافقته آمال وأبوه الموزع بين الواجب والقلق.  هكذا تتقدم فصول الرواية لتنسج فضاء تخييلياً تعبره كل مراحل التحدي: راجي وأصواته، راجي الذي لا يبتسم، راجي وعلاقته بالألوان، راجي والتعلم، راجي والتنمر، راجي وتوتر الأسرة بسبب الإعاقة، وراجي والجهد نحو الاستقلالية والقدرة على التواصل مع محيطه. والأهم من كل ذلك، راجي والدمية سبيبة التي صارت دميته هو بعد أن انتزع حق امتلاكها من أخته. سبيبة التي ستحولها لطيفة إلى طيف تختاره عنوانا لروايتها. سبيبة التي ستكتب في آخر النص رسالة إلى الأطفال، سبيبة الدمية الصامتة ستنطق بالحكمة ستغني أنشودة الاختلاف: “أعرفكم بنفسي، أنا الدمية سبيبة، أرافق الطفل راجي منذ مدة وسعيدة بذلك، رغم أنه يجر أذني بين الفينة والأخرى، لكن راجي طفل مختلف يشبه أطفالا قلة في هذا العالم، منبوذين ومهمشين في أغلب الأحيان لفرط حركتهم وشرودهم الدائم وقلة انتباههم للأشياء التي يركز فيها الآخرون. أصبحت صديقة لراجي لأن لا أحد يصادقه، فالكل يرى فيه طفلا غريبا، لكنه يطمئن لوجودي، لذا صنع مني عدة دمى تشبهني وكأنه صنع لي أخوات يؤنسنني. (…). وتستمر رسالة سبيبة الطويلة إلى كل أطفال العالم لتقدم درسا عميقا حول أهمية الاختلاف في عالم يحكمه التنمر والأنانية حين يصادف أشخاصا لا يطابقونه في المواصفات.

ترسم الرواية الأدوار بين الشخصيات بدقة لا متناهية. تؤثث الأسرة الصغيرة الحدث الذي ينمو حول سلة الاحتياجات المناسبة لخروج راجي من سجن الاضطراب السلوكي والتواصلي والحسي نحو فضاء التعلم والاستقلالية وتحرر الذهن وصفاء الإدراك؛ بل إن الكاتبة جعلت من الدمية الجزء الفاعل في هذه الأسرة التي يعتقلها العجز عن إيجاد حلول قاطعة ويعتصرها الألم حين تستعصي المواجهة، فمنحت لسبيبة حق الكلام وحق المواجهة وحق مخاطبة الأطفال ومن خلالهم مخاطبتنا نحن الكبار الذين تعمي أبصارهم نوازع الكمال الموهوم. وأبلغ دليل على ذلك ما يتصارع حوله الزوجان حين تتباعد وجهة نظريهما حول مصير الطفل، وخصوصا حول جدوى أي جهد يمكن بذله من أجل أن ينعتق. الدمية طيف يتحول إلى أطياف يصنعها الطفل نفسه ليخبرنا أنه الأقدر على نقل الخبر اليقين. التوحد أطياف يخلقها الاضطراب مثلما الدمية أطياف شكلها راجي نفسه ليقول إن الاختلاف أمر واقع وإن علينا أن نتقبله ليضمنا فضاء عيش مشترك.

طيف سبيبة، نص عميق كُتب بلغة رائقة تناسب القدرات الإدراكية لليافعين، وقد خلقت الكاتبة من موضوع شديد التعقيد فضاء تخييليا أعطت فيه للأدب قدرة فائقة على نقل الحقيقة دون السقوط في الانعكاسية المبسطة لواقع الإعاقة، وهي في ذلك تعد من الكاتبات السباقات إلى ولوج السبل الوعرة وتحويلها في الإبداع إلى متعة القراءة والفهم والوعي والتماهي لم تعتمد في ذلك على المهارة في الكتابة فحسب، وإنما على تخصيص ما يكفي من الوقت لفهم الموضوع في كل تفاصيله قبل البدء في الكتابة. ولنا فيما يليق بهذه الرواية بأبعادها وتقنياتها ومقاصدها الخفية والمعلنة وخلفياتها المعرفية تحليل قادم أكثر تفصيلا وإحاطة.

 

- سعيد الحنصالي

معهد الدراسات والأبحاث للتعريب / جامعة محمد الخامس - الرباط

تعليق واحد

  1. مقال رائع من أستاذ جد متمكن
    هي دعوة للقراءة والتعرف على هذا الاضطراب من جديد

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.